أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
معشر الأبناء والإخوان المستمعين! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل.
وقد انتهى بنا الدرس إلى هذا النداء الإلهي، من خاتمة سورة آل عمران، وهو قول الله عز وجل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، فهذه خاتمة سورة آل عمران ذات المائتي آية، وختمت بهذه الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
إذاً: ما السر بندائنا بعنوان الإيمان؟ علم المستمعون والمستمعات: أنه الحياة، المؤمن حي، والحي خلاف الميت، فالحي يسمع النداء ويجيب، إذا أمر وكان قادراً على الفعل فعل، وإذا نهي وزجر ازدجر وترك، وإذا عُلم علم، وإذا حذر حذر، وإذا بشر فرح واستبشر؛ وذلك لكمال حياته.
ومن هنا قررنا أن غير المؤمنين أموات، والبرهنة القاطعة هي أننا لا نكلفهم وهم في ذمتنا وتحت رايتنا، ولا نكلفهم بصيام ولا صلاة، ولا حج ولا عمرة ولا جهاد؛ لأنهم بمنزلة الأموات، فإذا نفخت فيهم روح الإيمان، وقال أحدهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، سرت الروح في جسمه، العين تبصر، الأذن تسمع، اللسان ينطق، اليد تأخذ وتعطي، والرجل تمشي؛ وذلك لكمال حياته.
فمن هنا نادانا مولانا تسعين نداءً، استولت هذه النداءات على كل متطلبات حياتنا نحن المسلمين، حياة السعادة والكمال، ومع الأسف ما عرف هذا المسلمون، ولا دروا ما به وما فيه، وها نحن مع هذا النداء، وهو آية واحدة، فلنتدبر ما يحتوي عليه هذا النداء.
فدعاء من لا وجود له، ودعاء من لا يسمع دعاءٌ غير معقول ولا مشروع، ولا يصح عقلاً، وكذلك دعاء من لا يقدر على إعطائك ما تطلب لا يجوز، ويكون دعاءك عبثاً، ودعاء من لا يقدر على إنقاذك وتخليصك من محنتك لا يجوز.
فإذا مررت أمام منزل خرب وليس فيه سكان، ورأيت فقيراً ينادي: يا أهل البيت أطعموني، يا أهل الدار إني جائع، ظمآن، أنقذوني، ستقول لهذا الفقير المنادي: يا عبد الله! البيت خرب ليس فيه أحد، ولو تبيت طول الليل تنادي لن يسمعك أحد، اذهب إلى البيت الذي فيه أهله يسمعون ندائك ويعرفون حاجتك، ويقدرون على إنقاذك وإعطائك.
ومن صور هذا النداء في حياتنا، نداء الذين يقفون أمام الأضرحة والقباب وقبور الصالحين وينادون ويستغيثون ويطلبون، حالهم كحال هذا الفقير الذي أمام بيت خرب ليس فيه سكان وهو ينادي ويطلب، فلا فرق بينهما؛ لأن الميت لا يسمع.
مثلاً: لو فرضنا أنه سمعك عبد القادر أو فلان أو فلان.. في قبره فلن يمد يده لك بالعطاء، ولن يقدم لك كلمة ينصحك بها. فسؤاله إذاً لعب وعبث، ومع هذا ما زال بعض المسلمون إلى الآن يستغيثون ويدعون وينادون أمواتاً، غير أحياء؛ بسبب الجهل وظلمته، فلم يعلمهم أحد، ولم يجلسوا بين يدي أحد من العلماء يعرفهم بربهم حتى يعرفوه حق معرفته. فماذا ترجو منهم؟ فلابد من هذا التخبط والجهل والضلال، فمن أراد إنقاذهم فليعمل على جمعهم بين يديه وتربيتهم، وبعد ذلك يتأكد أنهم لا يدعون غير الله، ولا يستغيثون بسواه أبداً؛ علموا.
يا من آمنتم بالله رباً وإلهاً! وآمنتم بالقرآن كتاباً يحمل الهدى والنور! فاستنارت قلوبكم وعرفتم الطريق إلى ربكم، من خلال ما حواه هذا الكتاب المنير، هذا النور الإلهي، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8].
يا من آمنتم بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً! مرسل إليكم ليعلمكم ويبين لكم الطريق، ويهديكم إلى سبل نجاتكم وسلامتكم.
- صبر على طاعة الله ورسوله في الرخاء والشدة، في اليسر والعسر، في الغنى والفقر، في الحرب والسلم، بحيث لا تسمح لنفسك بأن تعصي الله ورسوله بترك واجب أوجباه، وعلمت أن هذا الأمر واجب الفعل ويحرم تركه؛ لأنه يزكيك ويهيئك لسعادتك، تركه يرديك ويشقيك، فالنفس تتململ وتتضجر إذا لم تحملها على أن تصبر.
فلابد إذاً من أن تصبر وتأمر نفسك بالصبر على طاعة الله بفعل ما أمر به وأوجبه من العقائد والأقوال والأفعال والصفات والذوات، حبسها على الصلاة لا تفارقها، حبسها على بر الوالدين لا تعقهما، حبسها على ملازمة ذكر الله ما تتركه، جاهد والزمها ذلك هذا موطن، صبر دون معاصي الله والرسول، فالمعصية لا تقربها.
والمعاصي: ما حرم الله ورسوله من زنا، من ربا، من عقوق الوالدين، من الغيبة، من النميمة، من الخيانة، من الغش، من الخداع، من الكبر، من العجب، أنواع المحرمات.
فعبد الله المؤمن مأمور أن يحبس نفسه دون تلك المعاصي، ولا يأذن لها ولا يسمح لها أن تقرب معصية من تلك المعاصي، فكما تحبس طفلك في البيت حتى لا يخرج، وكما تحبس دابتك حتى لا تهرب كذلك تحبس نفسك؛ حتى لا تعدو إلى تلك المعصية فتقارفها، فحبس النفس دون معاصي الله ورسوله تتململ النفس وتتضجر وتدفعك وتحاول أن.. وأنت كالأسد لا تبال بتخبطها وحيرتها وشهواتها وأهوائها.
ولا تقل: هذا متعذر، فالفعل قد تعجز عنه، أما الترك ففي الترك راحة، فلو أمرت أن تشرب محرماً هذا فعل صعب، فلن تستطيع أن تشرب سم، لكن كون قيل لك: لا تشرب، أي كلفة في لا تشرب؟ في الترك راحة يقينية، لكن الفعل قد يحتاج إلى جهد وبذل طاقة.
وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا، فقال: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )، أي: ما أطقتم وقدرتم على فعله، وما عجزتم عنه فليس عليكم شيء، ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه )، معنى: (اجتنبه): لا تُقبل عليه، اجعلوه جانبك، لا تُقبل عليه بوجهك لتأتي وتفعله، اجعله جانب من جوانب الحياة. ولم يقل: وما نهيتك عنه فاجتنبوا ما استطعتم، فلن يقول هذا عاقل؛ لأن الترك فيه راحة.
فلما تجلس مع إخوانك، هل ستشعر بالإعياء والتعب والمشقة إذا ما اغتبت فلان، وقلت: فلان صفته كذا.. وسلوكه كذا.. كذا.. كذا..؟ نعم ستجد المشقة حين تلزم الصمت، أما أن تترك ففي الترك راحة.
( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه )، والله عز وجل يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وبيان ذلك: دعينا إلى الجهاد، فالمريض والأعرج والأعمى لا يجب أن يخرجوا للجهاد؛ لقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور:61]، وهذا في الجهاد فقط.
وفي الإنفاق: فصاحب المليون ينفق الألف، وصاحب الألف ينفق الريال، والذي لا ريال له لا يجب عليه شيء؛ لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
وهذه الصلاة عماد الدين، معراج السمو والرقي إلى لملكوت الأعلى، فإذا كنت قادراً على أن تصلي قائماً صليت قائماً، فإن مرضت صليت قاعداً، فإن عجزت عن القعود صليت على جنبك، وبهذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنها الصلاة مناجاة الرحمن عز وجل.
هناك كلمة؛ عسى الله أن ينفع بها -وإن لم أنتفع أنا بها- فمن منا يدخل في الصلاة يعلم ويشعر -حقيقة- أنه يتكلم مع الله، ويجد لذة كما يتكلم مع فلان؟! هذه ألهمتها وأنا أبكي، ومن ثم عرفنا ما علة هذا الجفاف، فلما تتكلم مع شخص، كيف حالك وأنت تتكلم معه؟ فهل يكون قلبك هنا أو هناك، ويخطر ببالك شيء وأنت مقبل تطالبه: يا فلان لا تقعد هنا، يا فلان لم ما جئت؟!
فالذي يصلي ولا يشعر بهذا الشعور وأنه يتكلم.. والله يسمعه وبين يديه، ما يجد فائدة في صلاته، ولا لذة لها ولا قيمة، وهذا الذي أصابنا وما شعرنا به. كيف أنا أتكلم معه ولا أشعر أنه يسمعني ولا أتأدب معه في مكالمته؟!
كلنا نصلي وكأن الله غائب عنا، وإن كنا نعلم أن الله نصب وجهه لنا، لكن ليس شعور حقيقي بأننا نتلذذ بالكلام معه عز وجل، ولا نفرح ونسر أننا نتكلم معه عز وجل.
قال تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [آل عمران:199]، خشع: أي: ذل وانكسر واضطرب، وتحرك جسمه وارتعد؛ لأنه بين يدي الجبار، بين يدي الواحد القهار، فهل عاملنا الله بهذا الخشوع؟
فلهذا فقدنا سر هذه الصلاة، وأصبح الجفاف واليبوسة كأننا ما نصلي، كالذي يأكل وكأنه ما أكل، شرب وكأنه ما شرب.
قال تعالى: خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:199]، أي: لا يبيع دينه بدنياه، ولا يبيع آخرته بحياته ودنياه، ما يبيع الآخرة بالدنيا، سواء كان يفتي بالباطل من أجل أن يأخذ ثمن على فتاواه، أو يزين للناس الباطل والحرام؛ من أجل أن يرضوا عنه ويوافقوه على ما يريد، كمن يقبل على دنياه فيستحل محارم الله عز وجل، اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً؛ لأن آيات الله أحكامه وقوانينه وشرعه.
ومن مواطن الصبر على الابتلاء، إذ ما منا أحد إلا ويبتلى طال الزمان أو قصر، يقول تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]، أي: اختباراً، وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، حسبانهم باطل.
الصبر هنا: على البلاء، فإن كان فقراً اصبر عليه، ولا تمد يدك إلى مال أخيك، أو مال عدوك، لكونك فقيراً أو محتاجاً، تسرق وتغصب وتسلب وتأخذ، ما صبرت، ابتليت بالمرض، لا يسمع الله منك كلمة تدل على عدم رضاك بالله وما ابتلاك به، لا تقل: إلا الحمد لله، سواء اشتد الألم أو عظم أو خف وهان، أنت ذاك عبد الله، فلتكن نفسك راضية مطمئنة بما ابتلاك الله به، ولا مانع أن تتناول الأدوية المأذون فيها، المشروعة، متوكلاً على الله، وأنت تعلم أن الشفاء بيد الله، إن شاء شفاك، وإن شاء لم يفعل، هو العليم الحكيم، لكن تسخط وتصرخ وتقول: و.. و.. هذا الضجر والسخط يتنافى مع الصبر على البلاء.
قد تبتلى بموت أعز عزيز لديك، فلا يسمع الله منك كلمة تسخط، ولا تضجر ولا تململ، ولكن قل: إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله، فهذه هي الكلمة التي لا تفارق المؤمن، وهو يعلم أن السخط والتضجر لا يفيدانه شيئاً، ولا يغنيان عنه من الله شيئاً، الأمر الذي ينتفع به ويكتسب الخير، هو أن يفوض الأمر لله، ويقول: حسبي الله ونعم الوكيل، إنا لله وإنا إليه راجعون، فالذي صبر في هذه المواطن الثلاثة أصبح أكمل الناس.
صبر على الطاعة ما رأيته يعصي الله، لا بفعل.. لا بترك ولا بفعل.
صبر على البلاء كيف ما كان، فقراً أو مرضاً أو موتاً أو غربة أو تعباً أو مشقة أو عمل دائماً كلمة: الحمد لله لا تفارقه.
وهذه ميزة لهذه الأمة منذ أن كانت تعرف هذه الأمة في الكتب الأولى في الإنجيل والتوراة، تعرف بأمة الحمد، فلو سألت يهودياً أو نصرانياً، فقيراً أو مريضاً: كيف حالك؟ فلا يعرف كلمة (الحمد لله) ولا يسمع بها. ولو سألت مؤمناً وإن كان عامياً: كيف حالك؟ يقول لك: الحمد لله، فلا تفارقه، فالحمد والثناء والجمال لله عز وجل.
اللهم ثبتنا على الصبر.
ويرى: أن عنترة بن شداد العبسي المعروف عند العرب والعجم شاعت شهرته وطار صيته في العالم في بطولته، ما بارزه ولا قاتله بطل إلا هزمه، فسألوه يوماً: ما سر هذه البطولة وهذا الانتصار؟
قال لهم: كل ما في الأمر أنني أصابره حتى ينهزم. لا أقل ولا أكثر، كلما أشعر بالضعف أتقوى بالصبر، وهو كل ما يشعر بالضعف يتقوى ثم ينهزم أضربه.
فهذا عنترة بن شداد العبسي مضرب المثل في البطولة، فسألوه: كيف تنتصر دائماً؟
قال: ما هناك شيء أتفضل به على غيري، عضلاتي، بنيتي، بدني كغيري، أضعف من كثير من الذين يقاتلهم، كل ما في الأمر: أنني أصابرهم كلما يحاول نحاول نحاول.. نصبر فينهزم قبلي، لما يضعف أضربه وأنتصر عليه، هذه حقيقة.
وقوله تعالى: وَصَابِرُوا [آل عمران:200]، هنا: المصابرة في وجه العدو، وأعداؤنا هم: الشهوة العارمة، والنفس الأمارة بالسوء، والدنيا بزخارفها وألوان متعها، وأبو مرة إبليس عليه لعائن الله أكبر هذه الأعداء، يقول تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ [فاطر:6]، أي: اجعلوه عدواً حقيقاً.
(وَصَابِرُوا)، هذه في حال السلم، لسنا في صراع بين المشركين والمؤمنين، فليس هناك حرب بيننا وبين الكافرين، ولكن هنا نصابر الشهوات العارمة، ونهزمها، وما تدفعنا وتهزمنا لأن نرتكب الخبث والمعصية والجريمة، نصابر الدنيا الغرارة، الخداعة بزخارفها، لا تعمينا ولا تصمنا ونعرف حقيقتها وزوالها وخبثها، ولا نبالي بها، ولا نعصي الجبار من أجلها، ولكن نعصي النفس الأمارة بالسوء، كل ما تزين لك قبيحاً شينه في وجهها، وكل ما تميلك إلى كذا مل إلى كذا وتخل عنها حتى تمد عنقها وتستسلم، جاهد، صابر.
إذا الشيطان زين لك كلمة وحسنها لا تقلها، وحسن لك لقمة لا تلقمها ولا تبتلعها فهو عدوك، فهنا الميدان ميدان مصابرة، ومصابرة الميدان الجهاد ضد الأعداء، وهم الكفار فكلهم أعداء الإسلام والمسلمين، أهل الكتاب والمجوس، والمشركين والملاحدة والبلاشفة وكل الدنيا، فكيف نصابرهم؟
أولاً: إذا أعلنت الحرب ودخلت قواتنا أو رجالنا الميدان لا ننهزم، ولا نعطيهم ظهرونا، ولا نوليهم أدبارنا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [الأنفال:15]، لم يقل: لا تعطوهم ظهوركم، ولكن جاء بكلمة ما يطيقها الحر، فلا تعطوهم أدباركم، وتفرون أمامهم وتعطوهم ظهوركم.
فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الأنفال:15-16]، اللهم إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16]؛ تحقيقاً لمبدأ (وَصَابِرُوا)، فكيف تنهزم أمامهم وأنت ترغب في الاستشهاد والموت، وأنت تريد السماء، والملكوت الأعلى والدار الآخرة، وهذا الحيوان الميت أمامك، كيف تنهزم أمامه؟!
وهنا من ذكريات التاريخ لطيفة، مسجل عند الأوروبيين أيام بداية العثمانية، حاملة راية الإسلام وهي تفتح في شرق أوروبا وتغلغلت إلى البوسنة والهرسك -كما تقولون-، يقولون: كان الجندي العثماني يربط نفسه مع المدفع، ويضرب.. ويضرب .. حتى تنفد الطلقات، فيأتي العدو فيقتله وجهاً لوجه، ولا يعطيه دبره؛ عملاً بقول الله تعالى: فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [الأنفال:15]، حتى أصبح يضرب بهم المثل في القوة، أتاتورك القوة التركية، أيام كان الإسلام يعمر قلوبهم وفاضت أنواره على كل أحاسيسهم ومشاعرهم، عرف هذه العدو فكاد لنا ولهم، فأهبطهم إلى الأرض، وأفقدهم الإيمان، وأفقدهم المعرفة بالله، وهو كما تشاهدون.
(وَصَابِرُوا): حرام عليك أن تنهزم، فالمسلم ما ينهزم، أمره الله أن يصابر عدوه حتى يستشهد أو يقتل عدوه، هذا في كل ساحات المعركة، (وَصَابِرُوا) عدوكم تغلبوه بالصبر، فتغلبوه في الحرب.
وكم من تراهم ذاهبين وراجعين لا أجرة ولا وسام ولا شرف، فقط في سبيل الله، ويتخرجون ربانيين الذي ينقطع إلى الله في الليل والنهار، في مكان لا زخرف فيه ولا طعام ولا شرب، لمدة أربعين يوماً يصبح ولي الله.
هذا الرباط الآن انتهى، لكن حل محله الثغور، جمع ثغرة، الثكنات جمع ثكنة، فمع من نتكلم؟ مع ثلاثة وأربعين دولة. من قسم المسلمين؟
فكيف دولة الإسلام تصبح نيفاً وأربعين دولة؟! أأذن الله في هذا؟ أهذا يسعدنا؟! أهذا يعزنا؟! أهذا يحفظ ديننا؟! والله ما كان في الكل.
فالثالوث الأسود هو الذي فرقنا وشتتنا، حين مددنا أعناقنا واستجبنا له، الجهل هو جهلنا أولاً، واليوم كنت أسمعكم القانون تفسير القرآن صوابه خطأ وخطؤه كفر، إياك أن تقول قال الله، فحرموا أمة الإسلام من كتاب ربها، وإذا لم تهتد أمة الإسلام كتاب الله وسنة رسوله، فإلى ما ستهتدي؟ فلا توجد الهداية والنور إلا في القرآن الكريم.
فتأمروا على القرآن الكريم وحولوه إلى الموتى، فكنت لا تسمع القرآن يقرأ إلا في بيت الميت فقط، حتى أصبحت العاهر البغي إذا ماتت في دار البغي أو البغاء، يؤتى بأهل القرآن ويقرءون ويأخذون الطعام والفلوس.
فهل هذه هي أمة الإسلام؟ وإن عجبت وقلت: كيف؟
الجواب عندنا بسرعة: فقد استعمرتنا أوروبا وأذلتنا كيف حكمنا الكفر وسادنا؟! فهل نحن ربانيون أولياء الله؟! لا والله! ما كان هذا، وأماتونا بهذا السحر العجيب.
اللطيفة: ذكر الشيخ رشيد رضا في المنار عند قوله تعالى: يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:199]، قال شيخ من كبار علماء الأزهر، سمتاً واستقامة وصلاحاً وعلماً أعلن في مجلس الأزهر، قال: الذي يدعي أنه يعبد الله بالكتاب والسنة زنديق. فلا يتعبد الله إلا بالفقه وما دونه علماء الإسلام الفقهاء، أما الذي يدعي أنه يعبد الله بالكتاب والسنة زنديق، في أعظم مجلس في العالم الإسلامي.
رد عليه الشيخ، قال: الذي يدعي أنه لا يعمل بالكتاب والسنة زنديق، وقلنا: والله! زنديق؛ تأييد للنظرية الأولى تفسير القرآن خطأ، صوابه خطأ وخطأه كفر، ما تقول: قال الله وقال رسوله، قال سيدي فلان، قال شيخنا، قال كذا.. فأماتوا الأمة، وقطعوها عن الروح والنور، وماتت كما علمتم وشاهدتم.
(وَرَابِطُوا)، الآن نقول: يجب على هذه الدويلات أن تجتمع وأن تبايع إماماً واحداً، وأن تكون الدويلات ولايات، والمسئولون فيها إن كانوا صلحاء يكونون ولاة، وإمام المسلمين واحد، وحدود المسلمين شرقاً وغرباً هي ديارهم، ثم في تلك الحدود تقام الثكنات، ويرابط رجال الإيمان والإسلام.
فالآن لا يوجد سيف ورمح، بل يوجد الصواريخ الممتازة، والطائرات النفاثة، الهياجة، السلاح المدمر، ذاك الذي يكون في حدود ديار العالم الإسلامي، ويجب أن نكون أكثر منهم عتاداً وسلاحاً، وما اشتريناه اليوم نصنعه غداً، ويجب وإلا ما أطعنا الله في قوله: (ورابطوا)، فأي رباط هذا؟ فلو تريد أوروبا أن تحتل أي دولة إسلامية لاحتلتها خلال أربعة وعشرين ساعة، فالأمة مفرقة وممزقة، وتمزقت عقيدتها وسلوكها وآدابها ولا يلام أحد على آخر، تدبير الله فقط.
فيجب أن نعلم أننا عصاة فاسقون عن أمر الله، إذا لم نصبر، إذا لم نصابر، إذا لم نرابط فهذه أوامر الله.
وَاتَّقُوا اللَّهَ [آل عمران:200]، كيف نتقي الله عز وجل وهو العلي الأعلى وأنت العظيم، فلا قدرة لنا على أن نتقي غضب الله وعذابه، فتقوى الله بمحبته ومخافته، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يطعم ويسقي، ويحفظ ويكلأ وخلق كل شيء من أجلنا، وبيده سبحانه كل شيء، فهو الذي يسلب الحياة والمال.
فاتقي الله يا عبد الله! بأن تحبه وتخافه، فلا تخرج عن طاعته.
فالذي لا يعرف محاب الله، ولا كيف يؤديها لله، ولا يعرف مساخط الله يستحيل أن يكون من المتقين، فلابد من العلم، فإذا لم تعرف ما يحب الله من الاعتقاد والقول والعمل، والصفات والذوات، إذا لم تعرف ما يكره الله ويغضب من أجله من السلوك، من النيات، من الأقوال من الأعمال، فكيف إذاً ستتقي الله عز وجل؟
لابد إذاً من العلم، قولوا: يكفي ما نحن عليه، أين آثار العلم؟
نعود من حيث بدأنا إن أردنا أن نعود، قف يا عبد الله! وانظر إلى هذا المجلس، من صلاة المغرب إلى أذان العشاء ورجالنا، ونساؤنا وأطفالنا مصغين يستمعون، كل ليلة وطول العام في كل قرية في كل حي في العالم الإسلامي، هذا والله طريق العلم والحصول عليه.
أهل القرية ينتدب بعضهم بعضاً هيا نعود إلى الله عز وجل، إلى متى ونحن في هذا العار والخزي والبوار؟!
يا معشر إخواننا! لا يتخلف من غد أحد عن المسجد، حان وقت الساعة السادسة أخذ المسلمون يحملون نساءهم وأطفالهم إلى بيت ربهم، في كل حي وفي كل قرية، في المملكة، في الجمهورية.. لا تجد شخص إلا وهو في بيت ربه يتعلم الكتاب والحكمة، فهل سيبقى جاهل أو جاهلة؟
بدون قلم ولا كتاب، عرفوا وإذا عرفوا يرضون بأن تأكلهم النار، ويحل بهم الخزي والعار؟
والله! ما يرضون من عرف ما يقبل التلوث بحال من الأحوال، ومن ثم لا زنا، ولا خيانة، ولا كذب، ولا سرقة، ولا عجب، ولا سخرية، بل صفاء، وطهر كامل، ما شاء الله، آمنا بالله، ما دفعنا شيئاً.
وَاتَّقُوا اللَّهَ [آل عمران:200]، نتقي الله عز وجل بمعرفة ما يغضبه وما يسخطه، وما يرضيه ويحببه، معرفة علمية ونأخذ بالعمل، وبذلك نصل إلى مستوى: (أني اتقيت عذاب الله وسخطه).
وفي الآخرة: البعد عن عالم الشقاء، النار -والعياذ بالله-، ودخول الجنة دار الأبرار، قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
وصلِّ اللهم على نبينا محمد وآله وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر