أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلكم السورة التي زفت بسبعين ألف ملك لهم زجل وتسبيح، والآن نستمع إلى تلاوة الآيات من مرتلها، ثم نأخذ إن شاء الله في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:74-79].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ [الأنعام:74]، يقول تعالى لرسوله ومصطفاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: أُذكر لقومك العادلين عن الله، العابدين غير الله من الأصنام -يعني المشركين في مكة- أُذكر لهم الحادثة الآتية ليتعظوا ويعتبروا، ما هي؟
قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74]، إبراهيم -كما علمتم سابقاً- معناه بالعربية: الأب الرحيم، وبالعبرية: إبراهيم، ووالده يسمى آزر ، وقيل: له اسم ثان ولا بأس؛ فيعقوب اسمه يعقوب وإسرائيل، فـآزر وشالخ كلاهما اسم لوالد إبراهيم.
وهذه الكذبة العظيمة لها سبب، سببها في نظرهم أن يبرئوا والد الرسول صلى الله عليه وسلم من دخول النار، والد نبينا اسمه عبد الله بن عبد المطلب ، قالوا: لن يدخل النار، فقيل لهم: ها هو والد إبراهيم يدخل النار! قالوا: ليس هذا أباه، بل هذا عمه.
وهذا التزمت وهذا التخبط لأي شيء؟ كل هذا في حب الرسول وآل بيته بزعمهم، تدجيل وكذب، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( أبي وأبوك في النار ).
ونحن أصبحنا -والحمد لله- من ذوي البصائر، عرفنا أنه لا قيمة للنسب أبداً، كل ما في الأمر هل نفسك زكية طاهرة، أم خبيثة منتنة؟ كن ابن من شئت أو أباً لمن شئت، إذا ما زكت النفس ولا طابت ولا طهرت فأنت من أهل العذاب.
لعلمنا بحكم الله في الخليقة: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، لا من كان أبوه نبياً أو ولياً؟ فهل تصورتم هذه الصورة أم لا؟!
بل ذهبوا إلى أن عم الرسول في الجنة أيضاً، وهذا مذهب الروافض الذين يحومون حول هذه الترهات والأباطيل، نحن علمنا من طريق مصطفانا صلى الله عليه وسلم أن آزر لما يبعث الله الخليقة يقوم إبراهيم ويقول: يا رب! لقد وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون -وهذا في سورة الشعراء: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشعراء:87]- والآن هذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أعظم من هذا الخزي، فيقول له الرب تعالى: انظر تحت قدميك، فإذا آزر في صورة ضبع ملطخ بالدماء والقيح، ما إن يراه حتى يقشعر جلده ويقول: سحقاً سحقاً سحقاً! فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في عذاب النار.
فهل بعد هذا تقول: أبوه في الجنة؟! هذا شأن أمة تعرض عن كتاب الله وهدي رسولها، وتتلقى العلم من (قال فلان وقال فلان).
ذكر هذا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم في ضمن ثلاثة مواقف: له صلى الله عليه وسلم موقف ولعيسى موقف ولإبراهيم موقف، فعيسى قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، وإبراهيم قال: وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36]، معناه: اغفر له وارحمه، ورسولنا صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أمتي أمتي.
والشاهد عندنا في تجلي هذه الرحمة، ومن ثم ابتلاه الله بأربعة ابتلاءات لم يبتل بها غيره:
الأول: الهجرة، وكانت أول هجرة في التاريخ البشري، لما حكم عليه بالإعدام وأنجاه الله هاجر مع زوجه وابن عمه إلى أرض الغرب، لا يدري أين يذهب، فأول هجرة كانت هجرة إبراهيم عليه السلام.
ثم ابتلاه بذبح إسماعيل، كيف يبتلى الرجل بذبح ابنه؟! كيف يقوى على ذلك؟
ثم ابتلاه بأن يذهب بجاريته وابنه إلى صحراء قاحلة ليس فيها أحد، ذهب بإسماعيل وهاجر.
ثم أمر بأن يذبح إسماعيل، كما قال تعالى عنه: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102]، وبالفعل طيبته أمه وطهرته، وأخذه إلى منى، وطأطأه على الأرض والمدية في يده، ولما هم بذبحه نودي أن: اترك إسماعيل وخذ هذا الفداء العظيم: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].
وأي ضلال أعظم من أن يترك الإنسان خالقه لا يعبده ويعبد مصنوعاً صنعه بيده؟! هل هناك ضلال أعظم من هذا؟! ينحت حجراً ويعكف عليه يعبده ويترك عبادة من خلقه وسواه ورزقه وحفظه.
إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74]، بين واضح، هذا الضلال هو البعد عن الهداية الإلهية؛ إذ الإنسان مخلوق ليعبد الله، هذه علة خلقه، هذا سر خلقه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فقط لا لشيء آخر.
ثم إن هذه العبادة هي التي تؤهله للسعادة والكمال، لا أن الله ينتفع بهذه العبادة، وإنما العبادة ينتفع بها العابدون، تزكو أنفسهم وتطيب وتطهر، فيحتلون الفراديس وينزلون الجنة.
كما أن هذه العبادة -وهي أوامر ونواه- تحفظ أعراضهم وأموالهم وأبدانهم، تجنبهم المكاره والمهالك والمعاصي؛ لحكمة الله عز وجل.
الشاهد عندنا أن إبراهيم عليه السلام واجه والده فقال له: أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74].
وهنا روي أن إبراهيم كشف الله تعالى له الحجاب، فرأى ما تحت العرش إلى الأرض، ورأى ما تحت الأرض إلى أسفلها، ولا غرابة ولا عجب أن يريه الملكوت بدون حجاب، يرى السماوات وما فوقها من الجنة والعرش وهو في مكانه، ثم يرى ما تحت الأرض السفلى، أو الملكوت الأسفل، أخذوا هذا من قوله: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:75]، وإن قلنا: هل صح أم لم يصح؟ نقول: الآية ستأتي.
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:76]، لك أن تقول: حرف الاستفهام محذوف، والتقدير: (أهذا ربي؟)، وهو كذلك، يجوز حذف الاستفهام في كثير من المواطن، لا سيما هنا: (أهذا ربي؟)، حيث رفع رءوسهم إلى الزهرة الكوكب العظيم هذا قائلاً: أهذا أحق بالربوبية والألوهية؟ أهذا ربي؟
قال تعالى: فَلَمَّا أَفَلَ [الأنعام:76]، أفل النجم: ذهب ضوءه، قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76].
ولا ننسى أن الكلدانيين قوم إبراهيم -وهم في ديار بابل والعراق- كانوا صابئة يعبدون الكواكب، ثم صنعوا لتلك الكواكب أصناماً وتماثيل، فيتمسحون بها ويتقربون وهم يعبدون في الواقع الكواكب، ولهذا فهم ليسوا ملاحدة لا يؤمنون بالله، بل يؤمنون بالله، ويتوسلون إليه بهذه الكواكب والأصنام.
وهذه الحقيقة قررناها مئات المرات، فكلمة (لا إله والحياة مادة) هذه كذبة يهودية، نسج اليهود خيوطها، وقدموها لروسيا، ونهض بها لينين وستالين وأتباعهم، ونفوا وجود الله، قبل هذه لم تكن البشرية تنكر وجود الله أبداً، وإنما كانوا يعرفونه ويتوسلون إليه بهذه الأصنام والكواكب وما إلى ذلك.
إذاً: فلنستمع: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:76]، لا يعني أنه ربه، ولكن على حذف الاستفهام: (أهذا ربي)؟
فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76]، ما دام أنه ذهب وتركني فكيف أعبده؟ لن يكون ربي هذا.
إن الذين يسمعون كلامه معهم يتعجبون، كأنه طالب الهداية يبحث، وهو واجب كل إنسان أن يبحث عن ربه عسى أن يعرفه، وهذا أسلوب حكيم.
فلما أفل القمر قال: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي [الأنعام:77] إليه لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام:77]، بدليل أن القمر أفل وغاب وغرب.
لقد قال: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:78] من هذه الآلهة، سواء كانت الكواكب في السماء، سواء كان القمر أو الشمس، وفي اليمن كانت تعبد الشعرى، وجاء في القرآن: رَبُّ الشِّعْرَى [النجم:49]، كوكب معروف؛ لأن الإنسان إذا فقد البيان والهادي الذي يهديه يتخبط، والشياطين تزين له، منهم من يعبد الشمس، ومنهم من يعبد القمر، ومنهم من يعبد الكوكب الفلاني، وعبدوا ما دون ذلك من المخلوقات، أما صنع التماثيل فلتمثل فقط ما يعبدونه في السماء، ولهذا يسمى تمثالاً، لا أنه الإله المعبود.
وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:79] تبرأ براءة كاملة، لا صلة لي بالمشركين، لا أعرفهم، ولا أمشي وراءهم، ولا أحبهم، ولا أتعامل معهم؛ لأنهم أشركوا هذه الأصنام في عبادة ربهم فعبدوها معه.
[ فقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74] أي: واذكر لهم يا نبينا قول إبراهيم لأبيه آزر : أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [الأنعام:74]، أي: أتجعل تماثيل من حجارة آلهة أرباباً تعبدها أنت وقومك، إِنِّي أَرَاكَ [الأنعام:74] يا أبت وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74] عن طريق الحق الذي ينجو ويفلح سالكه، هذا ما دلت عليه الآية الأولى.
أما الثانية فإن الله تعالى يقول: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:75]، أي: كما أريناه الحق في بطلان عبادة أبيه للأصنام نريه أيضاً مظاهر قدرتنا وعلمنا وحكمنا الموجبة لألوهيتنا في ملك السموات والأرض]؛ لأن الله عليم حكيم، وحكمته لا يخلو منها شيء، ما من ذرة إلا وخلقها وإيجادها لحكمة، إذاً: نريه أيضاً مظاهر قدرتنا وعلمنا وحكمتنا الموجبة لألوهيتنا في ملك السموات والأرض، أي: نريه الآيات في ملك السموات والأرض [ليكون بذلك من جملة الموقنين، واليقين من أعلى مراتب الإيمان]، فالإيمان إيمان، واليقين يقين، واليقين أعلى من الإيمان، لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ [التكاثر:7]، مؤمن وموقن، وأما المؤمن غير الموقن فهو مريض قد يهلك في الطريق.
قال:[هذا ما دلت عليه الآية الثانية، وفي الثالثة فصّل الله تعالى ما أجمله في قوله: نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:75]]، الآن يفصل هذا الملكوت، كيف أن آيات الله تعالى تدل على وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته، [فقال تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام:76]، أي: أظلم، رَأَى كَوْكَبًا [الأنعام:76]، قد يكون الزهرة، قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ [الأنعام:76]، أي: غاب الكوكب، قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76]، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا [الأنعام:77]، أي: طالعاً، قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ [الأنعام:76]، أي: غاب، قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام:77]، أي: في معرفة ربهم الحق. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً [الأنعام:78]، أي: طالعة، قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ [الأنعام:78]، يعني: من الكوكب والقمر، فَلَمَّا أَفَلَتْ [الأنعام:78]، أي: غابت بدخول الليل، قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:78].
هكذا واجه إبراهيم قومه عبدة الكواكب التي تمثلها أصنام منحوتة، واجههم بالحقيقة التي أراد أن يصل إليها معهم، وهي إبطال عبادة غير الله تعالى فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا [الأنعام:79]، لا كما توجهون أنتم وجوهكم لأصنام نحتموها بأيديكم، وعبدتموها بأهوائكم لا بأمر ربكم، وأعلن براءته في وضوح وصراحة، فقال: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:79]].
هذا الموقف وقفه إبراهيم ليستدرج قومه، ليقف بهم على مظاهر ربوبية الله وعلمه وقدرته وحكمته، ليؤمنوا بالله ويعبدوه وحده.
قال: [ من هداية الآيات:
أولاً: إنكار الشرك على أهله] هل يجب أم لا؟ إذا رأيت من يقول: يا رسول الله! مدد. يا إبراهيم! يا زكريا! يا فاطمة! هل تسكت أم تنكر؟ يجب أن تنكر، أما أنكر إبراهيم؟ أما قال لوالده: أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [الأنعام:74] بأبشع الإنكار، إنكار الشرك على أهله؟
إذا وجدت من يقول: والنبي، والكعبة، ورأس فلان، فهل تسكت؟ ألست على منهج إبراهيم؟ كلنا على منهج محمد صلى الله عليه وسلم، أما قال له رجل: ( ما شاء الله وشئت يا رسول الله، فقال: قل: ما شاء الله وحده )؟
إذاً: هذه الآية فيها هدايات، منها: [إنكار الشرك على أهله، وعدم إقرارهم ولو كانوا أقرب إلى المرء]، فإبراهيم هل أنكر على والده أم لا؟ لا تقل: هذا أبي فأنا لا أزعجه، أو هذه أمي لا نغضبها، إذا رأيت من يشرك بربك غيره يجب أن تنكر عليه، وتصبر لذلك، لكن ليس بالهراوة والسب والشتم، فهل إبراهيم رفع العصا على والده؟ هل قال: يا مجنون يا أحمق يا كذا؟ ما قال ذلك أبداً، ولكن بالمنطق السليم: إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74].
[ثانياً: فضل الله تعالى وتفضله على من يشاء بالهداية الموصلة إلى أعلى درجاتها]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75]، فمن وصل به إلى هذه المستوى؟ إنه الله عز وجل، فإذا أراد الله لك ذلك أخذ بيدك، وإذا بك تتنقل في الكون وتشاهد آيات الله، وتصبح أكثر الناس إيماناً وأكثرهم يقيناً.
[ثالثاً: مطلب اليقين وأنه من أشرف المطالب وأعزها]، فاليقين أعظم من الإيمان، لن يكون يقين إلا بعد أن يوجد إيمان، فإذا قوي الإيمان انتقل إلى اليقين، تصبح كأنك ترى الله عز وجل، [مطلب اليقين وأنه من أشرف المطالب وأعزها، ويتم بالتفكر والنظر في الآيات].
فلهذا قال العلماء: عندنا كتابان: أولهما: كتاب الله، فإذا قرأت وتدبرت منه الآيات لا تلبث حتى تصبح موقناً أعظم يقين؛ لأنه كلام الله تعالى، وكلامه حكم وعلوم ومعارف، وهكذا تتدرج في الآيات آية بعد آية وإيمانك يرتفع، حتى تصل إلى اليقين، فتقول: بالله الذي لا إله غيره إن هذا لكلام الله، وإنه لا إله إلا الله، وهكذا تبلغ درجة اليقين.
ثانياً: كتاب الكون، تخرج فقط من بيتك فتنظر إلى السماء: من رفعها؟ هذه الكواكب من نثرها فيها، من أضاءها، هذا الكوكب النهاري الشمس من سخره؟ هذا الكوكب الليلي من أوجده؟ وتنظر إلى الأرض: هذه الجبال من أرساها؟ من جمع غبراتها وذراتها؟ وتنظر إلى نفسك أنت: ما أنت؟ كيف تسمع؟ كيف تبصر؟ وحينها تقول: يا إلهي آمنت بالله، فيصبح إيمانك يقيناً.
قال: [ثالثاً: مطلب اليقين]، ينبغي أن نطلب اليقين ليل نهار، [وأنه من أشرف المطالب وأعزها]، ليس كطلب المال والدنيا، [ويتم] ويحصل عليه العبد [بالتفكر والنظر في الآيات].
ومن الآيات العجيبة أني كل يوم مندهش حين نخرج من المسجد فنجد هذا الخليط من الناس، شرقي وغربي وعربي وعجمي، وألوان، ما تجد اثنين بلون واحد، قف الآن في الحلقة وانظر فلن تجد اثنين شكلهما واحد لا يميز بينهما؟ بل البشرية كلها في صعيد واحد لن تجد فيها اثنين لا يفرق بينهما، أي علم أعظم من هذا؟ أية قدرة أجل من هذ؟ أية حكمة أعظم من هذه الحكمة؟ كيف يعبد مع الله غيره، قولوا: آمنا بالله، لكن العميان ما ينظرون حتى إلى أنفسهم، يأكل ويشرب ولا يسأل.
قال: [رابعاً: الاستدلال بالحدوث على وجود الصانع الحكيم وهو الله عز وجل]، من أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا [الأنعام:76] رَأَى الْقَمَرَ [الأنعام:77] رَأَى الشَّمْسَ [الأنعام:78]، استدل بالحدوث على وجود المحدث، واستدل بالوجود على وجود الذي أوجد، ألا وهو الصانع الحكيم الله عز وجل.
[خامساً: سنة التدرج في التربية والتعليم]، وهذه السنة فرطنا فيها، لا بد من التدرج درجة درجة حتى تصل إلى القمة، ليس في يوم واحد تعلم العلوم كلها.
[سادساً: وجوب البراءة من الشرك وأهله]، من أين أخذنا هذه؟ من قوله تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:78]، تبرأ منهم أم لا؟ وهذا يجب علينا، ولو كان المشركون آباءنا وأمهاتنا، فكيف نقر الكفار والمشركين على الشرك ونرضى به ونسكت؟
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر