أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!
إننا على سالف عهدها في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، الحمد لله على إفضاله وإنعامه.
وها نحن مع سورة النساء ومع هاتين الآيتين الكريمتين أولاهما درسناها بالأمس وثانيتهما نتدارسها في ليلتنا هذه بإذن ربنا.
قال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا * وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [النساء:32-33].
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32]، أليس هذا نهي الله عز وجل، من الناهي سواه؟ من المنهي؟ نحن، ما المنهي عنه؟ الحسد، نهانا ربنا، وهو مولانا ومربينا ومزكي أنفسنا.. نهانا عن هذه الخصلة الذميمة التي غص بها ألا وهي: تمني زوال النعمة عن فلان لتحصل لفلان، الحسد داء الأمم، الحسود لا يسود، الحسود لا يسود أبداً؛ لأنه يعترض على الله في قسمته، في تدبيره في خلقه، والذي يعترض على الله له عقل؟ له وجه؟ له آدميه؟ يعترض على الحكيم العليم، الله يقسم فضله على عبيده وأنت تعترض، وتقول: هاه. لو كان كذا، ليتني كذا، الحسد إذا دب في أمة قضى على كمالها، لن تفلح، فلهذا أمرنا بأن نقاومه في أنفسنا، ولا نرضى به أبداً، نرى الغني الثري، السيد الشريف، العالم الحكيم، لا نتمنى أبداً زوال ذلك عنه، ولا يحملنا ذلك على بغضه، أو على الكيد له والمكر به، بل نقول: هذا فضل الله، ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32]، فإن كان الذي يتمناه الغافلون مما لا يعطى إلا بالكد والعمل يجب عليهم أن يعملوا ويكدوا ويواصلوا العمل؛ حتى يظفروا بمبتغاهم ويحصلوا على مطلبهم بإذن الله ربهم، بالكسب، وإن كان لا يكسب بل هو عطية الله فهذا التفكر فيه نقص كبير وعيب ومعرة.
إذاً: بدل أن تشتغل بالتمني والتفكر اشتغل بما ينفعك ويزيل همك وكربك، وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا [النساء:32]، الذي لا يكتسب لا يغضب لشيء.
وقال: اكتسبوا ، ولم يقل: كسبوا؛ لأن الاكتساب افتعال بالطلب وبذل الجهد والطاقة، أما الكسالى والصعاليك في الضلال وفي شوارع الأمة، يتحدثون ويريدون ويتمنون ويسألون أن يكونوا أغنياء وسعداء، وهذا متناف مع سنة الله عز وجل.
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا [النساء:32]، بأيديهم وعقولهم وأفكارهم وطاقاتهم وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء:32]، والله الذي يكسب، والله الذي يعطي.
إذاً: فاسألوا الله من فضله، وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32] ، فإذا كان الأمر مرغوباً عندك محبوباً لديك اطلبه بوسائله، واسأل الله تعالى أن يوفقك لأقرب طريق وأسهل طريق حتى تظفر بهذا المرغوب، وإذا كان المسئول ما ينال بالطاقة وإنما ينال بفضل الله، فاسأل الله أن يرزقك الإيمان وصالح الأعمال، وأن يواكبك مع المتقين والصالحين، هذه هداية الله، هذا تدبير الله لأوليائه، بهذا طهر ذلك المجتمع الأولى، وساد وعز وكمل، ولما أعرضنا عن القرآن، وأدبرنا عنه، ونبذناه وراء ظهورنا، وقرأناه على موتانا، وحرمنا منه أحياءنا حصل الذي حصل من هذا الهم والغم والذل والهون والدون والكرب، أضف إلى ذلك ما عم البلاد من فسق وفجور وضلال وشرك وباطل؛ سببه إعراضنا عن هذه الهدايات الإلهية، أية أمة عندها هذا الكمال؟
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ [النساء:32]، لحكمٍ عالية قد لا يتصورها: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا [النساء:32]، ما هو بالتمني والأحلام، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء:32]، بالعمل، ما هو باللسان والتمني.
