وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس بإذن ربنا كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلكم السورة التي زفت بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح، هذه السورة تعالج ثلاث قضايا من أهم القضايا وأعظمها:
الأولى: التوحيد، قضية أنه لا يوجد في العوالم العلوية والسفلية من يعبد بحق سوى الله، لا إله إلا الله، أي: لا معبود يستحق العبادة إلا الله، وذلكم لربوبيته، لكونه الخالق الرازق المدبر للخلق والكون، فكيف يعبد معه غيره؟! فربوبيته استلزمت ألوهيته.
ثانياً: تقرير النبوة المحمدية وإثباتها، وأن محمد بن عبد الله رسول الله ونبي الله.
ثالثاً: مبدأ البعث الآخر، الحياة الثانية والجزاء فيها على الكسب في هذه الحياة.
السورة تدور على هذه القضايا وتقررها.
وها نحن مع هذه الآيات الأربع، فهيا بنا نصغي ونستمع لتلاوتها مرتلة مجودة ونحن نتدبر ونتفكر فيها، ثم نشرحها بإذن الله ونعلم ما فيها من هدى الله، اللهم حقق لنا ذلك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ * ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الأنعام:129-132].
أولاً: تدل الآية دلالة واضحة قطعية على أن الظالمين -وهم الذين خرجوا عن صراط الله المستقيم، فكفروا وظلموا وفسقوا وخرجوا- هؤلاء من الإنس والجن يولي الله تعالى حسب سنته بعضهم بعضاً.
وتقدم بالأمس أنهم قالوا: اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [الأنعام:128]، الإنس والجن عالمان، الشياطين منهم الظلمة الكفرة الفسقة هؤلاء يتولى بعضهم بعضاً، وينتفع بعضهم ببعض، وهذا اعترافهم: اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ [الأنعام:128].
وهذا شأن الظالمين من الناس كذلك، يولي الله تعالى بعضهم بعضاً، الظالمون في أي مكان كلمتهم واحدة ويدهم واحدة، وسواء كانوا فجرة أو فسقة أو ظلمة، الفجار الخارجون عن حدود الله أمرهم واحد ونهجهم واحد، وهكذا تدل الآية دلالة واضحة على أنه من سنة الله تعالى أنه يولي الظالمين بعضهم بعضاً، فيتناصرون ويتعاونون على ظلمهم وباطلهم وشرهم وفسادهم، سواء كانوا أفراداً أو جماعات أو أمماً وشعوباً، أما تعاون الشيوعيون في العالم؟ أما تولى بعضهم بعضاً؟ إذاً: هذه سنة الله عز وجل.
وتدل الآية دلالة أخرى على أن الله يسلط الظالمين على الظالمين ويوليهم عليهم، وحصل هذا ويحصل.
والمهم أن نتبرأ من الظلم وأهله، أن نتبرأ من الظلم والظالمين، هذه سنة الله تعالى فيهم.
وتدل الآية دلالة أخرى أيضاً على أن أهل القرية أو الشعب أو الأمة إذا ظلموا يظلمهم حكامهم ويصبحون ظلمة لهم، أما قال: نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا [الأنعام:129]، أهل إقليم لو استقاموا ولجئوا إلى ربهم في صدق وقالوا: آمنا بالله، واستقاموا على منهج الله كيف يحكمهم حاكم ظالم؟ من أين يأتي؟ من أبنائهم وإخوانهم يفسق ويظلم وهم صالحون؟! والله ما كان، ما عليه إلا أن ينسجم معهم فيصلي ويستقيم.
سنة الله لا تتبدل: الطعام يشبع، الماء يروي، النار تحرق، الحديد يقطع، سنن لا تتبدل، وكذلك الظلم والفسق والفجور والخروج عن منهج الله يسبب تسلط الظالمين المعتدين.
والاستقامة الربانية الصادقة كذلك، يولي الله تعالى المستقيمين على المستقيمين، كما ولى المعوجين على المعوجين، سنته لا تتبدل.
فالذين يريدون أن يصلحوا أقاليمنا الإسلامية وهي تعيش على هذا الباطل ماذا يصنعون؟ هل يأتون بـعمر بن الخطاب ؟ والله ما ينفع، أقسم بالله أنه لو جاء عمر فلن يقدر، بل لا بد أن تكون دعوة ربانية، أهل البلاد يؤمنون حق الإيمان ويسلمون الإسلام الحق ويستقيمون على منهج الله، ويعرفون الطريق إلى الله، ومن ثم فأيما حاكم يقودهم باسم الله.
فالنظرية التي تقول: طريق الحاكمية القتال حتى نقيم الدولة الإسلامية نظرية باطلة، ولن تنتج إلا الخراب والدمار، يا شيخ!كيف تقول هذا؟ لقد قلنا هذا منذ خمسين سنة، والإخوة المسلمون هائجون في كل مكان، فأثبتوا أن شيئاً تحقق؟ هل قامت دولة إسلامية في دولة من العالم؟
إن القضية ما هي بقضية نظرية، قضية علم وحقيقة شرعية، ائت إلى أهل البلاد وأصلحهم وأنت متخل عن السياسة تمدح الحاكم حتى لا يغضب، وانشر دعوة الله، فإذا استقام أهل البلاد وأصبحوا ربانيين حكمهم الإسلام.
أما أمة فيها الزاني واللوطي والمجرم والمرابي والجاهل والخرافي والمشرك وتريد أن تقيم فيها دولة إسلامية بالكلام أو بالحديد بالنار فلن يتم هذا، ها هي قد مضت السنون فهل حصل شيء؟ وعلة هذا البعد عن منهج الله المستقيم، أعرضنا عن كتاب الله وقرأناه على الموتى، وهجرنا آيه، وما تتبعنا نوره ولا هداه فنحن نتخبط في حيرتنا.
يقول تعالى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي [الأنعام:129]، من الذي يولي؟ الرب جل جلاله، بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا [الأنعام:129]، وقال معللاً: بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129]، أي: بكسبهم لأنفسهم، ما هو بظلم الله لهم فولاهم فقط لجبروته وقدرته، ولكن بكسبهم، وهذا الكسب لو كان خيراً فلن يسميهم ظالمين، هذا كسب الشر والجرائم والموبقات، سلط الله بعضهم على بعض، أو ولى بعضهم بعضاً وتناصروا وهكذا.
معاشر المستمعين والمستمعات! هل فهمتم من هذه الآية ما قلت لكم؟
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129]، قالوا في عرصات القيامة: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ [الأنعام:128]، خدمونا وخدمناهم، عاونونا وعاوناهم، وقفوا إلى جانبنا ووقفنا إلى جانبهم، هؤلاء عالم الإنس والجن باعترافهم، فهم الآن أيضاً ينصر بعضهم بعضاً، لا يوجد ظلم وظلمة إلا وأهله ينتصر بعضهم لبعض، ولكن قد تمضي فيهم سنة أيضاً أن يسلط الله بعضهم على بعض فيدمر بعضهم بعضاً، ووقع في التاريخ ويقع.
إذاً: فتدبير العلي العظيم الحليم الكريم أن سلط علينا من شاء أن يسلط، واقرءوا: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129]، ولما استقللنا وتحررنا من هولندا وإيطاليا وأسبانيا وبريطانيا؛ فبدل أن نشكر الله عز وجل ونقبل عليه بإنابة صادقة وإسلام صحيح حتى تنتصر دعوة الله وتعلو راية الإسلام، عملنا العكس: أقبلنا على الشهوات والمناصب والوظائف والتكالب على الدنيا وأوساخها حتى أصبحنا أسوأ مما كنا، ماذا نفعل؟ أسألكم بالله -يا عقلاء- أليس هذا هو الواقع؟
أما ينظر الله كيف نعمل بعدما نجانا من حكم الكافر، أما ينظر كيف نتصرف؟ ثم ينظر كيف تعملون، فبدل أن نشكر الله ونطبق شرعه ونستقيم على منهجه عكسنا القضية من جديد، وها نحن تحت النظارة، وسوف أموت وتذكرون، إما أن ينقذ الله العالم الإسلامي بتوبة صادقة وإما أن يسلط عليهم بلاء لا نظير له ما عرفوه.
والنجاة النجاة، كل بلد فيه مؤمن عليه أن يطلب النجاة لنفسه فيتبرأ من تلك التكتلات والأباطيل ويلزم باب الله عز وجل حتى يتوفاه الله مسلماً.
وهنا أنبه أنه لم يكن للجن أنبياء ورسل مصطفون، ولكن نذر يأخذون العلم من النبي والرسول الآدمي ويبلغونه.
أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي [الأنعام:130]، كيف يقصونها؟ لأنهم يتتبعونها آية بعد آية، هذه في الطلاق، هذه في الحلال، هذه في الحرام، هذه في العقيدة، وهكذا قص وتتبع، ما هي مجرد تلاوة، يقصون كما تقص العثرة في الطريق، يتتبعون كل مقومات حياتكم من آداب، وأخلاق، وشرائع، وعقائد.
وَيُنذِرُونَكُمْ [الأنعام:130] أي: عواقب لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الأنعام:130]، أما كان الرسل والدعاة إلى اليوم ينذرون الناس من الفسق والفجور والظلم والشرك والباطل؛ لأن عواقب ذلك مرة مدمرة، وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الأنعام:130]، ووقوفكم بين يدي الله للحساب والجزاء، هل كان هذا أم لا؟ بلى ورب الكعبة، تم هذا وحصل.
قال تعالى: وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأنعام:130]، غرتهم الحياة الدنيا أيام كانوا فيها، وشهدوا أمام الله على أنفسهم أنهم كانوا كافرين، كافرين أولاً: بوحدانية الله عز وجل، ما كانوا يقولون: لا إله إلا الله.
ثانياً: كانوا كافرين برسلهم، ما آمنوا بهم ولا اتبعوهم.
ثالثاً: كانوا كافرين بلقاء ربهم هذا، كانوا كافرين بالشرائع والأحكام التي كانت تأتيهم ويؤمرون باتباعها والأخذ بها، كل هذا أعلنوا عنه أنهم كانوا جاحدين كافرين مكذبين.
مرة ثانية: في هذا الموقف العظيم في عرصات القيامة في ساحة فصل القضاء يقول الرب تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأنعام:130]، لماذا بدأ بالجن؟ لأنهم وجدوا قبل الإنس. يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ [الأنعام:130] عواقب لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الأنعام:130]؟ فهل اعترفوا أم لا؟
قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأنعام:130]، وهل الحياة الدنيا تغر وتخدع؟ أي نعم، لا تسأل، كل تارك صلاة كل مانع للزكاة كل متعاطي الربا كل متعاطي الحشيشة كل ظالم كل فاجر مغرور مخدوع، لو عرف الحياة الدنيا لبكى في موضعه وتاب إلى الله عز وجل، يظن أنه يعيش وما يزال العمر طويلاً وما إلى ذلك، لو فكر الظالم الفاسق المجرم الملازم للمعصية أنه قد يموت الآن ويلقى ربه لصرخ: أتوب إلى الله، أستغفر الله، ولخرج يجري في الشارع، لكن غرتهم الدنيا فلا تسمح لهم أن يفكروا هذا التفكير.
وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا [الأنعام:130] في دنياهم كَافِرِينَ [الأنعام:130]، غير مؤمنين.
ذَلِكَ [الأنعام:131]، الذي سمعتم بسبب أنه لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ [الأنعام:131] تعالى يا رسول الله مُهْلِكَ الْقُرَى [الأنعام:131]، ما المراد من القرى؟ العواصم والحواضر والمدن، والمراد من القرى أهلها وسكانها، وفي القرآن إيجازات عجب والمعنى لا يختلف، فليست المدينة فقط التي يدمرها، المراد المدينة ومن فيها من السكان.
ذلك سببه ماذا؟ أنه لم يكن من شأن ربنا عز وجل أن يهلك أهل القرى بظلم منه وأهلها غافلون، لا بد أن يرسل الرسل ويبعث النذر فيعلمون، فإن رفضت البلاد وأهلها سلط عليهم العذاب.
الدرجات درجة فوق درجة إلى أن يصل إلى المكان العالي السامي، والدركات دركة واحدة تحتها واحدة وتحتها واحدة إلى نهاية السفلى، الدرج للصعود، والدرك للهبوط.
وَلِكُلٍّ [الأنعام:132] من الإنس والجن دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام:132]، أي: بسبب عملهم، فمن آمن وعمل صالحاً واتقى الشرك والمعاصي يرفعه درجات، وكيف نعبر عن هذه الدرجات؟ إنهم ليتراءون منازلهم كما نتراءى الكواكب في السماء؛ لتفاوت علوها، ينظرون إلى منازلهم متفاوتة في السمو والعلو تفاوت الكواكب، درجات، والدركات لا تسأل عنها في عالم الشقاء النازل الهابط.
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام:132]، أي: من أعمالهم.
ثم قال تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الأنعام:132]، الإنس والجن، البررة والفجرة، المؤمنون والكافرون، الموحدون والمشركون، العالم كله بين يدي الله، وهو عليم بسلوكهم وأعمالهم، فلهذا يتم الجزاء وفق علم الله عز وجل، فآمنوا واطمئنوا.
اسمعوا تلاوة الآيات:
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129]، فحسنوا كسبكم إذاً.
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الأنعام:130]، إي والله بعثت وأرسلت، هذا محمد صلى الله عليه وسلم فينا.
قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [الأنعام:130]، ونعوذ بالله أن نكون ممن غرتهم الحياة الدنيا، فاشتغلوا بالباطل والشر والفساد معرضين عن ذكر الله ولقائه وعبادته. وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأنعام:130].
ذَلِكَ [الأنعام:131]، السبب: أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام:131]، لا بد أن يرسل الرسل ويبعث النذر من الجن يعلمون ويقصون ويبلغون، ثم إذا أصر أهل البلاد على الكفر وعلى الشرك والباطل دمرهم، هذا في الدنيا.
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ [الأنعام:131] يا رسول الله مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام:131].
وأخيراً: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الأنعام:132].
يقول: [ أولاً: بيان سنة الله تعالى في أن الأعمال هي سبب الموالاة بين الإنس والجن، فذو العمل الصالح يوالي أهل الصلاح، وذو العمل الفاسد يوالي أهل الفساد ].
من أين أخذنا هذه؟ هذه حقيقة تحلف بالله وتقول: هي حق، سنة الله في أن الأعمال هي سبب الموالاة بين الإنس والجن، فذو العمل الصالح يوالي أهل الصلاح، وذو العمل الفاسد يوالي أهل العمل الفاسد، إلى الآن بين الإنس والجن، لن تتبدل سنة الله، فهذا دل عليه قوله تعالى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129].
[ ثانياً: التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا].
الآية فيها التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا، فالذين تكالبوا عليها وأعرضوا عن الآخرة ونسوها يعملون الليل والنهار، يشفون صدورهم في شهواتهم ولا يذكرون الله والدار الآخرة؛ مغرورون مخدوعون، فما هي بدائمة ولا باقية ولا أنتم فيها خالدون.
[ ثالثاً: بيان العلة في إرسال الرسل، وهي إقامة الحجة على الناس، وعدم إهلاكهم قبل الإرسال إليهم ].
من أين أخذنا هذه؟ من قوله تعالى: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ [الأنعام:131]، أي: أنه لم يكن ربك مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام:131]، لا بد من إرسال الرسل وإنذار النذر حتى يعرفوا ثم يهلكوا أو ينجوا.
[ رابعاً: الأعمال بحسبها يتم الجزاء، فالصالحات تكسب الدرجات] العلى [والظلمات] ظلمات الشرك والكفر [تكسب الدركات] السفلى، فالصاعدون بعملهم، والهابطون بعملهم، لكل نفس ما كسبت.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر