إسلام ويب

تفسير سورة آل عمران (82)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • وعد الله عز وجل عباده المؤمنين إذا اتقوه سبحانه بفعل ما أمر به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، وعدهم سبحانه بأن يدخلهم جناته التي أعدها للمتقين، ومن وصف هذه الجنات أنها تجري الأنهار تحت أشجارها وبين قصورها ومنازلها، وهذا الوعد يشمل حتى من كانوا من أهل الكتاب، فآمنوا بالله سبحانه، وما أنزل إليهم من قبل عن طريق أنبيائهم، ثم آمنوا بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، حيث وعدهم الله عز وجل بالأجر العظيم في الآخرة.
    الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، الحمد لله أن أهلنا الله لهذا الخير الكثير، اللهم لك الحمد ولك الشكر.

    وهانحن مع هذه الآيات الست والتي ابتدأنا دراستها في آخر يوم من أيام دراسة القرآن.

    هيا نتلو هذه الآيات متبركين بتلاوتها، طالبين المثوبة عليها، راجين فهمها والنور التي تحمله؛ ليكون في قلوبنا.

    سبق أن قلت -للسامعين والسامعات-: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام آخر الليل للتهجد يتلو هذه الآيات العشر )، ورغبتكم في تلاوتها، والله أسأل ألا يحرم منها سامع ولا سامعة.

    وذكرنا حديث عبد الله بن عباس في الصحيحين: ( نام ليلة عند خالته أم المؤمنين ميمونة

    رضي الله تعالى عنها وأرضاها؛ من أجل أن يرقب صلاة رسول الله في الليل كيف يصلي؟ وكم يصلي؟ ومتى يقوم يصلي؟ وعبد الله بن عباس

    لم يبلغ الحلم بعد
    )، ما زال غلاماً صبياً.

    وبالفعل ما إن استيقظ الرسول في جحر الليل حتى رفع طرفه إلى السماء، وتلا هذه الآيات العشر: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [آل عمران:190] إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200] ختام السورة الكريمة.

    يتلو صلى الله عليه وسلم هذه الآيات بالذات وكل ليلة؛ لما تحمله من أنوار الهداية الإلهية، فهيا نتلوها، ثم نأخذ في شرحها وبيان ما تهدي إليه.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:190-195].

    قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ [آل عمران:190] لمن؟ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190]، فمن لا لب له لا نصيب له في هذه الآيات.

    واللب: القلب الحي الذي يعي ويفهم، ويتصل ويراسل ويتلقى لكامل حياته، وهم: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:191] ويقولون: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:190-195]، اللهم اجعلنا منهم.. اللهم اجعلنا منهم.

    فهؤلاء يعيشون مع الله عز وجل، ولا يعيشيون مع الطبول والمزامير، ورقص العواهر.

    فبأصابع الثالوث تحولت بيوت أكثر المؤمنين إلى مباءات الشياطين، فرحلت الملائكة الأطهار، والرسول الحكيم المعلم والمبلغ صلى الله عليه وسلم يقول في وضوح وصراحة: ( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة )، والصورة معلقة في الجدار لغاية ومهمة، لستر النافذة وما فيها، فيقول: ( يا عائشة

    ! أزيلي عني قرامك فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة )، والذي يجلس وعاهر تغني أمامه وامرأته تشاهد، وبناته عوانس يشاهدن، وأولاده بالغون في سن المراهقة ويشاهدون، كيف يجوز هذا؟!

    أقسم بالله! لو أجبر مؤمن على هذا لوجب أن يهاجر، ولا حل له المقام هناك، ولكن من جبرنا؟

    فقط اتبعنا الهوى وجرينا وراء وساوس الشياطين.

    قرأنا اليوم في صحيفة معروفة تقول: إحصائيات في أمريكا في السنة الواحدة نصف مليون فتاة تغتصب، ويزنى بها وتفجر. وهذا الذي ضبط بواسطة الشرطة ورجال الدرك، نصف مليون امرأة تغتصب وتضرب.

    فهل يجوز الاقتداء بهم، والائتساء بحياتهم، والتنزل بباطلهم؟!

    وإن قالوا لكم: يجوز فإلى أين سنصل؟ فهل سنصبح كالملائكة في الطهر والصفاء؟! أو كأولئك الأسلاف الأطهار، نعيش على الحق والعدل والفضيلة والطهر والصفاء؟!

    والله! ما كان شيء من هذا إلا الانتكاس والهبوط حتى نصبح أرذل الناس وأخسهم.

    فبدل ما يقرأ في البيت كتاب الله وتتلى فيه آياته، والأم تبكي والأب يمسح دموعه، والابن يقرأ، أو الأب يقرأ والأولاد يبكون، والبيت كله نور ورحمة، فتمتلئ قلوبهم بالنور فلا شره ولا طمع ولا تكالب على أوساخ الدنيا وقاذوراتها.. يحول إلى مباءة للفساد، الأضاحيك والسخرية، والشره والطمع، وعدم الشبع؛ لأنهم فتحوا أبواب الفتنة لأنفسهم، فاللهم لك الحمد أنك ما أكرهت مؤمناً ولا مؤمنة، ولا سلطت عليهم أن يكرهوهم، ولكن مدوا أعناقهم للشياطين وأصبحوا يمتثلون أوامرهم ويطبقون ما يأمرونهم به ويفعلون.

    أقول: إذا قال قائل: ماذا هناك؟ لماذا هذا الجمود وهذا الركود وهذه اليبوسة؟ لم ما نرقص كما يرقصون؟ لم ما نشاهد كما يشهدون؟

    نقول: نتحداكم، إن كانت هذه المناظر والمظاهر تنتج خيراً تقدموا.. فلو أن شخصاً قوت عائلته مرتبط بهذا التلفاز في بيته، نقول: يطلب قوته. ولو أن شخصاً بنظره هذا يزيد بصره وتقوى حدته ويصبح ذا عينين.. نقول: لا بأس حتى يرى المنكر ويرى المعروف، ولو كان هذا يزيد في الطاقة البدنية ليصوم ويقوم ويرابط نقول: له ذلك.

    ما الذي ينتجه؟ إلا أن نغضب الله ورسوله والملائكة.

    أعوذ بالله.. أعوذ بالله! فأي مؤمن يرضى بهذا؟ فوالله! لا وجود له.

    ذكرت: أنه في الشهر الواحد (عشرة آلاف جريمة) ترتكب في فرنسا.. فنجري وراء ماذا؟ ونقلد من؟

    دلالة المخلوق على وجود الخالق وقدرته وعلمه عز وجل

    فهيا نتدبر الخبر الإلهي: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ [آل عمران:190] جمع آية، بمعنى: العلامة الدالة على شيء حق وصدق، فإيجاد هذه السماوات السبع وهذه الأرضين وما في الكل من هذه المخلوقات أوجدها الله سبحانه وتعالى.

    إذاً تعرفوا على الله واسألوا عنه وأحبوه لجلاله وكماله، وخافوه لقدرته وعظمته، فإن في هذه المخلوقات آيات أكثر وضوحاً من الشمس دالة على وجود الرب الخالق، وعلى قدرة لا يعجزها شيء، وعلى علم أحاط بكل شيء، وعلى حكمة لا تفارق شيئاً، وعلى رحمة لا يخلو منها شيء، فكيف لا نعرف الله؟!

    وقوله تعالى: لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] وهم: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا [آل عمران:191]. (أولي الألباب) أي: أولي القلوب الحية، فالقلوب منها منتكس لا يعي ولا يفهم، ومنه يتلقى ويأخذ ويعطي، كالجهاز المادي للإرسال والتلقي، وإذا فسد مات.

    فهذه القلوب التي أصحابها يشاهدون الآيات في الكون فيعظمون الله ويبكون بين يديه، ويلجئون إليه، ويعتصمون بهذا الرب العظيم؛ لأنهم أصحاب قلوب حية، عرف هذا العدو فقال: لأفسدن قلوبهم، حتى أتركهم كالبهائم ينزو بعضهم على بعض. فأفسدوا القلوب بالدعاوى والأباطيل والتحسين والتزيين والصور و.. و..، حتى هبطوا بهذه البشرية إلى مستوى البهائم، فنصف مليون امرأة يفجر بها بالقوة وتغتصب، أبعد هذا نقول شيئاً؟!

    فعن السرقة والتلصص والقتل والإجرام، والكذب والخيانة، وخلف الوعد لا تسأل.. هبطوا إلى الأرض، وهذا من فعل اليهود، فالمسيحية كانت راقية، وكان أهلها يخافون الله ويبكون من خشيته، ويحبون في الله، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:82-83].

    فاليهود هم الذين أفسدوا النصارى.. فثلاثة أرباع النصارى هم بلاشفة حمر ملاحدة لا يؤمنون بالله ولا بلقائه؛ فلهذا يرتكبون هذه الجرائم.

    فجاء حاكم فرنسي إلى قريتنا حين كنت صغيراً في السن وامرأته والله! على وجهها النقاب الخفيف كالذي على نسائكم.

    الجيش المكون من المستعمرات.. العسكري المسلم على رأسه طربوش أخضر حفاظاً على دينه، والله العظيم! والعسكري الكافر برنيطة على رأسه، ولا ألزموا ولا أجبروا المسلمين أن يتزيوا بزيهم. فقد كانوا يفهمون معنى الدين، لكن اليهود هم الذين مسخوهم؛ من أجل أن يعلو فوقهم ويسودوا ديارهم وأرواحهم؛ ومن أجل أن تعود مملكة بني إسرائيل.

    فمن الليلة أرجو من السامعين والسامعات ألا يبيت أحداً والتلفاز في بيته، فالليلة يقرأ القرآن في البيت ويتلى كتاب الله وتجتمع الأسرة: أسمعنا يا أبتِ شيئاً من القرآن، أو أسمعيني يا أماه أو يا أختاه.

    يقرأ القرآن في البيت ويسمعون؟! الله أكبر. فلا مزامير ولا أغاني ولا رقص ولا.. ولا..؟ فهم إذاً مسلمون، أسلموا لله قلوبهم ووجوههم، فلا يحبون إلا ما أحب الله ولا يكرهون إلا ما يكره الله.

    قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وإيجادهما وفي أجزائهما ومكونات وجودهما آيات وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ؛ لحكم عالية ولقدرة عظيمة، سبحانك ما خلقت هذا باطلاً!

    الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191].. إذاً كيف يجلسون أمام تلفاز ويسمعون مغنية؟!

    (يذكرون) بصيغة المضارع دائماً وأبداً، (قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم) إذاً: كيف يوجد الباطل في بيوتهم أو مجالسهم؟!

    الذين يذكرن الله بقلوبهم وألسنتهم أو بقلوبهم مرة، وبألسنتهم وقلوبهم مرة أخرى على كل أوقاتهم قائمين كانوا أو قاعدين، أو نائمين على جنوبهم، موصولون بالملكوت الأعلى، فهل هذا مستحيل؟!

    فلم يستطع أحدنا أن يخلو مع ذكر الله ساعة، بل دقائق إما بقلبه ولسانه أو بقلبه أو بلسانه، وإن كانت الآية تدل على الصلاة عند الحاجة إليها إذا عجز، يصلي قاعداً أو جالساً، لكن ليست في هذا، فهذا عام، يذكرون الله قياماً في كل أوقاتهم.

    وهذه الصديقة عائشة تقول: ( كان الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحايينه )، وهذا شأن المؤمنين، تمشي معه تتحدث وتذكر الله عز وجل.. تجلسون تذكروا الله عز وجل.. تتناولون الطعام والشراب تذكرون الله.. تفترقون تذكرون الله..

    وجوب الجمع بين ذكر الله والتفكر في مخلوقاته عز وجل

    قال تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:191] ليسوا كالبهائم.. فهؤلاء يتفكرون بقلوبهم وعقولهم في خلق السماوات والأرض، فهذه الأجرام، وهذه الأفلاك، وهذه الأنوار، وهذه الأمطار، وهذه الكائنات.. من أوجدها؟ لم أوجدها؟

    فيزداد إيمانهم ويرتفع منسوبه إلى درجة اليقين وإلى عين اليقين، إلى علم اليقين حتى يصبحوا موقنون وكأنهم مع الله، ويقولون بعد التفكر وبعد النظر: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا [آل عمران:191] أي: لهواً ولعباً، باطل بلا فائدة، وبلا نتيجة، وبلا مقصود حاشى لله عز وجل.

    قالوا: سُبْحَانَكَ [آل عمران:191] تنزيهاً لك وتقديساً عن كل ما هو نقص وأنت العلي الكبير.

    (سبحانك) أي: ننزهك يا ربنا عن العيب والنقص والعجز، واللهو واللعب والباطل، أن تخلق هذه العظائم في المخلوقات لا لشيء إلا لمجرد اللهو واللعب! حاشاك. ننزهك ونقدسك.

    ثم قالوا له: فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191]، فبناءً على إيماننا ويقيننا وعلى عظمتك وجلالك وعلى إنعامك ورحمتك وإفضالك (قنا عذاب النار) لا تعذبنا به.

    آمنوا بالعالم الثاني ذو الشقين: علوي هو دار السلام، وفيه النعيم المقيم، وسفلي هو دار البوار والجحيم وفيه شقاء وعذاب أليم.

    آمنوا فقالوا: فقنا عذاب النار.

    فهم مع الله، فلا جلسوا ولا سكتوا إلا وهم يذكرون الله، فقالوا: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ [آل عمران:192]، فلو قيل: لم يقيكم عذاب النار؟ لم تسألونه أن يحفظكم وأن يبعدكم عن عذاب النار؟

    قالوا: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192]، فالعاقل لا يرضى بالخزي، والحي الذي يعي ويفهم ويصير وهو من أصحاب الألباب لا يرضى بالخزي.

    وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران:192]، هذا كلام من عندهم يذكر الله لنا.. و(ما للظالمين) بالشرك والكفر والإجرام، والذنوب والآثام؛ لأن الظالم هو الذي يضع الأشياء في غير موضعها.

    فالظلم: وضع الشيء في غير موضعه، فالذي يعبد غير الله بالاستغاثة والنداء والتقرب إلى هذا المخلوق، ووضع العبادة في غير موضعها، وأخذها من الله وهو المستحق لها؛ لأنه الخالق المدبر الحكيم، وأعطاها لـعبد القادر الجيلاني أو عيسى ابن مريم يكون هذا ظالم.

    ومثله بيت المؤمن.. فبدلاً من أن يذكر فيه الله ويتلى فيه كتابه، ويتحدث فيه عن الدار الآخرة وكمالها وجمالها، يأتي بعاهرة ترقص، ومغني يغني، وكافر يلوي رأسه ويتبجح، ونساء المؤمنات يشاهدنه! أعوذ بالله!

    لقد عاش المسلم قروناً ما يسمح لامرأته أن تفتح عينيها في رجل ينظر إليها، والحجاب ضرب حتى لا ترى المرأة، فكيف إذاً نأتي بشر الخلق وتعايش معهم وتضحك بأضاحيكهم؟!

    على كل فهذا حال ومكر اليهود فقد مددنا أعناقنا؛ لأننا ما قرأنا هذه الآيات ولا اجتمعنا عليها ولا سألنا ما معناها.

    رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا [آل عمران:192-193] قالوها صراحة ودعاهم رسول الله إلى الإيمان، وأنبياء الله، وأولياء الله، وكتب الله، وأعظمها القرآن الكريم: سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا [آل عمران:193] (أن) تفسيرية.

    أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ [آل عمران:193] أي: بخالقكم ورازقكم ومولاكم فَآمَنَّا [آل عمران:193]، فبناءً على هذا: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران:193] فهؤلاء يتحدثون مع الله عز وجل، بلا حجاب ولا فاصل، وقصه الله علينا كما هو بالحرف الواحد، وهذا هو الإيمان اليقيني.

    فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا [آل عمران:193] الذنوب: جمع ذنب، الخطيئة التي يؤخذ بها العبد، كما يؤخذ الحيوان من ذنبه، والسيئات ما أساء بقول أو عمل إلى نفسي أو إلى غيري.

    فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا امحها.. استرها وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا أي: امحها ولا تذكرها لنا؛ حتى نتهيأ لدخول الجنة.

    ومطلب آخر: وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران:193]، فالذي يذهب إلى نيويورك أو إلى باريس أو إلى لندن فقط للترفه والحياة الطيبة -كما يقولون- فهذا لا يريد أن يموت مع الأبرار، بل يريد أن يموت مع الفجار والكفار، فلهذا لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينزل بين الكافرين وأن يقيم بينهم، إلا من ضرورة وهي كالتالي:

    أولاً: أن يكون سفيراً، يحمل رسالة لدولة الإسلام يبلغها، أو يكون تاجراً يأخذ بضائع أو يفرغ بضائع ويعود، أو يكون طالب علم فقده في دياره، وحاجة المسلمين إليه تلح وتطالب، أو يكون مرابطاً يجاهد، وقد بينا ذلك في رسالة: (إعلام الأنام بحكم الهجرة في الإسلام) وقلنا: نحن ننادي الرابطة، ما تسمع هذه الرابطة، يا رابطة! اربطي بحق، كوني لجنة عليا يشارك فيها كل إقليم.. كل بلد إسلامي..

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086781730

    عدد مرات الحفظ

    768896512