إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام (9)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يوم القيامة يؤتى بكل من كفر بالله وكذب المرسلين تسوقهم الملائكة فتوقفهم على ربهم سبحانه وتعالى، فيسألهم إن كان ما يرونه الآن وما وعدوه من قبل حقاً، فلا يملكون إلا الاعتراف بذلك، ويدركون مقدار خسارتهم بتكذيبهم بلقاء الله سبحانه وتعالى من قبل، ويشعرون عندها بثقل أوزارهم التي حملوها معهم للعرض على ربهم، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلمَ، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة التي زفت بسبعين ألف ملك.

    وأذكر المستمعين وأعلم غير العالمين أن هذه السورة تقرر أصول الدين التي لا دين بدونها:

    أولاً: التوحيد: بأن يعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وهذا ما تستلزمه ربوبية الله تعالى، فلو لم يكن رباً خالقاً رازقاً يحيي ويميت لما استحق الألوهية والعبادة.

    ثانياً: تقرير مبدأ الحياة الثانية: البعث الآخر والحساب والجزاء، إما بنعيم مقيم وإما بعذاب أليم.

    ثالثاً: تقرير النبوة والمحمدية، وأن محمد بن عبد الله رسول الله ونبي الله، اصطفاه واجتباه وأوحى إليه كتابه، وأنزل عليه شرعه، وهو المسئول عن البيان والتوضيح. فالسورة تدور على هذه القواعد.

    ومعنا هذه الآيات الأربع، فلنستمع تلاوتها مجودة مرتلة من تلميذنا أبي بكر المدني فليتفضل.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ * وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنعام:30-32].

    معاشر المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام:30] لرأيت أمراً فظيعاً، لرأيت ما لا تطاق رؤيته، والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو صالح لكل مؤمن ومؤمنة؛ لأنهم أحياء بإيمانهم، وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام:30]، من هؤلاء؟ هؤلاء العادلون بربهم، المشركون به سواه، المكذبون بلقائه، المنكرون لشرعه ونبوة رسوله وما جاء به.

    لو ترى إذ وقفوا والزبانية تسوقهم سوقاً، لو ترى إذ وقفوا على ربهم لرأيت أمراً فظيعاً، لرأيت ما لا تطاق رؤيته من تلك الحالة المحزنة المؤسفة المؤلمة وهم واقفون بين يدي الله في ساحة فصل القضاء أو على متن جهنم، والساحة كلها ساحة قضاء، ثم ماذا يقال لهم وهم واقفون مشدوهون حيارى حزينون؟ يقول لهم الله -ولا بأس أن يكلمهم تكليم عذاب- أو تقول ملائكته: أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ [الأنعام:30] الذي كنتم تكذبون به، وتجحدون وتنكرون، وتقولون: لا بعث ولا حياة، إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا [المؤمنون:37]، والآن هذا حق أم لا؟

    هذا التقريع والتأنيب والتوبيخ يمزق قلوبهم، يحرق أفئدتهم، أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ [الأنعام:30]؟ فيقولون: بَلَى وَرَبِّنَا [الأنعام:30]، أي: حق وربنا، ويحلفون لله وهم بين يديه، وهل ينفعهم هذا الحلف، وهل يجديهم هذا الإيمان بعد أن انتهت دار الابتلاء والامتحان وهم في دار الجزاء؟

    بَلَى وَرَبِّنَا [الأنعام:30] إنه للحق الذي كنا نجحد به وننكره ونكذب الرسل فيه، ألا وهو البعث الآخر والدار الآخرة، وما يتم فيها من جزاء على أعمال هذه الدنيا خيرها وشرها.

    استحقاق من كفر بالله للعذاب الأليم

    قال تعالى: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام:30]، إذاً: اعترفتم، فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، والعذاب هو الألم الموجع الذي يذهب عذوبة الحياة؛ فسمي العذاب عذاباً لأنه يفقد صاحبه عذوبة حياته. فذوقوا العذاب بسبب ماذا؟ الباء سببية، بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام:30]، أي: بسبب كفركم بالله، ما وحدوه، وبالرسول ما آمنوا به، وبالشرع ما طبقوه، ما عملوا الصالحات، ولا تجنبوا المنهيات والمحرمات، بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام:30]، والكفر مانع من أن يغتسل المرء ويقف بين يدي ربه، ويصلي ركعتين ويناجيه، الكفر مانع من أن يلتزم العبد كلمة الحق وسلوك الطهر في الحياة، الكفر مانع من أن تطغى النفس وتتجبر وتتكبر وتهين غيرها، الكفر مانع من أن يتقي العبد ربه فيعمل الصالحات ويتجنب المفسدات، ومن ثم فنفس الكافر مظلمة منتنة خبيثة عفنة، ليست أهلاً أبداً للملكوت الأعلى.

    واذكروا قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:40-41]، الأولون كذبوا بآيات الله، فأنكروها وجحدوا بها، ولم يعترفوا بها، فما صاموا ولا صلوا، والآخرون استكبروا، عرفوا أن هذا هو الحق، وأن دين الله حق، وأن هذا رسول الحق، ولكن حملهم الكبر على أن يأنفوا من أن يصبحوا أتباعاً ليتيم أبي طالب.

    إذاً: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام:30]، أي: بسبب الكفر، أريد أن يفهم كل مؤمن ومؤمنة أن الكفر مانع من أن يستقيم المؤمن على منهج الله، والله لا يستطيع ولا يستقيم.

    فالمطلوب أولاً: الإيمان بأنك مخلوق مربوب، وأن لك رباً خالقاً خلقك ورزقك لعلة عرفها لك وهي أن تذكره وتشكره، لابد من هذا الإيمان، ثم الإيمان بهذه الشريعة ومن جاء بها، حتى تستعمل مواد تزكية النفس وتطهيرها، وتتجنب مواد تخبيثها وتلويثها؛ فالأوامر تزكي النفس والنواهي تخبثها، فمن كفر كيف ينجو وكيف يسعد وكيف يسلم؟

    واسمعوا ماذا قال لهم: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام:30]، ما قال: تظلمون، تفسقون، تفجرون، تزنون، تلوطون، تعقون، هذه كلها داخلة تحت مصيبة الكفر، فمن كفر ما استقام بحال من الأحوال.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ...)

    ثم هذا الإعلان في الآية الثانية: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ [الأنعام:31]، الذين كذبوا بيوم القيامة، بالبعث الآخر، بالحساب والجزاء، الذين كذبوا بالبعث والنشور؛ أعلن تعالى أنهم خسروا، خسروا الآن -والله- شرفهم، كرامتهم، رقة قلوبهم، طهارة أنفسهم، صدقهم، وفاءهم، عزهم، كرامتهم، إذ هم كالحيوانات، بل شر من الحيوانات. هذا الإعلان من أعلنه؟ إنه الله تعالى.

    قَدْ [الأنعام:31] لتفيد التحقيق، خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ [الأنعام:31]، فكل من كذب بالبعث الآخر والدار الآخرة قد خسر في دنياه، لا كرامة ولا طهر ولا صفاء ولا شرف، وإنما هو أخس من الحيوانات، إذا ثارت غريزة الغضب ثار الكلب والسبع يأكل وينهش، وإذا ثارت غريزة الشهوة فجر حتى بأمه، وهكذا خسر نفسه؛ لتعرف قيمة الإيمان بالدار الآخرة.

    قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ [الأنعام:31] وخسروا أيضاً الحياة الآخرة بكل ما فيها، إذ يلقون في عالم عالمنا هذا بالنسبة إليه كأن تغمس أصبعك في النيل أو في الفرات أو في البحر الأبيض أو الأحمر وتخرج أصبعك، وعندك مهندس يسحب ذلك الماء ويزنه كم جراماً؟ فانسب هذا الجرام إلى المحيط؟ ما هي النسبة؟ فيلقى العبد في ذلك العالم، والله ما يرى أباً ولا أخاً ولا زوجة ولا ولداً، ملايين السنين وهو في كرب وحزن، ولا تسأل عن أنواع العذاب التي تصطلي بها نفسه كل يوم.

    قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ [الأنعام:31] والوقوف بين يديه للاستنطاق والاستجواب، للحساب ثم الجزاء.

    فرط الحسرة والندامة التي يشعر بها الكفار إذا بغتتهم الساعة

    ثم قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً [الأنعام:31]، لا بأس أن تقول: ساعة موته، وإن سبقها مرض، فهي مباغتة له، أما الساعة العظمى فتلك التي استأثر الله بعلمها، وكم من طبيب يقول: أخوكم هذا مات انتهى أمره، ويحيا بعد ذلك أعواماً.

    كانت لنا جارة تحب أمي وتحبها، مرضت مرض الموت، ونحن أطفال، فجاء الطبيب من قرية أخرى، وقال: ماتت، فقام زوجها رحمة الله عليه فذبح على عادة أهل القرية وأعد السميد والدقيق والذبح ليقيم عليها عشاء الموت كما هي عادتهم، والله لقد حييت عشرات السنين ومات زوجها بعدها بعشرات السنين، وتوفيت منذ عامين أو ثلاثة أعوام، ليتقرر أن الموت يكون بغتة، وإن كان المراد هو ساعة يوم القيامة.

    حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام:31]، يا حسرتنا احضري، هذا أوان حضورك، والحسرة الهم والغم والكرب والألم النفسي، يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام:31]، ماذا فرطوا؟ تركوا الصلاة، منعوا الزكاة، فتحوا دور البغاء والجرائم، أكلوا الربا، كذبوا الرسل ومن أرسلهم، فهذا تفريط أم لا؟ ما تهيئوا للدار الآخرة بصلاة ولا صيام، لا باعتكاف ولا بقيام، تفريط كامل، واعترفوا بالحقيقة وأعلنوها في أسف وفي حسرة وتألم: يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام:31].

    معنى قوله تعالى: (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون)

    وشيء آخر: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ [الأنعام:31]، أوزارهم: ذنوبهم، الوزر الحمل، ولكن كيف يحملون الزنا واللواط والربا والكذب والعقوق والخيانة والغش؟ ورد أنها تكون في صورة أبشع مخلوق، يخلقها الله في صوة أبشع ما تتصور من المخلوقات ويحملها على ظهره وهو واقف في عرصات القيامة عشرات السنين، بل آلاف، ولا عجب، فالذي يسرق سرقة في الجيش يبعث يوم القيامة وهي على كتفه، الذي لا يزكي السائمة تبعث له يوم القيامة كما هي ويعذب بها.

    فحمل الأوزار إن شئت قلت: الذنوب والتبعات، ولكن لتكون الفضيحة أعظم والخوف والكرب أعظم تكون في صورة مخلوق بأبشع صورة يمكن أن تذكرها في نفسك، هذه ذنوبهم يحملونها على ظهورهم، واسمع قوله تعالى: قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام:31] والحال: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ [الأنعام:31].

    قال تعالى: أَلا [الأنعام:31] أداة استفتاح وتنبيه: أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31]، قبح ما يحملونه، لو كان غير هذا لكان هيناً، شخص عاري مكشوف يحمل على كتفيه صورة تفزع وترعب، لا يقدر إنسان على أن ينظر إليها، يحملها لتدل على خسرانه، وعلى دخوله عالم الشقاء والحياة فيه.

    مرة ثانية: يقول تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ [الأنعام:31]، أي: بالبعث الآخر بيوم القيامة، حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ [الأنعام:31] ساعة الموت وساعة البعث والجزاء وقيام الساعة، بَغْتَةً [الأنعام:31]، فالساعة لها علامات، ولكن العلامات بينها زمان، كساعة المريض أيضاً، مريض بكذا ويأتي الموت بغتة فيقال: مات فلان، تأتيهم بغتة، قَالُوا [الأنعام:31] متندمين متحسرين متأسفين: يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ [الأنعام:31]، قال تعالى: أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31]، ألا قَبُحَ أشد القبح ما يحملون من تلك الصور البشعة المفزعة التي لو يراها اليوم أحدنا يموت على الفور ويغمى عليه؛ لعظمتها وبشاعتها، هذه ذنوبه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ...)

    وجاءت الحقيقة يقررها الله عز وجل فيقول: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [الأنعام:32]، خالق الحياة الدنيا وخالق كل ما فيها، خالق خيرها وشرها، طيبها وخبيثها، موجد هذه الحياة يحكم بأنها لعب ولهو، فكيف تكون الحياة لعباً ولهواً؟

    أولاً: أنت تعرف اللعب واللهو ما هو أم لا؟ إذا ما عرفت اللهو واللعب فلن تعرف هذا المعنى، فحين يلعب الأطفال هل يحققون الدرهم لمعاشهم، هل يحققون حسنة لمعادهم، الذين يلعبون من الرجال بالكيرم والملاعب هل يحصلون على ريال، هل يحصلون حسنة؟

    كل عمل لا ينتج لك حسنة لدار الآخرة معادك ولا درهماً لمعاشك فإنه -والله- للعب، عرفتم اللعب؟ فالمؤمن حيثما تراه لا بد أنه عامل إما ليوفر درهماً لمعاشه أو حسنة لمعاده، أما أنه جالس أو يمشي أو يضحك ويلعب بدون شيء فما هو بالمؤمن.

    فلهذا كانت مجالس الغيبة والنميمة والأضاحيك والأباطيل والترهات والتلفاز.. كل ذلك ليس مما يرضي الله في شيء، والله ما هو إلا لعب ولهو.

    واللهو ما هو؟ اللهو: ما تتلهى به؛ لتشتغل عن عملك، فالحياة الدنيا وصفها خالقها بأنها ضرب من اللعب واللهو، فكيف -إذاً- نقبل عليها ونعطيها جهودنا وطاقاتنا وأفكارنا وأبداننا وشرفنا للحصول عليها؟ ونعرض عن الدار الآخرة إعراضاً كاملاً، ألسنا كاللاهين اللاعبين؟ هذه الآية عند من يبصر، عند من يعقل ويفهم ويعرف قيمة هذه الحياة وقيمة الحياة الثانية، فيحاسب نفسه، فيجد نفسه كل يوم ما عمل لدنياه أكثر من نسبة 5%، وخمسة وتسعون لآخرته؛ لأن هذه لهو ولعب، وتلك هي دار القرار، دار الخلد والبقاء، إما في نعيم دائم، وإما في عذابٍ -والعياذ بالله- كذلك.

    وانظر إلى المدارس والمؤسسات التي تؤسس كلها لأجل الدنيا، والآخرة معرضون عنها، هؤلاء هم الذين لا يؤمنون بالله ولقائه، أو لا يؤمنون بالبعث الآخر وما أعد الله فيه لأعدائه وأوليائه.

    الدار الآخرة خير لمن اتقى

    وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأنعام:32]، والله للدار الآخرة خير لمن؟ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأنعام:32]، هذا حكم الله وبيانه، وأما الحياة الدنيا فهي دار لعب ولهو، يخرج منها العبد صفر الكفين، لا يملك شيئاً بعد أيام وليال، لهو ولعب.

    فالدار الآخرة خير لمن؟ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأنعام:32]، يتقون من؟ يتقون الله، وبم تتقي الله عز وجل؟ هل بالجيوش الجرارة تهزمه؟ أو بالحصون والأسوار العالية فلا يصل إليك؟ أو بالسراديب تحت الأرض والمغارات حتى لا يعثر عليك؟ بم يتقى الله؟

    إن الله تعالى يتقى بطاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا بشيء آخر، وإن قلت: أين الله وأين رسوله حتى أطيعهما؟ فالجواب: الله ما أنت بأهل لأن تراه، ولكنه -والله- ليراك أكثر مما ترى نفسك، والله إنه ليسمع صوتك وهواجس قلبك، والله لو أراد أن يأخذك فما أنت إلا أصغر شيء بين يديه، وهو فوق عرشه بائن عن خلقه، والملكوت كله في يده، ورسوله ها هو ذا توفي كما توفي من قبله، ولكن أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ثابتة قارة موجودة معلومة لدى الناس، فأطعه بأن تسأل عن أوامره ما هي وكم هي، وتسأل عن نواهيه ما هي وكم هي، بعد ذلك تطبق الأمر بالفعل، والنهي بالترك، وبذلك تتقي غضب الله وعذابه وسخطه ولومه وعتابه.

    لزوم معرفة المكلف أوامر الله تعالى ونواهيه

    وهنا نعيد القول: أنه لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يعيش بعد بلوغه سنة واحدة وهو لا يعرف أوامر الله ونواهي الله، وإن قيل له: إن من يعرف أوامر الله يوجد في بلاد واق الواق أو بأستراليا وجب عليه أن يمشي على رجليه حتى يعلم أوامر الله ما هي؟ وكيف يفعلها؟ وحتى يعرف نواهي الله ما هي؟ وكيف يتجنبها؟ أما أن تعيش في مدينة الرسول خمسين أو ستين سنة وأنت هارب عن مجالس العلم ولا تعرف إلا القليل من أوامر الله ونواهيه فستعتذر بماذا يوم القيامة؟ تقول: ما عرفت، لماذا ما عرفت؟ سألت وما أجابوك؟ قرعت أبواب العلماء وردوك؟ كيف لم تعرف؟

    وهذا الذي نقوله هو محنة العالم الإسلامي عربه وعجمه على حد سواء، نسبة العالمين بمحاب الله ومساخطه وما أعد لأوليائه وأعدائه لا تزيد على 25% إن بالغنا، وكل من لم يعش بين يدي العلماء يجالسهم ويسألهم ويعيش معهم في مجالسهم لن يتعلم، هل فهمتم هذه أم هي بربرية ما هي فصيحة؟

    لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة تؤمن في أستراليا أو في تايلند وتبقى وهي لا تعرف بماذا تطيع الله وكيف تطيعه؟ ما إن قلت: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، حتى تقول: علموني ما يحب ربي وما يكره؛ لنفعل الذي يحبه ونترك الذي يكرهه، أليس هذا معقولاً؟ والله لهو الحق.

    أما أن تعيش في بلاد العلم وأنت لا تعرف المحرمات ولا المنهيات، بل وتقع في الشركيات والإلحاديات والعياذ بالله؛ فهذا لا يجوز.

    حقيقة الدنيا بالنسبة إلى الآخرة

    قال تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ [الأنعام:32]، لام القسم، والله للدار الآخرة خير من الدنيا، لمن؟ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأنعام:32]، لا للذين يفجرون ويكفرون ويشركون، هؤلاء الدنيا خير لهم، الدنيا -والله- خير للذين يفجرون ويعصون الله ورسوله؛ لأن الدنيا مهما كانت ففيها فسحة، لكن دار الآخرة فيها لهم عذاب النار.

    وفي هذا يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر )، فالمؤمن مهما كان في مرتاحاً في الدنيا فهو بالنسبة إلى قصوره وأنهاره وحوره في سجن، والله ما نستريح إلا بعد أن نموت، وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ [الأنعام:32]، خير للأبرار خير للمتقين، وأما الكافر فهو وإن كان مريضاً جائعاً مهاناً عشرين سنة مضطهداً فهو في خير بالنسبة لما بعد الموت، حقاً وصدقاً ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ).

    إدراك العاقل مكانة الآخرة وحقارة الدنيا

    وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأنعام:32]، وبعد: أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنعام:32]، لا إله إلا الله، هذا كلام من هذا؟! ما هذه الجملة بعدها؟! إذاً: ما لكم مقبلين على الدنيا معرضين عن الآخرة، أما تعقلون؟ والعقل سمي عقلاً لأنه يعقل صاحبه كما يعقل العقال البعير، يعقله أن ينطق بالسوء أو يلفظ بالباطل أو يتعاطى المحرم؛ لأنه له عاقل يعقله، والذين لا عقل لهم مجانين يتخبطون في الحياة، وهل للكافر عقل؟ الذي يكفر خالقه ويجهله ويسبه ويعبد غيره هل هو عاقل؟ الذي يبيع الآخرة بعرض من الدنيا قليل بأوساخ تزول عما قريب هل هو ذو عقل وكرامة؟ الجواب: لا، ولهذا قال تعالى: وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأنعام:32]، ثم قال: أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنعام:32]، إذا كنتم تعقلون فلم تختارون الدنيا على الآخرة وهي لهو ولعب والآخرة خير؟! إذاً: مالكم أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنعام:32]؟

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    معاشر المستمعين! إليكم هداية هذه الآيات فحاولوا أن تستنتجوها:

    [ أولاً: تقرير مبدأ البعث والجزاء بذكر صور ومشاهد له. ] من أين أخذنا هذا؟

    من قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام:30]، هذه مواقف أم لا؟ فهذا تقرير مبدأ البعث والجزاء، البعث من القبور والجزاء بعد الحساب، والجزاء ما هو إلا عالم السعادة الجنة، أو عالم الشقاء النار، عالم السعادة علوي، وعالم الشقاء سفلي، واقرءوا: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين:7] و كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين:18].

    [ ثانياً: قبح الذنوب وأنها أسوأ حمل يحمله صاحبه يوم القيامة ]، هل الذنوب قبيحة أم لا؟ أنها قبيحة، قبح الذنوب وأنها أقبح حمل يحمله صاحبها يوم القيامة، يصور زناه ولواطه وإجرامه وقتله وجرائمه صوراً على ظهره يرزح تحتها، وهي أبشع صورة تدل عليه، أما قال تعالى: أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31]، ما يحملون؟

    [ ثالثاً: حكم الله تعالى بالخسران على من كذب بلقائه فلم يؤمن ولم يعمل صالحاً ]، خسران من؟ من كذب بلقاء ربه فلم يؤمن ولم يعمل صالحاً، دل على هذا قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ [الأنعام:31]، حكم الله تعالى بالخسران على من كذب بلقائه تعالى فلم يؤمن ولم يعمل صالحاً، ومن كذب بلقاء الله أيعمل صالحاً؟

    [ رابعاً: الساعة لا تأتي إلا بغتة ] فجأة بدون استعداد ولا تفكر ولا تذكر تقع، [ ولا ينافي ذلك ظهور علاماتها؛ لأن الزمن ما بين العلامة والعلامة لا يعرف مقداره] إلا الله، تطلع الشمس وبعد كذا سنة تأتي علامة أخرى، لكن المراد الساعة التي إذا نفخ إسرافيل تحلل الكون بكماله وتبخر وذاب، السماء تسيل، والجبال تطير كالهباء، واقرأ: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [الواقعة:1-6].

    [ خامساً: نصيحة القرآن للعقلاء ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنعام:32].

    [ نصيحة القرآن للعقلاء بأن لا يغتروا بالحياة الدنيا ويهملوا شأن الآخرة وهي خير للمتقين ].

    هكذا يفسر القرآن أم لا؟ أسألكم بالله: لو كنا نجتمع عليه منذ سنين وندرس هذه الدراسة هل سنصبح نقرأ القرآن على الموتى؟ ولكن العدو الكائد الماكر يجهلنا ليصبح القرآن لا معنى له في صدورنا إلا أن يحلف به فقط.

    وصل اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767952949