وأخيراً: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32]، بدل ما تشتغل بالحسد والهم والتفكر في أموال الناس وأعراضهم وحياتهم اسأل الله عز وجل وواصل الدعاء، اللهم إني أسألك من فضلك العظيم فإنه لا يملكه إلا أنت، هذه الدعوة مستجابة، وألح وكثر من الدعاء فإن الله يحب الملحين في الدعاء.
ثم قال في هذا التعقيب أو التذييل: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [النساء:32].
انتبه! لا تظن أن ما يجري في داخل قلبك من خواطر وهواجس وتمنيات أنها تخفى على الله، والله لا يخفى عليه شيء، فهو بكل شيء عليم، وعليم فوق العلم، فلهذا اسألوه من فضله، وطهروا قلوبكم من الحسد والتمني الباطل واللهو وما لا فائدة منه إلا الهم في النفس والكرب فيها، وجدوا واجتهدوا واطلبوا ما تريدون أن تحصلوا عليه من طريق بينه الله ووضع خططه وأسسه تحصلون على المال أو الزوجة أو الولد مثلاً.
هذه الآية تقرر مبدأ التوارث الذي تقدم في أول السورة.
وَلِكُلٍّ [النساء:33]، أي: من الرجال والنساء، أو ولكل من الناس جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون، أي: ورثة مما تركه الوالدان وتركه الأقربون موالي يرثونه بعد موته، ومعنى هذا: أن الذي نطلبه من الدنيا ونكسبه سوف نتركه وراءنا وسوف نموت ويرثه ورثتنا، ما هو بدائم ولا باقٍ، اطلب الدنيا حسب البيان الإلهي.. اطلبها من أبوابها بدون تمنٍ ولا حسد، وإذا تجمعت الأموال عندك فاعلم أن الله عز وجل سوف يورثها مواليك.
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:33]، الوالدان: الأم والأب، والأقربون: كل الأقارب كما تقدم في يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، النسب والمصاهرة والولاء.
وقوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:33]، وفي قراءة سبعية: عاقدت ، كذلك، هنا شذ من رأى من أهل العلم أن المراد بهؤلاء هم الأزواج وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:33]؛ لأنه إذا عقد النكاح تصافحوا، أما الجمهور من ابن جرير والصحابة والتابعين على أن هذا فيمن يحالف بعضهم بعضاً؛ إذ كانوا في الجاهلية يتحالفون يقول الرجل للرجل: هيا نتعاقد دمي دمك ومالي مالك وحياتي حياتك، ويتحالفان على ذلك، ويرثه إذا مات، ويرثه الأول إذا مات، جاء الإسلام فأبطل عام الفتح هذا؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ( لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لا يزيده الإسلام إلا شدة وقوة )، لأنهم يتحالفون على التعاون على دفع الضرر والأذى، وعلى المساعدة المالية، وعلى المساعدة العقلية، جماعة مع جماعة، واحد مع آخر، يتعاقدون على أن يكونا كرجل واحد، إذا مرض أحدهما مرض الثاني، فأقر الله عز وجل هذا وأبطل الإرث، فالتحالف إذا كان قبل الإسلام يبقى في الرفادة والنصرة والوصية والنصيحة لكن في باب الإرث أبطله الله بقوله: وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأحزاب:6]، في التوارث أصحاب الأرحام وهم الأقرباء من نساء ورجال أولى بالوراثة فيما بينهم، أما المعقود له عهد وحلف فلا حق له في الإرث، لكن يوصي له من كان حالفه بوصية دون الثلث لا تزيد على الثلث، ينصره النصرة باقية، يساعده متى طلب المساعدة المالية، أو العقلية، لكن فقط التوارث لم يبق بالحلف والمؤاخاة، والمؤاخاة هذه أحدثها الإسلام بين المهاجرين والأنصار في بداية نزول المهاجرين إلى المدينة فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الأنصاري والمهاجر على أن يتوارثا، إذا مات أحدهما ورثه الآخر، هذا التوارث بالهجرة ونسخ أيضاً، ومن باب أولى أن ينسخ التوارث بالتعاقد والتحالف فتأملوا!
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ [النساء:33]، أي: ورثة، مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء:33]، نصيبهم ، قال ابن جرير : من الرفادة والنصرة والعون لا من الإرث؛ لأن الإرث نسخ بآية أخرى في سورة الأحزاب وفي سورة الأنفال.
أما إذا قلنا: عقدت أيمانكم في الزواج؛ فالزوجة تقدم أنها ترث الربع أو ترث الثمن، والزوج كذلك، فلا حاجة إلى بيان إرثها الآن، والصواب: أن هذا كان فيما تعارف عليه العرب في الجاهلية لا دولة ولا سلطان ولا ولا، يحتاج الإنسان إلى أن يتآخى مع آخر سواءً مزني أو جهني ؛ للقرب للمناسبة للقرية أنت أخي وأنا أخاك، حياتي حياتك وموتي موتك، وهكذا، فلما جاء الإسلام وأصاب العدل والأمن والطهر والصفاء ما هنالك حاجة إلى التحالف، أليس ذلك؟ وما كان من تحالف الرسول يقول: ( لا يزيده الإسلام إلا شدة وقوة )، فقط قضية الإرث أظهر الله أهلها وأبرزهم، فلم يبق مجال لمن حالفت أن يرثك، إن شئت وصي له بدون الثلث وصية، أما أن يرث الإرث، فهذا الأمر انتهى بآية الأحزاب والأنفال. وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء:33]، ما معنى عقدت أيمانكم ؟ الأيمان: جمع يمين بالتحالف يده في يده ويعاهده، فالعقد هذا يتم بالمصافحة ووضع اليمين على اليمين والحلف أيضاً.
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [النساء:33]، هذه عندما تريدون أن تقسموا التركة أو تخرجوا الوصية اعلموا أن الله معكم، فلا حيف لا نقص ولا زيادة ولا تقديم ولا تأخير، اقسموا المال كما قسمه الله وإياكم أن تحلفوا أو تميلوا؛ فإن الله شهيد على ما تقسمون؛ لأن قسمة التركات قد تتطلع النفوس إلى الزيادة والنقصان فيها، وإلى إبعاد فلان وإدخال فلان، فكان الله العليم الحكيم يقول لهم: إِنَّ اللَّهَ كَانَ ، وما زال عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [النساء:33]، حاضر يرى ويسمع؛ فإياكم أن تخفوا شيئاً أو تعطوا من لا يستحق العطاء.
هذه التوجيهات أسألكم بالله لصالح من؟
لصالح المؤمنين، عبيد الله وأولياؤه، هو الذي ينزل هذه الشرائع والأحكام من أجل إكمالنا وإسعادنا، ومع الأسف أعرضنا عن كتابنا.
هيا نكرر هذا الشرح بتلاوته في الكتاب وتأملوا!
[ صح أو لم يصح ]، لماذا يقول: صح أو لم يصح؟ لأن المعنى صحيح وسليم، يبقى السند صح أو لم يصح غير مهم.
[ صح أو لم يصح أن أمة أم سلمة رضي الله عنها قالت: (ليتنا كنا رجالاً فجاهدنا، وكان لنا مثل أجر الرجال؛ فإن الله سميع عليم].
تمنت هذا، هو التمني، فنهانا الله عنه، وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32]، هذا مثال فقط.
[ والذين يتمنون حسداً وغير حسد ما أكثرهم ومن هنا نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عباده المؤمنين عن تمني ما فضل الله تعالى به بعضهم على بعض فأعطى هذا وحرم ذاك؛ لحكم اقتضت ذلك ]، فالله لا يعطي فلاناً ويمنع فلاناً لا لشيء، والله بل لحكمة من أعلى الحكم.
قال: [ لحكم اقتضت ذلك. ومن أظهرها الابتلاء بالشكر والصبر ] يجب أن لا ننسى هذا! فلان غني يرفل في الحرير، لماذا هذا؟ عللوا! أراد الله تعالى أن يختبره أيشكره أم يكفره؟ كيف يبتلي الله عز وجل؟ بهذا النوع، فلان منذ أن ظهر وهو فقير لاصق بالأرض لا يملك شيئاً، من فعل به هذا؟ الله، لماذا؟ ابتلاه؛ من أجل أن يرى صبره أو جزعه فيثيب الصابرين والشاكرين ويحرم الكافرين والجازعين.
مرة ثانية: إن رأيت سليم البنية صحيح الجسم والعقل ماذا تقول؟ مبتلى وإلا لا؟ بماذا ابتلاه؟ بهذا العقل وهذه الصحة وهذا كذا، لم ابتلاه بهذا؟ الله حكيم أم لا؟
ابتلاه من أجل أن يرى شكره أو كفره؛ فإن شكر زاده ورفعه، وإن كفر نعمة الله سلبها منه وآذاه، آخر مبتلى بالمرض بالفقر بالغربة بكذا، ابتلاه مولاه لم؟
ليصبر أو يضجر ويجزع ويسخط على الله عز وجل.
إذاً: ما منا والله إلا مبتلى، أما قال: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]؟ أي نص أقوى من هذا؟ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ، أي: امتحاناً، وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، فلم يبق إذاً من معنى أبداً للتمني والحسد، أتعترض على الله؟ طبيب يعالج مريضاً بالإبرة والدواء وأنت تنكر عليه هذا، أما تستحي؟ ما هو شأنك.
قال: [ ومن أظهر تلك الحكم الابتلاء بالشكر والصبر، فقال تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32]، أي: من علم أو مال أو صحة أو جاه أو سلطان ].
تعرفون بعض إخوانكم إن لم نكن منهم يبغضون أهل الفضل، يحسدون إلى حد البغض، لا يرضون عنهم أبداً، ولا يفرحون بوجودهم. مرض نفسي!
هذا هو الذي نهى الله عنه، هذا الغني زاده الله من أعطاه؟ أعطاه الله ربي وإلا لا؟ لماذا أعطاه وما أعطاني يبتليه؛ ليشكر أم يكفر.
قال: [ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32] ، وأخبر تعالى أن سنته في الثواب والعقاب الكسب والعمل، فليعمل من أراد الأجر والمثوبة بموجبات ذلك من الإيمان والعمل الصالح، ولا يتمنى ذلك تمنياً، وليكف عن الشرك والمعاصي من خاف العذاب والحرمان، ولا يتمنى النجاة تمنياً، كما على من أراد المال والجاه فليعمل له بسننه المنوطة به، ولا يتمنى فقط فإن التمني كما قيل: بضائع النوكى ].
التمني بضائع النوكى، البضائع: جمع بضاعة، سلعة، والنوكى: جمع أنوك، أحمق، التمني: سلعة الحمقى، فيه شيء؟
[ التمني بضائع النوكى أي: الحمقى، فلذا قال تعالى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا [النساء:32] ].
ما قال: نصيب مما أعطيناهم.
[ مما اكتسبوا.
وَلِلنِّسَاءِ أيضاً: نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء:32]، فرد القضية إلى سنته فيها، وهي كسب الإنسان؛ كقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].
ثم بيّن تعالى سنة أخرى في الحصول على المرغوب: وهي دعاء الله تعالى فقال: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [النساء:32]، فمن سأل ربه وألح عليه موقناً بالإجابة أعطاه، فيوفقه للإتيان بالأسباب، ويصرف عنه الموانع، ويعطيه بغير سبب إن شاء، وهو على كل شيء قدير، بل ومن الأسباب المشروعة الدعاء والإخلاص فيه ].
من الأسباب المشروعة للحصول على المطلوب والمرغوب: الدعاء مع الرجاء المتواصل، والاعتقاد بالاستجابة ومواصلة الدعاء، ما تدعو سنة وتقف، أو شهراً وتنتهي تقول: ما حصل لنا من هذا شيء، ( إن الله يستجيب لأحدكم ما لم يعجل )، يقول: آه دعوت وما استجاب لي، ( إن الله يستجيب لأحدكم ما لم يعجل ).
قال: [ هذا ما تضمنته الآية الأولى.
أما الآية الثانية وهي الثالثة والثلاثون، فإن الله تعالى يخبر مقرراً حكماً شرعياً قد تقدم في السياق: وهو أن لكل من الرجال والنساء ورثة يرثونه إذا مات، فقال: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ [النساء:33] أي: أقارب يرثونه إذا مات؛ وذلك من النساء والرجال، أما الذين هم موالي بالحلف أو الإخاء والهجرة فقط، أي: ليسوا من أولي الأرحام فالواجب إعطاؤهم نصيبهم من النصرة والرفادة، وهي العون والمساعدة، والوصية لهم بشيء؛ إذ لا حظ لهم في الإرث، لقوله تعالى: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأنفال:75] ].
هذه الناسخة للتوارث بالهجرة، بالمؤاخاة، بالحلف، قضت عليها، كان ذلك في الجاهلية كما قدمنا، ما في دولة، ما في سلطان، ما في أمن، الناس يحتاجون إلى بعضهم البعض، هذا يؤاخي هذا، هذا يحالف هذا؛ ليحصل له أمن، فلما جاء الإسلام وقامت دولته لم يعد ثمة حاجة إلى هذا، المؤمنون إخوة: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، ما في حاجة إلى حلف أو مؤاخاة.
قال: [ ولما كان توزيع المال وقسمته تتشوق له النفوس، وقد يقع فيه حيف أو ظلم، أخبر تعالى أنه على كل شيء شهيد، فلا يخفى عليه من أمر الناس شيء، ألا فليتق ولا يُعصى ].
لو أن العبد ما ينسى أن الله معه ينظر إليه على أي حال، والله ما يستطيع أن يعصيه، فلا يعص عبد الله ربه إلا إذا نسي، إلا إذا غفل، ظن أنه وحده، مع أن الله يقول: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى [المجادلة:7] أي: أقل من ذلك أدنى من ثلاثة أو أكثر إلى ما لا حد له، هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]، وليس هذا معنى الحلولية، هذا معنى: أن العوالم كلها في قبضة الله، إذا كان يطوي السماوات السبع بيمينه، والأرض بكل ما فيها في يمينه، أين البعد؟ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].
[ فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [النساء:33] ]. والشهيد: أعظم من الشاهد، حاضر وعالم، قد يكون شاهداً ولا يفهم شيئاً.
الشهيد الحاضر العليم [ لا يخفى عليه من أمركم شيء، فاتقوه بطاعته وطاعة رسوله ]، ولا تعصوه.
يا عباد الله! الذين آثرهم بهذا الشرع، وفضلهم على البشرية بهذا النور، يعنينا نحن.
أقرأ الآيتين ثم نذكر الهدايات الإلهية فيها وتفكروا، قال تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا * وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [النساء:32-33].
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء:33] ذكرت لكم هذا النصيب، في الإرث لا إرث، ما أنواع النصيب؟ الرفادة، العطية، النصرة، البيان، الهداية، أعطوهم ما يستحقون، الوصية، أوص لأخيك بشيء بعد موتك يأخذه دون الثلث، إذ لا تصح الوصية أكثر من الثلث أبداً: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [النساء:33].
كل آية تحمل هداية أو لا؟ تهدي إلى أي شيء؟ إلى الكمال والإسعاد، تهدي إلى من؟ إلى دار فلان، أو إلى سوق الخضرة؟ لا. بل تهدي إلى ما يسعد الإنسان ويكمله.
قال: [ من هداية الآيتين:
أولاً: قبح التمني وترك العمل ].
قبيح هذا أو حسن؟ يترك العمل ويتمنى، هذا إنسان هذا؟! يجب أن يعمل ويبذل طاقته في الكسب، وهو يدعو الله أن يعطيه ما يطلبه ويسأله من فضله، أما أن يقعد عن العمل ويتمنى، فهذا ما أراده الله لنا، بل حرمه الله علينا: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ [النساء:32].
[ ثانياً: حرمة الحسد ].
الحسد معروف أو لا؟ تمني زوال النعمة من فلان، إن كنت تتمناها تزول عنه لتحصل لك فهذا حسد قبيح، وأقبح منه: أن تتمنى زوال النعمة ولو لم تحصل لك، المهم: أن لا نرى فلان سعيداً، هذا أقبح أنواع الحسد، وكلاهما حرام من كبائر الذنوب؛ لأنه اعتراض على الله في تدبيره لخلقه.
[ ثالثاً: فضل الدعاء، وأنه من الأسباب التي يحصل بها المراد ].
أي دعاء هذا؟ دعاء الله عز وجل، ما معنى دعاء الله؟ يا رب.. يا رب.. يا ربّ اغفر لي ذنبي وارحمني، الدعاء: النداء، هل يدعو داع بدون ما ينادي ربه؟
أولاً: يا ربّ.. اللهم، والأفضل أن تناديه ثلاث مرات، ولهذا ورد: (من قال: يا ربّ يا ربّ يا ربّ قيل له: أسمعت: اسأل)، وأخرى: (يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، اسأل يا عبد الله تعطى).
والدعاء هو العبادة، ولا يحرمه إلا كافر.
قال: [ فضل الدعاء وأنه من الأسباب التي يحصل بها المراد ].
من أين أخذنا هذا؟ من قوله: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [النساء:32]، عالم بالمحتاج والمريض والفقير والغني، وكل الخلق بين يديه، لو كان ما يدري محنة؟ تدعوه وهو ما يعرف، أو ما يعلم، كيف يعطيك؟
قال: [ رابعاً: تقرير مبدأ التوارث في الإسلام ].
ما معنى التوارث في الإسلام؟ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:11-12] الآية.
هذه الكلالة، الكلالة: أن يموت المرء ولم يترك أباً ولا ابناً، ولا جداً ولا ابن ابن، يرثه الحواشي فقط، هي كلالة، كللوه كالإكليل على الرأس، الرجل يرث كلالة بمعنى: أنه ما عنده أب يرثه ولا جد، ولا ابن ولا ابن ابن، هؤلاء ما هم موجودين، من يرثه؟ إخوانه، أعمامه، أبناء إخوانه.. هكذا.
الكلالة: مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس، فقد يموت الرجل ولا يترك أباً ولا جداً ولا ابناً ولا ابن ابن، ويترك إخوة لأبيه وإخوة لأمه؛ فإن ترك إخوة لأمه، إذا كان واحداً له السدس، وإذا كان أكثر من واحد لهما الثلث فقط، والباقي للعصبة.
وإن كانوا إخوة رجالاً ونساءً، ذكوراً وإناثاً: فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:176]، كآية آخر سورة النساء: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النساء:176].
قال: [ رابعاً: تقرير مبدأ التوارث في الإسلام ].
من أين أخذناه من الآية هذه؟ من قوله: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ [النساء:33] ورثة، وأقارب.
[ خامساً: من عاقد أحداً على حلف، أو آخى أحداً، وجب عليه أن يعطيه حق النصرة والمساعدة، وله أن يوصي له بشيء دون الثلث ]، أي: أقل من الثلث.
[ أما الإرث فلا حق له، لنسخ ذلك ] بآية الأحزاب، والأنفال.
[ سادساً: وجوب مراقبة الله تعالى؛ لأنه بكل شيء عليم، وهو بكل شيء شهيد ].
ما معنى مراقبة الله تعالى؟ إذا أردت أن تأكل تستحضر أنك بين يدي الله، وتعرف كيف تأكل، أو ما تستحي من الله؟!
تقول: بسم الله، لولا اسم الله ما تأكل، ثم تأكل بيمينك، ثم تأكل مما يليك، تأكل ولا تتخم بكثرة الأكل، كذا أو لا؟
أردت أن تركب سيارتك، راقب ربك، من أوقف هذه السيارة؟ قل: بسم الله، والحمد لله، الحمد لله الذي وهبنيها، وسخرها لي، وواصل حمد الله.
في أي مكان مررت فرأيت رجلاً صالحاً جميلاً كذا، تقول: سبحان الله! الحمد لله، يخلق الله ما يشاء، يهب لمن يشاء.. وهكذا، حياتنا كلها ذكر مع الله، ومن نسي الله هبط، ارتكب كل المعاصي والذنوب، لا ينجو إلا من يراقب الله.
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر