أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا يا ولينا ومتولي الصالحين.
فما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام.. ونحن الآن مع أربع آيات، فهيا نتلو هذه الآيات تلاوة متدبر متفكر متأمل؛ عسى الله أن يشرح صدورنا وينور قلوبنا، وأن يرزقنا العلم الذي يرضيه عنا. آمين.
قال سبحانه وتعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَل) قراءة سبعية، وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:161-164].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! يقول تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161]، ما الغُل؟ ما الإغلال؟ ما الغلول؟ فهذه مأخوذة من: غَلّه يغُلُّ إذا وضع الغُلَّ في عنقه، وشد يديه مع عقنه، ومنه الأغلال التي في الأعناق.
والمراد هنا أن يأخذ من الغنيمة شيئاً خفية، بحيث لا يطلع عليه المجاهدون، ويأخذه لنفسه دونهم.
فعلى كل حال أبطل الله هذا الزعم، وهذا الافتراء وهذا الظن، فحاشى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغل، فقال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ [آل عمران:161] من الأنبياء أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161]، فكيف بسيد الأنبياء وخاتمهم؟! وهذه الصيغة صيغة النفي التي لا يمكن أن يكون أبداً، فليس من شأن نبي من أنبياء الله أن يغل، فكيف بخاتمهم وسيدهم وإمامهم؟!!
كما صح أيضاً أن الغادر الذي يغدر ويخون يفضح يوم القيامة وتوضع راية على ظهره واسته؛ فضيحة له، ( يرفع يوم القيامة لكل غادر لواء غدر به )، فلهذا المسلمون لا يغدرون ولا يسرقون ولا يخفون من الغنائم شيئاً.
وأجمع أهل العلم أيضاً أن الوالي الذي يمثل إمام المسلمين إذا أخذ من ذلك المال -أي الغنائم- خفيةً يفضح به يوم القيامة.
وقد صح: أن أحد العمال ذهب وجاء بمال بيت المال، فلما وصل إلى المدينة، قال: هذا لكم وهذا لي، أهداه إلي أهل البلاد، فوبخه الرسول صلى الله عليه وسلم شر توبيخ، وقال: هلا بقيت في بيتك أو في بستانك أو مع أهلك وجاءك هذا المال؟ ، ولهذا الهدايا إلى العمال لا تصح، لا تقدم هدية لوالٍ ومسئول عن أي عمل، وهو إن أخذه أخذه كما يؤخذ من الغلول.
إذاً: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ [آل عمران:161] من نبي وغيره: يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، وقد سمعتم أنه يؤتى به على رءوس الناس يشاهدوا فضيحته، سواء كانت ناقة أو كانت عنزة أو كانت ثوب أو كانت غير ذلك.
ثم قال تعالى: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]، أي: يوفي الله تعالى يوم القيامة كل نفس ما كسبته من خير أو شر، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]؛ لأن الحاكم جل جلاله وعظم سلطانه ما هو في حاجة إلى أن يظلم أحداً، الملك كله له، والجنة جنته والنار ناره يدخل من يشاء في رحمته، فلا معنى لتصور الظلم أبداً يوم القيامة.
فهذه الآية قررت حرمة الغلول في الإسلام، وهو أخذ شيء من الغنيمة خفية ليستأثر به دون إخوانه المجاهدين، ولا يحل لقائد المعركة ولا للأمير ولا للمجاهدين أن يخفوا شيئاً، كذلك ما يعطاه العمال أو الأولياء أو المسئولون بوصفه هدية وهو رشوة للحصول على أمرٍ ما فحكمه حكم الغلول بلا خلاف بين أهل الإسلام.
هل يستوي مع من يطلب سخط الله بالخيانة والغدر والسرقة والكذب.. وما إلى ذلك؟ والله! ما يستويان.
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ [آل عمران:162] ورجع بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ [آل عمران:162] أيضاً، سخط الله والمصير جنهم، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [آل عمران:162] أي: جنهم، لا أسوأ مصير من جنهم يصير إليها العبد، ومعنى هذا: لا غدر، ولا خيانة ولا سرقة ولا.. ولا، يا من يريدون رضا الله ورضوانه.
صورتان واضحتان: هذا أراد الله رضا الله فطلبه بإيمانه وتقواه، وبإيمانه وصالح أعماله، وبإيمانه وتجنبه ما يكره الله ويسخط الله، هذا طلب رضوان الله فساد به، والثاني طلب سخط الله بالغدر والكذب والشرك والمعاصي، فلا يستويان.
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [آل عمران:162]، إياه.
إذاً: يا طالبي رضوان الله بالإيمان وصالح الأعمال، والبعد عن الشرك والذنوب والآثام، إن درجاتكم متفاوتة تفاوتاً عظيماً، ويا طالبي سخط الله بالخيانة والغدر والسرقة والشرك والمعاصي، اعلموا أيضاً أن دركاتكم متفاوتة بحسب كثرة الذنوب وقلتها. فهذا حكم الله.
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا [آل عمران:164] عظيماً جليلاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164]، ويصح أن تقول: من أنفسهم أي من جنسهم البشري ولا حرج، لكن السياق والامتنان، يدل على أنه من جنسهم العربي وهو عام، رسول الله من جنس البشر وليس من عالم الملائكة ولا عالم الجن، لكن هذا الامتنان هو الذي ساعدهم على النهوض بهذه الرسالة وحمل هذه الدعوة إلى العالم، شعروا بأنهم مسئولون.
قال: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [آل عمران:164]، من صفاته أنه يتلو عليهم آياته، آيات من؟ آيات الله الذي مَنّ عليهم بإرساله، هذا أولاً.
وَيُزَكِّيهِمْ [آل عمران:164] ثانياً، أي: يطهر أنفسهم وقلوبهم، ويطهر مشاعرهم وآدابهم وأخلاقهم ونفسياتهم، وكذلك فعل.
كثيراً ما نقول: والله! ما اكتحلت عين الوجود بأفضل من أصحاب رسول الله في آدابهم وأخلاقهم وكمالاتهم؛ وذلك نتيجة تزكية الرسول لهم؛ زكاهم وطيبهم وطهرهم في أخلاقهم وآدابهم وكل سلوكهم، يشاهد ويقول: ( ما بال أقوام يفعلون كذا أو يقولون كذا )، وما زال كذلك حتى قبض وأصحابه من خيرة البشر كمالاً، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:164]، فهذه المنة الكبيرة، يعلمهم الكتاب الذي هو القرآن، والحكمة التي هي السنة النبوية، وهي مبينة للقرآن شارحة ومفسرة له، وهذه الحكمة عامة تناولت الأكل والشرب واللباس والركوب والنزول والحرب والسلم.. وكل شئون الحياة؛ ما خلت منها حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فما طلبت السنة في ميدان من ميادين الحياة إلا وجدت.
وأخيراً قال: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ [آل عمران:164] نعم، وقد كانوا من قبل: لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، أي: قبل البعثة النبوية كيف كان العرب؟ كانوا وثنيين، منهم من يعبد الجن، ومنهم من يعبد الأصنام والأحجار، وكانوا.. وكانوا كغيرهم، لكن الواقع أنهم كانوا في ضلال واضح بين لا يشك فيه عاقل، فأنقذهم الله عز وجل من هذا الضلال ببعثة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أنزله عليه من الكتاب والهدى، وما وفقه له وأعانه عليه من تعليمهم وتزكيتهم وتربيتهم حتى نموا وكملوا وأصبحوا أكمل الخلق.
فهذا الذي طهر المجتمع، وأصبح مجتمع أمن كامل ليس فيه خيانة ولا غدر، ولولا هذا التعليم كيف يصبح هذا المجتمع أفضل مكان في العالم؟ بهذه التعاليم: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [آل عمران:161-162].
الجواب: لا، هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران:163] بحسب جهادهم وصبرهم وصيامهم و.. و..، ما هم في مستوى واحد، درجات أو لا؟ درجة أبي بكر أعلى من درجات بقية الصحابة، مثلاً: دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [آل عمران:163].
فيجزيهم بحسب عملهم؛ لأن الله مطلع عليه، عليم به، كيف لا وهو خالقه وموجده.
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:164]، فلهذا الذين يجلسون للمعلمين يجب أن يقولوا لهم: زكوا أنفسنا، لا تعلمونا فقط، حلقة ثانية بعد التعليم، وهي تزكية النفس وتهذيب الأخلاق، وتصحيح الآداب: وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].
الغل والغلول والإغلال بمعنى واحد، وهو أخذ المرء شيئاً من الغنائم قبل قسمتها وما دام السياق في غزوة أحد فالمناسبة قائمة بين الآيات السابقة وهذه، ففي الآية الأولى ينفي تعالى أن يكون من شأن الأنبياء، أو مما يتأتى صدوره عنهم: الإغلال، وضمن تلك أن أتباع الأنبياء يحرم عليهم أن يغلوا، إذا كان النبي لا يغل، فأتباعه لا يغلون، ولذا قرئ في السبع (أن يُغَل) بضم الياء وفتح الغين، يُغَل: أي: يفعله أتباعه بأخذهم من الغنائم بدون إذنه صلى الله عليه وسلم، هذا معنى قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161]، ثم ذكر تعالى جزاء وعقوبة من يفعل ذلك، فقال: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161].
فأخبرهم تعالى أن من أغل شيئاً، يأتي به يوم القيامة يحمله حتى البقرة والشاة كما بُين ذلك في الحديث، قال: جاء في صحيح مسلم أن أبا هريرة قال: ( قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه، وعظم أمره ثم قال: لا ألفين أحدكم -أي: لا أجد أحدكم- يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله! يا رسول الله! أعني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد بلغتك... )] ثم ذكر الفرس أيضاً والشاة والنرس والرقاع.. وهكذا.
[ثم ذكر تعالى جزاء وعقوبة من يفعل ذلك، فقال: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]، فأخبرهم تعالى: أن من أغل شيئاً يأتي به يوم القيامة يحمله، حتى البقرة والشاة، كما بُين ذلك في الحديث، ثم يحاسب عليه كغيره، ويجزى به كما تجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر ولا تظلم نفس شيئاً لغنى الرب تبارك وتعالى عن الظلم ولعدله تعالى، فهذا مضمون الآية الأولى.
أما الثانية: قال: ينفي تعالى أن تكون حال المتبع لرضوان الله تعالى بالإيمان به ورسوله وطاعتهما بفعل الأمر واجتناب النهي كحال المتبع لسخط الله تعالى بتكذيبه تعالى وتكذيب رسوله ومعصيتهما بترك الواجبات وفعل المحرمات، فكانت جهنم مأواه، وبئس المصير جهنم، هذا معنى قوله تعالى: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [آل عمران:162]
ثم ذكر تعالى: أن كلاً من أهل الرضوان، وأصحاب السخط متفاوتون في درجاتهم عند الله، بحسب أثر أعمالهم في نفوسهم قوة وضعفاً، فقال تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [آل عمران:163]، فدل ذلك على عدالة العليم الحكيم سبحانه وتعالى. وهذا ما دلت عليه هذه الآية.
أما قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، فقد تضمنت امتنان الله تعالى على المؤمنين من العرب ببعثه رسوله فيهم، يتلو عليهم آيات الله فيؤمنون ويكملون في إيمانهم ويزكيهم من أوضار الشرك وظلمة الكفر بما يهديهم به، ويدعوهم إليه من الإيمان وصالح الأعمال وفاضل الأخلاق وسامي الآداب، ويعلمهم الكتاب المتضمن للشرائع والهدايات والحكمة التي هي فهم أسرار الكتاب والسنة.
وتتجلى هذه النعمة أكثر لمن يذكر حال العرب في جاهليتهم قبل هذه النعمة العظيمة عليهم.
وهذا معنى قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164] ].
قال: [من هداية الآيات:
أولاً: تحريم الغلول، وأنه من كبائر الذنوب].
من أين أخذنا هذه الهداية؟ أنا أقول في السوق.. في البيت، الغلول حرام، لا يحل لمؤمن أن يغل، لقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، أصبحنا عالمين.
[ثانياً: طلب رضوان الله واجب، وتجنب سخطه واجب كذلك، والأول يكون بماذا؟ ] فطلب رضوان الله بالدعاء وبالإيمان وصالح الأعمال، وتجنب سخط الله يكون بترك الشرك والمعاصي، من طلب رضوان الله وأراده، فباب الله مفتوح، يؤمن ويعمل الصالحات التي هي فعل الأوامر وترك المناهي، ويجتنب الشرك ويترك المعاصي ويتركهما.
[ثالثاً: الإسلام أكبر نعمة]؛ لأن الله امتن على الناس به: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164]، [فالإسلام أكبر نعمة، وأجلها على المسلمين، فيجب شكرها بالعمل بالإسلام، والتقيد بشرائعه وأحكامه] فإن لم نعمل بالإسلام، ولم نتقيد بشرائعه، فكأننا ما شكرنا وكفرنا النعمة.
[رابعاً: فضل العلم بالكتاب والسنة]؛ لقوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129].
والله لا طريق إلا هذا.. أن يجتمعوا على كتاب الله وسنة رسوله، وأن المربي أو المعلم يعمل على تزكية نفوسهم وتهذيب أرواحهم وآدابهم وأخلاقهم، والدليل والبرهنة واضحة من يوم أن أعرض العالم الإسلامي، وعلى رأسه العرب بالذات، أهل الأمانة وأصحاب هذه الرسالة وأهل هذه المنة، منذ أن أعرضوا هبطوا، فمن يرفعهم؟ فحاولوا وجاءوا بالاشتراكية لترفعهم، فلم ترفعهم، ثم حاولوا وجاءوا بالديمقراطية وتبجحوا بها فلم ترفعهم أيضاً.
ثم أيضاً حاولوا وجاءوا بالوطنية والإقليمية، العروبة، فهل رفعتهم؟ والله! ما رفعتهم، فما الذي يرفع من هبط إلى أن يعود إلى علياء الكمال إلا الكتاب والسنة، وهذا ما نقوله دائماً، أهل القرية يلتزمون باجتماعهم، بنسائهم وأطفالهم، كل ليلة في بيت ربهم، من المغرب إلى العشاء، وطول العام، أهل المدن كل حي من أحياء المدينة قليلة أو كثيرة يجتمعون اجتماعنا هذا، النساء وراء الستارة، والأطفال دونهم، والفحول أمامهم، والمعلم يعلم الكتاب والحكمة، هل هناك طريق سوى هذا؟ والله! ما وجدوا، أقسم بالله.
فهذا هو الطريق الوحيد الذي يهذب النفوس، فإذا تهذبت النفوس قل، بل انتهى الغل والغش والحسد والسرقة، والخيانة والإسراف، والكبر والكذب، وكل مظاهر الهبوط تنتهي، أو ما تنتهي؟ والله لتنتهين، هذه سنة الله، الطعام يشبع والماء يروي، والحديد يقطع، والنار تحرق، واتباع الكتاب والسنة لا تهذب ولا تزكي ولا تؤدب؟! فهذا مستحيل.
فعلى العلماء أن ينهضوا بهذا الواجب، يأتون إلى القرى ويصيحون في أهليها بمكبرات الصوت: تعالوا إلى المسجد، هاتوا أطفالكم ونساءكم يسمعن وهن وراء الستارة، ويلزموا القرية الشهرين والثلاثة والسنة، حتى يجتمع أهلها.. وهكذا فجأة وإذا بذلك الإقليم في العالم الإسلامي أصبح كأنه في عهد النبوة، الطهر والصفاء والنقاء والكمال، بأتم معناه، وهذه سنة الله التي لا تتخلف.
هذا والله تعالى أسأل أن يوفق علماءنا للنهوض بهذا الواجب.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر