وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
المبدأ الأول: توحيد الله عز وجل، وأنه لا إله إلا الله.
المبدأ الثاني: نبوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ما جاء به من الشرع والدين هو من عند الله عز وجل.
المبدأ الثالث: البعث والجزاء في الدار الآخرة.
وهذه المبادئ الثلاثة أو الأصول الثلاثة إذا فقد منها أصل فصاحب هذا المعتقد ميت غير حي، فليكن اعتقادك عبد الله، وليكن اعتقادك أمة الله اعتقاداً يقينياً علمياً أنه لا إله إلا الله؛ فلهذا لا يعبد غير الله، ولو بطأطأة الرأس أو بكلمة فيها معنى الذل والمسكنة لغير الله عز وجل، لا يعبد غير الله عز وجل.
ثانياً: أن العبادات جاءت من طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا عبادة تقبل بين الناس إلا ما جاء به رسول الله وبينه عليه الصلاة والسلام؛ فلذا كل بدعة ضلالة.
ثالثاً: لا بد من اعتقادك الجازم أنك بعد الموت تبعث وتسأل عن كل عمل عملته في هذه الدار، سواء بجوارحك أو بقلبك.
هذه أصول الدين الثلاثة، السورة كلها تدور حول هذه الحقائق الثلاث، وها نحن مع هذه الآيات، فلنستمع إلى تجويدها من أحد الأبناء، ثم نشرع في بيان ما جاء فيها بإذن الله.
قال تعالى مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: اسأل أولئك العادلين بربهم غيره، أولئك الذين جحدوا الوقوف بين يديه يوم يلقونه، اسألهم فقل لهم: لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:12] ؟! هل لسيدي عبد القادر ؟ هل لعيسى؟ عيسى مخلوق مربوب: لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:12] من هذه الكائنات كلها؟
والجواب: قُلْ لِلَّهِ [الأنعام:12] لأنهم سيقولون: لله، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، إذاً: فاسبقهم وبادر بالجواب، إذ ما لهم جواب إلا هذا! وهل في الأرض من له جواب غير هذا؟ لو سألت الآن الصين واليابان والعالم: لمن ما في السماوات والأرض سيقولون لمن؟ هل لمن يبول ويموت غداً ويلقى في الأرض جيفة منتنة؟! لا جواب أبداً إلا كلمة: الله، إذاً: قل: لله.
وإذا كان كل ما في الأكوان لله فكيف نلتفت إلى غيره نعبده ونتقرب إليه؟ جنون هذا أم ماذا؟! أنت تعتقد أن الملكوت كله لله وهو مالكه، ومنه يطلب وهو الذي يعطي أو يمنع، كيف تلتفت إلى مخلوق من المخلوقات وتتقرب إليه بأنواع القربات ليقضي حاجتك، أو ليعمل لك كذا؟! أي جهل أعظم من هذا؟ أية حماقة أشد من هذه؟!
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:12] يا رسولنا! أسألهم، اسأل هؤلاء العادلين بالله غيره. قُلْ لِلَّهِ [الأنعام:12] اسبقهم بالجواب، ما يجدون جواباً إلا هذا: (لله).
إذاً: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]، رحمة متجلية في كل مخلوقاته، أولاً: في هؤلاء المعاندين العادلين بربهم، الكافرين به المكذبين له ولرسوله، وهو يطعمهم ويسقيهم، ويحفظ لهم حياتهم، يأكلون ويشربون ويمرحون، وينطقون ويسمعون، لو شاء لمسخهم أحجاراً لا يسمعون ولا ينطقون ولا يتكلمون، لكن رحمته هي التي جعلت الكافر يأكل ويشرب وينسى الله عز وجل، لولا رحمته لعذبه، خلقتك فأنكرت خلقي لك فسأمسخك صنماً أو حجراً.
إذاً: الإيمان بيوم القيامة، باليوم الآخر، بالبعث الآخر هذا هو أصل الإيمان، وإن رأيت شراً أو فساداً بين الناس فعلته عدم إيمانهم بالبعث الآخر والجزاء فيه على أعمالهم.
أما الذي آمن أنه سيسأل عن صمته إذا صمت، وعن نطقه إذا نطق، وعن أكله إذا أكل، وعن تركه إذا ترك، الذي يعيش على هذا المبدأ لا يفجر، ولا يفسق، ولا يظلم، ولا يخبط، والذين يتعاطون الشر والفساد والظلم والخبث فقدوا هذا العنصر الحيوي في نفوسهم، أما الذين كذبوا رسول الله وما آمنوا به فكيف يزكون أنفسهم، وكيف يطهرونها وهو الذي جاء ببيان المواد المزكية للنفس، المطهرة لها، فهم هالكون وإن آمنوا بالبعث، وإن آمنوا بتوحيد الله، والذين آمنوا بالبعث ولقاء الله وشرع الله ثم أشركوا بربهم غيره هل ينفعهم ذلك؟ لا ينفع.
يقول تعالى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنعام:12] ليجمعنكم ليوم القيامة، ليجمعنكم في يوم القيامة، ليجمعنكم إليه من القبور إلى المحشر، لماذا؟ للجزاء على الكسب الدنيوي الإرادي الاختياري.
وقوله: لا رَيْبَ فِيهِ [الأنعام:12]، الريب الشك، والريب أعظم من الشك.
احلف بالله! إن الذين خسروا أنفسهم لا يؤمنون، وهنا نظرتان أو وجهان: خسروا أنفسهم بهلاكها يوم القيامة، وهو الخسران الأعظم، هؤلاء مضى قضاء الله وقدره عليهم بأنهم لا يفلحون في يوم القيامة بالنجاة من النار ودخول الجنة، هؤلاء والله لا يؤمنون اليوم.
وفي هذا الوجه تسلية للرسول والمؤمنين والدعاة، لا تتألم ولا تحزن، فالذي مضى في قضاء الله وقدره أنه لا يعبد الله ولا يزكي نفسه ولا يطهرها، وحكم عليه بالخسران في الدار الآخرة؛ والله لا يؤمن، ولو نزل الملك أمامه فلن يؤمن، إذاً: فارحم نفسك ولا تكرب ولا تحزن.
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ [الأنعام:12] لوثوها، أخبثوها، أفرغوا عليها أطنان الذنوب والآثام، لا يؤمنون، الذين توغلوا في الشر والخبث والفساد، عرض عليهم الإيمان فكانوا يسخرون ويضحكون، وهذا الذي نبهنا عليه غير ما مرة، يا أمة الله! يا عبد الله! لا تتبع المعصية المعصية، عجل بالتوبة، فإن سنة الله في الإنسان إذا مشى في طريق الضلال وتوغل فيه أنه لا يرجع أبداً، تعرض عليه الإيمان فيسخر، ما يستطيع أن يتخلى عن تلك الأخلاق والصفات التي تمكنت من نفسه أبداً، ولهذا وجبت التوبة على الفور، وقد بينا ذلك بمثال: فأنت إذا كنت تريد أن تذهب إلى الشام فذهبت إلى الجنوب، فمشيت يومين أو نحو ذلك فممكن أن ترجع إذا قيل: ضللت الطريق. لكن إذا توغلت في المشي فإنك لا تستطيع أن ترجع، انتهى زادك وانتهت قوتك، فالضلال البعيد صاحبه لا يرجع، وسر ذلك: أن من رغب في المعاصي وأقبل عليها واشتهاها وعملها يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام يصعب عليه جداً -بل يستحيل- أن يرجع، وضربنا المثل بالذين توغلوا في الدخان وشربوا الدخان عشرات السنين، ما استطاعوا أن يتخلوا عنه، مع أنه لا ينفعهم في شيء، والذي تعود على الكذب وأصبح لا يلذ حديثه إلا بالكذب ما يستطيع أن يرجع، فالذين خسروا أنفسهم لا يؤمنون، فلا تكرب يا رسولنا ولا تحزن، هل عرفتم هذا الكلام الإلهي؟
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [الأنعام:13]، وجملة (وما تحرك) متضمنة لا تذكر، فإذا كان له ما سكن فهو الذي يتحرك، فلم تذكر من باب الإيجاز، وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [الأنعام:13] لا يوجد شيء في العوالم كلها لا يملكه الله وليس هو بخالقه وموجده والمتصرف فيه، هذا هو الله، يجب أن نحبه، يجب أن نرهبه، يجب أن نخافه، يجب أن نتعرف عليه، يجب أن نطيعه؛ لأن كل شيء بيده، لا يخرج عن ملكه شيء، فكيف -إذاً- نفتح أعيننا في الصنم والقبر والشهوة والباطل؟! عجب حال المعاندين والعادلين بربهم!
وَلَهُ [الأنعام:13] أي: لله عز وجل مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [الأنعام:13]، والظرف هذا: إما أن يكون ليلاً وإما أن يكون نهاراً، إما أنك في الليل وإما أنك في النهار، كل ما في الليل والنهار هو ملك الله عز وجل، ومنه يطلب، وهو الذي يعطي ويمنع، وهو الذي يرفع ويضع، ويعز ويذل، فكيف -إذاً- نعرض عن هذا ونقبل على تمثال صنعناه بأيدينا؟!
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ [الأنعام:13] لكل الأصوات. الْعَلِيمُ [الأنعام:13] بكل الكائنات، وهذا الوصف هل يوجد لمخلوق؟ هل أنت تسمع مدى مائة كيلو؟ الآن تسمع مدى ألف كيلو بهذه الآلة وما وراء ذلك، لكن الله تعالى هو السميع لكل أصوات وحركات الكائنات، العليم بكل الكائنات، هذا الذي ينبغي أن تركع له، وأن تسجد له بوجهك في التراب، وأن تحب من أجله وتبغض من أجله، هذا الذي تذكره وتتغنى بذكره ولا تبالي؛ لأنه رب كل شيء ومليكه، أما غير الله عز وجل فكيف يعبد؟ بأي وجه؟ لا يملك شيئاً، مخلوق مربوب لله مملوك.
فالعادلون به الأصنام والأوثان وعيسى ومريم، والملاحدة، والذين لا يؤمنون بالله هؤلاء شر الخليقة، بهائم، بل البهائم أفضل منهم، هذا الذي ينكر خالقه ويقول: ما أنا بمخلوق؛ كيف ينظر إليه؟ هذا كيف هذا يتعامل معه؟ كيف يصح وجوده؟ مخلوق مربوب مفتقر إلى خالقه حتى في أنفاسه ويقول: لا أومن بالله! ما هو السر؟ السر: أنه خسر نفسه، أخبثها ولوثها بإعراضه عن ذكر الله وعبادته، وبنسيان الله ومعصيته، فتوغل في الشر والفساد والخبث، ماذا يقول؟ ما يستطيع أن يقول: أنا لا أؤمن، حتى لا يطأطئ رأسه ويستجيب لأمر ربه فيفعل ما أوجب أو يترك ما نهى وحرم.
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا [الأنعام:14] قل لهم، قل للذين يؤلهون غير الله ويتخذون غير الله ولياً لهم يفزعون إليه عند الشدائد، قل لهم: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا [الأنعام:14] يواليني وأواليه، يحبني وأحبه، أعبده وأتقرب إليه، وأفزع إليه في الشدائد، وألوذ بجنابه عند الكرب وعند العظائم.
ومن هو الله؟ إنه فاطر السماوات والأرض، ما معنى (فاطر)؟ خالق، فطر السماوات: خلقها، أتعرفون الفطيرة تلك التي تصنعها المرأة من الدقيق؟
إذاً: من فطر السماوات والأرض؟ إنه الله، فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:14]، الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [فاطر:1]، فاطر السماوات ومبدعها وموجدها وخالقها، فهل هذا يسوى به غيره؟ وهل يترك ويلتفت إلى غيره؟ وهل يكره ويحب غيره؟ يا للعجب!
والدليل لذلك قول الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ [المائدة:73-75] هل هناك أكثر من هذا؟ ما هو إلا رسول قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [المائدة:75] مئات ماتوا، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة:75] ما هي بإله مع الله. وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:75]، فكيف يعبد هذا؟ أي عقل عندك يا ابن آدم أن تؤله من يأكل ويفرز الطعام فيتحول إلى نتن وعفونة، أيصلح هذا للإلهية؟ إنهم ما قالوا أبداً: عبد القادر إله. ولا البدوي إله، ولكن ألهوهم بالذبح والنذر والحلف والرهبة والخوف والعكوف على القبور أعظم مما عبد النصارى عيسى، فالعبرة ما هي باللفظ.
فهؤلاء الأولياء مضوا إلى ربهم، وأمرهم إلى الله عز وجل، وعبدناهم كما يعبد الله، بل عبدهم إخواننا وآباؤنا قروناً سبعة أو ثمانية أكثر مما عبدوا الله، ولكن لا يؤلهونهم ويقولون: هم آلهة أبداً؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، لكن لجهلهم وعدم علمهم، وبعدهم عن وحي الله ونوره يعبدون الله ويقولون: نستشفع بهم، نتوسل بهم فقط، نمر أيام زياراتنا بالضريح فنجد حوله عشرة أو ثمانية عاكفين عليه.
والله لولا أن الله أكرم رسوله، وأوجد الحكومة التي تحمي ضريحه لرأيت النساء والرجال عاكفين طول الليل والنهار حول قبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم فعلوا هذا مع أناس بعضهم يقال لهم: أولياء، وبعضهم ما هم بأولياء، بل أعداء.
فالله يقول في هذه الآية الكريمة: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الأنعام:14]، هذا هو الله، الذي يطعم الخليقة كلها التي تفتقر إلى طعام لتبلغ حياتها ونهايتها، وهو لا يُطعَم، هذا الذي يجب أن يعبد.
أما عيسى ومريم عليهما السلام فكانا يأكلان الطعام، ما زاد على هذا؛ لأنه يأكل الطعام، ومعناه أنه يفرز العفن، ولهذا عجب العقلاء من إنسان يتكبر، كيف تتكبر وأصلك ومادة خلقك نطفة قذرة وفي بطنك العذرة، ونهايتك جيفة منتنة، هذا هو الإنسان أم لا؟ مهما جمُل أو حسن وكمل نفسه بالكمال والجمال انظر إلى أصله ومادة خلقه، مادة المني، التي يتقزز الإنسان منها أو من لمسها، هذا أصله، وهو يحمل العذرة في بطنه، زنبيل من الخرء والبول يومياً ويمشي به، والنهاية جيفة منتنة قذرة ترمى تحت الأرض، لو بقيت فوق الأرض لهرب الناس منها، فكيف تتكبر يا عبد الله وتمتنع أن تذل لله وتخضع بالركوع والسجود.
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:14] بربهم غيره من المخلوقات، ولو عبدوا الملائكة، ولو عبدوا الأنبياء، ولو عبدوا الأولياء، فهم كالذين عبدوا الشهوات والفروج وكالذين عبدوا الأصنام والتماثيل.
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:14]، والمشركون واحدهم مشرك، ومن هو هذا المشرك؟ هل هو أبيض أو أسود؟ إنه الذي أشرك غير الله في عبادة الله، استعان بالله وبغيره، ذبح تقرباً إلى الله وذبح تقرباً إلى غيره، حلف بالله وحلف بغيره، خاف الله وخاف غيره، أشرك غير الله في عبادة الله، هو مشرك سواء أكان أبيض أو أسمر، أو في الأولين أو الآخرين.
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:14] هذا رسول الله ينهاه الله، فهل نحن لا بأس أن نشرك؟ لا والله، يجب أن نقتدي برسول الله، هيا نسلم قلوبنا لله ووجوهنا، فقلوبنا لا تتقلب في أربع وعشرين ساعة إلا في طلب رضا الله، ووجوهنا لا نقبل بها على مخلوق، كلها هكذا إلى الله، هو الذي يهب ويعطي ويمنع، ويضر وينفع.
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي [الأنعام:15]، قل لهم يا رسولنا: إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي كيف أعصيه؟ أمرني أن أقول كذا فما قلت، خفت أو استحيت، أمرني أن أفعل هكذا فما فعلت، أمرني أن أترك كذا فما تركت، أمرني أن أبلغ فما بلغت، هذه هي المعصية، قل لهم: إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي [الأنعام:15] فوافقتكم على ما تقولون، أو جاريتكم على أفعالكم، أو داهنتكم يوماً بيوم، أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15] ما هذا اليوم؟ هذا عذاب يوم القيامة، أما عذاب الدنيا فمهما كان -ولو أن تقطع وتمزق- فإنه منته، لكن عذاب يوم القيامة عذاب عظيم؛ لأنك لا تستطيع أن تتصور أوجاعه ولا آلامه ولا أحزانه، وهو دائم وباق ولا ينتهي.
فهذه مواعظ عجب، رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له ربه: قل هكذا، (قل) يا رسولنا: إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي [الأنعام:15] بأن رضيت بالشرك أو سكت عن الشرك أو جاريت المشركين، أخاف عذاب يوم عظيم.
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة. فَقَدْ رَحِمَهُ [الأنعام:16] من رحمه؟ إنه الله. وإذا صرفه عنه أدخله الجنة، فمن صرف عن النار يرحم بعد ذلك أم يكفيه هذا؟ لابد الجنة، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، أما من لم يزحزح عن النار فقد خسر، أما أن يزحزح عن النار ويبقى بدون جنة وبدون رحمة فلن يكون هذا أبداً، فلا بد أن من رحمه الله يبعده عن النار ويدخله الجنة دار السلام.
قال: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الأنعام:16]، الإعلان الأخير: وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الأنعام:16] البين الظاهر الذي لا شك فيه، وهو أن تبعد -يا عبد الله، يا أمة الله- من عذاب النار وتدخل الجنة، واقرءوا آية آل عمران: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ متى؟ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، اللهم اجعلنا من الفائزين.
أولاً: عموم رحمة الله ]، من أين أخذنا عموم رحمة الله؟ أما كتب على نفسه الرحمة؟ وكتب في كتاب عنده فوق العرش: سبقت رحمتي غضبي؟
[ ثانياً: تقرير مبدأ الشقاوة والسعادة في الأزل قبل خلق الخلق ]، من أين أخذنا هذه الهداية؟ اقرأ: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:12]، صِحْ وادعُ في أمريكا أو في بريطانيا: والله إن الذين كتب الله شقاوتهم لا يؤمنون، لو كانت جيوشهم بالملايين ما آمنوا، لِم؟ إنه حكم الله فمن يعقب عليه؟ قضى أنهم يدخلون النار، وليس معنى هذا أنه ظلمهم، أعوذ بالله! علم أنه يأتيهم الحق فيتعامون عنه، تلوح الأنوار أمامهم فيراها غيرهم وهم لا يبصرون، يتعمدون الفسق والخروج عن طاعة الله تعالى، علم منهم هذا فكتب عليهم ذلك.
[ ثالثاً: الله رب كل شيء ومليكه ]، من أين أخذنا هذا؟ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [الأنعام:13] وتحرك على حد سواء.
[ رابعاً: تحريم ولاية غير الله، وتحريم الشرك به تعالى ]، لقوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ .. [الأنعام:14].
[ خامساً: بيان الفوز الأخروي ] أي: الآخر، في الدار الآخرة. ما هو؟ قال: [ وهو النجاة من العذاب ودخول الجنة دار السلام ].
والله تعالى أسأل أن يجعلنا من المؤمنين، الموحدين، القانتين أولياء الرحمن عز وجل، وأن يجعلنا من الفائزين بالنجاة من النار ودخول الجنة، اللهم آمين، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر