أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال-فداه أبي وأمي والعالم أجمع-صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وها نحن مع هذه الآيات الخمس، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:128-132].
لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] هذه الجملة موجهة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد والمجاهد والمدير للمعركة والمبلغ، قد انتزع الله منه هذا، فقال له: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]، فهل بقي من الناس من يزعم أن له شيئاً في القول أو العمل؟ كل شيء لله.
وهذا لما شُج وجهه صلى الله عليه وسلم، وسقطت رباعيته، وأوذي في أنفه، وكان يكمِّد الجراحات، فقال عليه الصلاة والسلام: ( كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا؟ ) ودماؤه تسيل، وجراحاته تؤلمه، فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، فقال بعدها عليه الصلاة والسلام: ( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ).
لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ يا رسولنا، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ويدخلون في رحمة الله، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128].
قال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:129] خلقاً وملكاً وعبيداً، وليس لغير الله في الملكوت الأعلى والأسفل من له شيء مع الله، بل ولا إبرة، إذ كل ما في الملكوت العلوي والسفلي من الكائنات هو ملك لله عز وجل، وكيف لا وهو خالقه وصانعه وموجده، ثم أيوجد الشيء ويخلقه ثم يكون لغيره؟! إن هذا الغير مخلوق لله مربوب، فالله أوجده وخلقه، إذاً وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ من الكائنات كلها.
يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، يغفر لمن يشاء من عبيده الذين أنابوا إليه، وتابوا ورجعوا إليه، ويعذب من يشاء ممن أصروا على الكفر والعناد والشرك والظلم والحرب ضد الإسلام، ومع هذا لسنا كالمعتزلة، فيغفر لمن يشاء أن يغفر له، وليس هناك سلطة فوق سلطة الله بأن تلهمه بأن يغفر أو لا يغفر، أو يعذب أو يرحم، إذ له الخلق والأمر، قال عمر : من بقي له شيء فليطلبه، أي: كل الكائنات قائمة على الخلق والأمر، فالله هو الخالق والآمر والمدبر، فمن بقي له شيء فليطلبه.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، لكن علَّمنا أنه يغفر لمن رجع إليه، وتاب من ذنبه، وتخلى عن باطله، وابتعد عن كفره وشركه، وعد الصدق يعدهم الله أن يغفر لهم، وأوعد أيضاً من أصر على الشرك والكفر والظلم وحرب المسلمين بأنه يعذبه، ويبقى المؤمنون العاملون للصالحات إذا خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فالله عز وجل يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، ولا نجزم بأن كل مؤمن ارتكب كبيرة من الذنوب ولم يتب منها، أن الله يغفر له، إذ لا يقول هذا ذو إيمان وعلم ومعرفة، وإنما يُترك الأمر لله، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، والذي نجزم به عقيدة: أن أهل التوحيد أو أهل الإيمان إذا قارفوا الذنوب، وغلبت سيئاتهم حسناتهم، وطغت عليها، ثم أدخلوا النار، فإنهم يعذبون فيها، فإن وعد الله لهؤلاء أن يخرجهم من النار ويدخلهم الجنة.
إذاً: أهل الإيمان الحق، أهل التوحيد الصحيح الذين ليس في قلوبهم غير الله، إن زلت أقدامهم، وارتكبوا الكبائر من الذنوب، ثم دخلوا بها النار، فحسب قانون الله وسنته، أن وعد الله على لسان رسوله أن يخرجهم من النار ويدخلهم الجنة دار الأبرار، وأما من مات على الكفر والشرك، فقد أخبر تعالى-وخبره الصدق الحق-أنهم في النار خالدون، لا يخرجون منها أبداً.
فليهنأ المؤمنون الصادقون أنهم مهما ارتكبوا من الكبائر واستوجبوا العذاب ودخلوا دار الشقاء فإنهم يخرجون ويدخلون الجنة، فلا بد من فهم هذا من قوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، وختم ذلك بقوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:129]، (غفور) على وزن فعول، أي: كثير المغفرة، كسئول بمعنى: كثير السؤال.
إذاً: ثقوا بأن الله يغفر الذنوب، وإلا فهذا الاسم وهذا الوصف -غفور- كيف يظهر؟! أيسمي نفسه غفوراً وهو لا يغفر؟! مستحيل، ورحيم أيضاً فيرحم المعذبين الذين استوجبوا العذاب أو ذاقوه، ولن يستطيع كائن من كان أن يقول: فلان قد غفر الله له! أو فلان سيعذبه الله! وإنما يُترك الأمر لله.
وأما حكمه على أهل الكفر أنهم خالدون في العذاب والشقاء، فهذا يجب أن يكون عقيدة كل مؤمن ومؤمنة، وإلا فقد كذَّب الله عز وجل.
وأما خروج أهل التوحيد من النار بعد أن يعذبوا فيها أحقاباً أو دهوراً، فكذلك عقيدة المؤمنين، فالله عز وجل يخرج الذين ما عبدوا غيره ولا عرفوا سواه، ولكن غلبتهم دنياهم أو شهواتهم أو شياطينهم، فزلت أقدامهم فارتكبوا الكبائر من الذنوب، كأن قتلوا نفساً مثلاً، فهؤلاء إذا كانت سيئاتهم أكثر من حسناتهم فإنهم يدخلون النار، ويخرجون منها بإيمانهم وصالح أعمالهم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، فلا تبكِ إلا على أخيك إذا مات على الشرك، مات على الإلحاد، مات على الكفر، مات على تكذيب الله ورسوله؛ لأن هذا قد فرغ منه.
ثم بعد هذا جاء هذا النداء في استطراد عجيب؛ لأن البلاغة تقتضي أن المتكلم أو الخطيب أو غيرهما ما يسترسل في أحداث يمل السامعون، بل لا بد وأن يستطرد حادثة أخرى؛ لتستأنس النفوس وتقبل القلوب.
فالآن نحن مع أحداث أحد وبدر من عدة أيام، وهذه الآيات خاتمة، وقلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا؟ )، فقال الله له: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، ثم قال بعدها عليه الصلاة والسلام: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )، فعاد صلى الله عليه وسلم إلى الصواب بتوجيه الله وهدايته له.
ومن ثم انتشر الربا في أوروبا أولاً، ثم انتقل إلى العالم حتى لا تبقى رحمة ولا أخوة ولا ود ولا صداقة، والأسرة الواحدة كأن كل واحد منهم من عائلة أخرى، بل من إقليم آخر، وهذا كله من صنع بني عمنا اليهود، وللأسف أننا مددنا أعناقنا إليهم، وقبلنا توجيهاتهم وإرشاداتهم، وقبلنا هذا لما هبطنا، لما أصبح فينا من لا يعرف الله، ولا ما عند الله، ولا ما لدى الله، فضعف الإيمان وتخلخل في النفوس، وما أصبح هناك مودة ولا إخاء، ولا حب ولا صفاء، وبالتالي ماذا نصنع؟ أقبلنا على الربا، مع أن الربا جاءت فيه وعود من الكتاب والسنة لا تُطاق.
إذاً: معاشر المؤمنين والمؤمنات! من سبق له أن تورط فليخرج من الورطة، وليتوكل على الله، وليسحب نقوده من البنوك الربوية، ومن لم يقع في هذه الورطة فليحمد الله، وليكثر من حمد الله، وليدع لإخوانه أن ينجيهم الله أيضاً، وأن يخرجهم من هذه الفتنة.
هذا هو الطريق، وبدون هذا لو أن الحكام رفضوا البنوك وأغلقوها لأوجدنا في بيوتنا بنوكاً أخرى، وذلك أننا عرفنا عجائز يفعلن هذا، فتمشي إلى العجوز فتقول لها: يا عمتي، تقول لك: أعطني كذا، نعطيك كذا، إذاً فما هو الحل؟ الحل أن نسلم قلوبنا لله، فلا هم لنا إلا رضا الله، ونسلم وجوهنا إليه، فلا نقبل إلا على الله، ويتبع ذلك جوارحنا، فألسنتنا لا تنطق بما لا يرضي الله، أرجلنا لا تمش حيث يسخط الله، أيدينا لا تمتد حيث لا يرضى الله، وهذا والله لهو الحق المبين، وهذا ما يتم بالكرباش ولا بالسحر، وإنما يتم بالطريقة التي سلكها رسول الله والمؤمنون، أي: أن نتعرف على الله، فتمتلئ قلوبنا بحبه وخشيته.
والآن نحن في هذه الفوضى سلوا الذين يسلفون إخوانكم: هل ردوا عليهم أموالهم؟ لا يراه طول العام، وقد جربنا هذا والحمد لله تجربة كاملة، وما أظن في حياتي رد عليّ في الوقت المحدد إلا واحداً فقط!
إذاً: ما المخرج يا عباد الله؟! هل نبقى هكذا نهبط فقط؟ هيا يا أهل حي بني فلان، من غدٍ نجتمع في بيت ربنا، ولا يتخلف رجل ولا مرأة ولا طفل، وإذا ما اتسع بيت الله نفرش السجادة ونجلس عند الباب، ونعزم على تزكية نفوسنا، وتطهير أرواحنا، وذلك من طريق الكتاب والحكمة، قال الله وقال رسوله، ويجلس لنا رباني عليم بشرع الله، فيأخذ معنا ويهذبنا ويطهرنا وينمي معارفنا ويزيد في كمالاتنا، وكل يوم ونحن نشعر بزيادة من الخير، وفي خلال أربعين يوماً فقط نصبح نعجز أن نغادر المسجد، بل ما تقوى على أن تبقى في الدكان أو في البيت، وهذه سنة الله، أما في خلال سنة فسيصبح أهل الحي كأنهم رجل واحد، يتقاسمون الخير والخيرات على حد سواء.
فهل هناك طريق غير هذا؟ نستعمل الإنجيل؟! السحر؟! أو نأتي بعصا هتلر وكل باب أمامه شرطي بالعصا؟! والله ما ينفع، وأقسم بالله أنه لا طريق إلا هذا، أي: أن نصدق ربنا في إسلامنا له، ومن ثم والله لتبحث عن من تعطيهم النقود الفائض عنك، وراتبك كفاك وأنت مقتصد وزاد، وعند ذلك تتمنى أن يأتي إليك مؤمن يقول لك: أقرضني كذا، أو هيا نفتح دكاناً، أو ننشئ مزرعة؛ لما تعلم من صدق أخيك، إذ إنه يرضى أن يقتل ويصلب ويحرق، ولا يرضى أن يخون أو يكذب أو يغتال أو يخدع، وهذا هو المؤمن، إذاً: نحن في حاجة إلى عودة جديدة إلى الإسلام.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:130] لبيك اللهم لبيك! لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، وأصل المضاعفة كانت جارية بها العادة في ربا الجاهلية، خلاف ربا العلمانية اليوم، إذ إنه أفظع وأعظم، بينما ربا الجاهلية تأتي إلى أبي جهل عمرو بن هشام، أو إلى عقبة بن أبي معيط فتقول له: الآن موسم تجارة كذا، فأقرضنا عشرة آلاف درهم، وموعدنا نهاية الموسم، فيعطيك عشرة آلاف، ثم يأت الموسم ولم تستفد أو تربح، فتأتي فتقول: يا عقبة! الأمر لك، إن شئت أخر وزد، أما الآن ما عندي شيء، فيقول: نؤخرك إلى عام آخر ونزيد عشرة! كذلك تمشي إلى أبي سفيان فتقول له: نريد خمسة من الإبل نتجر عليها أو نركب عليها، وفي الحج المقبل نأتيك بها، ثم أخذت الإبل ومشيت، وشاء الله أن ضاعت أو ماتت، ثم جاء الوقت المحدد، فماذا تقول؟ لصدقك وكرامتك تقول: يا أبا سفيان! أخر وزد، أجلني سنة وزد ناقة أو كذا، فهذا هو ربا الجاهلية.
أما ربا المعاصرين، ربا البنوك اليهودية، تأتي إلى البنك فتقول: نريد مائة ألف ريالاً، فيسجل عليك مائة ألف ويعطيك خمسة وتسعين! ولا يعطيك مائة ألف ثم يقول لك: ردها مائة وعشرة، فأي الربا أفضل وأهون؟!
ربا الجاهلية؛ لأن جهَّال العرب كانوا أكرم الناس، وكانوا أرحم الخلق، وهذا الربا المعاصر ربا اليهود الذين ينظرون إلى الإنسان كوسَخ، سواء كان أسبانياً أو إيطالياً أو بريطانياً، إلا اليهودي، إذ إنهم يعتقدون أنهم شعب الله المختار، ولهم الحق في الحياة، وكل البشر أوساخ ونجس، فيحتالون على إفسادهم، على تعذيبهم ما استطاعوا، لكن لعجزهم وعدم قدرتهم يتلوَّنون، ومع ذلك الآن استطاعوا أن يسودوا العالم بأسره بالربا.
فهيا نعصيهم، ولا نستطيع ولا نقدر على ذلك حتى يعود نور الإيمان إلى قلوبنا، ونصبح نرجو الله والدار الآخرة، وفي ذلك الوقت نستغني عن الحثالات والفضلات، والأطعمة والألبسة الزائدة، فلا نحتاج إلى أن نستقرض، وإنما نكتفي بقرص العيش أو بحفنة التمر.
فاتقوا الله وأغلقوا أبواب الربا، واحذر يا عبد الله أن يراك الله أمام بنك، إلا إذا كنت في بلاد المسلمين، فعرفوا أن في جيبك ألف ريال قتلوك من أجلها، أو في غرفتك هدموها عليك، ففي هذه الحال نقول: ضعوا أموالكم في البنوك لتحميها، ولكن لا تقبلوا فائدة أبداً مهما احتجتم، بل لا تأخذوا فلساً واحداً؛ لأنه حرام.
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]، هذا الفلاح دنيوي وأخروي والله العظيم، فدنيوي أن يصبح أهل البلاد أو أهل القرية وكأنهم شخص واحد، ولاء وحب وتعاون، وطاعة وإحسان وبر-فإنها سعادة وأي سعادة-فتمشي تجاهد أربعة أشهر لا تخاف على امرأتك ولا على مالك ولا أولادك؛ لأنهم بين إخوانك، يحمونك أكثر مما يحمون أنفسهم، سعادة فلاح في الدنيا بذهاب المخاوف وحصول الأمان والسعادة، وفلاح في الدار الآخرة بالزحزحة عن النار ودخول الجنة، وهذا توجيه الله عز وجل.
أما بالنسبة لشركات التأمين، فإذا كانت تؤمن أموالها في البنك، ولا تأخذ فائدة عنه فلا بأس كما قدمنا، وأنت إذا أُمرت أن تأخذ نقودك من البنك الفلاني فلا يضرك ذلك، ونحن قلنا: لا يراك الله عند باب بنك، يعني: تودع وتستلف وتأخذ، وهذا هو مراد المتكلم.
قال أهل التفسير: في هذه الجملة إشارة إلى أن المستبيح للربا كافر، ومعنى المستبيح: أن يقول: ليس هناك حرام، اتركونا من هذا، بخلاف من يقول: حرام وأستغفر الله، فهذا ما يكفر أبداً، فهو يستغفر ويندم، ويجيء يوم يترك المنكر الذي يفعله، أما إذا قال: دعونا من هذا، ليس هناك حرام، فهذا ارتد وكفر وإن صام وصلى.
قوله: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [آل عمران:132] محمداً صلى الله عليه وسلم، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]، هذه توجيهات الله رب العالمين لهذه الأمة الطاهرة، فأطيعوا الله في أمره ونهيه، والرسول أيضاً في أمره ونهيه وتوجيهه؛ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]، أي: يرحمنا الله إذا أطعناه وأطعنا رسوله بكل أنواع الرحمة في الدنيا وفي الآخرة.
إذاً: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، فيعذبهم لأنهم ظالمون، والظالمون هم الذين يضعون الشيء في غير موضعه، فبدل أن يعبدوا الله عبدوا الشيطان، وبدل أن يتجروا في الحلال اتجروا في الحرام، وبدل أن يقولوا الطيب من الكلام قالوا الخبيث من الكلام، فهذا ظلم، والظالم يلقى جزاءه في الدنيا والآخرة، وقد بينا غير ما مرة، فلو أنك قمتَ الآن وقلت كلمة سيئة فإن إخوانك سينهالون عليك بالضرب؛ لأنك ظلمت، كذلك كُلْ هذه الليلة خمسة كيلو من الطعام، غداً وأنت في المستشفى من التخمة؛ لأنك ظلمت.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:129]، فإياكم أن تطلبوا ما لله من غير الله، فأنت تؤمن بأن لله ما في السموات وما في الأرض، فكيف تقول: يا سيدي فلان أعطني كذا! إذاً: لا يصح أن تطلب شيئاً من غير الله، إذ ليس من شيء إلا وهو لله في السموات والأرض، لا المطر ولا العشب ولا النبات، ولا الذهب ولا الفضة.
يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، إرادته مطلقة، ولكن عَلَّمنا أنه يغفر لمن قرع بابه، وسأله التوبة والمغفرة، أما من أعرض واستنكف وتكبر فلا يجري الله وراءه ويقول: تعال أتوب عليك!
وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، من أعرض عن الله وأراد العذاب يعذبه، ومع هذا حتى نخرج من فتنة المعتزلة نقول: إرادة الله مطلقة، فأهل التوحيد يدخلون النار ويغفر لهم، بينما المعتزلة يقولون: لا يغفر لهم، وهذا باطل، إذ إن الله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وهذا إعلان عن إرادته المطلقة، ولكن يعذب بالحكمة ويرحم بالحكمة؛ لأنه هو العليم الحكيم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، وقد عرفتم أنه لا يجوز لأحدهم أن يحتج فيقول: ليس هناك مضاعفة، أعطانا خمسين ألفاً، فأعطيناه ألفين فقط، ليس هناك مضاعفة، ولو نصف ريال؛ لأن هذا خرج مخرج الغالب فقط، فلو تقول: من فضلك أعطني مائة ألف وأردها مائة وعشرين ألفاً، والله ما صح ولا جاز أن تأخذ ريالاً أبداً.
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ [آل عمران:131] لمن؟ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131]، أي: الجاحدين والمكذبين لأخبار الله وأخبار رسوله، ولوعود الله ووعود رسوله صلى الله عليه وسلم.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132].
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر