أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رغبة فيما بشرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
معاشر المستمعين والمستمعات! ما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:156-158].
هيا نكرر تلاوة هذه الآيات الثلاث متأملين متدبرين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:156-158]، (مِتم)، و(مُتم) قراءتان سبعيتان، فبالكسرة حجازية، وبالضم كوفية.
ثم نهانا بقوله فقال: لا تَكُونُوا [آل عمران:156]، وهنا اللام ناهية، كَالَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:156]، من المنافقين واليهود والنصارى والمشركين والبوذيين والشيوعيين، لكن هنا لا زال السياق عن غزوة أحد وما ترتب عليها من تعاليم وهدايات، وبالتالي فالذين كفروا هنا هم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، فكشف الله الغطاء عنهم، وأعلمهم أنهم كافرون، وقد نهى الله المؤمنين أن يكونوا كالذين كفروا، إذ إنه ينبغي أن نتباين مع الكافرين وألا نكون مثلهم، لا في الرأي ولا في التفكير ولا في الزي ولا في أي شيء آخر، وإنما الفصال الكامل؛ لأنهم أنجاس ونحن أطهار؛ لأنهم أموات ونحن أحياء، لأنهم يقادون ونحن قادة، لأنهم يهتدون ونحن مهتدون وهادون، ففرق كبير بين هذا وذاك، وبالتالي كيف تريد أن تكون مثل إنسان ميت؟!
كذلك الزي العسكري، فقد بكينا وصرخنا وندبنا وقلنا: يجب أن يتميز الجندي الرباني عن الجندي الشيطاني، وقد رأيت في هذه القضية رؤيا نبوية، وذلك لما أمر الزعيم عبد الناصر بتوحيد الجيوش العربية من أجل أن يقاتلوا اليهود، ونحن الآن في المملكة قد اضطررنا، إذ كيف نبقى مخالفين لجيوش العرب؟ فهيا نلبس لباسها من أجل الانتصار! والله لا انتصار، وهذه الأحداث منذ أربعين سنة أو ثلاثة وأربعين سنة، وقد رأيتني أمام باب السلام الموجود الآن، وبيني وبين الباب حفرة طويلة عريضة عند نهاية عتبة الباب، والأخرى بين يدي، وفي وسطها نعشان أو جنازتان، فخطر ببالي أن أحد النعشين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني لـأحمد الزهراني، وأحمد الزهراني كان شرطياً، فجلس على السرير فقلت: ما دام الشرطي حياً فالرسول من باب أولى، وفجأة انطمست الحفرة والرسول واقف، وأنا أقول: يا رسول الله! استغفر لي، يا رسول الله! استغفر لي، وأنا في حالة انفعالية لا أستطيع تصورها، فقال لي بصوت خافت: أرجو، أي: أنا، أو قال لي: اُرجُ هو، فإذا قال: اُرجُ هو، أي: أنه يرجو الاستغفار، وإذا قال لي: أنا أرجو، أي: أرجو أنا، ولحظة وإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم جالساً على كرسي من حجر إلى باب السلام من الجهة الشرقية، وكأنه البدر، وبينما أنا واقف إذا بطفل كعبد الله يلبس بدلة كبدلة نجيب، ونجيب هو الذي قام بالثورة ضد الملك فاروق، وقد احتضنه عبد الناصر، ثم بعد ذلك أبعدوه، وبدلة نجيب عبارة عن بدلة عسكرية من يطنان فرنسي.
والمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى ذلك الموقف أشار بيده الطاهرة هكذا وقال بالحرف الواحد: أبمثل هذا يبتغون العزة؟! وفعلاً ما أعزهم الله إلى الآن، إذ نحن أذلاء لليهود.
وقد نفع الله بتلك الرؤيا -فقد كان الدرس بداخل المسجد- فقد حججنا ونزلنا المدينة في صفر، ثم جاء العيد ورجالات المدينة من الأعيان يلبسون أطفالهم تلك البدلة، ويأتون بهم إلى الحجرة الشريفة ليسلموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما إن رأيت هذا حتى كدت أن أتمزق؛ لأننا كنا في بلد مستعمرة نرى أن من يلبس لبسة الكفار كافر، وما كان يخطر ببالي أن مؤمناً يتزيا بزي الكافر، فكيف يتحدون رسول الله ويأتون بأطفالهم ليغضبوه؟! وهل يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا؟ والله ما يرضى، والحمد لله فقد كان هناك خياط مختص يخيط مثل هذه الملابس، ثم أغلق محله وانتهت بعد فترة وجيزة.
وأنا قلت هذا لأننا نسمع نداء من السماء، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:156]، لبيك ربنا لبيك، لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:156]، قال أهل العلم: في كل شيء إلا ما لابد منه، فلا نأكل أكلهم من الخنزير والميتة، ولا نشرب كشربهم، ولا نتناول الشراب بأيدينا كما يتناولون، ولا ندخل نعالنا في أرجلنا كما يفعلون، إنها مباينة كاملة ومفاصلة تامة؛ لأنهم أموات أنجاس، ونحن أطهار أحياء، فلا عجب ولا غرابة.
إذاً: إن شاء الله من هذه الليلة على الآباء أن يلبسوا أولادهم اللباس الأبيض كلباس الملائكة، ولا يلبسونهم هذه البرنيطة وهذا السروال كسروال المجوس، فهل هذا حتى نعلمهم العبث والتمرغ في التراب؟ لا؛ لأنه لما يكون الثوب نظيفاً فلا تسمح له أمه ولا أبوه أن يتمرغ به في التراب، لكن ما دام أنه سروال أسود كاليهودي فيعبث به كيفما شاء.
وقد قلت من قبل: على المسلمين أن يحتفظوا بزيهم الإسلامي، فإذا انعقد مؤتمر الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، فإن المسلم يدخل بزيه الإسلامي، والبرانيط والأزياء الكافرة على الآخرين، فيراه البلجيكي أو البريطاني أو اليوناني فيقول: من هذا؟ فيردون عليه فيقولون: هذا مسلم، تريد أن تعرف اسأله، أو اذهب إلى الفندق واسأله، فتكون دعوة باللباس الإسلامي، لكن إن دخلوا كلهم بزي اليهود والنصارى، فمن يعرف هذا من هذا؟! بل لا تكون دعوة إلى الله تعالى، ولعلكم تذوقون هذه المرارة، وذلك لما يدخلوا هذه المؤتمرات أو غيرها فيجدون شخصيات متميزة، فيسألون عنهم فيعرفون أنهم مسلمون، فيضطرهم إلى أن يسألوا عن الإسلام، فيأتي فيتعلم الإسلام وتبين له الطريق الحق، ومن الجائز أن يهديه الله فيدخل في الإسلام، فكونك في زي إسلامي هذا أوجب عليك وألزم لك؛ لأنك لست مثلهم أبداً، إذ أنت حي وهم أموات، أنت طاهر وهم أنجاس، أنت صادق وهم كذبة، أنت شجاع وهم جبناء، وبوصفك المسلم الكامل الإسلام، وما هي دعاوى نقولها، بل المسلم الحق.
وكذلك المؤمنات إذا تزيت إحداهن بزي كذا أو كذا، فأقول لهن: القاعدة عندنا: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، ولن تنحل هذه القاعدة أبداً، فلو يأتي علماء النفس من أجل أن يحلوها، أو ليجدوا أن الرسول ما وفق فيها وما أصاب، ما استطاعوا أبداً، بل والله لو اجتمعوا كلهم ما نقضوها؛ لأن (تشبه) على وزن تفعل، أي: أراد أن يكون مثل هذا، فلن يكون إلا مثله، تشبه أن يكون كـعنترة بن شداد، سوف يعمل ما استطاع من التمرين على الشجاعة حتى يكون مثله، أو رأى هابطاً مخنثاً وأراد أن يكون مثله، فيأخذ يمشي كمشيته، ويلبس كلبسه، وينطق كمنطقه، وفترة وإذا هو مثله، وإذا رأت المرأة عاهرة في مجلة أو جريدة أو شاهدتها في تلفاز وأرادت أن تتزيا بزيها، فلا تلبث أن تكون مثلها، فتفسد عقيدتها، ويمرض قلبها، وتصبح هابطة مثلها، إذ لو كانت تريد أن تتتشبه بـفاطمة أو بـعائشة أو بأمهات المؤمنين فإنها ستكون مثلهن، لكن ما دامت أنها أرادت أن تكون كهذه العاهرة في لباسها أو زيها، فلا تزال تتشبه بها حتى يموت قلبها، وتصبح من الساقطات والعياذ بالله، فهل فيكم من يرد عليّ في هذا؟ إننا لن نقول هذا على غير علم أبداً.
إذاً: فهيا نتشبه بالصالحين فنكون مثلهم، فلا نحلق لحية، ولا ندخن عند باب المسجد، ولا نكذب، ولا نفجر، ولا نخلف الوعود، وعند ذلك نصبح صالحين، إذ ما معنى قول الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]؟
قوله تعالى: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156]، والموت يكون في السفر، والضرب يكون في الأرض، والقتل يكون في الجهاد أو في الحرب والقتال.
ثانياً: عندما لا نكون مثلهم في إيماننا وفي قدراتنا وفي طاقاتنا وفي صبرنا وفي جهادنا، فإنه لما نعلو ونسمو ونعز يكون ذلك هماً وكرباً وحزناً لهم، فهذان وجهان مشرقان في الآية يتحققان بها.
ثم ختم الله الآية فقال: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [آل عمران:156]، يا أيها المؤمنون! يا من دعيتم إلى ألا تكونوا كالذين كفروا في أزيائهم، في معتقداتهم، في آمالهم، في حياتهم كلها، اعلموا أن الله بما تعملون بصير، وهذا وعيد ووعد من الله تعالى، فإن استجبتم لما دعاكم إليه فأنتم في خير حال وأحسنه، وإن رفضتم فسوف ينزل بكم البلاء والشقاء؛ لأنه: بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي: مطلع عليكم، فهكذا يربينا الله عز وجل، وقد تربينا أيام كنا نقرأ القرآن ونتدبره، لكن لما حولناه ليُقرأ على الموتى متنا كالأموات، وما عاد أحد منا يتدبر كلام الله عز وجل.
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ [آل عمران:157]، وعزتنا وجلالنا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ [آل عمران:157]، أو (مِتم) بالكسر، وهما قراءتان سبعيتان ولغتان فصيحتان، لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا [آل عمران:157] (تجمعون) قراءة سبعية، خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157]، أي: خير مما يجمع المشركون والكافرون، وفي هذا ترغيب في الجهاد في سبيل الله، فارتفعوا أيها المؤمنون إلى مستواكم اللائق بكم، وعزتنا وجلالنا لئن قتلتم في سبيل الله أو مِتم في الطريق -لأن القتل يكون بالسيف والرمح، وقد يموت بدون ذلك وهو في طريقه- لَمَغْفِرَةٌ جواب: لئن، أي: مغفرة من الله تزيل كل أثر من نفوسكم، وَرَحْمَةٌ تغمركم وتدخلكم دار السلام خير مما يجمع الكفار من المليارات، بل ومن البنوك كلها.
فهيا نموت في سبيل الله أو نقتل، فأما الموت في سبيل الله فممكن، إذ الحجاج والعمار لبيت الله قد يموتون في الطريق، أما الغزو فليس بعد حتى يعلنها صريحة إمام المسلمين، وحينئذ نتسابق إلى الجهاد، أما بدون إذن إمام المسلمين فلا؛ لأن الظروف غير ملائمة للقتال، فهناك معاهدات واتفاقيات بين الدول، كما أنه ليس هناك إعداد كامل لغزو بريطانيا أو اليونان؛ لأن الجهاد لا يكون إلا في ديار الكفار، أما الذين يطالبون بالجهاد في داخل بلاد المسلمين، وينادون: اقتلوا الحكام وعسكرهم! فهذه نظرية فاسدة وباطلة وخاطئة ومنكرة لا تحل، بل لا يوجد لها أثر في الإسلام، إذ إن الجهاد إما أن يغزونا جيش كافر الصلبان في أعناقهم، أو يدخل العدو ديارنا، وعند ذلك يعلن إمام المسلمين التعبئة العامة للنفير، وذلك حتى نجليه ونبعده عن ديارنا، وإما أننا قد تهيأنا واستعدينا وأصبحنا قادرين على غزو تلك البلاد، وحينئذ ترسو سفننا في سواحلها أو يصل الإعلان منا إلى تلك الدولة المجاورة لنا، فنخاطبهم بما علمنا الله ورسوله: يا أهل هذه الديار ادخلوا في الإسلام، ادخلوا في رحمة الله فتسعدوا وتكملوا، وتطيبوا وتطهروا، وتنتهي عندكم مظاهر الفقر والشقاء والعذاب، والخبث والخسران؛ لأن هذا الذي نخوفكم به نحن تنزهنا عنه، وما أصبح بيننا خبث ولا ظلم ولا فقر ولا شقاء، إذ طبقنا الإسلام فرحمنا الله به، فإن قالوا: لن ندخل في دينكم، قلنا لهم: إذاً اسمحوا لنا أن ندخل بلادكم فنعلم أفرادكم ونوجههم ونرشدهم وابقوا أنتم على دينكم، فإن قالوا: لا بأس، فهيا نعقد معاهدة مع أهل الذمة يكون بموجبها أن نحميهم، وأن نموت دونهم، وأن نقيم العدل والرحمة فيهم، وأن يدخل إخواننا بلادهم كالملائكة، فلا خيانة، ولا كذب، ولا أي مظاهر من مظاهر الباطل، وإنما يكون منا الصدق والعدل والرحمة والطهر والصفاء، وما هي إلا ليالٍ أو أيام وانجذب الناس إلى الإسلام ودخلوا فيه؛ لما يشاهدوا من آثار الكمال، وإن قالوا: لا، قلنا لهم: إذاً الحرب بيننا، فيستنفر الإمام المسلمين، ويعلن خوض المعركة، وعند ذلك ينصرنا الله عليهم، ودليل هذا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123]، بهذه الآية اتسعت رقعة الإسلام في خمسة وعشرين عاماً، فوصل الإسلام إلى الأندلس وإلى ما وراء نهر السند.
فهل كان أصحاب رسول الله وأولادهم وأحفادهم من هذا النوع الذي نحن عليه؟ مستحيل، إذ كيف سينشرون الإسلام؟! والآن الكفار يضحكون ويتقززون من إسلامنا، ويلمزوننا بالأصوليين والمتطرفين، فقتلونا وذبحونا وحرقونا، وقد وجدوا فرصة في ذلك، وأنا خائف أن أوروبا تغضب غضبة ويزداد هذا التطرف بين بلاد المسلمين، فيقولون: يا إخواننا ما نريد أن نبقي هذا النوع عندنا، فيبعدون كل المؤمنين، وبعد ذلك هل أقمنا الدولة الإسلامية؟! لا والله، إذاً على الأقل الآن الإسلام ينتشر في أوروبا وأمريكا بواسطة الدعاة والكلمة الطيبة، وليس بالرصاصة والمسدس، فأين الوعي؟ وأين الإدراك؟ وأين الفهم؟ إن الجهاد في الإسلام يفتقر ضرورة إلى إمام المسلمين، فهو الذي يقود الحملات وينظم الجهاد والفيالق ليغزو الأعداء، لا أن يغزو ويقتل المسلمين، إذ إن هذا هو مذهب الخوارج والعياذ بالله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يكذبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله )، فكيف تقتل كافراً ذمياً تحت رايتك؟ وهل يجيز الإسلام هذا؟ قال: لأنه خائن! أأنت الحاكم حتى تصدر حكمك بأنه خائن، لقد فهموا الإسلام بفهم باطل وفاتن.
وبالتالي فلا تلمهم يا هذا؛ لأنهم ما جلسوا في حجور الصالحين ولا تربوا فيها، ولذلك لابد وأن نتربى في حجور الصالحين من صبانا أو صغرنا حتى نصبح أهلاً لقيادة البشر، ولإنقاذهم مما يزيغ.
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا [آل عمران:157] (تجمعون)، خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157]، أي: هم، فيطهرك ويدخلك الجنة، إذ إن المغفرة معناها: محو الذنب، فإذا طهرت فسينزلك الجنة دار السلام، وقد تقدم قوله تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]، فاغسل نفسك من الآن حتى تدخل الجنة بسلام، وتطهر من الآن فإنك إن مت طاهراً فلا يحول بينك وبين الجنة حائل أبداً، أما وأنت نجس فلا تدخل الجنة.
ما زال السياق في أحداث غزوة أحد ونتائجها المختلفة، ففي هذه الآية ينادي الله المؤمنين الصادقين في إيمانهم بالله ورسوله، ووعد الله تعالى ووعيده، يناديهم لينهاهم عن الاتصاف بصفات الكافرين النفسية، ومن ذلك: قول الكافرين لإخوانهم في الكفر: إذا هم ضربوا في الأرض للتجارة أو لغزو فمات من مات منهم، أو قتل من قتل بقضاء الله وقدره، يقولون: لو كانوا عندنا، أي: ما فارقونا وبقوا في ديارنا ما ماتوا وما قتلوا، وهذا دال على نفسية الجهل ومرض الكفر، وحسب سنة الله تعالى فإن هذا القول منهم يتولد لهم عنه بإذنه تعالى غم نفسي وحسرات قلبية تمزقهم، وقد تؤدي بحياتهم، وما درى أولئك الكفرة الجهال أن الله يحيي ويميت، فلا السفر ولا القتال يميتان، ولا القعود في البيت جبناً وخوراً يحيي، هذا معنى قوله تعالى في هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ [آل عمران:156]، وقوله تعالى في ختام هذه الآية: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [آل عمران:156]، فيه وعد للمؤمنين إن انتهوا عما نهاهم عنه في الآية، وفيه وعيد إن لم ينتهوا فيجزيهم بالخير خيراً، وبالشر إلا أن يعفو شراً.
أما الآية الثانية فإن الله تعالى يبشر عباده المؤمنين مخبراً إياهم بأنهم إن قتلوا في سبيل الله أو ماتوا فيه يغفر لهم ويرحمهم؛ وذلك خير مما يجمع الكفار من حطام الدنيا، ذلك الجمع للحطام الذي جعلهم يجبنون على القتال والخروج في سبيل الله، فقال تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157].
وفي الآية الثالثة والأخيرة يؤكد تلك الخيرية التي تضمنتها الآية السابقة فيقول: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ [آل عمران:158]، في سبيلنا لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:158] حتماً، وثم يتم لكم جزاؤنا على استشهادكم وموتكم في سبيلنا، ولنعم ما تجزون به في جوار ربنا الكريم ].
أولاً: حرمة التشبه بالكفار ظاهراً وباطناً ]؛ لأن النص القرآني بدأ بقوله: لا تكونوا.
[ ثانياً: الندم يولد الحسرات، والحسرة غم وكرب عظيمان، والمؤمن يدفع ذلك بذكره القضاء والقدر، فلا ييأس على ما فاته، ولا يفرح بما آتاه من حطام الدنيا ]، وهذا مبين في سورة الحديد، إذ قال تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ [الحديد:21]، إلى أن يقول: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23]، فلا تحزن على ما فات، ولا تفرح وتبطر بما آتاك الله، وهذه ثمرة الإيمان بالقضاء والقدر.
قال: [ ثالثاً: موتة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر