إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام (24)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بعد كل ما تعرض له إبراهيم عليه السلام من قومه من التكذيب والإيذاء، وعدم ثنيه عن معتقده وتوحيده لربه رفع الله عز وجل شأنه، واصطفاه بالخلة والكرامة، ووهبه إسحاق عليه السلام، ومن بعد إسحاق يعقوب، وجعل من ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، وغيرهم من الأنبياء، وكان منهم الملوك، ومنهم الربانيون الشهداء الصالحون، فكان صلى الله عليه وسلم بحق أبا الأنبياء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب ربنا عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلكم السورة التي زفت بسبعين ألف ملك لهم زجل وتسبيح، والآن مع هذه الآيات التي نستمع إلى تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نأخذ في شرحها وبيان المراد منها.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:84-87].

    ذكر خبر إبراهيم وزوجه سارة مع ملك مصر

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [الأنعام:84]، وقد تقدم السياق في إبراهيم الخليل عليه السلام في قوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]، ثم قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ [الأنعام:84] أعطيناه إسحاق بن إبراهيم، وإسحاق -كما سبق أن علمنا- ولد لإبراهيم بعد تجاوز المائة في شيخوخته، وامرأته سارة عاقر، فوهبه إسحاق آية من آيات الله وكرامة من كراماته لأوليائه، وذلكم أن إبراهيم عليه السلام لما هاجر تحت الضغط والتهديد والتعذيب، ووصل إلى الديار المصرية، شاء الله أن يعطي ملك مصر هاجر جارية لسارة امرأة إبراهيم، وكيف أعطاها؟ لما دخل إبراهيم مع سارة امرأته وهما غريبان لا يعرفهما أحد، وكانت سارة حسناء وجميلة، فشاهدها بعض خدم السلطان وأعوانه، فأخبروه أن هناك امرأة حسناء ولا تصلح إلا لك، هؤلاء يسميهم العرب القوادين، وأهل المدينة يسمونهم الجرارين، فالجرار لأنه يجر والقواد لأنه يقوده، فالقواد ألطف.

    فقال الملك: علي بها. فلما جاءوا ليأخذوها من زوجها إبراهيم قال لها: أي فلانة! إذا سألوك عني فلا تقولي: هو زوجي، قولي: أخي؛ فإنه لا يوجد على الأرض مؤمن ولا مؤمنة إلا أنا وأنت؛ فلهذا قولي: أخي. لأنها لو قالت: زوجي لقال: اقتلوه. أما أخوها فلا يضر.

    وجيء بها وحُسِّنت حالها باللباس الحسن والطيب الذكي، وقدمت للسلطان، وجلس معها يتحدث إليها ويطلبها، لكنه كان كلما أراد أن يضع يده على كتفها أو على يدها يصاب بالشلل الفوري، والله الذي لا إله غيره! فيكف يده، ويقول: ادعي لي، فتدعو له، ثم يتحدث إليها ويطلبها، وحين يرغب في أن يضع يده عليها يصاب بالشلل، وهكذا ثلاث مرات! ثم صاح في رجاله: أخرجوا هذه، ما هي بآدمية! وأكرمها فأعطاها خادمة اسمها هاجر القبطية المصرية، وأعطاها بغلة.

    ذكر خبر هجرة إبراهيم بهاجر وإسماعيل إلى مكة

    فأخذ إبراهيم سارة والخادمة لامرأته وذهب إلى فلسطين، وشاء الله أن تحمل هاجر حيث تسراها بدون عقد، والتسري مشروع، فأنجبت إسماعيل، فاستشاطت سارة غيظاً، وقالت: أنا امرأة إبراهيم لا يولد لي، وهذه جارية خادمة يولد لها؟! فما أطاقت أن تشاهد الطفل ولا أمه، فأمر الخليل بأن يخرج بهاجر وابنها إلى جبال فاران بالوادي الأمين، ومن عجيب ما أخبرنا به أبو القاسم صلى الله عليه وسلم أن هاجر كانت تعفي بخمارها آثار رجليها وقدمي زوجها، حتى لا تعرف سارة أين ذهبا! وانتهى بها وطفلها إلى جبال مكة، وما كان بمكة أحد، وتسمى جبالها بجبال فاران، والقصة واردة في الكتاب والسنة واضحة، نذكر منها ما به العظة.

    وتركها مع طفلها ومعها دلاوة فيها ماء وجراب فيه بعض التمر، وقفل راجعاً، فلما أدبر واتجه نحو الشام صاحت به هاجر تقول له: آلله أمرك بهذا؟ إلى من تتركنا يا إبراهيم؟! آلله أمرك بهذا؟ ثلاث مرات، فقال: نعم، قالت: إذاً: فاذهب فإنه لن يضيعنا! من يأخذ بهذا؟ من يفهمه؟! ما دام ربي قد أمرني ألا أكذب ولا أسرق ولا أفجر ولا أطفف ولا فوالله لن يضيعني؟ فلم نسرق؟ لم نكذب؟ لم نتعاطى الربا والقوت بيد ربي؟ عجب حال هذه المرأة! قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً: فاذهب فإنه لن يضيعنا!

    وتتجلى الحقيقة، حيث نفد الطعام ونفد الماء، وإذا بالطفل يتلوى من شدة العطش، وهي تسعى ترنو يميناً وشمالاً لعلها تسمع صوتاً أو ترى شخصاً، وإذا بها ترى أقرب جبل إليها وهو الصفا، فتأتيه فتعلو فوقه وتنظر يميناً وشمالاً علها ترى أحداً، فما رأت فهبطت، ولما وصلت إلى الوادي أسرعت، وخبت فيه خبباً حتى تجاوزته وارتفعت، وانتهت إلى المروة فارتفعت فوقها، وهكذا سبعة أشواط، ثم سمعت النداء، وإذا بجبريل واقف عند الطفل، فلما وصلت إليه ضرب الأرض بكعب رجله فصارت زمزم وذهب جبريل، فأخذت تحوضه وتغرف من الماء في سقائها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم -أو قال: لو لم تغرف من الماء- لكانت عيناً معيناً ) هذه هاجر.

    الامتحان بذبح إسماعيل والبشارة بإسحاق ومن بعده يعقوب

    وامتحن الله إبراهيم محنة أخرى، أوحى إليه أن يذبح إسماعيل، يذبح ولده، وما كان منه إلا أن جاء إلى مكة وأمر أمه بأن تهيئه للذبح، فغسلته ونظفته وأخذه إلى منى، والمدية في يده، وطرحه على الأرض وتله للجبين، وإذا بجبريل قد جاء بكبش أملح يقول له: دع هذا وخذ هذا، قال تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].

    وقد امتثل أمر الله وما تردد وقال: كيف أذبح طفلي؟! أو ما حاجة ربي لهذا الولد؟ كما قال له إبليس في منى.

    قال تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، هذه البشرى مقابل الامتحان والابتلاء، هذا إسحاق بشرى؛ لأن إبراهيم شيخ كبير وامرأته عاقر لا تلد، قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [الأنعام:84] يعقوب هو إسرائيل وهو ابن إسحاق، الوالد والولد والحفيد، إبراهيم الوالد، والولد إسحاق، والحفيد يعقوب الملقب بإسرائيل، هذه نعمة الله أم لا؟ فكيف يعبد غير الله؟!

    قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا [الأنعام:84]، كل واحد من هؤلاء -الجد والأب والابن- هديناه إلى طريقنا حيث محابنا يأتونها، ومكارهنا يتركونها ويتخلون عنها، هذا إفضال الله وإنعامه، والحديث عن يعقوب والد يوسف الصديق ابن الصديق، والنكبة التي أصابته بأخذ طفله من بين يديه يوسف حديث ذو شجون، حيث بكى حتى ابيضت عيناه وعمي! أحداث جسام، ولكن صبروا ففازوا، ونحن ما يصيبنا شيء مما أصابهم ولا نصبر، ونجاهر بالباطل والشر والعصيان والعياذ بالله تعالى.

    معنى قوله تعالى: (ونوحاً هدينا من قبل)

    قال تعالى: وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ [الأنعام:84] أيضاً قبل إبراهيم، إبراهيم من ذرية نوح، ونوح عليه السلام أول رسول حارب الشرك والمشركين والوثنية وأهلها، وعاش يدعو إلى الله عز وجل ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولم يستجب له سوى نيف وثمانين نسمة بين رجل وامرأة! وكانت كارثة الطوفان، فأرسل الله تعالى عليهم السماء تسيل بالمياه، والأرض تفور بالمياه: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10]، فأجابه الله تعالى، قال: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:11-12]، وركب السفينة ومن معه وجرت السفينة على الماء حتى هلك العالم بأسره.

    وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ [الأنعام:84]، نوح هديناه، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ [الأنعام:84]، يصح أن تقول: من ذرية إبراهيم، ويصح أن تقول: من ذرية نوح، ولكن كونه نوحاً أقرب إلى السياق، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ [الأنعام:84] والكل من ذرية من إبراهيم أيضاً، وهل إبراهيم ليس من ذرية نوح؟ وهل إسحاق ليس من ذرية نوح؟ الكل من ذريته.

    الإنعام على إبراهيم عليه السلام بكون داود وسليمان من ذريته

    وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ [الأنعام:84]، وهذان ملكان غنيان كريمان من أكثر الخلق عبادة، وحسبكم ما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في داود: ( أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ) ولا يعيقه ذلك أو يقعد به عن الجهاد! ( وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ) السدس الأخير.

    ذكر خبر داود عليه السلام في قتله جالوت وتوليه الملك

    وماذا تعرفون عن داود؟ داود له بداية، لما فسق بنو إسرائيل وفجروا -كما فسقنا وفجرنا- ولبست نساؤهم الكعب الطويل سلط الله عليهم البابليين، فاجتاحوا ديارهم، وأسروا رجالهم واستعبدوهم ومزقوا البلاد، وفعلوا الأعاجيب بهم.

    فجاء شيوخ بني إسرائيل بعد فترة من الزمان إلى أحد أنبيائهم -يقال له: حزقيل- فقالوا: عين لنا ملكاً علينا نقاتل تحت رايته.

    والآن بعض الجماعات في بلاد العروبة والإسلام ما يعرفون هذا وما سمعوا به، ونحن نقول آلاف المرات: يا أيتها الجماعات الغاضبة -في نظرها- لله، وتريد أن تقيم الدولة الإسلامية! قتالكم بهذه الصورة وجهادكم باطل باطل، والعاقبة السوأى عائدة عليكم، بايعوا إماماً تبايعه أمتكم، وحينئذ التفوا حوله واعبدوا ربكم بما شرع لكم، حتى إذا اكتملتم وأصبحتم أهلاً للجهاد خاض بكم معارك الجهاد.

    أما الاغتيالات والعمل في الظلام ثم يقال: نحن نقاتل ونجاهد؛ فهذا منكر وباطل وعاقبته أسوأ ما تكون!

    بنو إسرائيل وهم جهال مضطهدون جاءوا إلى نبيهم وقالوا: اجعل لنا ملكاً نقاتل وراءه، لماذا ما قالوا: نقاتل نحن؟ أما فهمتم؟ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246].

    أزيد فأقول: لو أن إخواننا الفلسطينيين- وهم أولى بهذا- اجتمعوا رجالاً ونساء وأطفالاً والتفوا حول إمام وبايعوه وما اختلفوا عليه، ثم تدربوا على العبادة والطاعة والاستقامة حتى كملوا في ظرف سنوات، ثم قاتلوا اليهود؛ فوالله ليخرجنهم من ديارهم.

    أما الاغتيالات والتحمسات والجماعات فكل هذا باطل باطل باطل، ولن ينتج إلا الدمار والخراب، ومع الأسف أنه يوجد علماء يقولون لهم: هذا يجوز! فما النتيجة؟ دلونا عليها! هذا هو عمى البصائر.

    عجيبة هذه القصة، حيث قالوا: اجعل لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، لم لا تقاتلون بدون ملك؟ الجواب: هذه ضرورة؛ لأن كلمتنا تختلف، وسيوفنا تتضارب ولا بد من وحدة.

    فعين لهم ملكاً فقالوا: هذا فقير ما عنده كذا ولا كذا، ما هو بشريف، اختاروا أن يكون من صفاته كذا وكذا، ثم تمت الموافقة، وخرج بهم بأربعين ألف مقاتل، ولما كانوا كأمثالنا مزعزعين مضعضعين اختبرهم بأمر الله، قال: غداً نمر بواد بنهر الأردن، ولم يأذن لكم الله أن تشربوا منه، إلا من اغترف غرفة بيده ليطفئ لهب العطش فقط، وما إن وصلوا إلى الماء حتى أكبوا عليه كالبهائم يشربون! وما صبروا؛ لأنهم ما عندهم إرادات ولا علم ولا بصيرة، ولم يبق منهم إلا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً ما شربوا، إلا من اغترف الغرفة المأذون فيها.

    ورجع أولئك الهابطون مهزومين، والتقى جيش طالوت قائد بني إسرائيل وملكهم بالعدو المقابل جالوت ، وبدأ القتال بالمبارزة كما هي الطريقة القديمة في البشرية، تلتقي الصفوف ثم يخرج واحد يقول: من يقاتل؟ فيخرج الثاني حتى تشتعل حرارة الحرب ويندفع بعضهم على بعض، هذه الآن انتهت؛ لأن القتال خداع وفي الغيبة، فلما خرج جالوت كالجبل نادى: من يبارز؟ من يقاتل؟ فما استطاع أحد من بني إسرائيل أن يتقدم أمام هذا الطاغية، فتقدم داود وهو شاب صغير عليه السلام، وقال: بسم الله ورماه بحجر واحد فانهد كما ينهد البناء وسقط، من ثم عين خليفة لطالوت ، وبعد وفاته تولى الملك، وأوحي إليه ونبئ، وأصبح رسول الله وملك المؤمنين، وأنجب ولداً ألا وهو سليمان.

    ذكر بعض قصص داود وسليمان عليهما السلام

    ولهما قصص، منها: أن سليمان كان يلعب أمام المحكمة وهو فتى، ووالده داخل المحكمة، فجاءت امرأتان تشتكيان، فقالت إحداهما: هذه أخذت ولدي. فداود عليه السلام ما وفق للحكم، فخرجتا من عنده إحداهما تبكي والأخرى تقول: هذا ولدي، فقال سليمان: ائتوني بسكين أشقه بينكما، فقد حكمنا بأن نقتل الولد، فقالت أمه: لا تفعل، هو ابنها! لا تذبحه يا نبي الله هو لها، فعرف أن هذه أمه فأعطاه إياها، وأدب الأخرى.

    وكذلك قصة الغنم التي قال الله تعالى فيها: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79] قبل أن ينبأن أ

    ، وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79].

    وسليمان عليه السلام لما ملك وحكم كان في حياته أحداث كثيرة أيضاً، منها: أنه نذر لله نذراً فقال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل واحدة منهن ولداً يقاتل في سبيل الله.

    وشاء الله ألا تحمل واحدة منهن، إلا واحدة ولدت نصف ولد فقط بعد تسعة أشهر، فجيء فقيل له: هذا هو الولد، وهو ملقى على سرير لا يتحرك، فعرف سليمان وندم؛ لأنه ما قال: إن شاء الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون )، لو قال: تلد كل واحدة كذا إن شاء الله ما كان يقع هذا، فهذه خذوها، لا تقل لشيء: سأفعل كذا حتى تقول: إن شاء الله، وإلا فإنك تخيب وتندم.

    ذكر بعض خبر أيوب عليه السلام وبيان المنة الإلهية على إبراهيم بدخول يوسف وموسى وهارون في جملة ذريته

    قال تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ [الأنعام:84] أيوب عليه السلام أيضاً كان ملكاً؛ لأن هؤلاء كانوا ملوكاً وحكاماً صالحين، وأيوب وقع أيضاً في واقعة، حيث قال تعالى عنه: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ [الأنبياء:83-84]، لكن ما سبب هذا الضر؟

    لقد وقع له كما وقع لغيره من الامتحانات، فامتحنه الله عز وجل فصبر، ثماني عشرة سنة وهو على الأرض، وكان قد نذر نذراً إن شفاه الله ليضربن امرأته مائة ضربة، فأفتاه الله عز وجل بأن يجمع مائة عود خفيف ويضربها بها ضربة واحدة، الله أفتى أيوب كما يفتي العالم الناس: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44].

    قال تعالى: وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الأنعام:84] هؤلاء كلهم حكموا وسادوا وأحسنوا، كانت ميزتهم الحسن، أحسنوا في عبادتهم لربهم، وأحسنوا في قضائهم وحكمهم، وأحسنوا إلى الناس أجمعين فلم يسيئوا إلى أحد، فلهذا قال تعالى: كما جزيناهم نجزي المحسنين.

    ذكر بعض خبر زكريا ويحيى عليهما السلام

    ثم قال تعالى: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ [الأنعام:85]، وهؤلاء ما كان فيهم ملك ولا حاكم، ولكن كانوا ربانيين شهداء صالحين، فقال تعالى فيهم: كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ [الأنعام:85]، وزكريا أبو يحيى ويحيى ولده، وحادثتهما في القرآن أن زكريا عليه السلام كان قد بلغ الكبر وكانت امرأته عاقراً، وتاقا للولد واشتاقا له، وشاهد حنة والدة مريم كيف ولدت مريم، فلما رآها ولدت مريم ونمت وكبرت، وولدت مريم عيسى، لما شاهد هذه المعجزة قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران:38-39] مع كبر سنه وعقم امرأته، وبشره الله بيحيى عليه السلام، وزكريا ويحيى قتلهما بنو إسرائيل، فهما شهيدان.

    وعيسى بن مريم كذلك عزموا على قتله، وكان عابداً لله صالحاً، عزموا على قتله ولكن الله أنقذه ورفعه إليه.

    وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:86]،كل هؤلاء ما كان فيهم ملك ولا سلطان ولا كانت لهم دولة، بخلاف الطائفة الأولى؛ ولهذا قال: وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:86] كل واحد منهم أفضل الناس في زمانهم ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم)

    ثم قال تعالى: وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ [الأنعام:87] أي: وأوجدنا من آبائهم وذرياتهم أناساً صالحين ربانيين علماء أنبياء من الآباء والذرية، وَاجْتَبَيْنَاهُمْ [الأنعام:87] اصطفيناهم واخترناهم، وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:87] ألا وهو دين الله الذي هو الإسلام.

    هنا -معاشر المستمعين- ثمانية عشر نبياً ورسولاً في هذه الآيات، هم: إبراهيم، إسحاق، يعقوب، نوح، داود، سليمان، أيوب، يوسف، موسى، هارون، زكريا، يحيى، عيسى، إلياس، إسماعيل، اليسع، يونس، لوط، ثمانية عشر، وأهل العلم يقولون: خمسة وعشرون نبياً تجب معرفتهم على كل مؤمن ومؤمنة. فالرسل ثلاثمائة وأربعة عشر، ما نستطيع أن نحفظهم، والأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفاً، لكن هؤلاء الذين ذكروا في القرآن يجب على المؤمن والمؤمنة أن يعرفاهم، ثمانية عشر في هذه الآية، وسبعة هم: هود وصالح شعيب وإدريس وذو الكفل وآدم ومحمد صلى الله عليه وسلم.

    وقد ذكروهم في ثلاثة أبيات من الشعر:

    حتم على كل ذي التكليف معرفة في تلـــــــك حجتنــــا منهـــم ثمانيــــــــــة

    إدريس هــود شعيــب صـالح وكــــذا أنبياء على التفصيـــل قـــــــد علمــوا

    من بعد عشر ويبقى سبعة وهـمو ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا إفضال الله، هذا إنعام الله ينعم على من يشاء، ويتفضل على من يشاء، ولكن الذين يشاء التفضل عليهم والإنعام هم الذين يقرعون بابه، ويطرحون بين يديه، ويبكون ويسألون ويتضرعون، أما المستنكفون المستكبرون المستغنون عن الله فهيهات هيهات أن ينعم الله عليهم أو يكرمهم.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    والآن مع هداية هذه الآيات:

    [ أولاً: سعة فضل الله ]، دلت الآيات على سعة فضل الله، بدليل ما يعطي وما يهب لمن يشاء من عباده.

    [ ثانياَ: خير ما يعطى المرء في هذه الحياة ] الدنيا، هل الولد؟ امرأة؟ وظيفة؟ مال؟ قال: [خير ما يعطى المرء في هذه الحياة الهداية إلى صراط مستقيم ]، ولا تقل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة )، ذاك للمؤمنين، فخير ما يعطاه الآدمي أو الجني هو أن يهديه الله تعالى إلى صراط مستقيم، ألا وهو الإسلام، فيسلم قلبه ووجهه لله ويعبد الله تعالى بما شرع من أنواع العبادات؛ حتى يتوفاه الله مؤمناً صالحاً، ويدخله في الصالحين.

    [ثالثاً: فضيلة كل من الإحسان والصلاح ]، حيث وصف تعالى جماعة من الأنبياء بالصالحين وأخرى بالمحسنين.

    إذاً: يدل هذا على أفضلية كل من الإحسان والصلاح.

    الإحسان ما هو؟ أولاً: أن تعبد الله كأنك تراه، ومعنى هذا: أن عباداتك كلها صالحة، ما من عبادة يؤديها العبد وكأنه ينظر إلى ربه إلا أتمها وأحسنها وأداها على الوجه المطلوب، هذا الإحسان أولاً.

    ثانياً: أن يحسن إلى الخلق فلا يسيء إلى أحد منهم، وهذا هو الكمال، يحسن إلى الخلق فيبدأ بنفسه وبأقاربه ثم البشرية كلها، إما أن يعطيهم الخير أو يكف عنهم الأذى والشر.

    والصلاح ما هو؟ من هو الصالح؟ الصالح هو الذي يؤدي حقوق الله وافية، ما ينقص منها شيئاً، ويؤدي حقوق العباد كذلك، هذا عبد صالح، هذا رجل صالح، ما بخس الله حقه ولا بخس أي إنسان حقه الذي وجب له؛ ولهذا فهاتان الفرقتان في درجة عالية.

    [ رابعاً: لا منافاة بين الملك والنبوة أو الإمارة والصلاح ]، لا منافاة بين الملك والنبوة، يكون نبياً ويكون ملكاً، كيف عرفنا هذا؟ أما كان داود ملكاً؟ وسليمان أما كان ملكاَ؟ وهما نبيان ورسولان، فما هناك منافاة أبداً بين الملك والنبوة، ولا بين الإمارة والنبوة.

    [خامساً: فضيلة الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة ]، من أين أخذنا هذا؟ من شأن إسماعيل عليه السلام، فهل كان ملكاً؟ هل كان أميراً؟ كان يعيش في مكة، يصيد ويأكل الذبيحة أم لا؟ كذلك اليسع ويونس ولوط كلهم كانوا فقراء، لكن كانوا زهاداً في الدنيا مقبلين على الآخرة، والله تعالى ذكر الصالحين وذكر المحسنين، وذكر هؤلاء وأثنى عليهم فقال: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الجاثية:16] لزهدهم في الدنيا ورغبتهم في الآخرة.

    والله تعالى أسأل أن يجعلنا وإياكم من الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة.

    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767952970