فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر جميعاً بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).
وأذكركم أيضاً بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه؛ كان كالمجاهد في سبيل الله ).
وأخرى: أن من صلى فريضة في المسجد وجلس ينتظر الأخرى فإن الملائكة تصلي عليهم، تقول: ( اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث ) من صلاة المغرب إلى انتهاء صلاة العشاء والملائكة النورانيون يصلون علينا، ماذا نريد بعد هذا؟! لو كان الأمر إلينا لو أنفقنا ما في الأرض على أن يصلي علينا ملكاً ما استطعنا، ولا أحد يقدر على ذلك، ولكنها منة الله وفضله، الحمد لله! وما أكثر المحرومين من هذا الإنعام والإفضال.
أتلو عليكم الآيات الثلاث التي درسناها بالأمس، ثم نستعرض نتائجها من باب تذكير الناسين، وتعليم غير العالمين، ثم ننتقل إلى الآية الآتية أو الآيتين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا * وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:2-4].
هذه الآيات الثلاث تحمل هدىً كبيراً، وعلماً ومعرفة، لو ترحل إلى الصين لتعلم هذا وتعود والله ما كان كبير سفر، والله لهي خير من مليون ريال، المليون ريال يفنى أو يوقعك في الفتنة، وهذه تزيد في إيمانك وقوة نورك وبصيرتك.
إذاً: الآن تأملوا! أين وجدت هذه الهدايات وكيف أخذناها؟
أولاً: كل مال حرام فهو خبيث، وكل حلال فهو طيب ] كل مال حرام فهو خبيث عفن منتن، وكل مال حلال فهو طيب، من أين استنبطنا هذا؟ من قوله: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النساء:2] لا تعط ليتيمك الرديء وتأخذ الجيد، تعطيه شاة هزيلة وتأخذ شاة سمينة، أو صاع رطب من العجوة وتعطيه صاعاً من البرني مثلاً. هذا اللفظ عام.
[ ثانياً: لا يحل للرجل -الفحل- أن يستبدل جيداً من مال يتيمه بمال رديء من ماله؛ كأن يأخذ شاة سمينة ويعطيه هزيلة، أو يأخذ تمراً جيداً ويعطيه رديئاً خسيساً ].
من أين أخذنا هذا؟ من قوله: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النساء:2].
[ ثالثاً: لا يحل خلط مال اليتيم مع مال الوصي -الولي- ويؤكلان جميعاً، لما في ذلك من أكل مال اليتيم ظلماً ]. وأخذنا هذا من قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [النساء:2] مجموعة معها مخلوطة بها.
وهناك مسألة كانت بعد نزول هذه الآية فرجت بعض التفريج، وهي: لما نزل قول الله تعالى من هذه السورة: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] وجف أهل اليتامى، وفصلوا أموال اليتامى عن أموالهم؛ فكانت السيدة تنصب قدراً لطعامها مع أولادها، وتنصب آخر ليتيمها، وتجعل الماء في قربة ليتيمها خاصة به، وهي وأولادها لهم قربة. وهكذا فصلوا أموال اليتامى عن أموالهم خوفاً من هذا الوعيد الإلهي.
هذا شأن المؤمنين، لا تعجب! والله لهذا شأن المؤمنين الموقنين!
وكانت حيرة، وكان تعباً، فجاءوا يسألون رسول الله؛ لأنه المفزع الوحيد بعد الله، فأنزل الله تعالى من سورة البقرة بعد النساء: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [البقرة:220] في الدين. وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220] فأذن لهم أن يخلطوا أموال اليتامى مع أموالهم، على شرط أن تكون أموال اليتامى متوفرة، ولا تنقص، ولا يؤخذ منها شيئاً.
وقد ضربت لكم المثل برجل عنده خمسة أولاد، وهو وزوجته سبعة، واليتيم واحد ابن أخيه أو ابن أبيه، هذا اليتيم مكفول، إذا كانوا يخبزون له خبزة خاصة به ويخبزون هم خبزة لأسرتهم، هذه الخبزة تعدل تلك الخبزة وإلا لا؟ انظر ماذا فقد اليتيم، كونه يشاركهم في جزء من سبعة، إذا كانت النفقة سبعة ريالات فاليتيم عليه ريال، أحسن من أن ينفق عليه قدر خاص بلحمه ومرقه يكلف أضعافاً، المهم لا بأس أن تخالطوهم على شرط أن يكون ذلك في صالح اليتيم، والله رقيب. وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220] لا تدعي أنك خلطت ماله بمالك من أجل إصلاحه وأنت تأكله وتضيعه.
[ رابعاً: جواز نكاح أكثر من واحدة إلى أربع ].
جواز التزوج بأكثر من واحدة إلى أربع، وأما فوق الأربع فلا يجوز، والذي يفعل ذلك يرجم إذا كان على علم؛ لأنه زنى وهو محصن، وإن كان جاهلاً يجلد حتى يعرف الطريق.
قال:[ رابعاً: جواز نكاح أكثر من واحدة إلى أربع مع الأمن من الحيف والجور ] أما إذا كان غير واثق في نفسه من أنه سيعدل بين امرأتين أو أكثر فلا يحل له أن يتزوج الثانية.
هل في نفوسكم بعض الشك؟ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3] فقط، لم يدافع الله عن النساء هذا الدفاع؟
الجواب: لأنه ولي المؤمنين والمؤمنات. ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) أذنت لك في أن تتزوج بوليتي هذه وإذا بك تجور وتحيف وتظلمها إما في طعامها وشرابها، إما في لباسها، إما في سكنها، إما في مبيتها، لا يحل أبداً أن تؤذي مؤمنة.
وهل هذا خاص بالنساء فقط؟ هل يجوز أذية مؤمن صعلوك في القرية بنظرة شزرة، بسب، بشتم، بالنيل منه بأدنى نيل من جسمه؟ يرضى الله بهذا؟ أعوذ بالله.
( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) ومن يحارب الله ينتصر؟ ينكسر وينهزم. عرفتم هذا؟ هذه امرأة وفي بيته يجب أن يعدل بينها وبين ضرتها سواء الأولى أو الثانية أو الثالثة، والعدل -كما علمتم- ولا تنسوا:
أولاً: في المبيت.
ثانياً: في الكسوة.
ثالثاً: في الطعام والشراب.
رابعاً: في الآداب والأخلاق. هذه: يا أم إبراهيم يتبجح، والأخرى: يا سعدية، يجوز هذا؟ هذه يبتسم في وجهها لأنها بنت الأمير أو جامعية، وهذه يكشر في وجهها، يجوز هذا؟ حرام هذا، ما تستطيع لضعف إرادتك وقلة قدرتك وعلمك اكتف بواحدة، واحمد الله على ذلك واشكره، وإن لم تجد بداً طلق هذه وأعطها حقوقها، وقل لها: سامحيني، وائت بأخرى.
قال: [ خامساً: وجوب مهور النساء، وحرمة الأكل منها بغير طيب نفس صاحبة المهر، وسواء في ذلك الزوج -وهو المقصود في الآية- أو الأب والأقارب ] مطلقاً. من أين أخذنا هذا؟
من قول ربنا: وَآتُوا [النساء:4] بمعنى: أعطوا. النِّسَاءَ [النساء:4] ماذا نعطيهن؟ صَدُقَاتِهِنَّ [النساء:4] الصدُقات: جمع صدقة بمعنى المهر؛ لأنه يدل على صدق النكاح لا العبث والسخرية به.
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ [النساء:4] رضيت الزوجة بأن تعطيك ألف ريال، أو سوار من أسورتها لحاجتك ونفسها طيبة.
وقد ذكرنا لطيفة هنا، وهي: على شرط ألا تكون حيية، والحياء في النساء تسعة وتسعين درجة، فإذا عرفت أنها ما أعطتك هذا القدر من مهرها إلا حياء لما جربتها وعرفت من حيائها، لا يجوز أن تأخذه، نفسها ما هي طيبة، فقط ما استطاعت أن تقول: لا.
وهذا يطبق علينا جميعاً؛ فإذا عرف بيننا شخص حيي لا يرد سائلاً أبداً لو سأله عمارته أعطاه إياها، هذا ما نطلبه، ما نسأله. لم؟ لأن نفسه ما هي طيبة، فقط لحيائه أعطاك.
وأخيراً: أذن الله تعالى للمؤمنين إذا أعطاهم أزواجهم شيئاً من مهورهم بالجواز وإلا لا؟ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ [النساء:4] أي: من المهر. نَفْسًا فَكُلُوهُ [النساء:4] وخذوه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [النساء:5-6].
الثالوث الأسود، ما عرفتموه؟
إذاً: لم تنسابون وراءهم، وتجرون جرياً عجيباً كأنكم سكارى أو مسحورون؟
قل: يا شيخ! ما عرف هذا إلا هذه المجموعة، أما أمتنا الألف مليون والله ما عرفت هذا!
أقول: إنه يريد أن يطفئ هذا النور عليكم، حاولوا بالسلاح ما استطاعوا؛ لأن الله ولي المؤمنين، فقالوا: كيف نصنع؟ قالوا: نرميهم في أودية الفسق والفجور والظلام والشر فيكثر الخبث، وحينئذ يطرحون بين أيدينا.
لتصدقوا هذا الكلام اتصلوا بإذاعة لندن، واسألوا بعض المختصين في الماسونية، سيحلفون لكم على أن هذا حقاً عندنا، وأننا نريد إطفاء هذا النور عنهم؛ ليصبحوا في الظلام كغيرهم من العالم الكافر والمؤمن، ولا حيلة لنا إلا بهذا المكر والدس والخديعة.
من أراد أن يرد علي إذا أنا ما فهمت أو بربري أتكلم بما لا علم ليَّ يخلو بي ويحدثني فأشرح له موقفه.
أقول: هاتك حجرة رسول الله، في أمسية العواصف والغبار والرسول يدخل الحجرة ويخرج ويضرب كفيه: ( ويل للعرب من شر قد اقترب -ثلاث مرات- فاهتزت أم المؤمنين وقالت: أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟! قال: نعم، إذا كثر الخبث ) كيف سادونا وداسونا وامتلكونا من إندونيسيا إلى المغرب لو كنا صالحين والصلاح فينا أكثر من الفساد؟ مستحيل، الطعام يشبع وإلا لا؟ الماء يروي وإلا لا؟ النار تحرق وإلا لا؟ الحديد يقطع وإلا لا؟ هل هذه السنن تبدلت؟
إذاً: الفسق والفجور والإثم إذا كثر وعمَّ لا بد من الهبوط والسقوط. كيف يعرف هذا العدو ونحن ما نعرف؟ ويقول: أنا أخي ما يصلي في البيت ويسمع الأغاني وساكت عنه، كيف هذا؟ فهمتم هذه البربرية. هيا .. ماذا نصنع يا شيخ؟
أولاً: نطهر بيوتنا، فلا يسمع فيها إلا ذكر الله؛ لأننا جماعة ممتازة، لسنا كاليهود والنصارى، نحن نريد أن نرقى إلى الملكوت الأعلى، وأن نواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، كيف تكون بيوتنا كبيوت المجوس واليهود والنصارى؟ هل يعقل هذا؟ هل نحن نرغب في الملكوت الأعلى، أم نخادع أنفسنا؟ لا يسمع في بيوتنا إلا ذكر الله وما والاه.
أما أن تسمع أغاني العواهر، ومزامير الشياطين، وصور الأبالسة، وأولادنا يذوبون، ويتحللون، ونفوسهم تخبث، والآن بلغني مع المغرب: أن دار الملاحظة مسئول فيها قال: هذه الأيام من يوم ما جاء هذا الدش والأطفال ينصبون علينا بالعشرات يرتكبون أكبر الفواحش!
وقد قلت هنا والله شاهد، بالتلفون قالت لي مؤمنة وهي تبكي: ابنها يفعل الفاحشة في أخته، ورجل قال: ماذا أصنع؟ ولدي يفعل الفاحشة في أخيه! وما زالت القلوب ميتة، والله لو كنا مؤمنين أحياء لا يبيت ليلة هذا الدش على سطح مؤمن، وليس هذا تخلف، ولا تأخر عقلي، ولا سوء فهم، ولا ضد حضارة، ولا ولا ... لأننا قلنا: نتحداكم! أعطونا النتائج الطيبة التي تكتسبونها من هذا الدش على سطوحكم؟ هاتوا. كم ريال في الليلة؟ كم نسبة صحتكم وعافيتكم الزائدة؟ ما هي النتائج: تشبعون عن الطعام؟ تزهد نفوسكم في المال؟ تبيتون ركعاً سجداً؟ ما هي النتائج؟ لا شيء إلا الدمار، هكذا نساق كالبهائم إلى المجزرة.
والله إن لم نتب توبة صادقة ما بقيت هذه النعمة! لأن ربك تعرفه أين هو يا هذا؟ أين ربكم؟ بالمرصاد، يراقب.
يعرف هذا أعداؤنا ونحن ما نعرفه، هم يسألون: كم سارق صار الآن في المملكة؟ هل ظهر فيها زنا وفجور؟ هل حصل فيها كذا وكذا؟ هل نزع النساء الحجاب عن وجوههن؟ هل كذا .. هل كذا؟ بدقة، ونحن كالبهائم.
أعطيكم مثالاً حياً: جريدة الشرق الأوسط، لم في كل عدد في الجهة الأخيرة تجد عاهرة بجمالها؟ ما نعرف، اسأل، عن ماذا أسأل؟ هذا الشاب، هذا العزب، هذا المصاب، هذا يشاهدها ما يبكي؟ ما تتحرك غريزته؟ ما يفجر؟ هذه صورة، وكل الجرائد.
وما زلت أقول وسوف أموت ولا يبقى من يقولها -والله العظيم فيما أعلم-: لا طريق إلى نجاتنا والإبقاء على نورنا وهدايتنا إلا أن نسلك ذلك المسلك النبوي، إذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف دولاب العمل، لا دكان مفتوح الباب ولا مقهى ولا مصنع ولا متجر ولا مزرعة ولا حقل، وأهل القرية في قريتهم أو أهل الحي في مدينتهم على الفور يتوضئون ويلبسون أحسن لباسهم، ويأتون بنسائهم وأطفالهم إلى بيت ربهم. هل لهم رب؟ إي ورب الكعبة، من خلقهم؟ من رزقهم؟ من خلق هذا الكون لهم؟ له بيت؟ إي نعم، هو المسجد الجامع. أين يذهبون؟ إلى بيت ربهم، ماذا يريدون؟ يستمطرون رحماته، يطلبون فضله وإحسانه، يهربون من فتن الشياطين وويلات الدنيا إلى بيت ربهم ليتنفسوا الصعداء، ويروحوا على أنفسهم، لينسوا آلام الخبث وما أصابهم، وفوق ذلك ليتعلموا الكتاب والحكمة، ليعلموا فيسموا ويرتفعوا، سنة واحدة تنتهي وتختفي مظاهر الظلم، الخبث، الغش، الخداع، الكذب، الحسد، والله لتنتهي، سُنة الله عز وجل.
ويفيض المال، والله ماذا يصنعون به، الذي كان ينفق معاشه خمسة آلاف تزيد عليه والله ما تنقص، ما يبقى محتاج بينهم ولا فقير. لا سرقة ولا غش ولا كذب ولا خداع، هذا ممكن أن يكون؟ والله الذي لا إله غيره! ما صبروا على هذا المجلس بنسائهم وأطفالهم، عام واحد يتعلمون الكتاب والحكمة وكلهم صدق، ما سمعوا حكماً إلا علموه وطبقوه، لم تمض سنة وهم أطهار أتقياء، أولياء لله لو رفعوا أكفهم إلى الله ما ردها خائبة أبداً.
هل هناك طريق غير هذا يا شيخ؟ هذا صعب، ما نستطيع. قولوا لي: كيف نغلق دكاكيننا؟ كيف نأتي المسجد؟ هذا أمر صعب، ما نستطيع.
إذاً: كيف تستطيعون أن تخترقوا سبع سماوات؟ وإلا تكذبون في إيمانكم ما لكم عمل؟
وقلنا أيضاً: الذين اقتدينا بهم حتى في شرب الشاهي أو شرب الحشيشة، هؤلاء إذا دقت الساعة السادسة في أوروبا، في أمريكا، في اليابان؛ يقف العمل، ويذهبون إلى المساجد؟ ما عندهم مساجد، كفار، يذهبون إلى المراقص والملاهي ودور السينما والمعارض يخففون عن أنفسهم آلامها، ونحن ما نستطيع أن نذهب إلى المسجد؟ أموات نحن أم مسحورون؟ أمر عجب هذا! والله لو تحركنا في هذه البلاد هذه الحركة سنة واحدة لتغيرت الحياة تغيراً بكاملها، لكن أين العلماء؟ أين المبلغون؟ لا شيء! ناموا كما هم نائمون حتى تدق الساعة.
بالأمس قلت لكم: من أراد أن يفجر أو يفسق في هذه البلاد يرحل، حتى ولو كان هاشمياً من آل البيت، هذا هو الواجب. ما تريد أن تستقيم اخرج، خل البلاد طاهرة، بالطهر تبقى أنوار الله وهدايته وراية لا إله إلا الله، وإن غضب العالم بأسره. عرفوا هذا فنشروا الخلاعة والدعارة والفساد والشر فينا حتى يعجلوا بذبحنا.
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5]هي أموالهم سماها أموال؟ نعم، مال ابنك مالك، ومالي أنا المسلم مالك، أمة مشتركة في هذه؛ لأن الأموال قوام الأعمال.
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5] والقيام والقوام ما عليه يقوم الشيء، حياتنا تقوم على المال؟ إي نعم، قيام وقوام بمعنى واحد، وقرئ: (قيماً) أيضاً كعوذاً وعياذاً.
حياتنا تقوم على المال، فلا يحل أبداً إسراف فيه ولا تبذير ولا تضييع بحال من الأحوال، وإن رأينا من يسرف ويبذر يجب أن يحجر عليه، هذا إذا كان كبير السن ابن العشرين والثلاثين وهو يعبث بالمال يجب أن يحجر عليه بصك من المحكمة فلا يستطيع أن يبيع ولا يشتري إلا في حدود عشرة ريالات وإلا خمسين. عرفتم معنى هذه الآية؟ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5].
وقوله تعالى: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ [النساء:5] لم ما قال: وارزقوهم منها واكسوهم منها؟ هذه لطيفة لغوية.
وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا [النساء:5] المفروض يقول: وارزقوهم منها وإلا لا؟ قال: فِيهَا [النساء:5] معنى هذا: لما تحجر على الزوجة، على الولد، على القريب؛ هذا المال يجب أن تنميه في صناعة، في تجارة، في زراعة حتى تصبح تطعم المحجور عليهم من الفوائد والأرباح، ويبقى أصل المال كما هو، ولما يرشد ويعقل تعطيه المال كاملاً، ما تقول: آه! مع الأسف أكلناه. هذا تدبير من هذا؟ أيستطيع كافر أن يصل إلى هذا المستوى؟ مستحيل، وإن اتخذناهم أئمة لنا نحتج بآرائهم.
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5] لا يا كلب ويا أعمى ويا جاهل يا فاسق، يا ضال. الجهال يفعلون هذا؟ ما عرفوا.
هذه الآية واضحة فإليكموها. وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5] ذكر الرزق وهو عام، والكسوة لأنها ضرورية، وأما الفراش والمأكول فكله واحد.
فإن آنست أي: أبصرت، وسكنت نفسك إلى رشده، وعرفت أنه حكيم، المائة ريال رجع لك منها خمسين ريال، ويشتري تلك المقاضي كلها، حينئذ أعطه المال.
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ [النساء:6] أي: سن البلوغ، سن الزواج. تعرفون سن الزواج وإلا لا؟ البالغ، علامة البنت الحيض، الرجل إنبات الشعر، بلوغ ثمانية عشر عاماً.
فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6] ادفعوا إليهم أموالهم، اسمع ملحوظة: وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6] صعاليك من جماعتنا لما يعرف أن اليتيم قارب سن الخامسة عشر يأخذ ماله،ويستعجل ويسرف في ذلك المال ليشفي صدره، أو يبادر مبادرة قبل أن يبلغ قبل أن يرشد يستعجل أكل مال اليتيم، عرف هذا الجبار جل جلاله، فقال: وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6] يقول لولده: هات كذا من مال اليتيم، عما قريب سيأخذ أمواله ويشرد عنا، عجلوا. هذا أولاً.
وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ [النساء:6] الولي على مال اليتيم إذا كان غنياً لا يحل له أن يأكل تمرة واحدة أبداً، وإذا كان فقيراً يأكل بالمعروف، أكل المعروف حده ماذا؟ إذا يكفيه قرص عيش ما يشتهي قرصين، إذا يكتفي بأكلة في اليوم لم يأكل أربعة أو ثلاثة؟
ومن المعروف أيضاً: أن يستدين من مال اليتيم ويكتبه ديناً عليه حتى يسدده، اللهم إلا إذا كان يقوم بعمل لليتيم، هذا العمل يقوم به آخر، سقاية، زراعة، تجارة، في هذه الحال يصبح موظفاً عند اليتيم، ولا يأخذ إلا بقدر ما يأخذ غيره في نفس العملية.
إذا كان غنياً لا يأكل شيئاً، يشتغل مجاناً لوجه الله تعالى، هذا ابن أخيه يتيم في حجره، ما يأخذ أي فلس عن عمله لله، لكن إن كان فقيراً بدل ما يشتغل عند فلان وفلان يضيع هذا، لا بد له أن يشتغل في مال اليتيم وإلا لا؟ يشتغل وليأخذ الراتب بنظيره عند الآخرين، يسأل: الذي يقوم بكذا وكذا كم يعطى؟ قالوا: يعطى ألف ريال؛ يأخذ ألف ريال، أو أقل بقليل.
هذا هو الذي أرشد الله تعالى إليه وأمر به في قوله: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ [النساء:6] فليعف، لا يأكل ولا يشرب من مال اليتيم، ويشتغل لوجه الله عز وجل.
وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ [النساء:6] هذا الأمر للوجوب وليس للندب أبداً، بلغ السن وهو راشد. تعال يا إبراهيم ، يا عثمان ! هات الحساب، لك مبلغ كذا كذا كذا، لك المصرف الفلاني تفضل، اشهد يا فلان ويا فلان أننا دفعنا إليه ماله، (فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ)، واسمعوا: وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [النساء:6] إن الرقابة لله، هو الذي يحاسب ويجزي، انتبه أن تخفي شيئاً وتعطيه أمام الشهود كذا وكذا وأنت اختبأت مالاً، تقول: أنا أشهدتهم على ما أعطيته، خف من الله وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [النساء:6].
أولاً: مشروعية الحجر على السفيه لمصلحته ] وهذا يعم كل سفيه من زوجة وأم وأب وابن؛ فالذي ينفق في غير مرضاة الله، ويبدده في غير ما أذن الله يجب أن يحجر عليه بالمحكمة؛ فإن باع بيعه باطل، أو اشترى فشراؤه فاسد.
[ ثانياً: استحباب تنمية الأموال في الأوجه الحلال؛ لقرينة قوله تعالى: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا [النساء:5] ] ما قال: منها.
[ ثالثاً: وجوب اختبار وامتحان السفيه قبل دفع المال إليه؛ إذ لا يدفع إليه المال إلا بعد وجود الرشد ] ضد السفه.
[رابعاً: وجوب الإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعد بلوغه ورشده.
خامساً: حرمة أكل مال اليتيم والسفيه مطلقاً ] فلا يحل أكلك مال السفيه المحجور عليه، ولا مال اليتيم.
[ سادساً: الوالي على اليتيم إن كان غنياً فلا يأكل من مال اليتيم شيئاً، وإن كان فقيراً استقرض ورد عند الوجد واليسار، وإن كان مال اليتيم يحتاج إلى أجير للعمل فيه جاز للولي أن يعمل بأجرة المثل ].
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر