إسلام ويب

تفسير سورة النساء (33)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أخبر الله تعالى عن نفسه بأنه لا يغفر الذنب المعروف بالشرك والكفر، وأما سائر الذنوب؛ كبيرها وصغيرها فإنها تحت المشيئة، إن شاء غفر لمرتكبها وإن شاء عذبه، فالشرك الذي لا يغفره الله صاحبه قد اختلق الكذب العظيم، إذ عبد من لا يستحق العبادة، وأله من ليس بأهل للتأليه، فهو قائل بالزور، عامل بالباطل، ليس له جزاء إلا النار ما لم يتدارك نفسه بالتوبة والرجوع إلى الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا ...)

    قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النساء:47].

    آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا [النساء:47] قال: نزلنا؛ لأن القرآن نزله الله في ظرف ثلاثة وعشرين سنة، التنزيل شيئاً فشيئاً آية بعد أخرى، أما التوراة فقد أنزلها جملة واحدة؛ فلهذا بعد الغفلة انتبهتم. نزلنا لا يكون للتوراة، بل التوراة نزلت جملة واحدة؛ ولهذا قال المشركون وهم يستقون هذه الضلالات من اليهود: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان:32]، جاء من سورة الفرقان.

    مرة ثانية: نَزَّلْنَا [النساء:47] هذا التنزيل يكون شيئاً بعد شيء، فتم تنزيل القرآن في ظرف ثلاثة وعشرين سنة، أما التوراة فقد أنزلها الله جملة واحدة على موسى عليه السلام، فها هو ذا تعالى ينادي اليهود المعاصرين وغير المعاصرين، لكن الذين هم في المدينة أول من ينادى بهذا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ [النساء:47] أي: مما هو حكم الله في التوراة، ما في فرق بين ما في القرآن وما في التوراة، كله كلام الله، يحمل شرعه وهدايته لخلقه، كله يدعو إلى العدل وإلى الطهر والصفاء، لا فرق بين التوراة والقرآن: مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ [النساء:47].

    القرآن ما كذب أبداً موسى عليه السلام ولا عيسى ولا غيرهما، بل صدق رسالتهما، وصدق ما أوحاه الله إليهما من الشرائع والأحكام، إلا أن الشرائع والأحكام ينتقيها الله حسب تغير الظروف والأحوال والبشرية، ولكن المشرع هو الله، المحلل هو الله، المحرم هو الله.

    إذاً: فيجب على كل مؤمن أن يؤمن بما شرع الله على موسى وعلى محمد صلى الله عليهما وسلم.

    وقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا [النساء:47] هذا التهديد وهذا الوعيد لا يطاق، مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا [النساء:47] يصابون بمسخ، فإذا أعينهم تنطمس، وإذا أنوفهم تنطمس، ويصبح القفا هو الأمام، وليس هذا على الله بعزيز، ولا بمستنكر، أما لعن أصحاب السبت فحولهم إلى مجموعتين؛ مجموعة من القردة وأخرى من الخنازير؟! وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163] إلى أنهم انقسموا ثلاث طوائف، طائفة أنكرت المنكر وفرت من وجودها بينهم، وأخرى سكتت، والثالثة استمرت على ذلك العصيان، وهو مجرد صيد يوم السبت؛ فمسخهم الله بكلمة: كونوا قردة وخنازير، ثلاثة أيام والناس يشرفون على أسوار المدينة ويشاهدون القردة والخنازير، ثم أبادهم الله ورموا بهم في البحر.

    مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ [النساء:47]، ماذا فعل بأصحاب السبت؟ مسخهم قردة وخنازير، واللعن: الطرد والبعد من كل رحمة ومن كل خير.

    هذه الآية عجب! لو شاء تعالى لفعل وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النساء:47].

    ولكن ولعل بركة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والرحمة التي أودعها الله فيه، وقد أخبر أنه لا يصيب أمته بما أصاب الأمم السابقة بعذاب الاستئصال والإبادة، وهم يعتبرون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ هو رسولهم الحق.

    قال مالك رحمه الله: كان أول إسلام كعب الأحبار ، وهو من علماء اليهود وليس بصحابي بل هو من التابعين، أسلم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كعب الأحبار مر برجل يقرأ هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النساء:47].

    فوضع كعب الأحبار كفيه على وجهه ورجع القهقرى، لما سمع هذه الآية وفهمها وضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته، وقال: والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي، انفعل انفعالاً عجيباً؛ ووضع كفيه على وجهه ساخطاً على نفسه، ورجع القهقرى إلى بيته، خاف ألا يصل إلى البيت حتى يمسخ الله وجهه.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النساء:47] هذه الآية ما زالت أنوارها تهدي إلى اليوم إلى أن يرفع القرآن، ألم يوجد الآن اليهود والنصارى أهل الكتاب؟ لم لا يؤمنون بما نزل الله من القرآن العظيم مصدقاً لما في التوراة والإنجيل؟ لم ما يخافون كما خاف كعب الأحبار ؟!

    ومع هذا الآية تحمل وجهاً آخر أيضاً، الطمس على الوجه: على الفهم والعقل والبصيرة الداخلية، فيصابون بمسخ آخر لا يرجعون إلى الله أبداً، وهذا حصل لهم، طمس الوجه في الوجه، أسلمت وجهي لله، الوجه القلبي الباطني، عجلوا أو تصابوا، وهذا الذي حصل، مسخوا أم لا؟ ما آمنوا ولا أسلموا وأصابهم الذل والعار وأجلوا من الجزيرة وطردوا إلى الشام، وما زالوا في ذلهم إلى الآن!

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية هذه الآية نتلوها على السامعين والسامعات.

    هداية الآيات

    قال: [أولاً: المفروض أن ذا العلم ] أي: صاحب العلم من أي جنس كان، المفروض في أن صاحب العلم [ يكون أقرب الناس إلى الهداية ] أليس كذلك؟ والله العظيم! هذا المفروض فينا يابني الناس! أن صاحب العلم يكون أقرب إلى الهداية من الجاهل.

    [ ولكن من سبقت شقوته ] في الأزل في كتاب المقادير [ لا ينفعه العلم! ] سبقت شقوته في كتاب المقادير أنه من أهل الشقاء؛ [ لما يعلم الله تعالى من اختياره الشر والإصرار عليه ] هذا [ لا ينفعه العلم ].

    مرة ثانية هداية الآية: [ المفروض أن ] صاحب [ العلم يكون أقرب إلى الهداية ] أم لا؟ أقرب إلى الهداية. أي علم وأي هداية، حتى العلم بالمنزل الفلاني صاحب العلم أقرب في الوصول إليه مثلاً، لا سيما العلم الرباني، [ ولكن ] لاحظ هذا الاستدراك [ من سبقت شقوته ] ما معنى سبقت شقاوته؟ لما كتب الله كتاب المقادير أما كتب قبل أن يخلق الخلق كلهم وكتب الشقي والسعيد أم لا؟ إي والله العظيم!

    السؤال: لم يكتب شقاوة هذا الرجل وسعادة هذا وهو أخوه وابن عمه؟

    الجواب: علم أزلاً أن هذا الشقي يختار الكفر على الإيمان، والظلم على العدل، والشقاء على الرحمة؛ فكتب ذلك.

    أعيد هذا وتأملوها: لما كتب الله كتاب المقادير علم كل ما يكون، وكتب بحسبه، مثلاً كعب الأحبار اليهودي كتب سعادته والله العظيم! هذا اليهودي الذي الآية نزلت فيه كما سيأتي كتب الله شقاوته في كتاب المقادير، لما نزل آدم وزوجه وتناسلوا وأخذت البشرية تنمو وتزداد وتنتشر، وهي لن تزيد على ما كتبه الله بنفس واحدة، إذاً: كعب الأحبار أسلم؛ لأنه كتب الله سعادته، علم أنه يختار الإسلام على الكفر، وقد رأيناه اختاره البارحة ووضع كفيه على وجهه. وهذا الطاغية عبد الله بن صوريا -أو غيره- علم الله أنهم يرفضون الإسلام ويكفرون به ويحاربونه، كتب بحسب ما علم من عملهم.

    مثلاً قريباً نضعه للإخوان دائماً: الفلاح صاحب المزرعة يحمل بذر البطيخ، أو الحبحب في كفه، وبذر الحنظل في كفه، وهو يعلم قبل ما يبذر قبل ما ينبت قبل ما يوجد لا حنظل ولا حبحب، يعرف أن هذا ينتج حبحباً حلواً يطعمه الناس، وهذا ينتج ثمراً مراً لا يؤكل هو الحنظل، أيوجد من يشك في هذا؟ على يقين، علم بهذا قبل أن يوجد، فعلم الله عز وجل الأزل، عرف كل من يقبل الهداية ويطلبها فكتب سعادته، وكل من يرفض الهداية ويطلب الضلال كتب شقاوته: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].

    فقط لا يقول القائل: إذاً: ما دامت القضية هكذا هيا نلعب، هذا عبث، هذا جنون! ما دامت القضية هكذا هيا نؤمن ونسابق في الخيرات والصالحات! فمن لم يستطع ووقف شقي.

    وهذا حصل في البقيع .. في جنازة جلس الرسول وجلس بعض رجاله والناس يدفنون الميت وفي يده عود فخط خطوطاً وقال: ( السعيد من سعد في الأزل، والشقي من شقي، فقالوا: إذاً: فيم العمل يا رسول الله! ) إذا كانت القضية هكذا، الشقي شقي، والسعيد سعيد لم العمل إذاً؟ ما الفائدة. قال: ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) اعملوا فكل واحد من البشر ميسر ومسهل لما خلق له، واضحة هذه العقيدة أم لا؟ وختامها تحلف بالله الذي لا إله غيره ولا تحنث: ألا يدخل الجنة دار السلام أحد بالشرك والكفر والمعاصي أبداً، ولا تشك! وتحلف بالله أن النار لا يدخلها ذو الإيمان والعمل الصالح أبداً، هذه ما تحتاج إلى دليل.

    فما دامت القضية أن السعادة بالإيمان والعمل الصالح والشقاء بالكفر والمعاصي؛ الأمر أوضح من النهار، إن كنت ترغب في سعادتك فاعمل لها، وإن كنت لا ترغب في السعادة وتريد الشقاوة أيضاً فاسلك سبيلها.

    وأوضح من هذا: أن الإيمان والعمل الصالح من شأنهما تطهير النفس البشرية وتزكيتها؛ لتصبح كأرواح الملائكة في صفائها وطهرها، والروح الزكية الطاهرة هي التي يقبلها الله في جواره في دار السلام في الجنة، والروح الخبيثة المنتنة كأرواح الشياطين هي التي يرفضها الله، ولا يقبلها في جواره، وتنزل إلى الدركات السفلى.

    فالإيمان والعمل الصالح أداة غسل وتنظيف للنفس، اغسل نفسك عبد الله! زكها وطيبها وطهرها إن أردت السماء، ما تريد انغمس في بؤرة الشرك والكفر والمعاصي، فإنك تنزل إلى أسفل سافلين.

    هل فهمتم هذه الحقائق؟ لأنا قلنا: أولاً: [ المفروض أن ذا العلم ] صاحب العلم [ يكون أقرب إلى الهداية ] أم لا؟ [ ولكن من سبقت شقاوته ] أزلاً [ لما يعلم الله تعالى من اختياره للشر على الخير والإصرار على الكفر ] من أجل علم الله بذلك، فهذا [ لا ينفعه العلم ] علماء بحور وهم مشركون ضلال كافرون؛ لأن شقوتهم سبقت، هل ظلمهم الله في شيء؟ لا.

    قال: [ المفروض أن ذا العلم يكون أقرب إلى الهداية، ولكن من سبقت شقوته لما يعلم الله تعالى من اختياره الشر والإصرار عليه لا ينفعه العلم ولا يهتدي به، هؤلاء اليهود الذين دعاهم الله تعالى إلى الإيمان فلم يؤمنوا ] سبقت شقوتهم.

    ثانياً: قال:[ وجوب تعجيل التوبة قبل نزول العقوبة ] لاحظ كعب الأحبار كما قال الإمام مالك رحمه الله: ما إن سمع فقط الآية تتلى يقرؤها قارئ حتى وضع يديه على وجهه ورجع إلى الوراء ما التفت، ودخل بيته وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، عجل بالتوبة قبل أن يفوت الوقت.

    فلهذا من هداية الآية: [ وجوب تعجيل التوبة قبل نزول العذاب وحلول ما لا يحب الإنسان من عذاب ونكال.

    [ثالثاً: قد يكون المسخ في كلمة (الوجه) يكون بمسخ الأفكار والعقول، فتفسد حياة المرء وتسوء، وهذا الذي حصل ليهود المدينة، فنقضوا عهودهم فهلك من هلك منهم، وأجلي من أجلي نتيجة إصرارهم على الكفر وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ...)

    قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48].

    معنى قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به)

    هذا خبر من أخبار الله الصادقة، يخبر تعالى مؤكداً الخبر بأداة التوكيد: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48] لا يغفر أي: ذنوب من أذنب بالشرك والكفر.

    الذنوب صنفان: صنف هو ذنب الكفر والشرك، فهذا من مات عليه آيس من رحمة الله، وذنب غير الشرك والكفر، وهو ذنب المعاصي كالظلم، كالاعتداء، كارتكاب الكبائر، إلى غير ذلك، هذا إن شاء الله غفره له ذلك، وإن شاء واخذ به كل بحسبه، فقد يدخل المرء الموحد النار ويخرج منها، فدخلها بذنوبه وآثامه؛ لأن نفسه لوثها وخبثها ودنسها، فلا يدخل الجنة والنفس كذلك، لا بد من عملية تطييب وتطهير، ثم يخرج لأن في نفسه ذرة إيمان التوحيد ويدخل الجنة.

    ومن المذنبين من لا يدخل النار، يؤخر يؤجل ثم يدخل الجنة، منهم من يشفع في من أراد أن يشفع، يا فلان! اشفع في فلان، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع لعصاة أمته بالملايين، اسمع هذا الخبر: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48].

    فليعلم كل مؤمن ومؤمنة أن من مات على الكفر والشرك أو الشرك أو الكفر.. كل مشرك كافر وكل كافر مشرك ميئوس من رحمة الله، أما إذا تاب قبل موته ولو بساعة، ولو وهو على سرير الموت، وقال في صدق: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولم يبق قلبه ملتفتاً إلى غير الله؛ ينجو بحمد الله، لكن إن مات مصراً على الشرك والكفر؛ فالرحمة مقطوعة واليأس هو نصيبه؛ لهذا الخبر الإلهي. وتكرر مرتين في سورة النساء: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48] فلهذا لن يدخل الجنة يهودي ولا نصراني ولا مجوسي ولا مشرك أبداً؛ لأنهم كفار ومشركون، كفروا بكتاب الله القرآن العظيم، وما يحمل من الهدى والهداية للبشر، كفروا برسوله المنزل عليه محمد صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: تزكو نفوسهم على ماذا؟ على الشرك الذي يتعاطونه والمعاصي؟ النفس تزكو على الإيمان والعمل الصالح، وقد كفروا بذلك وهجروه، تزكو نفوسهم على أيش؟!

    إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:48] أي: ما دون الشرك لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] موضوع تحت المشيئة الإلهية؛ ولهذا علينا أن ندعو ونستغفر لإخواننا المذنبين ولا نجزم أبداً بأن فلاناً في النار وإن ارتكب أكبر كبيرة، ما دام موحداً لا نجزم أبداً لا بدخوله النار ولا بخلوده، جائز أن يدخل النار ولا يخلد، إذ قد يغفر الله، وقد تقدمت الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40].

    معنى قوله تعالى: (ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً)

    وقوله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ [النساء:48] من ذكر وأنثى في الأولين والآخرين في أي جيل فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48] افترى: اختلق، والافتراء: الكذب المختلق الذي لا سبب له ويوجده الشخص، إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]؛ لم؟ لأنه بباطله بفهمه أوجد معبوداً يعبده مع الله، وهل يستحق العبادة كائن دون الله؟ الله استحق العبادة لأنه خلقني ورزقني، وخلق الكون كله من أجلي، بم نكافئه؟ بذكره وشكره، هو طلب هذا، والذي ينسى خالقه ويعمى عن رؤيته ويعبد سواه فيطرح بين يديه، ويتذلل له ويسأله حوائجه؛ أي شخصية هذه؟! هذا أسوأ من البهائم، أليس كذلك؟ أتترك خالقك رازقك واهبك حياتك وحياة الدنيا وأمك وأبويك وتلتفت إلى حجر إلى صنم إلى صورة إلى تمثال، إلى قبر إلى شخصية مزعومة من زعماء الباطل، وتعطيه صفات الله! فتقبل عليه تدعوه، تستغيث به، تسأله، تطرح بين يديه، تملأ قلبك من حبه والخوف منه؟ كيف يصلح هذا؟!

    إنه مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48] أم لا؟نأ ما بعد هذا الإثم إثم.

    مثال ذلك عندنا: في بيتك إنسان أنت تطعمه وتسقيه وتكسوه، ويجلس في بيتك ويظل معك تؤمنه تحفظه، ولا يقول لك: السلام عليك ولا كيف أنت! ويقبل على الجار الفلاني يعبده بالسلام والتحية! كيف تفسرون هذه الشخصية؟

    أو عندك شخص مأمور تطعمه وتداويه، وتسقيه وتفرش له الفراش، أنت حاميه أنت مولاه؛ ولا يذكرك بكلمة! معرض عنك تماماً، ومقبل على آخر دونك، ويحبه ويتكلم معه ويشتغل ويخدمه ويصلح نعاله! كيف تنظر إلى هذا المخلوق؟ أتبقيه؟ هذا ما تجازيه إلا بالقتل والإبعاد، أو تطرده من ساحتك.

    فالله عز وجل هو الذي وهبنا حياتنا وأرزاقنا، وهذه الساعات والنهار والليل كل الكون من أجلنا: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29] من أجل أن تذكروه وتشكروه، نترك ذكره وشكره ونقبل على أصنام وتماثيل أو شهوات وأهواء نعبدها! أمر عجب هذا أم لا؟ وصدق الله العظيم: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48].

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    لنستمع إلى الآية شرحاً في الكتاب. ‏

    معنى الآيات

    قال: [ معنى الآية الكريمة.

    يروى ] أو يروي الخبر، أو يروي الماء يشربه، هذا يدخل في الأذن وهذا في البطن، قال: [ يروى أنه لما نزل قول الله تعالى من سورة الزمر ].

    الزمر: جمع زمرة أم لا؟ جمع زمرة: الطائفة؛ لأن أهل الجنة يدخلونها زمراً، وأهل النار زمراً، ما هم دفعة واحدة بليارات، زمرة بعد زمرة الأول فالأول، السورة تسمى سورة الزمر.

    [ لما نزل ] فيها [ قول الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الزمر:53] ] أي: بالمعاصي بالشرك والكفر [ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53] ] .

    مرة ثانية: قل يا رسولنا! بلغ عنا عبيدنا: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الزمر:53] صبوا عليها أطنان المزابل والأوساخ من الشرك والكفر لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53] ولا تيأسوا إِنَّ اللَّهَ [الزمر:53] من شأنه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53] خبر مفرح أم لا؟

    قال: [ قام رجل فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: والشرك يا نبي الله؟! فكره ذلك رسول الله ] ما أحب أن يذكر القضية، اجعلها كما هي أحسن. عرفتم؟ ما دامت رحمة الله تفتحت أبوابها، وطمع فيها كل مؤمن لماذا أنت تقول هذا السؤال؟! إذاً: تقطعها [ فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] ] فلهذا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ [المائدة:101] فلهذا ممنوع التعنت في الأسئلة، السؤال بقدر الحاجة، عطشان حقيقة أو تستطيع تصبر إلى البيت؟ تستطيع ما تطلب الماء! فعلى هذا فقيسوا.

    فنزل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] [ فأخبر تعالى عن نفسه بأنه لا يغفر الذنب المعروف بالشرك والكفر، وأما سائر الذنوب كبيرها وصغيرها فتحت المشيئة، إن شاء غفرها لمن ارتكبها، فلم يعذبه بها، وإن شاء آخذه بها وعذبه، وأن من يشرك بالله تعالى فقد اختلق الكذب العظيم إذ عبد من لا يستحق العبادة، وأله من لا حق له في التأليه، فلذا هو قائل بالزور وعامل بالباطل، ومن هنا كان ذنبه عظيماً ] قال بالزور أم لا؟ أي زور أكبر من أن تعبد من لا يستحق العبادة كالذي تعطيه بيت فلان أو تعطيه سيارة فلان وليست له بحق؟!

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآية الكريمة.

    أولاً: عظم ذنب الشرك والكفر، وأن كل الذنوب دونهما ] دلت الآية على عظم ذنب الشرك والكفر، وأن كل ذنب دونهما، حتى قتل النفس إلا إذا قتلها مستحلاً لها كافر! هذه اللطيفة دعهم يأخذونها الزوار، اعلموا أيها الزائرون الكرام! أن الله تعالى يقول وقوله الحق: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92] ماذا تفهمون من هذا الخبر؟ ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً اللهم إلا خطأً، أما عمداً عدواناً ما يمكن، إيمانه ما يسمح له، نوره المتجلي في قلبه لا يجعله يقدم على نفس فيقتلها.

    وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92] أما عمداً عدواناً فالمؤمن ما يصدر عنه هذا، ثم لما بين كفارة القتل الخطأ قال: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].

    من هنا تستنبط أن الذي يتعمد قتل المؤمن وهو بكامل وعيه أنه ما فعل ذلك وهو مؤمن والله أبداً، ما فعله إلا ساعة كفره، إذ لو بقي إيمانه فيه ينير له الطريق، كيف يقدم على عبد من عبيد الله يعبدون الله، فيقطع عبادة الله، ويتجاهل أن هذا مملوك لله؟ هذا عبد الله ما هو عبدك أنت حتى تقتله، فيقدم عليه ويقتله والله ما هو بالمؤمن، وتبقى الآية على ظاهرها: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].

    أما القتل الخطأ، أو شبه الخطأ هذا يحدث في العوام، وجد شخصاً أخذ شاته أو بعيره يقتله، يظن أن له الحق، انتبهتم أم لا؟ شخص سبه وقال: يا ديوث! يا طحان! يقول: هذا نال مني وكذا يقتله، سمعت؟ يرى أن له الحق لماذا يفعل به هكذا؟ أكثر قتل العوام بهذه الطريقة، أما أن يقتل متعمداً وانتهاكاً لحرمة الله، يريد أن يقتل هذا بدونما سبب؛ والله ما هو بالمؤمن، وإن قلتم: كيف؟ أما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يسرق السارق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) يسلب الإيمان، ينطفئ النور فيقع.

    من هداية الآية الكريمة: [ أولاً: عظم ذنب الكفر والشرك، وأن كل الذنوب دونهما.

    ثانياً: الشرك ذنب لا يغفر لمن مات بدون توبة منه ] من مات يذبح لغير الله، ينذر لغير الله، يستغيث بغير الله، يعكف على غير الله، قلبه متعلق بولي ميت أو حي إذا مات على تلك الحالة؛ هلك. لطيفة خذوها أيضاً قد لا تسمعونها.

    يوجد ملايين- لأن الأمة هبطت من ألف سنة - يقرءون القرآن، يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، يقيمون الصلاة، يتصدقون، وفي نفس الوقت يدعون الأولياء، يستغيثون بهم، يذبحون لهم؛ ظناً منهم أن هذا هو الدين، واقع هذا أم لا؟ ننظر إلى هذا الشخص! إذا كان أهلاً لرضا الله؛ فإنه لما يمرض ويعاني من المرض الذي يموت فيه- شاهدنا هذا- يتخلى عن تلك النزعات كلها، ولم يبق يذكر لا عبد القادر ولا رسول الله، ما يبقى معه إلا: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا فاطمة ولا الحسين ؛ هذا بشروه، هذا لصدقه لطف الله به حتى ما يضيعه ألهمه أن يموت على التوحيد، وفي الحديث الصحيح: ( من مات وآخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة ).

    كيف ترون هذه اللطيفة؟ لأن شخصاً سبعين سنة وهو يعبد الله، أليس كذلك؟ عبادة بمعنى الكلمة، ويتصدق ويبكي من خشية الله، ولكن نشأ وتربى في جهل وجاهلية: يا سيدي عبد القادر ! يا كذا! موسم من المواسم يسوق شاة ويذبحها؛ ظناً أن هذا منه عبادة، فمثل هذا الشخص أغلبهم يموتون عند موتهم موحدين، ما تسمع يقول: يا عبد القادر ! ولا يا سيدي فلان! ولا مولاي فلان! أبداً. لا إله إلا الله محمد رسول الله! وتقبض روحه، هذا نجا أم لا؟ نجا.

    السر هو كون الإنسان يعيش خمسين سنة يعبد الله بصدق ولكن وقع في ورطة الشرك لعدم العلم والبصيرة؛ فالله عز وجل لما يعلم من صدقه ما يخيبه، يتوب عليه قبل أن يموت، ومن تاب قبل موته تاب الله عليه بلا خلاف.

    أما الذين يتعمدون الشرك؛ لأنهم يأكلون به، ويترأسون به، ويضللون الناس من أجل أنفسهم؛ هؤلاء قل من يتوب منهم.

    قال: [ ثالثاً: سائر الذنوب دون الشرك والكفر لا ييأس فاعلها من مغفرة الله تعالى له، وإنما يخاف ]، زاني سارق مرابي، كذاب، كذا هذه ذنوب ما ييأس صاحبها يقول: أنا مستحيل أن أدخل الجنة، لا يأس، لا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87]، ولكن عليه أن يخاف وأن يعيش خائفاً، ويموت خائفاً، أما أن ييأس وهو ما أشرك بالله ولا كفر به لا يحل اليأس أبداً؛ لأن الله قال: وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ [المائدة:40] أما إذا قال: إن الله لا يغفر أن يشرك به آيس هذا، من مات على الشرك ولم ير التوحيد كلنا آيسون من أن يرحمه الله ويدخله الجنة.

    مرة ثالثة: [ سائر الذنوب دون الشرك والكفر لا ييأس فاعلها من مغفرة الله تعالى له، وإنما عليه أن يخاف.

    رابعاً -وأخيراً- الشرك زور، وفاعله قائل بالزور فاعل به ] نعم! أخذ حق الله وأعطاه لمخلوق.

    وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767950707