فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في هذه الليلة ندرس كتاب ربنا عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا بك يا ولينا! إنه لا ولي لنا سواك.
وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وانتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:98-101].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!
تقدم لنا ما بينه تعالى من شأن أهل الكتاب اليهود والنصارى وبخاصة اليهود، إذ زعموا أن بيت المقدس قد بني قبل الكعبة، وزعموا أن إبراهيم عليه السلام لم يبن البيت، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: أنت تدعي أنك على ملة إبراهيم وفي نفس الوقت لا تستقبل قبلته التي كان يستقبلها! فرد الله تعالى عليهم أباطيلهم رداً حاسماً، وها هو تعالى يوبخهم ويبكتهم بهذه الآيات الكريمة.
وانظر لما أراد المؤمنين ناداهم باسمهم: يا أيها الذين آمنوا! فما أسند النداء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن المؤمنين أولياء الله، يحبهم ويحبونه، فناداهم: يا أيها الذين آمنوا!
أما اليهود فلبعدهم عن الله وخبث نفوسهم، ولشرهم وطغيانهم وفسادهم ما ناداهم بل أسند إلى رسوله أن يناديهم.
وهل تشعرون بهذا أم لا؟
فالشخص إذا كان يعادي آخر فإنه لا يكلمه، بل يقول: كلمه أنت! واطلب منه كذا.
قل يا رسولنا والمبلغ عنا صلى الله عليه وسلم: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [آل عمران:98] وهنا يعلم تعالى أنهم يعلمون، وأنهم على علم بما جاء به رسول الله من الحق والهدى، وأن الإسلام هو دين الله وملة إبراهيم والأنبياء.
وقوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:98] أي: ولو لم يكونوا علماء فكيف يقال: تكفرون، وتجحدون بعد العلم والمعرفة؟
وآيات الله منها أن هذا البيت العتيق بناه إبراهيم وإسماعيل، وأنه قبلة العالم بأسره، وأنه وجد قبل إبراهيم، وما إبراهيم عليه السلام إلا جدد بناءه مع إسماعيل، وأن بيت المقدس ما بني إلا بعد أربعين سنة، فبنى إبراهيم الكعبة بأمر الله تعالى، أو جدد بناءها، ثم أمره أن يبني بيتاً في أرض فلسطين، فبنى بيت المقدس، وإن جددها سليمان على نمط عال وراقٍ، لكن إبراهيم بناها لما كان يقيم هناك بعد هجرته من أرض بابل.
إذاً: قوله: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ومنها النعوت والصفات التي في التوراة والإنجيل، وهي تقرر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم باسمه وبصفاته ونعوته، فجحدوها وأنكروها وأولوها وحرفوها؛ حتى يبعدوا العالم عن الإسلام، فلهذا بكتهم ووبخهم.
فقوله: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:98] أي: من المكر والخداع والغش والتضليل.
فقوله: قُلْ أي: يا رسولنا! يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ [آل عمران:99] به، فلم تصرفون المؤمنين من العرب ومن أهل الكتاب؟ فإذا أسلم أنصاري أوسياً أو خزرجياً يأتون إلى بيته، ويأخذون في فتنته، وإذا أسلم أحدهم عادوه وأعلنوا الحرب عليه، فلم تصدون عن سبيل الله وتصرفون الناس عن طريق يسعد أهله السالكين له والقائمين عليه؟ فهذا توبيخ وتأنيب وتبكيت.
ثم قال: تَبْغُونَهَا عِوَجًا [آل عمران:99]أي: تريدون سبيل الله معوجة، وسبيل الله مستقيمة لا تنتهي بالسالكين إلا إلى رضا الله ودار السلام، فلم تطلبونها معوجة منحرفة، يقولون: نحن نعرف أنه رسول، ولكن رسول العرب ما هو رسولنا نحن. فيصرفون إخوانهم عن الإسلام، وإلى الآن ما زال حالهم هكذا.
قال: وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ [آل عمران:99] أي: على ما تعلمونه من صحة هذه الدعوة، وصحة نبوة صاحبها وأنها دين الله الحق الذي لا دين سواه.
إذاً: خواصهم والله كانوا عالمين وعارفين، ومنعهم من الدخول في الإسلام مراكزهم ومناصبهم، وحتى يبقوا في نظرهم شرف بني إسرائيل، وحتى لا يذوبوا في الإسلام والمسلمين، أما عوامهم فإنهم يقودونهم كالبهائم، فرؤساؤهم يحرفون يؤولون، ويفعلون ما شاءوا من أجل أن تبقى هذه الزمرة اليهودية، لكن يقول تعالى بعد ذلك: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [آل عمران:99].
إذاً أهل الكتاب يبغون سبيل الله معوجة منحرفة، لا تقود إلى دار السلام وإلى رضا الله، فيحرفون شريعة الله، ويريدونها معوجة لا مستقيمة، وأنتم شهداء على هذا الذي تعملونه وتعترفون وتقرون به، والله ليعرفون أن محمداً رسول الله، وألا دين إلا الإسلام.
ولا تعجب! فقد وجد من المسلمين من غرته الحياة الدنيا، وهو يعرف الحق ويعدل عنه، إلا أن هذه الطائفة والعياذ بالله تعالى واجهت رسول الله والمؤمنين.
هذه الآيات جاء في سبب نزولها أن شاس بن قيس اليهودي وأحد رجالات اليهود الماكرين، مر بمجموعة من الأوس والخزرج في مكان ما وقد كانوا نازلين فيه يتكلمون ويتحدثون، وكانوا مستبشرين فرحين مسرورين بالإسلام وبما هداهم الله إليه، فاغتاظ شاس اليهودي وتأسف وتحسر كيف أن الأوس والخزرج الذين كانوا يعيشون على عداء كامل وعداوة تامة بينهم، كيف يتحدون اليوم ويتعانقون ويتصافحون؟!
وقد قامت حرب بعاث والتي دامت أربعين سنة بين القبيلتين الأوس والخزرج، وكان اليهود هم الذين أشعلوا نارها، وهم الذين فرقوا بين قبيلتين أصلهما واحد، وديارهما واحدة؛ وكل ذلك من أجل أن يجدوا مكاناً يسودون فيه، ولو ترك الأوس والخزرج متحابين متعاونين فلا مكان لليهود، بل سيعيشون أذلاء هابطين، لكنهم أوقدوا نار الفتنة بينهم، وأججوا شعلة الحرب فيهم أربعين سنة بما يسمى حرب بعاث، وكان الذي أوقد نار هذه الفتنة هم اليهود؛ ليبقى لهم وجود!
أما الآن فإن أعداءنا من اليهود والنصارى يظنون نفس الأمر أننا لو اتحدنا وأصبحت كلمتنا واحدة فإنهم سيخسرون الشيء الكثير، لكن فرقة المسلمين أوجدت لهم مكاناً بينهم ينتفعون بها.
وتبدأ القصة من أن المدينة قبل الإسلام كان يسكنها الأوس والخزرج، وأصلهما من اليمن، بسبب ما حصل لسد مأرب فهربوا ونزلوا هنا في المدينة، وبعضهم الآخر نزل في الشام، وكان اليهود قد نزحوا من الشام ونزلوا المدينة وخيبر وفدك وتيماء، وقد هربوا من ضغط النصارى؛ إذ كان النصارى يبغضون اليهود أشد من بغضنا نحن لليهود، والعلة أنهم يعتقدون أن اليهود قتلوا إلههم وصلبوه، والذي يعتقد أن إنساناً قتل ربه لا يرضى عنه، بل هو كافر، وفعلوا بهم العجب، فهرب اليهود من بلاد الروم إلى بلاد العرب، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى كان اليهود يتطلعون إلى نبوة آخر الزمان وخاتم الأنبياء؛ لما يجدون في التوراة والإنجيل من البشارات الإلهية عن نبي آخر الزمان، وأنه يخرج من جبال فاران، وأنه من ولد إسماعيل، وهذه النعوت موجودة عندهم. فنزحوا إلى هذه البلاد رجاء أن يستقبلوا النبوة الجديدة، وينضموا تحت رايتها، ويحققون أهداف بني إسرائيل.
فلما ظهر لهم أن الأمور ليست في صالحهم شرقوا بريقهم، ووقفوا حرباً ضد الرسالة الجديدة، ومن مظاهر ذلك ما نحن بصدده.
فقد مر شاس بن قيس اليهودي الحَبر العالم بمجموعة من الأوس والخزرج يتبادلون الحب والولاء والطهر والصفاء فاغتاظ وتألم، فجاء بيهودي وقال: اجلس بينهم وذكرهم بحرب بعاث، وأنشد بعض الأشعار التي كانوا ينشدونها لإثارة الحمية والحماس، فأنشد الأوسيون والخزرجيون تلك الأشعار التي فيها السب والشتم، وإذا بنار الفتنة تتأجج، وقالوا: لن ننتهي إلا بحرب! وتواعدوا بالحرة: غداً نلتقي هناك بسيوفنا.
وبالفعل خرجوا من الغد بسلاحهم ورجالهم؛ لينتقم بعضهم من بعض، وأُعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحادثة؛ فخرج صلى الله عليه وسلم ماشياً على قدميه، هو وبعض رجاله من المهاجرين، فما إن شاهدهم حتى رفع صوته صلى الله عليه وسلم قائلاً: ( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! ) فما زال يكررها حتى سالت دموع القوم، وبكوا وتعانقوا، وذهبت تلك الفتنة إلى غير رجعة إلى يوم القيامة.
فهاتان الآيتان نزلتا في هذه القضية، والعبرة -كما تقولون وتفهمون- بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلنستمع نداء الله لهم ولنا معهم.
وكل مؤمن ومؤمنة إذا سمع: يا أيها الذين آمنوا! فليعطها أذنه وسمعه، ولينتظر ما يقول ربه، وهذا عبد الله بن مسعود يقول: إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا! فأعرها سمعك، فإنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه. فخذ نصيبك يا عبد الله!
ونداءات الرحمن لأهل الإيمان سمعناها بآذاننا، وحفظناها في صدورنا، وها نحن نطبقها حرفياً في حياتنا، والحمد لله!
وللأسف أن ملايين المسلمين ما سمعوا أن الله ناداهم، ولا فهموا أن الله يناديهم أبداً، وعلة هذا الجهل، وعلة الجهل الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فأقبلنا على الأغاني والملاهي والطبول والمزامير والفكاهات والأحاجي والقصص والخرافات والشركيات قروناً عديدة! فكيف نعلم؟!
وأسألكم بالله: أيوحى إلينا وأنت لا تتعلم؟! وقد ختمت النبوة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فلا بد إذاً من طلب العلم، ولا بد من معرفة ما أنزل الله وما شرع الله وما أمر ونهى عنه الله، والجهل هو محنتنا.
وهنا كررنا هذا القول مئات المرات والله شاهد، وقلنا: يا معشر المؤمنين! أيها المسئولون! يا آباء البنين اسمعوا! إنكم تضعون أبناءكم بأيدي المعلمين من أهل الكتاب! فيجلسون بين أيديهم السنوات فكيف يعودون إليكم ربانيين مؤمنين صالحين؟ أما تجب طاعة المعلم؟ بلى. تجب!
وأنا إذا كان معلمي يهودياً أو نصرانياً، قساً أو حَبراً من الأحبار، فإني سأجلس بين يديه يعلمني أربع سنوات إلى خمس سنوات وينفث في نفسي روح الكفر؟!
وللأسف أن الوزارات في العالم الإسلامي عرباً وعجماً يتولاها أولئك الخريجين، وخمسة وسبعين في المائة هم من خريجي جامعات أوروبا وروسيا والبلاد الشيوعية، فهؤلاء الوزراء في المال .. في الاقتصاد .. في الحرب .. في السلم .. في كذا .. معصومون؟ كيف يتحركون؟ يتحركون بغير ما علموه وعرفوه؟
الجواب: والله إلا من عصم الله، لا يتحركون إلا بما فهموه وعلموه، ومن هنا حقروا الإسلام والمسلمين، وأعرضوا عن كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وقالوا في أهله: خرافيون ورجعيون وكذا وكذا.
هذا هو السر، واسمع الحكيم العليم يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، ومن يقول: لا يا رب! لا يردوننا؟ أيقول هذا عاقل؟!
والواقع شاهد، فلم تعطلت شريعة الإسلام وأبعد القرآن وهجرت السنة، وترك الحكم بكتاب الله وسنة رسوله؟ لم؟ وما سبب ذلك؟
والله إنه للجهل المركب الذي تلقاه أبناؤنا ورجالنا من معلميهم، سواء الذين يعلمونهم الفيزياء أو الهندسة أو الديمقراطية أو قل ما شئت، فينفثون فيهم سمومهم، وإن أنفقوا عليهم الأموال فلا ينفقونها ليتعلمون حب الله ورسوله والمؤمنين، وكره الكفر والكافرين.
وهذه الآية عجب فكأنها نزلت الآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا وما قال: إن تطيعوا أهل الكتاب إنما قال: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا أي: مختصاً، وهم الذين يثيرون الفتن ويحرضون على الباطل والشر من أجل هبوط هذه الأمة وعدم صعودها ورقيها، وقد أطعناهم والواقع شاهد، فلِمَ يستقل الإقليم ولا يطالب السلطان عبد العزيز بأن يبعث لهم قضاة ورجالاً يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟ بل ما إن يستقل حتى يعلن عن دولته وقانونه بعيداً عن الإسلام والمسلمين!
أعيد القول وسوف تسألون يوم القيامة: من أوجد دولة عبد العزيز ؟
الضلال الذين يكرهون التوحيد يقولون: بريطانيا!
والله ما أوجدها إلا الله، وتعلموا هذا إن كنتم تعقلون، فلما خفتت أنوار الإسلام، ووضع الغرب قدميه العفنتين على صدور المسلمين من إندونيسيا إلى موريتانيا، فالعرب والعجم الكل تحت أقدام الاستعمار، وصفق اليهود والنصارى والضلال والغافلون، فما بقي للإسلام شأن لا قرآن ولا سنة ولا دعوة، فأيس الناس كيف يعود القرآن يحكم من جديد؟ فجاء الله عز وجل بهذه الدولة، وأسباب مجيئها ليست بشيء، ولكن الله أراد، وحكم عبد العزيز بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعالم يشاهد وينظر، والجاهلون يصفقون للعالمين، والعالمون يكرهون التوحيد والإسلام والمسلمين! وشاهدوا بأم أعينهم الأمن الذي تحقق في هذه البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وشاهدوا الطهر والصفاء اللذين تحققا بحكم الله عز وجل، ولا ينكر هذا إلا مغرض أو جاهل مسحور يتكلم بما لا يعلم.
فظهرت آيات الله، وأخذ الله عز وجل يحرر المسلمين بعد أن أذاقهم مر العذاب بالهون والدون لفسقهم وفجورهم وجهلهم وإعراضهم عن الله.
وأول إقليم تحرر وقد عاصرناهم إقليماً بعد إقليم، وكان الواجب على أهل ذلك الإقليم ما إن تسلموا زمام الحكم وخرجت فرنسا أو إيطاليا أو بريطانيا كان الواجب أن يرسلوا وفداً إلى عبد العزيز أو من خلفه، ويقولون: هذا الإقليم استقل وتحرر، وهذه مفاتيحه فعين والياً عاماً، فهذا إقليم من أقاليم الدولة الإسلامية، وابعث قضاة يطبقون قال الله قال رسول الله، ويبقى البلد له خيراته وبركاته، ولكن تطبق فيه شريعة الله، فيؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، وتجبى فيه الزكوات، وتقام فيه الصلاة إجبارياً، وتغلق أبواب المخامر، وتدمر المصانع، والحمد لله ستتسع رقعة البلاد الإسلامية، فينتقل إلى الإقليم الثاني والثالث والرابع والخامس، فمن ثم تكون الخلافة الإسلامية قائمة، وأمة الإسلام أمة واحدة، وأمرهم واحد.
لكن لم أعرض المسلمون عن هذا؟
خوفاً من الله!
والآن يبكون ويبكون، وماذا يجدي البكاء فقد مزقتنا خلافتنا بأيدينا، وأعرضنا عنها.
ونعود إلى: يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] فأكثر الوزراء والمسئولون في الدول العربية والإسلامية بعد استقلالها وأيام استقلالها هل هم بدو من أصحاب الكتاتيب؟ من حفاظ القرآن؟!
إن حفظة القرآن يقرءونه على الموتى، ولا وظيفة ولا مال، والله العظيم! أما الذين ساسوا وقادوا البلاد فهم خريجو جامعات بريطانيا وفرنسا وأمريكا وروسيا.
إذاً: ماذا ترجون من هؤلاء والله يقول: يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] صدق الله العظيم.
أما تبكون على المسلمين وأمورهم؟ أين الإسلام؟
و( من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم )! وها نحن نشاهد الفتن تنتقل من بلد إلى بلد والمسلمون يحترقون.
وقضية شاس اليهودي تتناول هذا اللفظ، ولكنها انتهت، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونوره يلوح فعادوا إلى الله، لكن يبقى هذا الحكم: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ فمن أين يأتيكم الكفر أو يدخل عليكم أو يفسد قلوبكم والحال أنكم تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]؟
وقد بينا مئات المرات في هذا المسجد المبارك، وما بلغنا أن مؤمناً نقل مثل هذا أو تكلم به، لا في بيته ولا مع جلسائه، وإن تكلم يقولون له: خيالات، هذا خيال فقط ولا حقيقة له!
ومعنى الآية أنه لا يتأتى الكفر لنا ولا يدخل قلوبنا ما دام القرآن يقرئ علينا ويفسر لنا ويبين لنا، وسنة رسوله تشرح وتبين وتقودنا! فإن نحن اعتزلنا وبعدنا عن الكتاب والسنة فلا محال من الكفر، فالمناعة انتهت!
أما أن نبعثهم ونرمي بهم في أحضان العواهر!
وقد نددنا بتلك الإعلانات والتي فيها: وانتهت العطلة الصيفية: فمن يبعث ولده إلى بريطانيا ليتعلم أربعين يوماً اللغة البريطانية، وينزلونهم في أسرة من العواهر الكفار!
فكيف يعودون أسألكم بالله؟!
وصرخنا وبكينا وقلنا: هذا موت .. هذا دمار، كيف تبعث ابنك أربعين يوماً في العطلة ليعيش مع العواهر؟! أستغفر الله! وهل الكافرات مصونات عفيفات؟!
إنه شاب من شبيبة الإسلام ترميه بين أحضان الفتيات فكيف يسلم من الفجور؟
وهذا الواقع الذي نصرخ منه له أسبابه، ومن ذلك أن المسلمين لما استقلوا ما عرفوا الله، فكرهوه وكرهوا دينه وملته، وتغنوا بالاشتراكية والديمقراطية وأعرضوا عن الإسلام، وبعثوا أولادهم يتعلمون الكفر أحبوا أم كرهوا.
وبهذه الأذن سمعت في فرنسا مسئولاً في سفارة من السفارات يقول: لما يقولون: إلى متى هذا الحجاب وهذا كذا؟ قال: نقول لهم: ما هي إلا أوقات فقط، ولا بد من التدريج. ففهمت أنهم يريدون مسخنا ولكن بالتدريج وليس بالقوة! فالحجاب ليس بممنوع، لكن شيئاً فشيئاً.
وماذا عسانا أن نقول والله ينادينا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:100-101] ماذا تقولون في هذه الآية: جديدة أم قديمة؟
ولما سمع إخواننا من الجن آيات كهذه قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1]. ولكننا كالأموات.
هل فسرت هذه الآية في العالم الإسلامي؟
وهل بلغكم أنهم يبعثون مع طلابهم أئمة يربونهم؟
والله لو فعلوا هذه النظرية وقد قلناها من عشرات السنين؛ لصار مركز الطلاب مركزاً للدعوة الإسلامية! فيؤذنون فيه والنصارى يسمعون ثم يأتون يسألون العالِم: ما هذا الإسلام؟
كما قد قررنا وقلنا: ينبغي للمسلمين إذا دخلوا إلى مبنى الأمم المتحدة أن يدخلوا بعمائمهم وطرابيشهم، لا أن يدخلوا كاليهود والنصارى، وأين المسلم؟!
فلما يدخلون مبنى الأمم المتحدة أو مجلس الأمن بالمشلح أو العمامة يقولون: من هذا؟ فيقال لهم: هذا مسلم! فيقولون: وما مسلم؟ فهو ما سمع بالإسلام. ثم يقال له: إن كنت تريد أن تسمع عن الإسلام فامش وراءه، فهو نازل في الفندق الفلاني فيعلمك!
فبالزي فقط ندعو إلى الإسلام! لكن للأسف الشديد حتى الزي لا يوجد.
كذلك المسلمة لو سافرت للضرورة معك! فلا تنزع عنها الحجاب من الطيارة، بل دعها تسافر محتجبة حتى يقولوا: ماذا هذا؟ فيقال لهم: هذا الإسلام، فيقول: ما هذا الإسلام؟ فيسألون أهله ويبدءون يتساءلون.
لكن لا، أكثرنا يقول: لا نريد أن نعرف أننا مسلمون.
فجحدنا الإسلام، وعلة هذا الجهل، ليس الجهل بالفيزياء أو بالتقنية، إنما الجهل بالله ومحابه ومكارهه، وما أعد لأوليائه وما هيأ لأعدائه.
فأقول لهم: يقول الله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] فهيا نعود!
يقول: صعب يا شيخ! أن نعود.
أقول: والله إنها لأسهل من أن تشرب كأس لبن، لأن ولاية الله من يقاومها؟ من يقهر الله أو يذل أولياءه؟
فإن قال قائل: ما هو الطريق السهل الميسر؟
أقول: الطريق السهل أن أهل القرية العربية والأعجمية وسكانها ألف .. ألفان .. ثلاثة آلاف نسمة يقولون: هيا نعود إلى الإسلام من جديد! فنعود بسم الله، ويبدأ إمامهم على المنبر يوم الجمعة يقول لهم: أبناءنا إخواننا! هي نأخذ على أنفسنا عهداً لله أننا لا نغيب عن بيت ربنا كل يوم من المغرب إلى العشاء، فإذا مالت الشمس إلى الغروب نغلق باب التجارة إن كنا تجاراً، ونرمي المسحاة من أيدينا إن كنا فلاحين، والمطرقة إن كنا حدادين، ونتوضأ ونأتي بنسائنا وأطفالنا إلى المسجد بيت الرب، فيجلس النساء وراء الستارة، ومكبر الصوت بينهن، والأطفال دونهن في صفوف عجيبة كالملائكة، والفحول أمامهم، ويصلون المغرب، ثم يجلس لهم عالم بالكتاب والسنة، فقط يعلمهم الكتاب والحكمة، ويأخذون في التلقي يوماً بعد يوم.
وكذلك هو حال أهل الأحياء في المدن يوم الجمعة يقول لهم خطيبهم: معاشر المستمعين! من اليوم لا يتخلفن رجل ولا امرأة عن صلاة المغرب والعشاء في مسجدنا هذا؛ لنتلقى الكتاب والحكمة، وفي صدق يقبلون على المسجد، ويتلقون ليلة آية وأخرى حديثاً، كما قد مثلنا هذا وجربناه في كتاب المسجد ففيه ثلاثمائة وستين آية وحديثاً، ونظل على ذلك سنة كاملة ونحن نمرن المسلمين على هذا، ولا حركة أبداً.
فإن سأل سائل: ماذا ينتج كل هذا؟
الجواب: والله إن النتيجة لهي أن يسود الحب والولاء والأخوة والصفاء، وينتهي الغش والخداع والكذب والنفاق والإسراف والتكالب على الدنيا، وتصبح القرية أو الحي كالملائكة، فلا جوع ولا فقر ولا خوف ولا بلاء، والله ليفيضن المال، حتى إن من راتبه عشرة آلاف يبحث كيف ينفقها.
إذاً فلم لا نقبل على هذا ويصبح مذهبنا واحداً؛ فلا حنفي ولا حنبلي ولا مالكي ولا زيدي ولا أباضي، بل مسلمون، قال الله وقال رسوله، وفي قريتهم أو في حيهم، في بيوت الله طول العام، ساعة ونصف فقط أو ساعتين، والله لا منقذ لأمة الإسلام وقد هبطت إلا هذا، إلا أن تعود إلى الكتاب والسنة بهذه الطريقة.
فإن قلتم: هذا أمر صعب، فلم تقولون: وليس هناك إلا الجهاد أو الديمقراطية أو يقتل بعضنا بعضاً؟
يا أبنائي! هناك نيران مشتعلة في الجزائر لها أربع سنوات وستنتقل من بلد إلى بلد، ولا يطفئها إلا الله، ولا تطفأ إلا بالإيمان الصحيح والعودة الربانية.
لكن كيف يعتصم بالله؟ الجواب: يستمسك بحبل الله النازل من السماء.
وما هو حبل الله؟ حبل الله هو القرآن الكريم، كتاب الله عز وجل.
والله تعالى أسأل أن يهدينا والمؤمنين إلى أن نعود إلى ربنا، فتنشرح صدورنا وتطيب نفوسنا، ونجد لذة الأنس بذكر ربنا. فاللهم حقق لنا ذلك، إنك ولينا وولي المؤمنين.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر