أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه، كان كالمجاهد في سبيل الله )، وثالثة من إفضالات الله علينا وإنعامه: ( أن المؤمن إذا صلى المغرب وجلس ينتظر صلاة العشاء، فإن الملائكة تصلي عليه ما لم يحدث -أي: ينتقض وضوئه- تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى ينصرف من المسجد )، وهذا الإنعام والإفضال قد رُزِقناه وحرمه الملايين، و ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
وها نحن ما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام وخاصة مع أحداث أحد، وها نحن مع هاتين الآتين الكريمتين، فهيا نتلوا هاتين الآيتين ونتدبرهما ونتأملهما، ثم نأخذ في الشرح لزيادة البيان واليقين، وتلاوة الآيتين بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:154-155].
إنهما آيتان عظيمتان، فهيا نعد تلاوتهما، والأجر للجميع، والمستمع كالتالي، والحرف بعشر حسنات، يقول تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:154-155].
إنه بيان إجمالي من الله عز وجل، فلنشارك سوياً في فهم هاتين الآيتين، يقول تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا [آل عمران:154]، فالقائل هو الله، والمخاطبون هم أصحاب رسول الله من أهل وقعة أحد.
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ [آل عمران:154]، وقد تقدم أنه أصابهم غماً بغم، وعرفنا أن الغم كرب عظيم يصيب النفس.
قال: يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ [آل عمران:154]، وهم الصلحاء الصادقون الموحدون، لا المرتابون الشاكون والمنافقون.
قال: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154]، وهؤلاء منهم ضعاف الإيمان، وأكثرهم منافقون.
قال: يَقُولُونَ هَلْ لَنَا [آل عمران:154]، أي: ما لنا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ [آل عمران:154]، أي: قل لهم يا رسولنا: إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران:154]، ليس لغيره، إذ إنهم كانوا يقولون: لو كان الأمر لنا ما نأتي لنقاتل المشركين في هذا الوادي، بل سنبقى في المدينة ونقاتلهم فيها، وكان هذا رأي ابن أبي، وقد سبقه إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن ابن أبي صرح به، ونفث هذه الروح في المنافقين، فالذين رجعوا معه رجعوا، والذي ما رجعوا فهذا النوع منهم.
قال: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ [آل عمران:154]، أي: لو شاء الله لأخذ الأصحاب برأي رسول الله وما خرجوا لقتال المشركين، وتركهم يدخلون المدينة ويقاتلونهم بالنساء والأطفال والرجال، ولكن كيف يمحص ويبتلي؟
قال: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ [آل عمران:154]، وحسبنا أن ابن أبي عليه لعائن الله رجع بثلاثمائة من الطريق، إذ إن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج بتسعمائة ألف إلا مائة، فلو ما أمر الله بالخروج وكتبه فكيف سيظهر هذا النفاق؟
قال: اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ [آل عمران:155]، أي: أراد أن يوقعهم في هذه الزلة.
قال: بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمران:155]، ولنسكت عن هذا الذنب الخفي إن قلنا: إن المراد منه جماعة بنو حارثة وبنو سلمة، وإن قلنا: هم الرماة الذين نزلوا من فوق الجبل، فالذي كسبوا هو معصيتهم لرسول صلى الله عليه وسلم، ونزولهم لأخذ الغنيمة والمال.
قال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [آل عمران:155]، أي: جمع المؤمنين وجمع المشركين، والظاهر أنهم الرماة أصحاب الجبل.
قال: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمران:155]، والحمد لله، إِنَّ اللَّهَ غَفُ ورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:155]، وهذه بشرى لهم.
ما زال السياق في الحديث عن أحداث غزوة أحد، فأخبر تعالى في الآية الأولى عن أمور عظام ] وهي خمسة [ الأول: أنه تعالى بعد الغم الذي أصاب به المؤمنين ]، وهو الهزيمة وفقد الغنيمة، ثم الجراحات التي أصابت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإعلان عن وفاته وموته عليه الصلاة والسلام، وهذا الغم أعظم من الأول.
قال: [ الأول: أنه تعالى بعد الغم الذي أصاب به المؤمنين، أنزل على أهل اليقين ] لا أهل الشك والشرك [ أنزل على أهل اليقين خاصة أمناً كاملاً، فذهب الخوف عنهم، حتى أن أحدهم لينام والسيف في يده فيسقط من يده ]. فمن يقوى على أن ينزل هذا الأمن وهذا النعاس في المعركة والدماء تسيل، ومع هذا ينام أحدهم حتى يستريح؟! إنه الله تعالى.
قال: [ حتى أن أحدهم لينام والسيف في يده فيسقط من يده ثم يتناوله ]، قال طلحة والزبير وأنس: غشينا النعاس حتى أن السيف ليسقط من يد أحدنا فيتناوله من الأرض.
قال: [ قال تعالى -في بيان هذا-: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ [آل عمران:154] ]، أي: ينزل عليهم ويغطيهم، كالملائكة التي تغشى حلقتنا هذه وتغطيها.
قال: [ والثاني: أن أهل الشك والنفاق حرمهم الله تعالى من تلك الأمنة، فما زال الخوف يقطع قلوبهم، والغم يسيطر على نفوسهم، وهم لا يفكرون إلا في أنفسهم، كيف ينجون من الموت؟ وهم المعنيون بقوله تعالى: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمران:154].
والثالث -من الأمور العظام-: أن الله تعالى قد كشف الغطاء عن سرائرهم، فقال: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154] ]، فيجب أن يظن بالله ظن الحق كأهل اليقين، لا أن يظن به الباطل والسوء كأهل الجهل والشرك.
قال: [ والمراد من ظنهم بالله غير الحق: ظن المشركين أنهم يعتقدون أن الإسلام باطل، وأن محمداً ليس رسولاً، وأن المؤمنين سيهزمون ويموتون، وينتهي الإسلام ومن يدعو إليه ]، فهذه هي الظنون الباطلة، وهذا هو ظن أبي سفيان والمشركين، بل هو ظن ابن أبي والمنافقين.
[ والرابع: أن الله تعالى قد كشف سرهم فقال عنهم: يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ [آل عمران:154]، هذا القول قالوه سراً فيما بينهم، ومعناه: ليس لنا من الأمر من شيء، ولو كان لنا ما خرجنا ولا قاتلنا ولا أصابنا الذي أصابنا، فأطلعه الله تعالى على سرهم، وقال له: رد عليهم يا رسولنا بقولك: إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران:154]، ثم هتك تعالى مرة أخرى سترهم وكشف سرهم فقال: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ [آل عمران:154]، أي: يخفون في أنفسهم من الكفر والبغض والعداء لك ولأصحابك ما لا يظهرونه لك ]، وهذا شأن المنافقين وضعاف الإيمان في كل زمان ومكان.
[ والخامس: لما تحدث المنافقون في سرهم وقالوا: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]، يريدون لو كان الأمر بأيديهم ما خرجوا لقتال المشركين؛ لأنهم إخوانهم في الشرك والكفر، ولقتلوا مع من قتل في أحد، فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران:154]، بالمدينة، لَبَرَزَ [آل عمران:154]، أي: ظهر، الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، وصرعوا فيها وماتوا؛ لأن ما قدره الله نافذ على كل حال، ولا حذر مع القدر ]، وليس معناه أننا نترك الحذر ونقول: القدر ماضٍ، إذ إن الله تعالى يقول: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، لكن لنعلم أن الله إذا قدر شيئاً فلا ينفع الحذر، وبالتالي لا نفهم من قوله: لا حذر مع القدر، أنه لا حاجة لنا الآن إلى طلب الحذر، إذ القدر نافذ، لا، بل اطلب الحذر واحذر، والله قد أمرك بذلك، فاحذر من عدوك، لكن ما قدره الله لا ينفع فيه الحذر، بل لابد وأن يقع، ومن فوائد الحذر:
أولاً: أن تكون نفسك مطمئنة، فلا تكن مرتاباً ولا خائفاً؛ لأنك قد قمت بالسبب.
ثانياً: إذا أصابك شيء بعد أن حذرت وأطعت الله، فإنه سينشرح صدرك، وتطيب نفسك، وترضى بقضاء الله وقدره عليك، بخلاف إهمال الحذر أو الاستعداد أو الأخذ بالأسباب، ولهذا قررنا مرات أن ترك الأسباب التي وضعها الله للوصول إلى غاية من الغايات فسق وفجور، وردٌ لأمر الله ورسوله، والاعتماد على الأسباب وأنها هي الفاعلة، شرك وكفر بالله، فاعرف هذا يا عبد الله، ومعنى هذا: خذ بالأسباب التي أمر الله بها ورسوله، وهي طاعة تثاب عليها وتؤجر، أما أن تعتمد على الأسباب وتقول: قواتنا، إرادتنا، سنفعل كذا، بدون الاعتماد على الله، فهذا شرك وكفر بالله، فقول أهل العلم: لا حذر مع القدر، يعني: إذا حذرت وما نفع الحذر؛ لأن الله كاتب هذه البلية أو هذه المصيبة، فليس معناه: أن نترك الحذر.
قال: [ ولا بد أن يتم خروجكم إلى أحد بتدبير الله تعالى ليبتلي الله، أي: يمتحن، ما في صدوركم ويميز ما في قلوبكم، فيظهر ما كان غيباً لا يعلمه إلا هو إلى عالم المشاهدة؛ ليعلمه ويراه على حقيقته رسوله والمؤمنون ]، أي: ما كان مكتوماً في المدينة فقد أظهره الله في أحد، فعلمه الرسول والمؤمنون.
قال: [ وهذا لعلم الله تعالى بذات الصدور، هذا معنى قوله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154] -في أحد- وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154] ]، فالعلم الذي كان غيباً قد أظهره الله لنا، فعرفنا المنافق من المؤمن الموقن.
قال: [ هذا ما تضمنته الآية الأولى.
أما الآية الثانية فقد تضمنت إخبار الله تعالى عن حقيقة واحدة ينبغي أن تعلم -حقيقة واحدة ينبغي أن يعلمها المؤمنون والمؤمنات- وهي أن الذين فروا -هربوا- من المعركة لما اشتد القتال وعظم الكرب، الشيطان هو الذي أوقعهم في هذه الزلة، وهي توليهم عن القتال -تقدم: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ [آل عمران:153]-بسبب بعض الذنوب كانت لهم، ولذا عفا الله عنهم ولم يؤاخذهم بهذه الزلة، وذلك لأن الله غفور حليم، فلذا يمهل عبده حتى يتوب فيتوب عليه ويغفر له، ولو لم يكن حليماً لكان يؤاخذ لأول الذنب وأول الزلة، فلا يمكن أحداً من التوبة والنجاة ]، لكن لحلمه ورحمته يمكن عباده، فيمهلهم حتى يتوبوا ليتوب عليهم ويغفر لهم.
قال: [ هذا معنى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ [آل عمران:155]، أي: عن القتال، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [آل عمران:155]، أي: جمع المؤمنين وجمع الكافرين بأحد، إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ [آل عمران:155]، فلم يؤاخذهم، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:155] ].
هذا هو معنى هاتين الآيتين الكريمتين، وقد نقلنا لكم أحداث أحد مع رسول الله وأصحابه والمنافقين، وشهدنا هذه الأحداث وكأننا ننظر إليها رأي العين، وتم هذا بفضل الله في كتابه العزيز القرآن الكريم.
وهناك سؤال يقول: ما الفرق بين الصدور والقلوب؟ والجواب: أن الصدر هو الجوف الذي فيه القلب، وفيه أشياء تكون في الصدر، كوسواس وهواجس، وأخرى تتركز في القلب، وما في القلب أصعب، وكتمانه سهل، أما في الصدر فيخرج على اللسان، إذ ليس مضبوطاً.
قال المؤلف: [ من هداية الآيتين:
أولاً: إكرام الله تعالى لأوليائه بالأمان الذي أنزله في قلوبهم ]، وهذه كرامة من الله تعالى لأوليائه، وأنا قد قلت لكم: إنه في أثناء الحرب والمعركة دائرة، أنزل الله عليهم النعاس فهدأت نفوسهم وارتاحت أجسامهم، وكأنهم في المستشفى، بل أفضل من ذلك، فمن يقوى على هذا غير الله؟ والله ما يقدر عليها أحد إلا الله، وهذه طائفة أهل اليقين لا أهل الشك.
فيا عباد الله! قد تبتلى في يوم من الأيام بما يزلزل أقدامك ويفزعك، فينزل الله تعالى عليك أمنة كهذه، فلا تبالي عند ذلك، وهذه الهداية مأخوذة من الآية الأولى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا [آل عمران:154]، وقرئ: (أمْنَة) بالسكون أيضاً، والنعاس: مقدمات النوم، وهذه الأمنة التي حصل لكم بها الأمن سببها النعاس.
قال: [ ثانياً: إهانة الله تعالى لأعدائه بحرمانهم مما أكرم به أولياءه وهم في مكان واحد ]، وقد ظهر هذا واضحاً جلياً، إذ إنهم كانوا كلهم في أحد في ذلك الوادي والمعركة دائرة، فأولياء الله أكرمهم بإنزال النعاس والأمنة، بينما الآخرون حرموا من ذلك، فقلوب تتمزق من الخوف والكرب والهم، وأهل اليقين نائمون لا يزعجهم شيء.
وبالتالي لابد وأن تحصل هذا الكرامات لأولياء الله، وثقوا في هذا، فلا يمضي عليك زمان إلا وتحصل لك، إذ إن الله عز وجل يحب أولياءه ويكرمهم.
وهنا سؤال يقول: من هم أولياء الله؟ والجواب: يقول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا [يونس:63]، الإيمان الصحيح الحق، وَكَانُوا [يونس:63] طول حياتهم، يَتَّقُونَ [يونس:63] مساخط الله بفعل ما أمر، وبترك ما نهى وزجر.
سؤال آخر: هل للثالوث الأسود في باب الولاية شيء؟ نعم، فقد حوَّلوا القرآن ليُقرأ على الموتى، وجعلوا السنة تُقرأ للبركة لا للتعلم وأخذ الهداية، وقصروا أولياء الله في الموتى، فلو أنك قبل ستة قرون دخلت القاهرة المعزية، أو دمشق الشامية، أو بغداد، أو كراتشي، أو إندونيسيا، أو مراكش، أو الخرطوم في السودان، ثم قابلت أول شخص لقيته، فقلت له: يا أخي! لقد جئت من بلاد بعيدة، وأريد منك أن تدلني على ولي من أولياء هذه البلاد، فوالله لا يأخذ بيدك إلا إلى قبر، ولا يفهم أن في الخرطوم أو في القاهرة ولياً في الصفوف الأولى في المسجد، وهذه قبل سبعين سنة تقريباً، وأقسم لكم بالله لقد عاشت هذه الأمة قروناً لا تعرف ولاية الله إلا في الموتى، والذي فعل بها هذا هو الثالوث الأسود المكون من اليهود والمجوس والنصارى، فقد تعانقوا جميعاً لإطفاء نور الله تعالى، إذ إنهم عجوزا في الحروب فاحتالوا بالحيل، وعرفوا أن القرآن روح لا حياة كاملة بدونه، فعملوا على تحويله ليقرأ على الموتى، سواء في العواصم أو في البادية، وكذلك السنة لا تُقرأ إلا للبركة، فيجتمعون يقرءون كتاب البخاري أو الموطأ للبركة، لا لاستنباط الأحكام ومعرفة الهداية.
إذاً: الولاية حرموا منها الأحياء، وذلك من أجل أن يزنيَ بعضهم بنساء بعض، وأن يسب ويشتم بعضهم بعضاً، وأن يأكلوا أموال بعضهم بعضاً، ووالله العظيم لو كنت تعرف أن هذا السيد ولي لله فإنك لا تستطيع أن تسبه أو تشتمه، بل لا تستطيع أن تفكر بالزنا بامرأته، وقد عرفناهم، إذ إن أحدهم إذا مر بقبر ولي فإنه يرتعد، ولذلك فالعدو الثالوث لكي يبيح الزنا والجرائم، ولكي يفسد المسلمين قالوا: الولاية محصورة في أهل المقابر فقط، في سيدي عبد القادر الجيلاني، ومولاي إدريس، والعيدروس، والبدوي، والجيلاني، أما ولي يمشي على الأرض فلا.
والبرهنة على ما أقول: إن الزنا موجود في العالم الإسلامي، إذ إن المسلمين يزنون بنساء وببنات بعضهم البعض! وكذلك وجود الإجرام والتلصص والسرقة والسلب بين المسلمين، ولو كانوا يعتقدون أنهم أولياء لله ما استطاعوا أن يؤذوهم، لكن الأعداء مسحوا هذه القضية نهائياً، وتركوا الأمة كلها أعداء لبعضها البعض، والحمد لله أن عرفنا ذلك، وقد ذكرت لكم حادثة من ملايين الحوادث وهي: أني عندما كنت صبياً وجالساً مع شيوخ كبار حول المسجد، حدث أحدهم فقال: إذا زنا فلان فلا يمر بالشارع الفلاني وهو جنباً؛ احتراماً لسيدي علي! وهو ولي في القرية، فانظر كيف يزني بامرأة مؤمن من إخوانه، ثم يخاف أن يمر على قبر سيدي فلان وهو جنباً؟!
فهل عرفتم ما فعل الثالوث الأسود؟ إي عرفنا، فهيا نغير وضعنا، فمن منكم يقول: يا شيخ كيف نغير هذا الوضع؟ هل يقوم زعيم فيقول: بالخلافة! متى توجد الخلافة؟! وآخر قد يقول: بالمال؟! ما عندنا أموال، إذ إن هذا يحتاج إلى بنوك أمريكا كلها، إذاً نغير هذا الوضع بأن نقبل على الله في صدق، نساء ورجالاً وأطفالاً، فنجلس في بيوت الله كجلستنا هذه، أهل القرية وأهل الحي، وذلك أنه إذا دقت الساعة السادسة فنتوضأ ونتطهر، ونلبس أحسن الثياب، ونحمل أطفالنا ونسائنا إلى بيوت الله تعالى، فنصلي المغرب كما صلينا، ونجتمع هكذا، النساء وراءنا دونهن ستاراً، والأطفال بين الرجال والنساء صفوف كالملائكة، فنتلقى الكتاب والحكمة، ليلة آية من كتاب الله، وأخرى حديثاً من أحاديث رسول الله، على أن يكون المربي عليماً حكيماً، ويأخذون في هذا النمو والكمال العقلي والطهارة الروحية والآداب العالية، وفي خلال أربعين يوماً فقط أو سنة، لا يبق في القرية أو الحي من يسب أخاه المؤمن، ولا يبق من يمد يده لسلب مال أخيه المؤمن، ولا يبق من يفكر بأن يفجر ببنت أو بابن أو بامرأة أخيه المؤمن، ولا يبق من يتلوى من الجوع وإخوانه شباع، ولا يمشي عارياً وهم مكسوون، ولا يبق من يظلم ويسكت عن ظلمه، بل يؤدب ويهذب، وتصبح القرية أو الحي كأنها في عهد أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.
فما الذي يضير العالم الإسلامي لو أقبل على الله بهذه الطريقة؟ ما الذي يصيبهم؟ هل تتوقف الأعمال؟ لا والله ما تتوقف، إن اليهود والنصارى في العالم بأسره إذا دقت الساعة السادسة وقف دولاب العمل، سواء في فرنسا أو بريطانيا أو أمريكا أو اليابان، إذ إنهم اشتغلوا من طلوع الشمس إلى غروبها فيكفي، ثم يذهبون إلى دور السينما والمعازف ليروحوا على أنفسهم خمس أو أربع ساعات، ويعودون كالبهائم إلى بيوتهم، فهل نحن مثلهم؟ نحن إذا ذهبنا إلى بيوت ربنا نتلقى الكتاب والحكمة، تزكو قلوبنا وعقولنا وفهومنا وأرواحنا، ونعود في أسعد حال إلى بيوتنا.
وأنا أعرف أن علماءنا لا يقبلون هذا في العالم الإسلامي، إذ إنهم سيستصعبون هذا الأمر! فأقول: هل نسلب الناس أموالهم ونطالبهم بأن يغتالوا ويقتلوا ويثيروا الفتن؟! ما الذي يكون؟ فقط أن نرجع إلى الله فنبكي بين يديه، ونطرح أمامه ليرفع ما بنا، وينزل الخير والرحمة علينا، ومع هذا كم سنة ونحن نبكي؟ إنه لا حل لنا إلا أن نتوب إلى الله.
[ ثالثاً: تقرير مبدأ القضاء والقدر، وأن من كُتب موته في مكان لا بد وأن يموت فيه ]، فكم من إنسان في المدينة يريد أن يموت في المدينة فيموت في أمريكا، وكم من إنسان من إندونيسيا يموت في المدينة، ولذلك من كتب أن يموت في مكان ما فلن يموت إلا فيه، وهذا مظهر من مظاهر قدرة الله، وهو دليل ومنطق القضاء والقدر، وأخذنا هذه الهداية من قول الله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، ليموتوا هناك.
[ رابعاً: أفعال الله تعالى لا تخلو أبداً من حكم عالية، فيجب التسليم لله تعالى والرضا بأفعاله في خلقه ]، سواء كانت نصراً أو هزيمة، غنى أو فقراً، ذلاً أو عزاً، إذ ما تم ذلك والله إلا لحكمة عالية؛ لأن الله حكيم عليم، وقد ضربت لكم مثلاً عل ذلك وهو استعمار الغرب لنا، إذ إنه تم بتدبير الله تعالى، وذنوبنا هي التي أوقعتنا في ذلك حتى نفيق ولا نرجع مرة ثانية إلى الذل والهوان.
إذاً: فنحن ننتظر، فوالله إن لم يتدارك الله المسلمين في الشرق والغرب بتوبة صادقة لنزل بهم بلاء أعظم من بلاء الاستعمار، إذ إنهم يبيحون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، فهم معرضون عن الله تماماً، وكأن الله لا وجود له، وسوف ينزل البلاء على من لم يتب إلى الله ويرجع إليه، ولو عرفوا هذا لبكوا الليل وصرخوا.
[ خامساً: الذنب يولد الذنب، والسيئة تتولد عنها سيئة، فلذا وجبت التوبة من الذنب على الفور ]، وهذه سنة الله تعالى، فإذا أذنبت ذنباً أو فعلت سيئة ولم تبادر إلى محوه فوالله لتذنب مرة أخرى، وهذه سنة الله تعالى، إذ إن السيئة تولد السيئة، وأخذنا هذا من قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمران:155]، أي: ذنباً ولد ذنباً، وسيئة ولدت سيئة، فلهذا واجبنا أننا إذا أذنبنا نتوب على الفور، أما إذا لم نتب فسوف تتوالى السيئات حتى نغرق فيها والعياذ بالله.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر