أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
حقق اللهم لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
والآن أعيد إلى أذهانكم أننا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلكم السورة التي تعالج أعظم قضايا في الدين الإسلامي، ألا وهي: توحيد الله عز وجل بألا يعبد في الكون سواه.
ثانياً: تقرير النبوة المحمدية، وأن محمداً رسول الله حقاً وصدقاً.
ثالثاً: اللقاء يوم القيامة مع الله ثم الحساب والجزاء، إما بالنعيم المقيم، أو بالعذاب الأليم.
رابعاً: صحة هذه الشريعة وصدق ما فيها من الحكم والأحكام الشرعية.
السورة تدور على هذه القواعد الأربع.
وها نحن مع هذه الآيات، فلنستمع إلى ترتيلها مجودة من أحد الأبناء، ثم نأخذ في شرحها وبيان ما فيها من الهدى والخير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [الأنعام:136-140].
وعلى سبيل المثال: لما عم الشر والظلم والخبث والفساد العالم الإسلامي استعمرتنا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا وحتى هولندا العجوز، من إندونيسيا إلى موريتانيا، فكيف يسود الكفر الإيمان؟ كيف يحكم الكافرون المؤمنين؟ والجواب: أعرضنا عن كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم فنزل بنا ما نزل.
وشاء الله تعالى أن يقيم الحجة له على البشرية كلها، في الوقت الذي صفق الشرق والغرب وزغردوا وولولوا وقالوا: انتهى الإسلام، ولن تعود له دولة، ولن يسود فيه طهر ولا صفاء. وظنوا أنهم بلغوا منتهاهم فلن ترفع راية لا إله إلا الله بعد اليوم، فجاء الله بـعبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود مع مجموعة من أصحابه وأقام الله تعالى بهم دولته في هذه الديار، ولا ينكرها إلا أحمق أو جاهل أو مريض، وطهر الله هذه الأرض كما طهرها على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يبق من يحلف بغير الله، ولا من يذبح أو ينذر لغير الله، ولم تبق قبة ولا قبر مشيد مصان عليه تابوت يعبد من دون الله من طرف المملكة إلى طرفها، وساد حكم الله فأقيمت الصلاة في العسكر والمدنيين والأغنياء والفقراء أجمعين، وجبيت الزكاة، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وأقيمت حدود الله فرجم الزناة، وقتل القتلة، وقطعت أيدي السراق، وتجلت حقيقة هذه الملة المحمدية، ووقف ضدها الأبيض والأسود، وارتفعت راية تحمل هذا اللفظ الكريم: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ومعنى هذا: إن أرضاً تظلل هذه الراية لا يعبد فيها إلا الله ولا يتابع فيها إلا رسول الله، هذا هو الرمز الحقيقي، ووجد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأعداء يحاولون ليل نهار إطفاء هذا النور، اللهم لا تعنهم عليه. فعرف العالم من جديد أن القرآن والسنة لو حكما في أي أرض ساد أهلها وطابوا وطهروا، عرباً كانوا أو عجماً، أغنياء أو فقراء.
فهيا بنا إلى ما ذكر تعالى لنا من معايب أهل هذه البلاد قبل أن يلوح النور الإلهي في ديارهم، وهم مشركو العرب.
ولامهم أيضاً وعتب عليهم أنهم يتحيزون، فالذي جعلوه لله إذا أنتج ولم ينتج الذي جعلوه للآلهة ينقلون ما جعلوا لله إلى الآلهة، وإذا كان العكس فلا، فقال تعالى وقوله الحق: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136].
بينا أنه لواحدة من ثلاث: إما مخافة الفقر، إما مخافة العار، إما أنه ينذره للإله الذي يعبده: إن تحقق لي كذا فسأذبح لك ولدي. وقد علمتم أن عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم نذره عبد المطلب للآلهة، ولما وجب ذبحه فداه بمائة من الإبل وهي الدية المعروفة، وهذا بتدبير الله حتى يكبر ويتزوج ويلد محمداً صلى الله عليه وسلم، تدبير ذي العرش، والشاهد عندنا في أنهم كانوا ينذرون أولادهم للآلهة.
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:137]، لا تحزن يا محمد ولا تكرب إذا ما استجابوا أو عصوا، لو أراد الله ألا يشركوا لفعل، ولكنه الامتحان والابتلاء، فَذَرْهُمْ [الأنعام:137] إذاً واتركهم وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:137]، أي: يختلقون ويكذبون.
وقد يقال: يا شيخ! باستثناء هذه البقعة العالم الإسلامي كله لا يحكم شريعة الله، فماذا نقول؟ الجواب: انتظروا فقط، إن لم يتداركنا الله بتوبة عاجلة فسوف يحل بنا بلاء أمر وأشد ألماً مما سبق، فربنا بالمرصاد، اتركوهم يلهون ويلعبون ويقننون ويشرعون معرضين عن الله ورسوله وعن كتاب الله وشرعه، لكن إلى متى؟ هل عجز الله؟ ما هو إلا الإمهال، إلا الإنظار فقط، أما انتظر المسلمين قبل الاستعمار قروناً وهم يعبثون ويخلطون ويفسدون، وبعد ذلك أذاقهم مر العذاب أم لا؟ سلبهم الدولة والسلطان فتحكم فيهم عدوهم وأذلهم وأرخصهم حتى أصبحوا أرخص الناس.
هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ [الأنعام:138] الحرث: ما يزرع. حِجْرٌ [الأنعام:138] ومعنى (حجر) محجورة ممنوعة، وسمي العقل حجراً؛ لأنه يمنع صاحبه من القول السيئ والعمل القبيح، وحجر القاضي على كذا: منع، الحَجر: المنع، والحجر بالكسر وبالضم وبالفتح.
لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ [الأنعام:138] ذاك الحرث والزرع: البر أو الشعير أو التمر لا يطعمه إلا من يريدون إطعامه، وجعلوه محرماً على الناس، وكذلك الأنعام إذا ذبحوا البقرة أو البعير لا يأكله إلا من يريدون ويأذنون له في الأكل.
وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا [الأنعام:138] لا يركبها أحد، السائبة يسيبونها للآلهة ترعى وحدها وتمشي لا يحل لأحد أن يركبها أو يحمل عليها، محرمة على الناس لأنهم جعلوها للآلهة.
وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ [الأنعام:138] أخرى لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا [الأنعام:138]، لا يحجون عليها ولا يعتمرون ولا يسمون الله عند الركوب عليها أبداً، هذه خاصة بالآلهة، لا يغضبون آلهتهم.
لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ [الأنعام:138] تعالى، افتروا على الله وكذبوا أم لا؟ هل الله حرم هذا؟ هل الله منعهم من هذا؟ إذاً: هم الذين شرعوا هذا التشريع وقننوا هذا التقنين ولا حق لهم، ليسوا بخالقين ولا برازقين ولا مدبرين، فكيف يحلون ويحرمون؟ ولكن الشيطان هو الذي يزين لهم هذه الأعمال ويحسنها لهم ليرتكبوها ويعملوها.
سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:138]، سيجزيهم بما كانوا يفترون يوم القيامة إلا من تاب منهم وأسلم ودخل في الإسلام، سيجزيهم بما كانوا يفترون ويكذبون على الله فيحرمون ويحللون.
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا [الأنعام:139] إن ولدت هذه الناقة فهو خاص بذكورنا، بالرجال والأطفال والذكور. وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا [الأنعام:139] أي: على نسائنا، ما تلده هذه الناقة هو حلال للرجال حرام على النساء، هذه الناقة التي عينوها للآلهة وجعلوها لآلهتهم ما في بطنها للرجال فقط، لذكورهم، وممنوع على النساء، وإن ولد سقط من بطن أمه ميتاً فهذا لا بأس أن يشارك فيه النساء، كما قال تعالى: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ [الأنعام:139] وهذا تقنين وتشريع وتفنن في ذلك أيضاً.
هكذا يقول تعالى عنهم: وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا [الأنعام:139] ما تلده الناقة الفلانية أو البقرة الفلانية أو حتى الشاة الفلانية خاص بالرجال والأولاد الذكور، وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا [الأنعام:139]، أي: على النساء، إذ الرجل زوج والمرأة زوج، يعنون نساءهم.
وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً [الأنعام:139] أي: ذلك الذي يولد من الناقة أو غيرها؛ فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ [الأنعام:139]، قال تعالى: سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:139] سيجزيهم بكذبهم هذا، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:139] حكيم يضع الشيء في موضعه، عليم بأسراره ولطائفه وموجباته ومقتضياته، ولهذا سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ [الأنعام:139]، لك أن تقول: سيجزيهم وصفهم وهو ظلمة نفوسهم وخبث أرواحهم نتيجة ذلك الكفر وذلك الشرك.
وَصْفَهُمْ [الأنعام:139] وهو الخبث والنتن والعفن سيجزيهم به، سيدخلهم جهنم ويخلدهم فيها، وهذا ظاهر، أو أن المعنى: سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ [الأنعام:139] سيجزيهم وصفهم الكذب والقول على الله بدون علم، وأن هذا حلال وهذا حرام، وهذا ممنوع على الرجال وهذا مباح للنساء.
إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:139] والحكيم لا يضع الشيء إلا في موضعه، والعليم لا يخطئ، ما يكرم من لا يستحق الكرامة أو يهين من لا يستحق الإهانة وذلك لعلمه وحكمته.
بيان أخير: اسمعوا: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا [الأنعام:140] وجهلاً وحمقاً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:140]، وقد عرفنا حالات قتل الأولاد:
الحالة الأولى: أن يخافوا الفقر، إذا أجدبت الأرض وأصيبوا بالقحط يخافون الفقر، فكل من يولد له مولود يذبحه قبل أن يرضع من أمه حتى ما يتألم، ساعة الولادة يقتلونه.
وقد ظهر في العالم الإسلامي منذ سنيات من أعلن منع تعدد الزوجات ومنع تعدد الأولاد، قالوا: مخافة الفقر، فلذا لا يسمح للمواطن بأكثر من مولودين أو ثلاثة، سمعتم بهذا أم لا؟ أليس هذا هو المنع؟ ما الفرق؟ قالوا: خزانة الدولة ضعيفة والشعب يتسع حاله، إذاً: ماذا نصنع؟ قالوا: حددوا النسل بكذا وكذا! من فعل هذا فقد كفر وخرج من الإسلام ودخل في زمرة هؤلاء المشركين الكافرين.
وإن قلت: كيف يا شيخ؟ فالجواب: هل أنتم مسئولون عن غوث وعيش الناس؟ هل أنتم تقدرون على إعاشة الناس ورزقهم؟ لو شاء الله لمنعكم الطعام والشراب، فوضوا الأمر لله عز وجل، اطلبوا طرقاً سليمة وصحيحة لتوزيع الطعام على إخوانكم وإنتاج الطعام، لا أننا نحدد النسل، لو شاء الله أن يحرمهم مائة سنة ما تلد امرأة بينهم لانتهى ذاك الشعب نهائياً، وهذا كله ناشئ عن الجهل بالله وعدم الإيمان به وبعلمه وحكمته وقدرته، ما عرفوا الله.
الحالة الثانية: يخافون من العار أن يلحقهم فيقتلون البنات فقط، وكان عمر يذكر هذا ويبكي، دفن ابنته وهي تبكي وتنفث الغبار عن لحيته رضي الله عنه وأرضاه في الجاهلية، يخاف الفحل أن هذه البنت تكبر ويختطفها ويأسرها من العدو وتصبح عندهم زوجة وأنا غير راض بها، فأذل وينكسر أنفي، إذاً: نتخلص منها أولى، واقرءوا: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ [التكوير:8] يوم القيامة بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:9]، هل زنت؟ سرقت؟ كفرت؟ كيف قتلت وهي رضيعة ما زالت ترضع، هل لها ذنب؟ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:9] اللهم لا ذنب إلا أن أباها المشرك الكافر هو الذي ارتكب هذا الذنب ويا ويله.
الحالة الثالثة: ينذرون للآلهة، ونحن ننذر للأولياء على أن نسميه باسمه: يا سيدي فلان! إذا رزقني الله ولداً فسأسميه على اسمك، يتوسل بهذا، أما المشركون فلا، يقدمونه ضحية لذلك الإله الذي نذر له، وقد علمتم نذر عبد الله بن عبد المطلب ، إذ نذره والده لله، ولكن الله رد ذلك عليه ووفق في اتجاه خاص إلى أن يذبح مائة بعير بدله.
إذاً: يقول تعالى في هذا الحكم: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا [الأنعام:140] سفهاً أو علماً؟ طيشاً وحمقاً، لا بصيرة ولا معرفة، بغير علم.
وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ [الأنعام:140] من المآكل والمشارب والمراكب السوائب والحامات وغير ذلك؛ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ [الأنعام:140]، فلهذا كل من يبتدع بدعة فقد كذب على الله عز وجل وافترى، لا حق في التشريع إلا لله عز وجل.
افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا [الأنعام:140] ضلوا في متاهات الضلال إلا أن ينقذهم الله عز وجل، وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [الأنعام:140].
يقول: [ هذا ما دلت عليه الآية الأولى.
أما الثانية وهي قوله تعالى: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ [الأنعام:137] يريد: وكذلك التحكم الباطل والادعاء الكاذب في جعل لله شيئاً مما ذرأ من الحرث والأنعام، ثم عدم العدل بين الله تعالى وبين شركائهم، زين لكثير من المشركين شركاؤهم -وهم شياطينهم من الجن والإنس- قتل أولادهم كالموءودة من البنات خوف العار، وكقتل الأولاد الصغار خوف الفقر، أو لنذرها للآلهة، وفعل الشياطين ذلك من أجل أن يردوهم، أي: يهلكوهم، ويلبسوا عليهم دينهم الحق أن يخلطوه لهم بالشرك، وهو معنى قوله تعالى: لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ [الأنعام:137] ].
نبهت أنه كان لهم دين ورثوه عن إبراهيم وإسماعيل وعن أحفادهما وعلمائهم، ثم مات العلماء وتغلب الجهل وأشركوا بالله، وأن الذي جاء بالأصنام هو عمرو بن لحي الذي رآه الرسول صلى الله عليه وسلم في النار يجر قصبه فيها، يجر أمعاءه في النار، فقوله: وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ [الأنعام:137] البقية الباقية التي كانت من الحق والمعرفة.
[وقوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:137] هو كما قال؛ إذ لو أراد تعالى منعهم من ذلك لمنعهم وهو على كل شيء قدير، إذاً: فذرهم أيها الرسول وما يفترون من الكذب في هذا التشريع الجاهلي الباطل القبيح.
وقوله تعالى: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ [الأنعام:138] فقد تضمنت هذه الآية ثلاثة ضروب من تشريع الجاهلية وأباطيلهم:
الضرب الأول: تحريمهم بعض الأنعام والحرث وجعلها لله وللآلهة التي يعبدونها مع الله.
الثاني: أنعام -أي: إبل- حرموا ركوبها كالسائبة والحامي.
الثالث: إبل لا يذكرون اسم الله عليها، فلا يحجون عليها، ولا يذكرون اسم الله عليها إن ركبوها بحال ولا إن حملوا عليها ]، ممنوع ذكر اسم الله عليها؛ لأنها للآلهة حتى لا يغيضوا الآلهة.
وقوله تعالى في ختام الآية: افْتِرَاءً عَلَيْهِ [الأنعام:138] أي: كذباً على الله تعالى؛ لأنه تعالى ما حرم ذلك عليهم وإنما حرموه هم بأنفسهم وقالوا: حرمه الله علينا، ولذا توعدهم الله تعالى على كذبهم هذا بقوله: سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:138] أي: سيثيبهم الثواب الملائم لكذبهم وهو العذاب الأخروي. هذا ما دلت عليه الآية الثالثة.
أما الآية الرابعة: وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ [الأنعام:139] فقد تضمنت تشريعاً آخر باطلاً اختلقوه بأنفسهم، وزعموا أن الله شرعه لهم، وهو أنهم حرموا ما في بطون بعض الأنعام على الإناث، وجعلوها حلالاً للذكور خالصة لهم دون النساء، فلا يشرب النساء من ألبانها، ولا يأكلن لحوم أجنتها إن ذبحوها، ولا ينتفعن بها بحال، اللهم إلا أن ولد الجنين ميتاً؛ فإنهم لا يحرمونه على النساء ولا يخصون به الذكور، فيحل أكله للنساء والرجال معاً، ولذا توعدهم تعالى بقوله: سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:139] أي: سيثيبهم على هذا الكذب بما يستحقون من العذاب، إنه حكيم في قضائه عليم بعباده. هذا ما دلت عليه الآية الرابعة.
أما الخامسة فقد أخبر تعالى بخسران أولئك المشرعين وضلالهم وعدم هدايتهم بقوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا [الأنعام:140]، أي: جهلاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ [الأنعام:140] مما سبق ذكره، افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ [الأنعام:140] أي: كذباً. قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [الأنعام:140]].
[ أولاً: حرمة الابتداع في الدين ]، لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يبتدع في دين الله كلمة أو حركة ويدعو الناس إلى العمل بها ويعدهم أو يوعدهم، إذ هذا حق الله.
[ حرمة الابتداع في الدين والتشريع المنافي] المضاد [لشرع الله تعالى وإن لم ينسب إلى الله عز وجل ]، تفطنوا لقوله: (وإن لم ينسب إلى الله تعالى)، فالذي يشرع تشريعاً غير ما شرع الله وإن لم ينسبه لله فهو بذلك كافر وهالك، أما إذا زاد نسبته إلى الله فهو كذب على الله عز وجل.
[ ثانياً: ما ينذره الجهال اليوم من نذور للأولياء وإعطائهم شيئاً من الأنعام والحرث والشجر هو من عمل المشركين زينه الشيطان لجهال المسلمين]، موجود الآن وإن قل والحمد لله.
[ ثالثاً: حرمة قتل النفس لأي سبب كان، وتحديد النسل اليوم وإلزام الأمة به من بعض الحكام من عمل أهل الجاهلية الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم، كقتل البنات خشية العار، والأولاد خشية الفقر].
والله تعالى أسأل أن يحفظ علينا ديننا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر