أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!
إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة، والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل.
وأذكركم بالفضيلة العظيمة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قوله: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).
أما الفضيلة العظيمة، ففي قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة ).
ومن أراد أن ينظر إليها فليقف ولينظر، هل هناك صخب أو صوت نزاع؟ لا. بل سكينة، لو كنا في سوق أو في بيت أو في مكان لن نكون هكذا أبداً ومستحيل، ( نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة )، أين مظاهر العذاب بيننا؟
( وذكرهم الله فيمن عنده )، وهذا شرف ما فوقه شرف، من نحن وما نحن حتى يحدث الله الملائكة عنا، ويقول: عبادي اجتمعوا في بيتي يتلون كتابي ويتدارسونه؟ لو أرادنا أن نحصل على مثل هذا لو ننفق ما في الأرض ممكن؟ غير ممكن.
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا * وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا * وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:80-83].
عجب هذا القرآن، عجب أو لا؟ الجن قالوا: عجب ونحن العرب ما نقول عجب؟! أما قالت الجن، واسمع سورتها: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن:1-2]، المتدبر يعرف أنه عجب.
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ [النساء:80]، معشر المؤمنين والمؤمنات! يجب أن نطيع الرسول، الرسول من هو؟ الرسول العظيم، صاحب الرسالة، خاتم الأنبياء، محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: وَمَنْ تَوَلَّى [النساء:80]، رفض الطاعة، فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء:80]، يخاطب رسوله، علمهم أن من يطيعك يا رسولنا فقد أطاع الله؛ حتى لا يترددوا في طاعتك، ومن أعرض عن الطاعة وتولى فلا تضربه ولا تقتله ولا تكرب من أجله ولا تحزن، فإننا ما أرسلناك عليهم حفيظاً، تحملهم إلى الهدى بعصا، مهمتك البلاغ فلا تكرب ولا تحزن.
فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ [النساء:81]، خرجوا من المسجد، من حلقة الذكر، من محل المحاضرة والخطبة، (بَرَزُوا): خرجوا؛ لأن من خرج من المسجد برز للشمس والهوى.
فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81]، بيتوا، مكروا، دبروا، أنهم لا يقولون ولا يفعلون بما أمرهم، (طَائِفَةٌ)، ما قال: كلهم؛ لأن المرض يختلف، (بَيَّتَ طَائِفَةٌ).. التبييت معروف: المكر والتدبير في الخفاء.
بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81]، لن نفعل هذا، لن نضحي بوجودنا، لن.. لن.. وهكذا فيما بينهم.
وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ [النساء:81]، والله يكتب ما يبيتونه من المكر، والذي يكتب ملائكته، هو الذي يكتب إذاً، وسيجزيهم بمكرهم وانصرافهم وإعراضهم، لا يظنون أنهم مهملون، يمكرون ويدبرون ضد رسول الله ما شاءوا في الخفاء، فليعلموا أن عين الله تراهم، وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ [النساء:81]، فالذي يتدبر هذه الآيات على الفور يصبح مؤمناً صادقاً.
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81]، أي: تأمر به، وتنهى عنه، أو تدعو إليه.
وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ [النساء:81]؛ ليعلموا أنهم ليسوا مهملين، هم تحت رقابة الله عز وجل، الملائكة يكتبون كل كلمة يقولونها.
إذاً: فصلوا عليه وسلموا.
وعلى الدعاة أن يذكروا هذا أيضاً، المحاضر يحاضر وهم يتغامزون والله العظيم، المحاضر يحاضر وهم يبيتون خلاف ما قال، ما سبب هذا؟ ضعف الإيمان، كمية الإيمان خفيفة ما تسيطر على القلب ولا على الحواس والجوارح.
إذاً: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [النساء:81]، لك أن تقول: لا تلتفت إليهم، وإلى ما يقولون ويبيتون، أو أعرض عنهم: لا تهش في وجوهم ولا تبش، أعرض عنهم بوجهك، احتقاراً لهم وعدم مبالاة بمواقفهم النفاقية.
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [النساء:81]، لا تعرض عنهم فقط، ما تتوكل على الله تخاف، يبيتون لك في الليل ويضربونك، الإعراض عنهم وهم رؤساء أرباب مال وأعوان، فالإعراض عنهم يعرض الرسول لأذيتهم، وهنا طمئنه الله عز وجل، وقال: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء:81]، اثبت، أعرض عنهم ولا تبالِ بهم، متوكلاً على الله، والله عز وجل لا يضيعك، وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء:81].
فهل إخواننا يتدبرون القرآن؟ الذين يقرءونه على الموتى لا يتدبرونه.
سألني أحد الإخوان، قال: في بلادنا يقرءون القرآن على الموتى؟ قلت له: هذه بدعة ما تنفع، وإن كان لا بد وهم يجادلونك، قل لهم: واحد يقرأ ويرتل وأنتم تسمعون وتتدبرون، هذا لا بأس به، يقرأ قارئ يجيد القراءة، وأنتم تتدبرون وتبكون وتدعون لميتكم، فهذا حسن، أما أن نعطي الدينار والدرهم لقراء يقرءون على الميت؛ ليدخل الجنة وينجو من النار، هذه أوهام باطلة. أو نقرأ القرآن على الميت وهو بين أيدينا، لما نفرغ من القراءة نأكل البقلاوة والحلاوة، كيف ميت بين أيدينا ونأكل ونشرب؟! يا شيخ! لقد هبطنا فلا تلمنا، إي نعم، أيام كنا في علياء السماء، ما كان يحدث هذا أبداً، والمؤمنون والمؤمنات دعاهم ربهم إلى أن يتلوا كتاب الله ويتدبرونه، لا أن يقرءوه على الموتى لينجوه من عذاب الله، أو يدخله الجنة دار الأبرار.
قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82]، استفهام إنكار عليهم جهلهم وإعراضهم.
وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ [النساء:82]، أي: لو كان القرآن من عند غير الله تعالى، قاله عالم، ساحر، شاعر، إنسان، فيلسوف، أو اجتمع فلاسفة الدنيا كلهم.. وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ [النساء:82]، والله! لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، مائة وأربع عشرة سورة، ستون حزباً، ثلاثون جزءاً، لن تجد فيه اختلافاً قط، لو أن أعلم الناس يكتب كتاباً كهذا، والله لا بد وأن تشاهد الاضطرابات والاختلافات في أقواله، لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].
إذاً: علمت أن هذا الكلام كلام الله، فآمن بالله، وإن آمنت بالله فآمن برسوله الذي أوحاه إليه، وإذا آمنت بالله ورسوله فأطع الله ورسوله، ولماذا تأمرني بهذه الطاعة؟ الجواب هنا: لأن تكمل وتسعد، من أجل أن تطيب وتطهر، من أجل أن ترتفع، من أجل أن تخلد في دار السلام، من أجل أن تنجو من الذل والهون والدون، وفي الآخرة من عذاب النار، هذه الدعوة لك بالطاعة ليست لله ينتفع بها، فالله في غنى عن عبادتك، وإنما طاعة الله وطاعة الرسول نظام يحفظ الأمن، ويحقق المودة والإخاء، ويرفع الإنسان إلى مستوى البشرية الكامل، ويبرز به عن المهاوي والمساقط، ويجد لذة الحياة وطعمها، وبالتالي ليتهيأ ليخترق السبع السماوات وينزل في الجنة دار الأبرار، الآن فهمتم السر في الأمر بطاعة الله وطاعة الرسول؛ من أجل إسعادنا وإكمالنا، والله الذي لا إله غيره!، ومن قال: نستطيع أن نكمل ونسعد بدون طاعة الله ورسوله يرفع يده، هاتوا في الإنس والجن والأبيض والأصفر والكافر والمؤمن؟ في من يكمل آداباً وأخلاقاً ويطهر نفساً ويسمو إلى الملكوت الأعلى بدون طاعة الله والرسول؟ مستحيل.
ها هي دول الغرب والشرق، روسيا الحمراء، تبجحت وتطاولت، وقالت: لا إله والحياة مادة، و.. و.. وتكالبت، وإذا بها تهبط هبوطاً لا نظير له، الفسق والفجور والخداع والبلاء والشقاء والفقر والعذاب، لا إله إلا الله! أين تلك الصرخات والصيحات والتأجيج؟ وإخواننا من العرب مالوا إليها، وصافحوها، الاشتراكية اشتراكيتنا نوالي من يواليها ونعادي من يعادها، هذا صوت العروبة، أين الاشتراكية؟ مزقت تلك الشعوب، وأهانتها وأذلتها وأفقرتها، وأوجبت لها الخزي والعار في الدنيا والآخرة.
خلينا من الشيوعية، الديمقراطية الفرنسية، ماذا يوجد في فرنسا وبريطانيا؟ اللواط، الزنا، الخيانة، القتل أل.. أل.. الهبوط إلى الأرض، أين آثار أنظمتهم وقوانينهم.
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82]، الله.. الله.. لو تدبره مسيحي، يهودي التدبر الحق في صدق ويفهم لغته ومعانيه ما يخرج من مجلسه إلا ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وَلَوْ كَانَ [النساء:82]؛ القرآن، مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، الآن تقرأ من أول الفاتحة إلى سورة الناس لن تجد تعارضاً بين آية وأخرى أبداً.
قال تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ [النساء:83]، الحاكم العام، وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ [النساء:83]، منهم، وهم قادة المعركة ومسيروها، لو ردوا هذا الأمر، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ [النساء:83]، والاستنباط: استخراج الشيء من داخله، كاستنباط الماء من الأرض.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83]، اللهم اجعلنا من ذلك القليل، سمعتم هذه؟ هذه عامة، ولولا فضل الله علينا ورحمته لاتبعنا الشيطان فيما يزين، فيما يحسن، فيما يدعو إليه، فيما.. فيما.. وهمه فقط ألا نعبد الله عبادة تزكي أنفسنا، فتهيئنا للسعادة في الدار الآخرة، إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83]، ممن عصمهم الله عز وجل.
إذاً: هل يجوز لنا أن نتبع الشيطان؟
وهل الشيطان يدعو بأعلى صوته؟ لا. يدعو في القلب، يدعو إلى المخمرة، إلى المزناة، إلى الملهى، إلى الملعب، إلى كذا.. إلى كذا.. بالهواجس والوساوس والخواطر، فمن عرف فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأدبر عنه وأعرض، نجا. ومن أصغى واستمع يقوده إلى أن يقول الباطل، ويفعل المنكر.
وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء:80]، هذا من باب الإحسان إلى نبينا، من باب اللطف به، من باب شد أزره وتقويته على دعوة الله، يقول له مولاه: وَمَنْ تَوَلَّى [النساء:80]، وأعرض وما استجاب، لا آمن ولا استقام فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء:80]، ما ألزمناك بهدايتهم، ووضعنا السيف في يدك أن اقتلهم إذا لم يؤمنوا، لا أبداً، فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا * وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [النساء:80-81]، من هؤلاء؟ المنافقون والمرضى، في مجلس الرسول، في الروضة لما يقولون، نفعل كذا.. نقوم بكذا.. يقولون: نعم، سمعنا وأطعنا، أمرنا طاعة، فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ [النساء:81]، خرجوا من المسجد، ماذا يفعلون؟ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81]، أي: بيتوا العزم على ألا يفعلوا ما قاله وأمر به، من اطلع على أسرارهم، وعرف خباياهم؟ الله جل جلاله، من هنا يدخلون في الإيمان ويسلمون، وكم وكم.. من آمن وأسلم بهذه الآيات القرآنية، ما مات الرسول وفي المدينة منافق قط.
قال: فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء:81]، ما يكفيك أن يكون الوكيل هو الله؟ إذا وكلته في أمر عظيم، هو وحده الذي يكفي.
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82]، عاد إليهم ليربيهم، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82]، فيعرفون أنه كلام الله، وأن من نزل عليه رسول الله، وأن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، للتي هي أحسن، يبشر المؤمنين، ينذر ويخوف الكافرين، فيكتسبون العلوم والمعارف، ويثبت إيمانه ويقوى، ويزداد لهم اليقين، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82]، يا رسول الله! يا ربنا! إن أمة نبيك ذات الآلاف الملايين، جلهم ما يتدبر القرآن، أكثرنا لا يتدبره أبداً، إن قرأ بسرعة، أبداً لا يسأل عن معنى آية ولا ما فيها، كيف إذاً يزداد إيماننا ويثبت يقيننا وترتفع علومنا إلى مستويات أعلى؟ كيف يتم؟ إذا كان ضعاف الإيمان يدعوهم الرحمن إلى التدبر بالقرآن؛ ليكمل إيمانهم ويثبت يقينهم، نحن أولى بهذا؛ لأن القرآن ما نزل لخمس منافقين في المدينة، نزل للبشرية كلها إلى أن تقوم الساعة، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ [النساء:82]، أي: القرآن، لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، فلما اتحد وانصرم، ولم تجد آية تخالف الأخرى، أو تنقض حكم الله فيها دل هذا على أن من أنزله عليم حكيم، ألا وهو الله رب السماوات والأرض، ورب العالمين.
ثم قال تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ [النساء:83]، وهنا حقيقة، إذا كانت هناك حرب بين المسلمين وأعدائهم ليس من حق العوام، والذين لا صلة لهم بأن يتكلموا فيها، أبداً، ألمانيا كانت تفرض قانوناً: ألا يتكلم واحد في الحرب، عرفت هذا؛ لأن كلام العوام في المقاهي والبيوت وكذا، يهيج ويزد الفتنة، ويكثر الضعف والعياذ بالله، وسنسمع بيان هذا في التفسير إن شاء الله.
قال: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ [النساء:83]، لكان ماذا؟ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ [النساء:83]، من الرسول وأولي الأمر، يستنبطون ما هو صالح في صالح الأمة.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [النساء:83]، أيها المؤمنون والمؤمنات! لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83].
[ وقوله تعالى: وَمَنْ تَوَلَّى [النساء:80]، أي: عن طاعتك فيما تأمر به وتنهى عنه يا رسولنا، فدعه ولا تلتفت إليه؛ إذ لم نرسلك لتحصي عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتجزيهم بها، إن عليك إلا البلاغ، وقد بلغت فأعذرت. وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [النساء:81]، أي: ويقول أولئك المنافقون المتطيرون بك السيئو الفهم لما تقول، يقولون: طاعة أي: أمرنا طاعة لك، أي: ليس لنا ما نقول إذا قلت إلا ما تأمر به إذا أمرت، فنحن مطيعون لك -داخل المجلس- فَإِذَا بَرَزُوا [النساء:81]، أي: خرجوا من مجلسك بدل طائفة منهم غير الذي تقول واعتزموه دون الذي وافقوا عليه أمامك، وفي مجلسك، والله يكتب بواسطة ملائكته الكرام الكاتبين ما يبيتونه من الشر والباطل، وعليه: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [النساء:81]، ولا تبالِ بهم: وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء:81]، فهو حسبك وكافيك ما يبيتونه من الشر لك ]، يكفيك به.
[ وقوله تعالى في الآية الثانية: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82]، يؤنبهم بإعراضهم وجهلهم وسوء فهمهم؛ إذ لو تدبروا القرآن وهو يتلى عليهم، وسمعوه صباح مساء لعرفوا أن الرسول حق، وأن ما جاء به حق؛ فآمنوا وأسلموا وحسن إسلامهم، وانتهى نفاقهم الذي أفسد قلوبهم وعفن آراءهم؛ إذ تدبر القرآن بالتأمل فيه وتكرار آياته مرة بعد أخرى يهدي إلى معرفة الحق من الباطل، وأقرب ما يفهمونه لو تدبروا أن القرآن كلام الله تعالى وليس كلام بشر؛ إذ لو كان كلام بشر لوجد فيه التناقض والاختلاف والتضاد، ولكنه كلام خالق البشر، فلذا هو متسق الكلم، متآلف الألفاظ والمعاني، محكم الآي، هادٍ إلى الإسعاد والكمال، فهو بذلك كلام الله حقاً ومن شرف بإنزاله عليه رسول حق أيضاً، ولا معنى أبداً للكفر بعد هذا والإصرار عليه، ومنافقة المسلمين فيه، هذا معنى قوله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].
وقوله: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا [النساء:83]، وهي الآية الرابعة؛ فإن الله تعالى يخبر عن أولئك المرضى بمرض النفاق، ناعياً عليهم إرجافهم وهزائمهم المعنوية، فيقول: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ [النساء:83]، أي: إذا وصل من سرايا الجهاد خبر نصر أو هزيمة، سارعوا بإفشائه وإذاعته؛ وذلك عائد إلى مرض قلوبهم؛ لأن الخبر -وأطلق عليه لفظ الأمر- لأن حالة الحرب غير حالة السلم، إذا كان بالنصر المعبر عنه بالأمن، فهم يعلنونه حسداً أو طمعاً، وإذا كان بالهزيمة المعبر عنها بالخوف؛ يعلنونه فزعاً وخوفاً؛ لأنهم جبناء كما تقدم وصفهم. قال تعالى في تعليمهم وتعليم غيرهم، ما ينبغي أن يكون عليه المجاهدون في حال الحرب ]، كيف يكونون؟
قال: [ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ [النساء:83]، القائد الأعلى، وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ [النساء:83]، وهم أمراء السرايا المجاهدة، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، أي: لاستخرجوا سر الخبر وعرفوا ما يترتب عليه فإن كان نافعاً أذاعوه، وإن كان ضاراً أخفوه.
ثم قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [النساء:83]، أيها المؤمنون، لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ [النساء:83]، في قبول تلك -الإرجافات- الإشاعات المغرضة والإذاعات المثبطة إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83]، منكم من ذوي الآراء الصائبة والحصافة العقلية، إذ مثلهم لا تثيرهم الدعاوى، ولا تغيرهم الأراجيف، ككبار الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين].
أولاً: وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يطاع لذاته وإنما يطاع لذات الله عز وجل.
ثانياً: وجوب تدبر القرآن؛ لتقوية الإيمان.
ثالثاً: آية أن القرآن وحي الله وكلامه سلامته من التناقض والتضاد في الألفاظ والمعاني ]، الآية الدالة على أن القرآن كلام الله هو سلامته من التناقض والتضاد في الألفاظ والمعاني.
[ ربعاً: تقرير مبدأ أن أخبار الحرب لا تذاع إلا من قبل القيادة العليا؛ حتى لا يقع الاضطراب في صفوف المجاهدين والأمة كذلك.
خامساً: أكثر الناس يتأثرون بما يسمعون إلا القليل من ذوي الحصافة العقلية والوعي السياسي ].
والله تعالى أسأل أن يجعلنا من صالح عباده.
وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر