إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام (44)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لما توعد الحق تبارك وتعالى المفترين عليه، حيث حللوا وحرموا ما شاءوا، ونسبوا ذلك إليه سبحانه وتعالى، وما فعلوا ذلك إلا لجهلهم بالله تعالى، وعدم معرفتهم بعلمه وقدرته، وإلا لما اتخذوا له أنداداً من الأحجار، ثم قالوا: هم شفعاؤنا عند الله وشركاؤه، لما توعدهم الله ذكر بعد ذلك ما خلقه لعباده من نعيم الدنيا ونخيل وزرع وزيتون، ومن بهيمة الأنعام من الماعز والضأن والبقر والإبل، وبين أنه لم يحرم منها شيئاً، مبطلاً بذلك كذبهم وافتراءهم عليه سبحانه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الأربع أو الخمس، وهيا نصغي مستمعين لتلاوتها مجودة مرتلة ثم نأخذ في دراستها، والله تعالى أسأل ألا يحرمنا الأجر، وألا يحرمنا العلم والمعرفة.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:141-144].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم أن سورة الأنعام نزلت بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح لتقرر أعظم القواعد الشرعية:

    القاعدة الأولى: أنه لا إله إلا الله، أي: لا يستحق أن يعبد أو يشرع أو يقنن أو يأمر أو ينهى أو يحلل أو يحرم إلا الله عز وجل، الخالق الرازق، المبدئ المعيد، المحيي المميت، الذي لا رب غيره ولا إله سواه.

    ثانياً: تقرير النبوة المحمدية وإثباتها، ذلك أن هذا الكلام الإلهي ينزل عليه صلى الله عليه وسلم ويؤمر بإبلاغه والتحدث به، فكيف لا يكون رسول الله؟ فلهذا التكذيب برسالته كفر، القول فيه بدون علم ظلم وعدوان، والآيات كلها شاهدة أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ثالثاً: البعث الآخر والحياة الثانية التي أنكرها الملاحدة وكذب بها العلمانيون وسبقهم إلى ذلك المشركون والجاهلون، وما هذه الحياة إلا خطوة أولى فقط، والحياة الباقية الخالدة الدائمة هي التي تأتي بعد هذه.

    السورة تقرر هذه، وتقرر أن الشرع ما شرع الله، الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله.

    وها نحن مع قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ [الأنعام:141] هل هناك من أنشأ وأوجد هذه المزارع والبساتين والنخيل؟ هل هناك من خلق وأوجد وأنشأ سوى الله؟

    جَنَّاتٍ [الأنعام:141] جمع جنة، ومعروشات يوضع لها عريش -كالأعناب- لتكون فوقه، وأخرى غير معروشة ما هي في حاجة إلى أن يوضع لها عرش وسرير توضع عليه، وأنشأ أيضاً النخل والزرع، والنخل الذي يثمر التمر والرطب، فمن أنشأه؟ اللات؟ العزى؟ هبل؟ الشيطان؟ من؟ لا جواب إلا: الله، وكذلك الزرع على اختلافه من البر إلى الشعير إلى غير ذلك. ‏

    معنى قوله تعالى: (والزرع مختلفاً أكله والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه)

    وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ [الأنعام:141] و(أُكْلُه)، قراءتان سبعيتان، الأُكُل والأُكْل كلاهما قراءة ثابتة، قرأ نافع : (الأُكْل) وقرأ غيره: (الأُكُل) بضمتين.

    مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ [الأنعام:141] هل الشعير كالبر؟ هل الذرة كالشعير؟ مختلف. وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ [الأنعام:141] وأنشأ الزيتون والرمان مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ [الأنعام:141]، الزيتون شجرته قريبة من شجرة الرمان، ورقها وهيكلها متقارب، لكن الرمان غير الزيتون، حبة الرمان غير ثمر الزيتون، متشابه في الورق وغير متشابه في الطعم، والرمان نفسه منه المتشابه وغير المتشابه، فيه الحامض والحلو والمر، فمن خلق هذا وأبدعه؟ هو الله عز وجل، هذه آيات وجود الله واستحقاقه لأن يعبد دون غيره.

    الأمر بإيتاء حق الزروع والثمار في غير إسراف يجحف بحق من يعول

    وقال تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، والآية وإن كانت مكية فإنها مقررة للزكاة قبل فرضيتها، ولما نزل الرسول بالمدينة ونزلت آيات الزكاة بين الرسول المقادير وأصناف الحبوب التي تؤخذ منها، فهي عامة هنا مخصصة هناك.

    وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، حن يأخذون في الحصاد يأتي الفقراء والمحاويج فيعطونهم، يأخذون في جذاذ التمر فيأتي الناس فيعطونهم، وهذا قبل فرض الزكاة، لما فرضت الزكاة أصبحت مقادير معينة، وأنتم تعرفون أنها تجب في التمر أو البر إذا بلغ خمسة أوسق، والعشر فيما يسقى بالمطر وماء العيون، ونصف العشر في الذي يسقى بالدلو والآلة.

    وقوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا [الأنعام:141]، أي: في الإعطاء فتتركون أهلكم بلا شيء، إذ يوجد بعض الكرام وبعض الأتقياء يأتيه الفقراء فيوزع عليهم كل ما حصده أو جذه من التمر، فنهاهم عن هذا حتى لا تبقى الأسرة في حاجة متطلعة إلى غير وليها، تأديب رباني، تربية إلهية، مظاهر رحمة الله عز وجل بعباده وعدله، وفي سورة الأعراف: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، فلا تقدموا على هذا.

    إذاً: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، هذه واحدة من مكارم الله، فالذي لا يكره الإسراف لن يكون ولي الله، لماذا؟ أما قال: لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، فالذي يحب الإسراف والمسرفين والله ما هو لله بولي، لأنه خالفه، وأحب ما يكره الله عز وجل.

    والإسراف عام في كل ما تجاوزت به الحد، حتى في الأكل، يجب ألا تأكل فوق المطلوب، حتى في الشرب، يجب أن تشرب إلى حدود ما تدفع العطش، أما الزيادة فكلها ممنوعة، ولماذا؟ لما فيها -والله- من الضرر والعواقب السيئة حالاً أو مآلاً، لأن هذا تشريع رب رحيم بعباده.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن الأنعام حمولة وفرشاً كلوا مما رزقكم الله ...)

    ثم قال تعالى: وَمِنَ الأَنْعَامِ [الأنعام:142]، أي: وأنشأ وخلق وأوجد من الأنعام، وهي -كما علمتم- الإبل والبقر والغنم. وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا [الأنعام:142]، الحمولة: الكبيرة التي يحمل عليها ويركب عليها، والفرش الصغار التي تبقى مفروشة في الأرض، الفرش صغار الأنعام، يقال فيها: فرش، أي: كالفراش لاصقة بالأرض، والحمولة الكبيرة التي يحمل عليها، وهذه لغتهم وهم أعرف بها.

    وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا [الأنعام:142] أي: وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشاً. إذاً: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأنعام:142]، أذن لنا أن نأكل من الإبل والبقر والغنم، ونأكل من الزيتون والتمر والحبوب وكل ما يحصد، وله الحق في أن يأذن أم لا؟ أليس ملكه، أليس هو الخالق له؟ فالحمد لله على أن أذن.

    معنى قوله تعالى: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين)

    قال: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [الأنعام:142]، الشيطان يدعو إلى الإسراف، خطواته التي يخطوها إذا مشيت وراءه والله لن ينتهي بك إلا إلى الإلحاد، يوسوس ويدعو فإذا استجبت يمشي بك من معصية إلى معصية، من إثم إلى إثم، حتى يمسخ الإنسان ويصبح شيطاناً.

    للشيطان خطوات أم لا؟ يقود المرء خطوة بعد خطوة، أولاً: يحمله على أن يقلب عينه في امرأة، ثم يزين له حسنها، ثم يفكر في دفعه إليها، ثم يقوده إلى الفاحشة، أما إذا لعنه وطرده من أول خطوة فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقد سد الطريق وانقطع، أما إذا ماشاه فكما قيل: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء، ثم يقع الزنا، وهكذا لو نتتبع الذنوب والآثام والمعاصي لا بد أن نجد أن الشيطان هو الذي زينها، والذين وقعوا فيها انقادوا له ومشوا وراءه، حتى انتهى بهم إلى أكل الربا والزنا، وشرب الخمر وكل المفاسد والذنوب والآثام.

    لأنه لا يريد أن يخلد في عالم الشقاء وحده، وبنو آدم الذين كانوا السبب في لعنه وإفلاسه يدخلون الجنة، وقد قال يخاطب الرب تبارك وتعالى: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82] إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:40]، فالذين ما عرفوا الشيطان ولا سألوا عنه هم الذي يقودهم كالأبقار والغنم إلى المعاصي والذنوب والآثام، إذا حصل في نفسك خاطر سيء فالعن الشيطان وتبرأ منه، وقل: آمنت بالله.. آمنت بالله فتسلم.

    وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168]؟ لماذا يا رب؟ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168]، جملة تعليلية، وهل العدو يحب لعدوه الخير، هل يحب له أن يسر ويسعد؟ لا والله، حتى في العداء بين البشر.

    والشيطان عدو وعداوته بينة واضحة لا شك فيها ولا جدال؛ لأنه يحمل على الزنا، وقتل النفس، والظلم، والغيبة، والشر والفساد، يلطخ البشرية، هذه هي مهمته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين ...)

    ثم قال تعالى: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الأنعام:143]، وأنشأ لكم ثمانية أزواج، مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ [الأنعام:143]، أي: ذكر وأنثى، كبش ونعجة، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ [الأنعام:143]، تيس وعنزة.

    ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو يعلمه الحجاج والجدال مع هؤلاء الطائشين: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ [الأنعام:143]، يسألهم تبكيتاً لهم وهم الذين حرموا السوائب وغيرها، والله تعالى هو الذي أنشأ الضأن والمعز، فشاة وكبش، وعنزة وتيس، ذكر وأنثى، من أنشأهما؟ أنشأهما الله.

    قل لهم: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ [الأنعام:143]، حرم الذكور أم الإناث، الجواب: ما حرم لا الذكور ولا الإناث، كيف حرمتم أنتم؟ كيف أبحتم أكل هذه ومنعتم هذه؟ هل الذي تفعلونه خارج عما خلق الله؟

    قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ [الأنعام:143]، الشاة والعنزة، الرحم اشتملت على جدي وعلى خروف، فهل الله حرم الذي في أرحام الماعزة والضأن؟ لماذا أنتم تحرمون هذا وتقولون: إن كان حياً فلذكورنا، وإن كان ميتاً فلإناثنا؟ فهم حللوا وحرموا وابتعدوا ما شاءوا، فأمر الله الرسول أن يحاجهم بالمنطق الذي لا يجدون منفذاً منه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين ...)

    وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [الأنعام:144]، من الإبل: الجمل والناقة، ومن البقر: البقرة والثور، ذكر وأنثى، وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [الأنعام:144]، قل لهم: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ [الأنعام:144]، حرم الذكور أو الإناث؟ لا هذا ولا ذاك، فكيف تحرمون أنتم؟ من أين لكم؟

    أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ [الأنعام:144] من ابن الناقة وابن البقرة، الذي اشتملت عليه أرحام الأنثيين هل حلل أم حرم،؟ كيف تحرمون وتحللون، هل الله حرم وحلل، هل عندكم في ذلك دليل أو برهان؟

    أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا [الأنعام:144]، هل كنتم حاضرين حين خلق الله الخلق هكذا وأعلمكم أن هذا حلال وهذا حرام، وأشهدكم، فأنتم الآن تؤدون الشهادة، فتحرمون وتحللون؟! هذا كله تبكيت لهم، وذم، وقهر لهم بهذه الحجج المنطقية.

    أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا [الأنعام:144]، في أي كتاب، مع أي نبي، مع أي رسول؟

    ثم قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام:144]، هل يوجد أظلم من هذا؟ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام:144]، وأنتم مفترون كاذبون، إذ تحللون وتحرمون، وتبيحون وتمنعون، تشريع والله بريء منه، إذاً: تكذبون على الله، من أحل شيئاً حراماً، أو حرم حلالاً كذب على الله، لأنه ادعى أن الله حرم هذا أو حلل هذا.

    فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:144]، الذين يحللون ويحرمون رؤساء مسئولون يمشي الناس وراءهم، لأجل ماذا؟ لإضلال الناس، ليضل الناس عن طريق الهدى والخير والنجاة بغير علم.

    فالذين يفتون بدون علم، يحللون يحرمون، يبيحون ويمنعون بدون علم ظلموا وهم ظلمة، فلا يحل لإنسان أبداً أن يشرع أو يقنن، أو يحلل أو يحرم، إذ هذا حق الله عز وجل.

    ثم ختم الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:144]، من هم الظالمون؟ الذين عبدوا غير الله، صرفوا العبادة لغير الله، الذين حللوا للناس ما حرم عليهم ربهم، أو حرموا عليهم ما أحل لهم، وهكذا من وضع شيئاً في غير موضعه فقد ظلم، فالظلم وضع الشيء في غير موضعه.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات

    هذه الآيات اسمعوها من الشرح:

    يقول المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين:

    [معنى الآيات:

    لما توعد الحق تبارك وتعالى المفترين عليه حيث حرموا وحللوا ما شاءوا، ونسبوا ذلك إليه افتراء عليه تعالى، وما فعلوا ذلك إلا لجهلهم بالله تعالى وعدم معرفتهم بعلمه وقدرته، وإلا لما اتخذوا له أنداداً من الأحجار وقالوا: شركاؤنا وشفعاؤنا عند الله؛ ذكر تعالى في هذه الآيات الأربع مظاهر قدرته، وعلمه، وحكمته، وأمره، ونهيه، وحجاجه في إبطال تحريم المشركين ما أحل الله لعباده، فقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ [الأنعام:141]، أي: بساتين وحدائق من العنب، مَعْرُوشَاتٍ [الأنعام:141]، أي: محمول شجرها على العروش التي توضع للعنب ليرتفع فوقها، وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ [الأنعام:141]، أي: غير معروش لها، وأنشأ النخل والزرع مختلفاً ثمره وطعمه، وأنشأ الزيتون والرمان متشابهاً في الورق وغير متشابه في الحب والطعم أيضاً.

    وأذن تعالى في أكله وأباحه -وهو مالكه وخالقه- فقال: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ [الأنعام:141]، أي: كلوا من ثمره إذا أثمر، أي: إذا نضج بعض النضج. وأمر بإخراج الواجب فيه وهو الزكاة فقال: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، أي: بعد دوسه وتصفيته؛ إذ لا يعطى السنبل.

    ونهى عن الإسراف وهو تجاوز الحد في إخراج الزكاة غلواً، حتى لا يبقى لمن يعولون ما يكفيهم، فقال تعالى: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، وأنشأ من الأنعام: الإبل والبقر والغنم حَمُولَةً [الأنعام:142]، وهي ما يحمل عليها لكبرها، وَفَرْشًا [الأنعام:142]، وهي الصغار التي لا يحمل عليهما.

    وأذن مرة أخرى في الأكل مما رزقهم سبحانه وتعالى من الحبوب والثمار واللحوم وشرب الألبان، فقال: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأنعام:142].

    ونهى عن اتباع مسالك الشيطان في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم تعالى، فقال: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [الأنعام:142]، وعلل للنهي فقال: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأنعام:142]، ومن عرف عدوه اتقاه، ولو بالبعد عنه.

    وأنشأ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ [الأنعام:143]، وهما الكبش والنعجة، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ [الأنعام:143]، وهما التيس والعنزة، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحاج المفترين في التحريم والتحليل، فقال له: قُلْ [الأنعام:143] يا رسولنا لهم: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ [الأنعام:143] الله عليكم أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ [الأنعام:143]، أي: النعجة والعنزة. نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام:143]] في دعواكم تحللون وتحرمون، [فإن قلتم: حرم الذكرين فلازم ذلك أن جميع الذكور حرام، وإن قلتم: حرم الأنثيين فلازمه أن جميع الإناث حرام، وإن قلتم: حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فكل ما ولد منهما حرام ذكراً كان أو أنثى، فكيف -إذاً- حرمتم البعض وحللتم البعض؟ فبأي علم أخذتم؟ نبئوني به إن كنتم صادقين.

    وقوله تعالى: وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ [الأنعام:144]، وهما الناقة والجمل، وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [الأنعام:144]، وهما الثور والبقرة، قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ [الأنعام:144]، أي: الله، أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ [الأنعام:144]، فهل حرم الذكرين أو الأنثين؟ هذه الأزواج الأربعة، فإن حرم الذكرين فسائر الذكور محرمة، وإن حرم الأنثيين فسائر الإناث محرمة، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ [الأنعام:144] وحينئذ يكون كل مولود منهما محرماً ذكراً كان أو أنثى.

    وبهذا تبين أنكم كاذبون على الله مفترون، فالله تعالى لم يحرم من هذه الأزواج الثمانية شيئاً، وإنما حرم الميتة، وما لم يذكر عليه اسم الله.

    وقوله تعالى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ [الأنعام:144] بهذا التحريم، فهو تبكيت لهم وتقريع، إذ لم يحرم الله تعالى هذا الذي حرموه، ولم يوصهم بذلك، ولم يكونوا حال الوصية حضوراً، وإنما هو الافتراء والكذب على الله تعالى.

    وأخيراً: سجل عليهم أنهم كذبة ظالمون، مضلون لغيرهم بغير علم، وأنهم لا يستحقون الهداية، فقال عز وجل: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:144]].

    هداية الآيات

    والآن هيا نستنبط الهدايات القرآنية، فكل آية لها هداية.

    [أولاً: إباحة أكل التمر والعنب والرمان والزيتون]، ولا تشك في هذا، ومن قال: لا يصح أكلها نقول له: أنت كاذب، فالله عز وجل أنشأ هذا وأخبر عن نعمته، وقال: كُلُوا [الأنعام:141].

    [ثانياً: وجوب الزكاة في الزيتون والتمر والحبوب إذا بلغت النصاب، وهو خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً، والصاع أربع حفنات].

    التين ذكرنا في الهامش أن في زكاته خلافاً، والصحيح أنه إذا بلغ خمسة أوسق وهو يابس يقتات ويدخر تجب فيه الزكاة، وإما إذا كان يجنى وهو رطب ويؤكل ولا ييبس فما فيه زكاة، والغالب أنه لا توجد قناطير في التين، لكن إذا جني، ثم يبس وأصبح جافاً، وادخر -سواء في أوان أو في كذا- وبلغ خمسة أوسق تجب فيه الزكاة.

    قال: [ وجوب الزكاة في الزيتون والتمر والحبوب] على اختلافها، التي تقتات وتدخر، [إذا بلغت النصاب وهو خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً، والصاع أربع حفنات.

    ثالثاً: جواز الأكل من الثمر قبل جذاذه وإخراج الزكاة منه]، أذن في هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، تجني من الرطب ما شاء الله قبل أن تجذ التمر وتأكل.

    وأذن الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً في الخرص، لما يحمر التمر يأتي الخراص من قبل الحكومة فيقدر كم وسقاً، وبعد ذلك كل أنت ما شئت، لكن قبل أن يأتي الخراص هذا يجوز لأهل البستان أن يجنوا ويأكلوا.

    [رابعاً: حرمة الإسراف في المال بأن ينفقه فيما لا يعني]، حرمة الإسراف في المال وهي أن ينفقه فيما لا فائدة فيه، [أو ينفقه كله ولم يترك لأهله شيئاً]، استنبطنا هذا من قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31].

    [خامساً: إباحة أكل بهيمة الأنعام وهي ثمانية أزواج: ضأن وماعز، وإبل وبقر، وكلها ذكر وأنثى]، اذبح وكل، ليس الحمار ولا البغل ولا الفرس، تلك ما هي بالأنعام، الأنعام: الإبل والبقر والغنم.

    [إباحة أكل بهيمة الأنعام وهي ثمانية أزواج: ضأن وماعز، وإبل وبقر، وكلها ذكر وأنثى] بشرطين: أن تكون غير ميتة، وأن تسمي الله عز وجل عند ذبحها.

    [سادساً: إبطال تشريع الجاهلية في التحريم والتحليل]، والآن يوجد جماعات وأفراد وعلماء يفتون، ويحللون ويحرمون، ويا ويح من يتعرض لهذا الباب، فلا تفت إلا بما أحل الله وبما حرم، أما من عندك ترى أن هذا يحل أو يحرم فقد نازعت الله في منصبه، مع ما ينتج عنه من أذى وضرر وخطر كبير، لأن الله إذا حرم شيئاً فلأنه والله ضار بعباده، وإذا أحل شيئاً فهو والله نافع لعباده، لأنه خالقه وخالق العباد، يعلم ما يضر وما ينفع قبل أن يوجدهم، وأنت أيها الإنسان ماذا تعلم؟! فما عليك إلا أن تتعلم من ربك ونبيك صلى الله عليه وسلم.

    [إبطال تشريع الجاهلية في التحريم والتحليل، فالحلال ما أحله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والحرام ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

    سابعاً: جواز الجدال والحجاج لإحقاق الحق وإبطال الباطل]، يجوز الجدال والحجاج والمحاجة، لكن من أجل ماذا؟ من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل، أراد أحد أن يبطل الحق فجادله ليحق الحق، أراد أن يرفع الباطل على الحق فجادله لإبطاله، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ [الأنعام:143]، جادلهم.

    [ثامناً: لا أظلم] أي: لا أحد أظلم [ممن يكذب على الله تعالى، فيشرع لعباده ما لم يشرع الله لهم].

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767953219