أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة؛ ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده )، فالحمد لله على إنعامه، والحمد لله على إفضاله.
اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، إنك ولي المؤمنين ومتولي الصالحين.
وهانحن مع هذه الآيات من سورة آل عمران عليهم السلام، فهيا نتغنى بهذه الآيات، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها، فما كان عقيدة اعتقدناها، وما كان واجباً عزمنا على النهوض به، وما كان محرماً عزمنا على تركه والبعد عنه، وما كان أدباً تأدبنا به، وما كان خلقاً تخلقنا به، وهذه حصيلة الدرس وفائدة كتاب الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171].
هذا الخطاب معاشر المستمعين والمستمعات! وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:169]، قائل هذا الكلام الله سبحانه وتعالى الذي خلقنا، ورزقنا، ووهبنا عقولنا وأسماعنا وأبصارنا، وخلق كل شيء في دنيانا من أجلنا، فكيف لا نعرفه وكيف لا نحمده ولا نشكره؟!
فالحمد لله على أننا عرفناه وآمنا به، وهانحن نسمع كلامه عز وجل ونتدبره، وبلايين من الإنس والجن ما آمنوا به ولا سمعوا كلامه، ولا عرفوا مراده عز وجل من خلق البشر وحياتهم، فأولئك هم شر الخليقة.
فالمخلوقات من الكلاب والقردة والحيات والثعابين خيرٌ من الذين كفروا بالله ولقائه؛ لقوله تعالى في سورة البينة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، (البريئة) فعيلة بمعنى مفعولة، أي: شر الخليقة. فلو أن إنسان مريضاً في بيتك وكاد أن يموت ثم داويته وشفي، وتطعمه وتسقيه، وتكلأه وتخدمه، وتضع بين يديه كلما يحتاج إليه وهو لا يملك شيئاً، ثم لا يعترف بوجودك ولا يذكرك بخير، ولا يطيع لك أمراً، فستنظر إليه على أنه أشر من الخنازير، ولا تود أن تنظر إليه ولا تسمعه أبداً.
والذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين الذين خلقهم الله ورزقهم وخلق الحياة من أجلهم، ثم يكفرون به ولا يذكرونه، ولا يحبونه ولا يطيعون له أمراً، وهؤلاء هم شر الخليقة، والذي ينكر هذا فلا عقل له.
وهذا بيان الله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة:6] أي: كفروا بالله ولقائه، وكفروا بالله ورسوله، وكفروا بالله وكتابه، فهؤلاء مصيرهم: فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ [البينة:6] البعداء هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6] والبرية، والبريئة بمعنى واحد، فشر الخليقة الكافر بالله واليوم الآخر، فكيف تحبه؟
إذاً: الله جل جلاله وليسمح لنا أن نتكلم عنه، فلسنا أهل لأن نتكلم عن الله، فلولا منته وإحسانه ورحمته بنا ما ذكرنا حتى اسمه.
بينا هذه القضية والغافلون غافلون، فقد عرفنا عجائز.. عجوز تكره أخرى لا تسمح لها أن تذكر اسمها، فإذا أبغض شخصاً شخصٌ آخر يقول: لا تذكر اسمي، أنا أجل من أن تذكر اسمي أنت، والله عز وجل أذن لنا في ذكره، فاذكروا الله ذكراً كثيراً، ونتحدث عنه، قال وأمر وأوجد، ونحن لا شيء، فجبريل عليه السلام رسول الوحي له ستمائة جناح، لما تجلى في الأفق سده، والرسول صلى الله عليه وسلم يشاهد.
فهناك الملك الذي أخذ سدوم وعمورة من الأرض وقلبها وهي مدن، ونحن لا شيء، ومع هذا نعص الله ونكفر به والعياذ بالله!
يقول تعالى لمصطفاه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، وأمة الرسول تابعة له، فيا أيها المؤمن! لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، فليسوا بأموات، وحرام أن تقول: أموات، فقد جاء في سورة البقرة قول الله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154]، قل: شهيد ولا تقل: ميت.
الجواب: أنهم قاتلوا المشركين من أجل أن يعبد الله وحده، ومن أجل أن تسود شريعته، ويعلو سلطانه وينفذ حكمه، ومن أجل إصلاح البشرية وإسعادها، لا أن الله في حاجة إلى هذا، (في سبيل الله) الطريق الموصل إلى رضا الله، ومن رضيه الله أدخله الجنة وأسكنه بجواره.
هنا نتكلم بكلمة سياسية -والجمع كثير-، وبعض الإخوان قالوا: لا. فالسياسة المحرمة هي القول الذي يسبب أذى إمام المسلمين، أو يسبب سقوط حكومته، أو يسبب إثارة فتنة بين مواطنيه أو محكوميه وهذا المحرم الممنوع، فالسياسية الممنوعة المحرمة هي التي تؤدي إلى إثارة فتنة ضد إمام المسلمين، أو ضد أمته ومن يسود من القوم، أو توجد بلاء ومرض وسوء، هذا حرام أن يقوله المؤمن، لا في المسجد ولا في بيته ولا حتى في الحمام.
والآن والحمد لله أكثر من أربعين سنة ونحن نقول: اسمع يا عبد الله! الكلمة التي لا تستطيع أن تقولها في المسجد لا تقولها في البيت، والتي لا تقولها في البيت لا تقولها في غير البيت، ومعنى هذا: أننا نتكلم بما فيه رضا الله، وما كان فيه سخط وغضب الله لا ننطق به، ولو كنا مع أنفسنا وليس عندنا أحد.
والمنطلق الذي انطلقنا منه هو قول الحبيب صلى الله عليه وسلم، أستاذ الحكمة ومعلمها: ( من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، فكلمة (سوء) تحدث المساءة في نفس إنسان فقط وليس في أمة، فحرام أن تقال؛ لأنه محرم علينا الأذى، فلا يحل لمؤمن أن يؤذي مؤمناً ولو بنظرة شزراً، ( كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله )، وهانحن نرى كيف تنهش الأعراض والسب والتعيير والشتم، وكيف.. وكيف..، وسببه: ما عرفوا، وما علموا، وما تربوا في حجور الصالحين، فكيف يكملون ويسعدون بدون ما تربية؟!
أقول للجماعات الثائرة في البلاد الإسلامية التي تطالب بالحكم والجهاد: إياهم أن يفهموا أن ثورة على حاكم تتسبب في القتل والدماء أنه جهاد في سبيل الله، فهذا -والله- ما هو بجهاد في سبيل الله، فالجهاد عند أهل العلم هو القتال بين المسلمين والكافرين.
فلا يفهم أن الجهاد يتم بين فئتين من المسلمين، فالجهاد الذي هو سبيل الله يتم بين المسلمين والكافرين، إما المسلمون يدعون الكافرين لإنقاذهم وإسعادهم، وإما الكافرون اعتدوا وظلموا وأرادوا تمزيق المسلمين وإسقاط وجودهم، وبدون هذا المفهوم فلا جهاد في سبيل الله.
فلا يكون جهاد في سبيل الله إلا إذا كان تحت راية: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ لإنقاذ البشرية من الكفر والضلال وما يسببه الهمج من الشر والخبث والفساد، أي: من أجل أن يعبد الله عز وجل، وهذا جهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمدة عشر سنوات ضد الكفار، فجهاد أصحابه صلى الله عليه وسلم لما خرجوا من الجزيرة بعدما فتحت، وارتفعت راية لا إله إلا الله، قاتلوا الكفار والمشركين من المجوس.
فالذين يموتون في المعركة الدائرة بين المسلمين والكفار فهؤلاء يسمون بالشهداء، ولا يقال عنهم: موتى، ولا أموات، ويدفنون في ثيابهم، ولا يغسلون ولا يصلى عليهم، ومن جرح في المعركة وما مات فيها يجري عليه ما يجري على باقي المسلمين، لكن الذين يسقطون في الميدان، أولاً: يجب أن تقول شهداء، وحرام أن تحسبهم أمواتاً، بل هم أحياء، ولا يغسلون ولا يكفنون، ويدفنون بثيابهم ودمائهم، فهؤلاء المجاهدون هم الذين سقطوا في معركة دائرة بين المسلمين وبين الكافرين، ما عدا ذلك لا يوجد شيء اسمه جهاد في سبيل الله.
فعلْموا الذين يطالبون بالحكم والحاكمية وهم يورطون أنفسهم ويورطون المسلمين، بأن هذا المسلك باطل وحرام، وإن أرادوا الفوز بالجهاد فليبايعوا إماماً في إقليم ما ويرفع راية لا إله إلا الله، ويقيم دين الله، وإن شئتم زوروا بلاده، تتجلى أنوار الإسلام والإيمان، العدل والإخاء، والمودة والحب والولاء، والطهر والصفاء، فهذا الإمام إذا حمل الراية وقال: نزحف إلى اليونان، ثم إلى إيطاليا، فإذا تجاوزناها نزحف إلى بلغاريا.. وهكذا، فليس من جهاد في الإسلام إلا هذا.
ومن تململ وقال: كيف نُحكم بغير الشريعة؟
نقول له: هل هناك حاكماً ألزمك بأن تسب الله والرسول، فهل ستسبه؟
وهل هناك حاكماً قال لك: لو أراك تصلي لذبحتك؟
أو لو رآك صائماً لسقاك السم حتى تفطر.. وإذا وجدك في بيتك أخرجك أنت وامرأتك، اخرجا لا نرى الإسلام ولا الحجاب، فهل حصل هذا؟! إذاً: فأين يجب الجهاد؟!
فكيف تريدون الجهاد وأخلاق الأمة هابطة، فهناك التلصص والخيانة والكذب، والزنا الفجور، والربا والسفور، وأنتم تفكرون بالجهاد! وفي قدرتكم أن تطهروا وتعالجوا وتصححوا، فمثلاً: تأتي إلى أخيك وتضمه إلى صدرك وتقول له: أسألك بالله! ألا تقول هذه الكلمة مرة وأنت مسلم، أسألك بالله! ألا تقف غداً هذا الموقف في معصية كهذه، وهذا هو الطريق حتى نكون على علم.
قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:169]، فسبيل الله هو الطريق الموصلة إلى رضا الله، والطريق الموصلة إلى رضا الله هو أن يعبد الله بما شرع، إذ هذه العبادة سرها تزكية النفس وتطهيرها، ومن زكت نفسه وطابت وطهرت لا يليق به العالم السفلي، ولكن العالم العلوي وهو الجنة دار السلام.
فالشهداء في أحد لما وجدوا الحياة السعيدة والطعام والشراب والأنوار والنعيم، قالوا: آه! من يبلغ عنا إخواننا في الدنيا أننا ما متنا، إننا أحياء نرزق في هذا النعيم المقيم، فقال الله: أنا أبلغ إخوانكم، فقال: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].
قال: [مما ورد في فضل الشهداء: أن الله تعالى يغفر له كل ذنب أذنبه إلا الدين]، فهل الشهداء هم الذين سقطوا في مصر أو في الجزائر أو في العراق أو في الشام الذين يطالبون بالحاكمية؟!
فالشهيد من وقع في معركة دائرة بين المسلمين والكافرين فقط، أما بين المسلمين فيما بينهم، فهذه الفتن وهذا البغي والعدوان والظلم والشر والفساد؛ نتيجة الجهل بالله وبمحابه ومساخطه.
فالشهيد يغفر له كل ذنب إلا الدين، فأيما حق لإنسان عليك إن سقطت شهيداً فإنه لا يغفر لك، يطالب صاحبه يوم القيامة ويأخذ من حسناتك أو يضع من سيئاته عليك، فالدين يضاف إليه كل حق من حقوق المسلمين، فمثلاً: هذا صفعته، وهذا أخذت ماله، وهذا شتمته، فهذه الحقوق لا تغفر؛ لأن هؤلاء أولياء الله فكيف يتنازل الله عن أذى أوليائه وأنت واحد منهم؟ فلا بد وأن يأخذ كل ذي حق حقه، أما الذنوب دون الدين والحقوق ممحوة من أول دفعة.
قال: [روى الترمذي وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له أول دفعة )] من دمه يخرج.
ثانياً: [ ( ويرى مقعده من الجنة ) ] بمجرد ما تخرج روحه يشاهد مقعده من الجنة في قبره.
ثالثاً: [ ( يجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر -يوم القيامة-، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه )]، فالذين ماتوا في فلسطين وفي كذا وكذا لا يأخذون شيئاً من هذا.
فالآن إخواننا أيضاً ينتحرون، يلبس أحدهم حزام من متفجرات ويموت في سبيل الله!! فهل هذا سبيل الله؟! فسبيل الله هو الطريق الموصل إلى رضوان الله، وهو أن يعبد الرحمن وحده ولا يعبد سواه، وأن تسود شريعته بين عباده لتزكو البشرية وتطيب وتطهر.
فما زلت إلى الآن والله! أطالب إخواننا الفلسطينيين.. بما أن العرب تخلوا عنهم والمسلمون، لو بايعوا إماماً لهم صالحاً وانحازوا إلى مكان ما وأخذوا يتجمعون ويعبدون الله ويتربون على حب الله وطاعته عاماً بعد عام، وإذا بهم أولياء الله، لا غش ولا حسد، ولا كبر ولا جهل، ولا شرك ولا ظلم، ولا باطل، سبع سنين أصبحوا أولياء الله، وحملوا راية لا إله إلا الله محمد رسول الله من أجل أن يعبد الله وحده، وأن يتابع رسول الله وحده دون سواه، وقالوا: الله أكبر، والله! لهرب اليهود وشردوا، يحولهم الله إلى بهائم ويعبدون الله عز وجل، وستتسع دائرة البلاد وينشرون الهدى والرحمة والخير، وجهاد متواصل لإدخال البشرية في رحمة الله. وهذا هو الجهاد.
فلو قال قائل: يا شيخ! بالغت، ما ندري كيف نفهم هذا؟
نقول له: انظر إلى الشاشة أمامك تشاهد، كم إقليم استقل لنا ومات فيه رجالنا ونساؤنا؟!
نيف وأربعون من إندونيسيا إلى موريتانيا، فلو كانوا -كما نعلم الآن- وعرفوا الله وأرادوا أن يعبد، فلما تستقل البلاد تلوح أنوار الهداية الإلهية في البلاد، تقام الصلاة، تجبى الزكاة، يؤمر بالمعروف، ينهى عن المنكر، يطبق شرع الله كما هو، لكن لما ما أرادوا هذا، أرادوا السلطة والحكم والمال فقط، والله ما أقيمت الصلاة في بلد، فهل هذا جهاد؟ وما هي ثماره ونتائجه؟ فهل عُبِدَ الله؟
الجواب: لا، فقد عدنا من حيث بدأنا، فلا بد للجهاد من أن يكون من أجل أن يعبد الله وحده.
إذاً قال: [الإجماع على أن شهيد المعركة بين الكفار والمسلمين ألا يغسل ولا يصلى عليه؛ لحديث البخاري : ( وادفنوهم بدمائهم ) يعني شهداء أحد ولم يغسلهم، والعلة في عدم غسلهم: أن دمائهم -تأتي- يوم القيامة - أزكى من الطيب وأطيب من ريح المسك-].
إذاً: قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، فهذا إخبار الله عن شهداء أحد لما دخلوا الجنة وقالوا: ( آه! من يخبر عنا إخواننا بأننا في هذا النعيم المقيم حتى يواصلوا الجهاد والصبر ولا يكلوا ولا يملوا ولا يكبحوا جماح القتال، قال تعالى: أنا أبلغ إخوانكم )، واستجاب وفعل، وهذا هو البلاغ.
قال: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [آل عمران:170] إي نعم.
أرواحهم في حواصل طير خضر ترعى في الجنان وتأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش، وهكذا إلى يوم القيامة، فإذا جاء يوم القيامة والأجساد نبتت كالبقل في الأرض واكتمل الجسد ترسل الأرواح وتنزل، وكل روح لا تخطئ جسدها، وينفخ إسرافيل وإذا هم قيام ينظرون.
وهنا يروي مالك بشرى وهي: ( أن نسمة المؤمن ) غير المجاهد..، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم -والموطأ قبل البخاري ومسلم أصح كتاب بعد كتاب الله، كيف لا وهو يروي عن أولاد الصحابة-: ( إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة ) أرواحنا أيها المؤمنون! لما تتم محنة القبر وفتنته ترفع إلى دار السلام وتبقى هناك في الجنة، تعلق في طير من الطيور يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه.
إذاً: أرواح الشهداء أجل وأعظم من أرواحنا، وأرواحنا أيها المؤمنون نعم في هذه القناديل في شكل الطير وترعى وتعلق في أشجار الجنة، وتبقى هكذا حتى يبعثنا الله، أي: الأبدان، وتنزل الأرواح فتدخل في أجسادها.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما نسمة المؤمن ) فالنسمة هي الروح، ولهذا إذا قال المؤذن: الصلاة على رجل وما عرفت هل الميت رجل أو امرأة، فماذا تقول؟
الجواب: تقول: اللهم إنها نسمتك بنت نسمتك، أنت خلقتها وأنت رزقتها.. إلى آخره، لا تسأل: هل هي ذكر أو أنثى، يكفي أن تقول: إنها نسمتك، ( إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة يأكل منه حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثون )، متى البعث هذا؟ لما تنتهي هذه الدورة، وهي أوشكت على النهاية.
ما زال السياق في الحديث عن غزوة أحد، فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَلا تَحْسَبَنَّ [آل عمران:169] أي: لا تظنن الذين استشهدوا من المؤمنين في أحد وغيرها أمواتاً لا يحسون ولا يتنعمون بطيب الرزق ولذيذ العيش، بل هم أحياء عند ربهم يرزقون، أرواحهم في حواصل طير خضر يأكلون من ثمار الجنة ويأوون إلى قناديل معلقة بالعرش. إنهم فرحون بما أكرمهم الله تعالى به، ويستبشرون بإخوانهم المؤمنين الذين خلفوهم في الدنيا على الإيمان والجهاد بأنهم إذا لحقوا بهم لم يخافوا ولم يحزنوا لأجل ما يصيرون إليه من نعيم الجنة وكرامة الله تعالى لهم فيها.
إن الشهداء جميعاً مستبشرون، فرحون بما ينعم الله عليهم ويزيدهم، وبأنه تعالى لا يضيع أجر المؤمنين شهداء وغير شهداء، بل يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ] الحمد لله أننا معهم.
وأخرى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ( ما من عبد يسأل الله الشهادة في سبيل الله في صدق إلا وألحقه الله بالشهداء أو أنزله منازل الشهداء ولو مات على فراشه ).
وأخرى: عمر بن الخطاب في الروضة في الحجرة، فوالله! إنه بها، فـعمر رضي الله عنه يدعو بدعوة تعجبت منها بنته حفصة أم المؤمنين بعد وفاة الرسول، يقول: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك، فتعجب حفصة كيف يتم هذا؟ فحدود الجهاد في الأفغان، وفي الهند، وفي الأندلس، وكيف تكون الشهادة في المدينة والموت في المدينة؟! فليس معقول يا أبتاه! يقول لها: اسكتي، ما ذلك على الله بعزيز، فيسأل في صدق أن يموت في سبيل الله وفي المدينة أيضاً، عجب هذا السؤال، واستجاب الرحمن الرحيم، فقد طعن عمر في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعنه أبو لؤلؤة المجوسي لعنة الله عليه.
إذاً: قتله كافر بين المسلمين والكافرين؛ لأن أبو لؤلؤة يمثل حزب وطني ظاهر يريد أن يسحق الإسلام وأهله، فتنقل وبيع وجاء عبد وهو يحمل هذه المهمة، ومات عمر في المدينة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أكون له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة )، ومعنى هذا أننا نتكلف ونعمل على أن نتحمل حتى نموت بالمدينة.
والذي يريد أن يموت في المدينة فهل يغني فيها ويزمر؟ ويجلس أمام التلفاز والعواهر يرقصن أمامه وأمام بناته وامرأته، ويبيع الحشيش، ويبيع ملابس السوء، يغتاب وينمم، ويأكل الربا ويفجر، فهل هذا له رغبة في المدينة؟
فهذا المدينة تنفيه، ( المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد ) فيا من لا تستطيع أن تطيب وتطهر في المدينة ارحل، امش إلى ينبع أو إلى جدة، فهذه مكان القدس والطهر، لا تستطيع أن تبقى هنا.
اللهم اكتب لنا ولهم موتاً في سبيلك وفي مدينة رسولك.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر