أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات!
إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليلة التي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي ونفسي والعالم أجمع؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
حقق اللهم لنا هذا الخير، إنك الولي والقدير عليه!
وها نحن مع سورة النساء، ومع هذه الآيات الخمس، فهيا نتلو هذه الآيات ونكرر تلاوتها وكلنا يتفكر ويتدبر يحاول أن يفهم مراد الله من هذه الآيات.
وأعيد إلى أذهانكم أن الآية معناها العلامة، كل آية علامة على أي شيء؟ على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والله العظيم! كيف ذلك يا شيخ؟ هذه الآية من أنزلها، من تكلم بها؟ من أوحاها من قالها سوى الله؟ إذاً: الله موجود؛ عليم، حكيم، قدير، رحيم.. وصفاته في كتابه، والذي نزلت عليه تدل على أنه رسول الله، أينزلها عليه ويوحي بها إليه، ويأمره بالعمل بها وإبلاغها، وهو ليس برسول؟! هذا مستحيل، ففي القرآن ستة آلاف ومائتان وأربعون آية، كل آية تدل على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
هذه الآيات المباركة تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء:66-70].
وقد بينتُ للسامعين والسامعات أن العبرة ليست بخصوص السبب، ولكن العبرة بعموم اللفظ، وهو المراد، أما خصوص السبب فقد تنزل الآية في شأن فلان، ولكن الحكم يبقى ببقاء الإنسان.
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ [النساء:66]، يريد به أولئك الذين يتحاكمون إلى الطاغوت فراراً من العدل والحق، طلباً لأوساخ الدنيا، لو أنا كتبنا عليهم: أي: فرضنا عليهم، ماذا يفرض؟ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:66]، وهو جائز أن يفرض عليهم بأن يقتل بعضهم بعضاً؛ إذ فعل هذا مع بني إسرائيل، حتى سقط في المعركة أربعون ألفاً، واقرءوا لذلك قول الله تعالى من سورة البقرة: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [البقرة:54]، فلما فسقوا عن أمر الله، وخرجوا عن طاعته، وغرر بهم الشيطان؛ فعبدوا ذلك العجل المصنوع بيد السامري ، إذاً: فاشترط الله لتوبتهم أن يقتل بعضهم بعضاً، في الحقيقة هم ارتدوا ويجب قتلهم، والمرتد يقتل، لكن موسى وأخاه هارون لا يستطيعان أن ينفذا الإعدام في عشرات الآلاف.
إذاً: فأمرهم الله: إن أردتم دار السلام والجنة ومواكبة النبيين والصديقين، فلا يمحو هذه الخطيئة إلا أن يقتل بعضكم بعضاً، فخرج الرجال والتقوا صفوفاً يقتل بعضهم بعضاً، حتى سقط منهم أربعون ألفاً، وصرخ موسى وهارون، فرفع الله تعالى ذلك القتل.
فهمتم السر؟ ارتدوا بعد إيمانهم أو لا؟ تركهم موسى عليه السلام مع أخيه هارون، وذهب للقاء ربه بالطور، فغرر بهم إبليس؛ فصنعوا عجلاً من حلي النساء، وقال: هذا هو إلهكم وإله موسى، وموسى نسيه فقط، ومدوا أعناقهم وعبدوه نساء ورجالاً، فاشترط الله العليم الحكيم لتوبتهم أن يقتل بعضهم بعضهاً، وهذا إعلام موسى عليه السلام: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:54].
أما خرج أبو بكر من داره وترك أهله وماله؟
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء:66] لم؟ لضعف إيمانهم، ونحن كيف حالنا لو كتب الله هذا علينا؟! نقتل، نخرج من ديارنا؟ ينبغي أن نكون متهيئين مستعدين، لو كتب هذا لفعلنا، وإلا ما نحن بالمؤمنين.
لا تعجبن عبد الله فهذا خليل الرحمن، هذا إبراهيم إمام الموحدين، يوحى إليه بأن يذبح ولده الوحيد إسماعيل، وتطيبه والدته وتصلح ثيابه، ويخرج به إبراهيم من ذلك الجوار الكريم حول الكعبة إلى منى ليريق دمه هناك، وبالفعل صرعه على الأرض، وتله للجبين، والمدية في يده، وقال: بسم الله والله أكبر، قبل أن تصل إلى حلق الغلام، ناداه جبريل: خذ هذا واترك هذا يا إبراهيم، فقدم إليه كبشاً أملح، واقرءوا لذلك قول الله تعالى من سورة الصافات أو اليقطين، قال: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:102-110].
ما إن سمعها أبا بكر حتى قال: لو أمرنا لفعلنا؛ لقتلنا أنفسنا وخرجنا من ديارنا، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم لما بلغه قول أبي بكر : ( إن من أمتي رجلاً إيمانهم في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي )، هذا هو المؤمن، ما هو من غضب فقط يسب الدين ويطلق امرأته، من جوعة فقط يسرق، مؤمن؟ أين الإيمان وأين أهله؟!
خذوا هذه، وما أحسبكم تبلغون!
العمل الصالح إذا فعله عبد الله أو أمة الله بإخلاص لله وعلى الوجه الذي بين رسول الله بلا زيادة ولا نقصان ولا تقديم ولا تأخير، هذا العمل الصالح والله ليثبتن الإيمان في قلبك تثبيتاً، العمل الطالح الفاسد يزعزع الإيمان ويذهبه، يخرجه من القلب، تتراكم الذنوب والمساوي، وتتحكم الشهوات والأهواء، وينسى الرحمن جل جلاله، فيذهب الإيمان ويستقر بعده الشرك والكفر بالله، العمل الصالح إذا عمله عبد الله أو أمة الله بإخلاص لله، لا يلتفت فيه إلى غير الله، ويؤديه كما بينه رسول الله في وقته ومكانه على هيئته وكيفيته؛ من شأن هذا العمل أن يثبت الإيمان ويركزه في القلب، حتى يصبح ثابتاً كالجبال الرواسي، هذا من ثمار العمل الصالح.
أولاً: يحقق لك خير الدنيا والآخرة.
ولك أن تقول: رضاه وسكنان دار السلام في مواكب النبيين والصديقين والشهداء.. أي أجر أعظم من هذا الأجر؟!
يا معشر الأبناء والإخوان، يا مؤمنات! هل فعلنا ما نوعظ به؟ هل تركنا ما حرم الله ورسوله؟ هل نهضنا بهذه الواجبات والتكاليف؟ هيا ننظر في أمرنا.
وأخيراً: وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:68]، فقط يفعلون ما يوعظون به فقط، يحصل هذا الخير كله، أولاً: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [النساء:66] في دنياهم وأخراهم، وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [النساء:66] للإيمان في قلوبهم، وإذا حصل هذا فإن النتائج: لَآتَيْنَاهُمْ [النساء:67] من عندنا مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:67-68]، يمشي من بيته إلى باب الدرس الآن، لا انحراف ولا اعوجاج ولا سقوط ولا من يضله أو يفتنه أو يخرجه عن هذا الصراط المستقيم حتى يقرع باب الجنة: وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:68].
ويدل هذا على أن القرآن ينزل والأحكام تنزل والعبادات وهم يمشون في هذا الصراط، وهو الإسلام المنجي والمسعد لأهله، وهذا الذي ندعو الله به في كل ركعة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، الذي يفعل ما يوعظ به يتحقق له هذا الخير كله، وآخره: أن يهديه ربه العليم الحكيم صراطه المستقيم الموصل إلى رضاه ودخول دار السلام، فقط ما باعدنا أنفسنا عن أمرين، هل نفعل ما نوعظ به أو لا؟ وإن قلت: بم من وعظنا؟ الجواب: عليك بكتاب الله، تجد أوامر الله ونواهيه واضحة كالشمس، عليك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تجد الأوامر والنواهي بالمئات، إن كنت لا تقرأ ولا تكتب اسأل العلماء، ائت إلى الرجل العليم وقل: يا شيخ من فضلك دلني على شيء يحبه ربي، فإذا قال لك: ربك يحب الكلمة الفلانية لا تتركها والهج بها الليل والنهار، وعدت إليه مرة ثانية: يا شيخ! قل ما هي الكلمة التي يبغضها الله ويكرهها فنهانا عنها، إذا قال: إنها الكذب لن تكذب أبداً، وتأتي بعد يوم أو أيام، ما الذي يحب ربي من الأعمال؟ قال: أحب الأعمال إليه: الصلاة في وقتها، تلازم ذلك ولا تستطيع أن تتركه بحال، وتأتي بعد أيام: دلني على فعل يبغضه ربي ويبغضه أهله، قال: الزنا، فيقلع عبد الله ولا يلتفت إليه أبداً حتى الموت، وهكذا يعلم ويعمل، ليس شرطاً أن يتعلم كل العلم في أيامه، القرآن كان ينزل، كلما ينزل بواجب نهضوا به، كلما ينزل بممنوع تخلوا عنه وتركوه، وهكذا ثلاثة وعشرين سنة.
وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:66-68]، ما هذه العطايا الإلهية؟ هل طلبها مؤمن أو مؤمنة في صدق، هل بحث عنها وعرفها؟ ولا الواحد في المليون.
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69]، مرة ثانية: في أي شيء يرحمكم الله أجيبوني؟
في أمرهما ونهيهما، فيما أمرا به ونهيا عنه، كيف نعرف أن هذه الأوامر والنواهي يا شيخ؟ كيف عرفت تلبس الثوب وتخيطه؟ وتلبس النعل وتضعه؟ تعلمت أو لا؟
إذاً: يجب أن تعرف أوامر الله ونواهيه، فإن قيل: إن بالجبل الفلاني أو المنطقة الصحراوية الفلانية شخص يعرف ما يحب الله وما يكره، يجب والله أن تمشي.
وقد قرر أهل العلم: أن الإنسان إذا كان في قرية ما فيها عالم وهو ليس بعالم، حرام أن يبقى فيها، يجب أن يهاجر إلى قرية أخرى فيها عالم بالله يسأله ويعلمه، إذ لو بقي بدون علم أكلته النار، تحطم وخسر، أو يعبد الله بدون علم ممكن؟ مستحيل، ما هي عبادة الله، أليست طاعته في الأمر والنهي، والأمر كيف هو، كيف يفعله؟ لا بد من عالم يعلمه، آه وا حسرتاه وا أسفاه، إلى أين هبطنا؟!
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69] من شرطية، الجزاء، ما ثوابه وما جزاؤه هذا الذي يطيع الله ورسوله؟ والله لمن الآن لا أبرح أطلب أوامر الله ونواهيه وأعمل بالأمر وأترك النهي في عزم.
الجزاء: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69].
يروى هنا لطيفة في هذا الموضوع: لما نزلت الآيات بعض الأصحاب بكوا، قالوا: الآن يرفع الرسول ونحن من الآن ما نراه، فجاءوا يبكون إلى رسول الله: الآن تموت وتفارقنا ولا نراك أبداً، وأصابهم وكرب عظيم، أحدهم أمره أن لا يفارق الصلاة، ( أعنّي على نفسك بكثرة الصلاة )، والله تعالى أراحهم بهذه الآية: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ [النساء:69]، الطاعة الحقة: وَالرَّسُولَ [النساء:69]، الطاعة الحقة، زكت نفسه وطابت وطهرت: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69]، في دار السلام، ترى رسول الله ينزل إليك ولا ترتفع إلى مقامه، ولكن هو ينزل إلى مقامك، النبيون الصديقون الشهداء الصالحون يلتقون ويجلسون على الأرائك ويتكلمون ويذكرون الله وأمور دنياهم، ثم بعد ذلك كل يعود إلى منزله، وإن منازلهم في البعد عن بعضها كما بين السماء والأرض، ( إنهم ليتراءون منازلهم كما تتراءوا الكوكب الغابر في السماء ).
فمسح الله دموع هؤلاء المؤمنين، كيف نعيش؟ كيف نسعد ونحن نفقد رسول الله ولا نراه بعد اليوم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية العظيمة: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69]، أي: المطيعون مع من؟ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69]، من هم؟ قال: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، ترافق هؤلاء وتواكبهم، أي رفيق أعظم من هذا؟ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ [النساء:69-70]، صيامك رباطك جهادك صومك صبرك خمسين أو مائة سنة ما يؤهلك لهذا لولا فضل الله.. أبداً لو تعبد الله ألفين سنة، عشرة آلاف سنة ما تستحق بالجزاء أن تدخل دار السلام، لكن فضل الله.
أما العبادات طاعة الله وطاعة الرسول فسرّها أنها تطهر نفسك، تزكي روحك فتصبح كأرواح الملائكة؛ فبذلك يؤذن لك بدخول دار السلام، طاعة الله وطاعة الرسول بفعل الأوامر وترك المنهيات من شأنها أنها تزكي النفس، أي: تطهرها وتطيبها، فمن زكت نفسه بما فعله بنفسه هذا يقبله عز وجل، ومن خبّثها ولوثها بترك الأوامر وغشيان المنهيات فخبثت فتعفنت والله ما هو بأهل لأن يدخل دار السلام.
ومعنا آيتان: الأولى: حكم الله يجب على مؤمن ومؤمنة أن يعرف هذا الحكم، ما هو حكم أفلاطون وإلا لينين ولا فلان، هذا حكم الرحمن الرحيم، اسأل ملايين المسلمين ما يعرفونه! صدر حكم علينا حكم لا يقبل المراجعة ولا التعقيب بحال من الأحوال، إذ أخبر تعالى عن نفسه بقوله: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]، هذا الحكم الصادر علينا يا معشر الغافلين! هو قول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، من يشك في هذا؟ أفلح من؟ رجل أو امرأة إنسان زكى نفسه طيبها وطهرها بمواد التزكية والتطهير المعدة لذلك.
وَقَدْ خَابَ ، ما معنى خاب؟ خسر كل الخسران، يلقى في عالم الشقاء من هو هذا؟ الذي دسا نفسه وخبثها ولوثها بما أفرغ عليها من أطنان الذنوب والآثام خبثت نفسه وخسر.
والآية المبينة للحرمان قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، أيدخل الجمل في عين الإبرة يا عباد الله؟! مستحيل، أصبعك فقط ما تدخل في عين الإبرة فكيف بالجمل؟! فكذلك مستحيل أن صاحب الروح الخبيثة بالشرك والذنوب والآثام يدخل دار السلام مستحيل.
هذا حكم الله، هل عرف المسلمون والمسلمات هذا؟ ولا واحد بالمليون، كيف تريدهم أن يستقيموا يا شيخ؟ يصدقون القول، ويصلحون العمل، ويتحابون ويتعاونون، كيف يتم لهم هذا وهم فارغون تمام الفراغ.
وما زلت أقول: أيها المستمعون! يا معشر المستمعات! أيكم جلس يوماً في ظل جدار أو سارية مسجد وقال لأخ له: يا عبد الله! تعال أسمعني شيئاً من القرآن أتدبره، هاتوا؟ كيف نعرف إذاً أوامر الله ونواهيه؟ وقد يلقى الدرس في مسجد القرية أو الحي وأهل الحي ثلاثة آلاف يحضر خمسة أنفار، كيف يعرفون الله؟ كيف يحبونه؟ كيف يخافونه؟ ومن لم يحب الله ولم يخفه كيف يطيعه؟ لن يتم هذا أبداً.
وإذا لم يطع الله والرسول بين أهل القرية يسلمون من الكذب من الخيانة من الغش من الخداع من النميمة من الغيبة من البخل؟ والله ما يسلمون، الذي ما يغسل ثوبه بالماء والصابون والله ما ينظف، هذه محنتنا يا معاشر المؤمنين! ما العلاج؟ ما الطريق؟ ما نستطيع؛ فرنسا قاهرة لنا، بريطانيا إيطاليا أسبانيا بلجيكا، هولندا.. مائة مليون أندنوسي تحت قدمها، قلنا لهم: ما سبب هذا؟ من سلطهم عليكم؟ قل: الله، لما يسلطهم عليهم ؟ عصوه وفسقوا عن أمره، وخرجوا عن طاعته، وعبدوا الأهواء والأصنام والشهوات، فعذبهم فترة من الزمن.
والآن من يمنعكم أن تعودوا إلى الله؟ ما نستطيع، لم؟ طلب منكم أن تخرجوا من أموالكم؟ طلب منكم أن تقتلوا أنفسكم؟ ما طلب. والله ما هو إلا أن يؤمنوا حق الإيمان، ويسلموا قلوبهم ووجوههم لله ويطلبون الله عز وجل، ويجتمعون في بيت ربهم في مسجد قريتهم أو حييهم في مدينتهم بنسائهم وأطفالهم يبكون بين يدي الله بالدموع، ويصلون المغرب ويجلسون جلوسكم هذا، النساء وراء والأطفال دونهن والرجال أمام المربي وليلة آية من كتاب الله، وليلة حديثاً من أحاديث رسول الله.
على أن يكون من المربي أهلاً لذلك، ليلة بعد ليلة ما تمضي سنة إلا وأهل القرية أطهار أصفياء علماء ربانيون، انقطع ذاك الظلام وزال ذلك التيار، وحل محله النور والهداية، ومن قال: كيف هذا؟ وشك، أتحداه أن يجتمع أهل القرية في قريتهم إيماناً صادقاً يتعلمون الكتاب والحكمة من معلم يزكيهم سنة ولينظر مجتمعهم كيف يكون.
أما بدون هذا المنهج الرباني الذي سلكه الرسول بالمؤمنين هيهات أن نستقيم على منهج الحق، وهانحن نشاهد خريجي مدارسنا على اختلافها هابطين إلى الأرض لا طهر ولا صفاء ولا وفاء ولا صدق ولا ولا.. أين آثار ذلك العلم المادي الذي ما طلب إلا للمال، كيف نعمل؟
سامحوني إذا آلمتكم.
سوف نبكي ونتألم فوق ما تتصورون.
وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر