إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام (23)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لما أقام إبراهيم عليه السلام الدليل على بطلان ما يفعله قومه من عبادة غير الله، وتبرأ منهم ومن شركهم، قام قومه يحاجونه في ذلك، فأخبرهم أنه بعد أن هداه الله لن يضره ما يطرحون أمامه من الشبهات، ولا ما يخوفونه به من غضب آلهتهم وتسلطها عليه؛ لأنها أصنام جامدة، وهي أعجز وأحقر من أن تملك لنفسها ضراً أو نفعاً، فضلاً عن أن تملكه لأحد من الناس، وبين لهم أهل الحق والإيمان أولى بالأمن والاطمئنان من أهل الزيغ والبهتان.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله ربه بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، والآيات التي سنتدارسها -إن شاء الله- نسمع تلاوتها مرتلة مجودة من أحد الأبناء فليتفضل.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:80-83].

    معاشر المستمعين والمستمعات، من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ [الأنعام:80]، من هو هذا الذي يخبر تعالى أن قومه حاجوه؟ إنه إبراهيم، الأب الرحيم، تذكرون بالأمس كيف كان يستدرجهم إلى التوحيد، ينتقل بهم من حالة إلى أخرى، حتى يستقر الأمر أنه لا إله إلا الله، وذلك مما علمه الله: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83].

    يقول تعالى: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ [الأنعام:80]، حاجوه: بمعنى: جادلوه وخاصموه بالحجج، من أجل أن يحقوا الباطل ويبطلوا الحق، وهم في ذلك مخطئون وهالكون، قال: أَتُحَاجُّونِي [الأنعام:80]، وفي قراءة: (أتحاجوني)، ويصح إدغام النون في النون، وهي قراءة سبعية، أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ [الأنعام:80] أي: أتجادلونني وتخاصمونني بالحجج الواهية الباطلة في ربي، كيف يمكن هذا؟ وَقَدْ هَدَانِ [الأنعام:80]، وعرفت الطريق إليه، وعرفت ما عنده وما لديه، وعرفته بأسمائه وصفاته، وعرفت أنه لا إله إلا هو ولا رب سواه، فما ذا تريدون مني؟ لو جادلتموني في شيء غير هذا فإنه ممكن، أما أن تجادلوني في ربي وقد هدان فهذا الجدال باطل، ولا خير فيه، وأنتم مبطلون ولا خير فيكم.

    معنى قوله تعالى: (ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علماً)

    ثم قال: وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ [الأنعام:80]، لا شك أنهم خوفوه، وقالوا: إن لم تقبل ما ندعوك إليه، أو إن لم تعرض عن النقد والطعن فآلهتنا سوف تصيبك بالخبال، وتصبح مجنوناً بين الناس، فقال لهم: وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ [الأنعام:80]، أي: بالله ربي الذي هداني وعرفته، وهداني إلى صراطه المستقيم، اللهم إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا [الأنعام:80]، هذه لطيفة من لطائف الكلام، لما قال: وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ [الأنعام:80] وكان من الممكن أن يعثر في حجر ويسيل دمه، فيقولوا: انظروا فالآلهة غضبت، ومن الممكن أن يصاب بمرض عارض فيقولوا: انظر إلى الآلهة ماذا فعلت به. فمن هنا قال: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا [الأنعام:80]، إذا شاء ربي أن أصاب بمرض أو بأذى فله ذلك، أما كون آلهتكم تضرني وتؤذيني فهذا لن يكون؛ لأنها أحجار وتماثيل تمثل كواكب في السماء، وليست بآلهة، فهي لا تنفع ولا تضر، ولا أخافها، لكن إذا شاء الله ربي فقد وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [الأنعام:80].

    ومن اللطائف من هذه المواقف -لأن البشرية هي هي- أنه مرض أحد الإخوان في المدينة بعد أن جاء من الديار المغربية، فقال أحدهم -وهو طالب علم-: ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يقول بالمولد ولا بغيره!

    فلما خوفوه بآلهتهم قال لهم: كيف أخاف ما أشركتم به -وهو آلهتكم- وأنتم لا تخافون من الله الذي أشركتم به، اللهم إلا أن يشاء ربي شيئاً فإنه يقع، وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [الأنعام:80].

    معنى قوله تعالى: (أفلا تتذكرون)

    ثم قال لهم: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ [الأنعام:80]، لو تذكرتم لذكرتم، لو تأملتم في آلهتكم: هل خلقت! رزقت! أماتت! أحيت! أنتم الذين صنعتموها، ونصبتموها هنا وهناك، وقدستموها وطهرتموها، وقلتم ما قلتم، كيف تكون هذه آلهة؟ والذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق كل المخلوقات من الشمس والقمر والكواكب وكل البشر، هذا لا تعبدونه، ولا تعرفونه، فلو تذكرتم لذكرتم.

    لكنهم لا يريدون أن يتفكروا حتى يهتدوا ويعرفوا، فلامهم وقبح مسلكهم بهذا الاستفهام: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ [الأنعام:80].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً...)

    ثم قال لهم: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا [الأنعام:81]، أي الموقفين أسلم: موقفي أو موقفكم؟ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ [الأنعام:81] من هذه الأصنام والتماثيل، وَلا تَخَافُونَ [الأنعام:81] أنتم أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ [الأنعام:81] جل جلاله وعظم سلطانه ما لم ينزل به عليكم حجة ولا برهاناً ولا أدنى خبر عن الله عز وجل يأذن لكم بعبادة هذه الأصنام؟

    لو أن الله أنزل عليكم كلامه وأوحى إلى أحدكم وقال: اعبدوا هذه؛ لكان لكم حجة، أما أنا فقد خلقني لعبادته، وأوحى إلي ونبأني وأرسلني إليكم رسولاً، وأنا أعرفه أنه ربي لا رب لي غيره، وإلهي لا إله سواه، فكيف -إذاً- لا أعبده؟ وتريدون مني أن أترك عبادته وأعبد هذه الأحجار والتماثيل!

    يقول: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81]، إذا كان لكم علم ومعرفة وبصيرة فهل أنا أو أنتم أحق بالأمن والسلامة والنجاة من الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة؟ هل الذي يعبد الله وحده، أم الذي يعبد أصناماً وأحجاراً وتماثيل؟

    والجواب معلوم بالضرورة: الذي يعبد الله وحده أحق وأجدر بأن يؤمنه الله ويحفظه، وأما الذي يعبد غير الله فكيف ينجيه ذاك المعبود من أي مكروه وهو صنم وحجر، أو كوكب معلق في السماء؟! فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81]، لو كانوا يعلمون لقالوا: أنت، إذاً: آمنوا معنا، لماذا أنتم منحازون هناك، لكنهم لا يعلمون، الشياطين أفسدت قلوبهم، وزينت لهم الباطل فعموا وصموا. ‏

    ذكر خبر تحطيم إبراهيم عليه السلام لأصنام قومه

    وهناك موقف آخر لإبراهيم من سورة الأنبياء، كان لهم عيد، كأعياد النصارى في الربيع، ونحن ورثنا أيضاً عنهم الميلاد والمواليد، كان لهم عيد يخرجون فيه إلى الصحراء وإلى أماكن، وإذا أرادوا أن يخرجوا وضعوا أنواعاً من الطعام بين يدي الآلهة في يوم العيد هذا لتباركه، فيأكلون فينتفعون به بظنهم، فمروا جماعات جماعات على إبراهيم فقالوا: هيا يا إبراهيم. فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88-89]، مريض ما أستطيع أن أخرج معكم، فالمعذرة، ونظر في النجوم ليوهمهم أنه يستمد معرفته من الكواكب التي يعبدونها، فلما خرجوا وبقي في المدينة وحده جاء بفأس كبيرة، وفلق رءوس تلك الآلهة كلها وكسرها وهشمها، وعلق الفأس في عنق الإله الأكبر، المعبود الكبير.

    وجاء القوم مسرعين ليأخذوا الطعام الذي باركته الآلهة، فوجدوها متناثرة هنا وهناك، قالوا: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:59]، والشاهد أنه عندما جيء به فقالوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:62-63]، يشير إلى أصبعه يوهمهم أنه الصنم، فحكموا بإعدامه، وهذه الحادثة كانت بعد حادثة اليوم بفترة، والشاهد أن هذا في بداية دعوة إبراهيم عليه السلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)

    ذكر الخبر النبوي في صفات مستحقي الأمن يوم القيامة

    قال تعالى: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:81-82]، هنا ذكر أهل الحديث ما يلي: فقد ذكر ابن كثير عن ابن مردويه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( من أعطي فشكر، ومن منع فصبر، ومن ظلم فغفر، ومن أذنب فاستغفر )، وسكت ولم يجب عن هذا السؤال، فقال الأصحاب: ما له يا رسول الله، فقال: ( أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]).

    أقول هذا لأن فيه دعوة إلى الصبر والشكر والتوبة والتجاوز والتسامح، فهذا الحديث سنده مقبول، أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ [الأنعام:82]، نحن نريد أن يكون لنا هذا الأمن، هل تريدون هذا الأمن بحق؟ قال: ( من أعطي فشكر )، أعطاه الله فشكر نعمته، أعطاه فلان فشكر له، هذه خلقه، ( ومنع فصبر ) ، ما شكى وبكى، ( وأذنب فاستغفر)، على الفور استغفر، ( وظلم فغفر ) لمن ظلمه، من حقق هذه فله الأمن، يفوز بالأمن، ما الأمن هذا؟ النجاة من النار ودخول الجنة، هل هناك أمن أكثر من هذا؟ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].

    تفسير الظلم المطلوب نفيه عن الإيمان لتحصيل الأمن

    وفي الصحيح أنه ( لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحابه وتألموا، وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: ليس الأمر كما ظننتم أو فهمتم، ألم تسمعوا قول لقمان الحكيم لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] )، فالأصحاب قالوا: أينا لم يظلم نفسه؛ لأن الآية الكريمة تقول: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]، أي: ولم يخلطوا إيمانهم بظلم، وما منا أحد إلا وقد ظلم نفسه، ظلم أخاه، ظلم حيواناً من الحيوانات، الظلم يقع، ولا ينجو منه إلا المعصومون، إذاً: فلا أمن ولا نجاة، فخافوا وشق عليهم الأمر واستصعبوه، فأرشدهم الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى كلمة لقمان الواردة في سورته: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان:13]، لماذا يا أبتاه، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

    وقد بينا للمؤمنين والمؤمنات وجه الظلم، فأي ظلم أعظم من أن تظلم ربك فتأخذ حقه وتعطيه لغيره؟ الظلم أن تأخذ مال فلان أم لا؟ والله خلقك لتعبده، ووهبك قوتك وإرادتك وسمعك وبصرك وعقلك، وإذا بك تعبد صنماً أو تعبد إنساناً، أو تعبد ملكاً وتترك ربك الذي خلقك! أي ظلم أعظم من هذا؟ والله لا ظلم أعظم من الشرك، الظلم أن تأخذ من فلان حقه وتعطيه لفلان، هذا ظلم، فكيف بالذي يأخذ حقوق الله كلها -كالعبادات- ويعطيها لغيره، فهو أفظع ظلم وأقبحه.

    وهكذا يقول تعالى في الذين لهم الأمن بالحقيقة: الَّذِينَ آمَنُوا [الأنعام:82] إيماناً حقيقياً صدقوا فيه وعرفوه، وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] لم يخلطوا إيمانهم بظلم ما من أنواع الظلم، والتنكير هنا للتعميم، أُوْلَئِكَ [الأنعام:82]، الأعلون أو السامون، لَهُمُ الأَمْنُ [الأنعام:82]، لا يخافون ولا يحزنون، فهم أولياء الله، آمنوا ثم ماذا؟ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء...)

    وأخيراً: قال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا [الأنعام:83] هذه الحجة العظيمة التي سمعتموها آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ [الأنعام:83] أعطيناها إبراهيم، عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83]، ثم قال تعالى: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76]، وفي سورة يوسف: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83].

    وهكذا ما من عبد يتفرغ لدعوة الله، ويكون فيها على علم، ويدعو بالموعظة والحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل بالتي هي أحسن إلا أعطاه الله الحجة والبرهان، وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ [الأنعام:83]، ما من عبد صالح يدعو إلى الله على بصيرة إلا ويعلمه ويؤتيه من الحجج ما يغلب خصمه إلى يوم القيامة.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات

    هذه الآيات نسمعكم شرحها في الكتاب زيادة في تحصيل المعاني التي نريدها.

    يقول المؤلف: [لما أقام إبراهيم الدليل على بطلان عبادة غير الله تعالى، وتبرأ من الشرك والمشركين حاجه قومه في ذلك، فقال منكراً عليهم ذلك: أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ [الأنعام:80]؟ أي: كيف يصح منكم جدال لي في توحيد الله وعبادته وترك عبادة ما سواه من الآلهة المدعاة، وهي لم تخلق شيئاً، ولم تنفع ولم تضر، ومع هذا فقد هداني -أي: ربي- إلى معرفته وتوحيده، وأصبحت على بينة منه سبحانه وتعالى، هذا ما دل عليه قوله تعالى: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ [الأنعام:80].

    ولا شك أنهم لما تبرأ من آلهتهم خوفوه بها، وذكروا له أنها قد تصيبه بمكروه، فرد ذلك عليهم قائلاً: وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ [الأنعام:80] من آلهة أن تصيبني بأذى من الأذى، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا [الأنعام:80]، فإنه يكون قطعاً؛ فقد وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [الأنعام:80]، ثم وبخهم قائلاً: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ [الأنعام:80]، فتذكروا أن ما أنتم عليه هو الباطل، وأن ما أدعوكم إليه هو الحق، ثم رد القول عليهم قائلاً: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ [الأنعام:81] وهي أصنام جامدة لا تنفع ولا تضر، لعجزها وحقارتها وضعفها، ولا تخافون أنتم الرب الحق الله الذي لا اله إلا هو، المحيي المميت الفعال لما يريد، وقد أشركتم به أصناماً ما أنزل عليكم في عبادتها حجة ولا برهاناً تحتجون به على عبادتها معه سبحانه وتعالى.

    ثم قال لهم استخلاصاً للحجة وانتزاعاً لها منهم: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ [الأنعام:81]من الخوف: أنا الموحد للرب، أم أنتم المشركون به؟ والجواب معروف، وهو: من يعبد رباً واحداً أحق بالأمن ممن يعبد آلهة شتى وجمادات لا تسمع ولا تبصر.

    وحكم الله تعالى بينهم وفصل فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]، أي: ولم يخلطوا إيمانهم بشرك، أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]]، إبراهيم طرح السؤال والله أجاب، [أي: الأمن في الدنيا وفي الآخرة، وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، أي: في حياتهم إلى طريق سعادتهم وكمالهم، وهو الإسلام الصحيح.

    ثم قال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83]، إشارة إلى ما سبق من محاجة إبراهيم قومه، ودحض باطلهم، وإقامة الحجة عليهم.

    وقوله تعالى: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ [الأنعام:83]، تقرير لما فضَّل به إبراهيم على غيره من الإيمان واليقين والعلم المبين.

    ثم علل تعالى لذلك بقوله: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]، حكيم في تدبيره، عليم بخلقه، يؤتي الحكمة من يشاء وهو العليم الحكيم].

    هداية الآيات

    إلى هنا انتهى تفسير الآيات، وإليكم بيان هداياتها:

    [أولاً: مشروعية جدال المبطلين والمشركين لإقامة الحجة عليهم لعلهم يهتدون]، من أين أخذنا جواز الجدال والخصومة مع المشركين والمبطلين؟ من هذه الآية.

    [ثانياً: بيان ضلال عقول أهل الشرك في كل زمان ومكان]، والذين يعبدون الأصنام والأحجار أقرب من هذا الذي يأتي إلى قبر ميت ويناديه: يا فلان.. يا فلان.. يا فلان! أنا مصاب بكذا، وفي كذا، وادع الله لي بكذا وكذا، أهذا له عقل حين يدعو ميتاً؟ هل الميت يسمعه؟ وإن فرضنا أنه سمع هل يمد يده لينقذه؟ فلم -إذاً- تدعو من لا يستجيب لك، أين عقلك؟

    لو مررت برجل واقف أمام خربة من الديار وهو يصيح ويطلب ماذا تقول له؟ تقول: ما في البيت أحد، ما في هذه الخرابة ساكن، عليك بالبيت الفلاني انظر إلى الضوء فيه. فالذين يدعون غير الله كلهم على حد سواء، دعوا الأنبياء، أو الرسل، أو الملائكة، أو الجمادات والحيوانات.

    [ثالثاً: التعجب من حال مذنب لا يخاف عاقبة ذنوبه]، قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ [الأنعام:81]، أقول: التعجب من حال مذنب لا يخاف عاقبة ذنوبه، وهذا موجود، فكل المذنبين الذين يواصلون الذنوب ما خافوا، لو خافوا عاقبة الذنب لتابوا في يومهم أو ليلتهم.

    [رابعاً: أحق العباد بالأمن من الخوف من آمن بالله ولم يشرك به شيئاً]، أحق الناس بالأمن من آمن بالله ولم يشرك به شيئاً، وإذا آمن عبد وأطاع واستقام واتقى فقد استحق الأمن.

    [خامساً: تقرير معنى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257]].

    هذه سنة الله في الناس، الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من ظلمات الجهل أو الشك أو الارتياب إلى نور الحق والمعرفة.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767953215