فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الثلاثاء من يوم الأربعاء، ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).
اللهم حقق لنا رجاءنا فيك يا رب العالمين.
وبشرى أخرى نزفها لكم يا أيها المؤمنون! يقول صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ) فهنيئاً لكم.
وثالثة: إذا صلى العبد الفريضة وجلس في مصلاه يذكر الله حتى صلى الفريضة الثانية غفر له ما تقدم من ذنبه، فالحمد لله الذي أعطانا ما حرمه غيرنا، والآن عشرات الآلاف من أبنائنا وإخواننا يتواجدون هنا وهناك وهم محرومون من هذه الجلسة، لا لشيء، فقط ما أقبلوا على الله لا أقل ولا أكثر، فالحمد لله! وهذه هبته وعطيته، فلا يحمد على الحقيقة إلا هو.
وها نحن مع هذه الآيات الثلاث.
تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:90-92].
ولكن مع هذا تنبيه .. تحذير .. إعلام: احذر يا عبد الله واحذر يا أمة الله! من الاستمرار على المعصية، فإنه يأتي وقت يحال بينك وبين التوبة، فلا تستطيعها، ولا تقدر عليها، أما الله تعالى فهو مستعد لأن يقبلها إن جاءت، وإذا حال بينك وبينها حوائل فماذا تصنع؟!
فليحذر عبد الله أو أمته من الاستمرار على المعصية.
يا عبد الله! يا أمة الله! إذا زلت القدم وأصر عبد الله أو أمته على المعصية فليعجل التوبة وليسرع بها؛ خشية أن يحال بينه وبينها، واسمعوا قول الله عز وجل في هذا الشأن، فقد جاء من سورة النساء المدنية: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء:17-18].
ومن هنا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته سبيل نجاتها، فقال وقوله مستقى من كلام ربه، قال: ( عجلوا بالتوبة ولا تؤخروها )، فمن أذنب ذنباً فليسارع بالتوبة ولا يتماطل أو يتسوف، فأسرع يا عبد الله خشية أن يصبح العبد على حال لا يستطيع معها أن يتوب؛ لأنها سنة الله في الناس. فالذي تعود أكل الحلال .. تعود أن يتناول تمرة عند يقظته من نومه يصبح في حال لا يستطيع أن يصبر على ذلك، فقد تعود أن يأكل نوعاً من الطعام يصبح لا يرغب إلا فيه، وهذه أمور مشاهدة، كالذي يعتاد الكذب ويستمر عليه يصعب عليه أن يتوب منه، والذي يعتاد أية معصية ويستمر معها ولا يسارع إلى التوبة ولا يتوب منها ففي أغلب الأحوال أنه يموت عليها، ولهذا أجمع أهل هذه الملة على وجوب التوبة وعدم تأخيرها.
قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي: واجبة على الله واجب تفضل به وامتن به علينا، وإلا الله من يوجب عليه؟ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ وهو كل سيئة من شأنها أن تسوء إلى النفس البشرية فتلوثها وتدسيها يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17] أما عمداً وتحدياً وعدم مبالاة بالله فمثل هذا لا يتوب الله عليه.
ومن هذه الجهالات أن يقول: سأتوب إن شاء الله، أو إذا زال كذا، أو إذا حصل كذا، أو يقول: لو كان هذا حرام فلم فعله الشيخ الفلاني؟ أو لو كان هذا مما يكرهه الله فلم يفعله فلان وفلان؟ هذه أنواع الجهالات.
بخلاف من يتحدى الله فيقول: أعرف ربي أنه حرم وأنا سآتيه، فمثل هذا لا يتاب عليه.
ومن يقول: هذا ليس بحرام، ولا يفهم أنه حرام، فهذا نوع من الجهالة، وبمجرد أن يقبل على الله فإن الله يقبله ويتوب عليه، وله التوبة.
ولاحظ هذا القيد فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ أولاً: بِجَهَالَةٍ وثانياً: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17] والقرب هنا نسبي، فليس مسافة كيلو أو ميل أو عشرة، ولا مسافة يوم ولا عام ولا عشرين عاماً، فمن هنا كانت الحيطة تتطلب أنك بمجرد ما تفعل المعصية أن تقول: أستغفر الله وأتوب إليه.
وإليكم صورة أمام أعينكم: في سوق التمَّارين كانت هناك امرأة مؤمنة زوجها في غزوة من غزوات المؤمنين، فاضطرت إلى أن تأتي إلى السوق لتشتري تمراً لأولادها إذ هذا غذاؤهم، فوقفت على بائع التمر، وأخرجت يدها بيضاء كفلقة القمر؛ لأنها مستورة، فأخرجت النقود، فما إن رآها الفحل التمار حتى أعماه الشيطان فأكب على ذلك الكبش يقبله، ثم قالت: أما تتقي الله؟ فأفاق والله من ذلك السوق وهو يجري ينتف شعر لحيته، ويحثو التراب على رأسه، وعاد يصرخ ويبكي إلى هذا المسجد .. إلى الروضة وهو في حالة لا تتصورها، فسأل أحد الصحابة فرده، وانتظر حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب بالمسلمين وشكا إليه وهو يبكي، فقال: ( صليت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم. قال: إن الله يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] فمسح دموعه ). والله يقول: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن ). هذه هي التوبة.
أما أن يستمر الليالي الطوال والأيام والأعوام على معصية من كبائر الذنوب فأنى له أن يتوب، ولكن باب الله واسع؛ فكم من إنسان لازم معصية عشر سنين وأقدره الله على التوبة وأعانه عليها فتاب، وكم من إنسان هلك في أسبوعه الأول، ومن هنا الحيطة تقتضي بمجرد ما أشعر أنني أخطأت تقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله وأتوب إليه.
ثم قال: ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [آل عمران:90] أي: فزادوا كفرهم الأول كفرهم بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وهؤلاء أخبر تعالى أنه لن يقبل توبتهم، لأنهم ليسوا بأهل لأن يتوبوا، ولو تابوا فلن تقبل توبتهم ولن يتوبوا، فإنهم كفروا على علم في المرة الأولى، ثم كفروا في المرة الثانية، وكفرهم ليس مجرد تكذيب، بل يضاف إليه الكيد والمكر والقتل وسفك الدماء وإثارة النفوس و.. و.. وجرائم أخرى فعلوها.
وقد حاولوا قتل النبي ثلاث مرات، ومات والله متأثراً بالسم الذي سقته الخيبرية.
وهذا النوع يقول فيه تعالى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ [آل عمران:90] والضلال بعيد.
وهذه مسألة أخرى نضرب لها مثلاً: فهناك فرق بين الضلال القريب والضلال البعيد، والآية فيها ضلال بعيد، فلو أراد أخونا أن يمشي إلى مكة الليلة، فاتجه شمالاً، ومشى طول الليل فتبين له أن مكة في الجنوب وليس في الشمال، فرجع وأمكنه؛ لأن الزاد ما زال عنده والإعياء ما أخذه والراحلة معه، لكن إذا ما كان قد مشى وواصل المشي شهراً أو شهرين فوصل إلى تركيا مثلاً فكيف يرجع؟ فما بقيت له قدرة على الرجوع؛ لأن ضلاله بعيد.
ففرق بين الضلال القريب والبعيد، فمن هنا قوله تعالى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ [آل عمران:90] لأنهم توغلوا في الكفر والشر والفساد والظلم والخبث، وما أصبحوا أهلاً لرضا الله أبداً، فلا يقبلهم الله عز وجل.
قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: من العرب والعجم .. من اليهود والنصارى .. من أي جنس وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ماتوا على الكفر، هؤلاء: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ لو قال: رب! هذه الأموال كلها وأنقذني بها من دخول النار؛ إذ يوم القيامة لا دينار ولا درهم، بل ولا نسب ولا حسب، قال تعالى: فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، وكل ما في الأمر: هل النفس زكية طاهرة أو خبيثة منتنة؟ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] وزكاتها يومئذ، وطهارتها مبنية على تزكيتها اليوم وتطهيرها بالإيمان وصالح الأعمال وبإبعاده عن الشرك والعصيان.
ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:91] أي: موجع.
ما هذا العذاب الأليم؟
قال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور:13-14]، اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:16] أي: تدري؟ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ [الدخان:43-44] والأثيم هو المتوغل في الآثام من الشرك والكفر إلى الظلم والشر والفساد، فقد خبثت نفسه، وهذا هو طعامهم، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:45-46] فهذا الزقوم لما يأكلوه يغلي في بطنه كما تسمع الغليان في القدر، كغلي الحميم، لا، كالماء الحار لما يغلو خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إلى أين؟ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ [الدخان:47-48] فهذا عذاب جسماني قد يطاق ويتحمل، ووراءه عذاب نفسي لا يطاق وهو قوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49] أي: ذق إنك أنت العزيز في الدنيا الغالب المعتز بوجودك وبلادك وكرمك، فهذا عذاب الروح أشد من عذاب البدن، وإلى الآن الأحرار كلمة في أعراضهم تقتلهم أكثر من ضربة بالسيف.
وهل تريدون ألواناً من هذا العذاب؟
قال تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ موحد ومشرك فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ [الحج:19] ثياب من نار من يفصلها ويقطعها الزبانية يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:19-21] أي: مرزبة على رأسه مقامع من حديد.
ماذا تقولون؟
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [يس:63-64].
والله تعالى نسأل أن يقينا عذاب النار، فلهذا لا يصلين أحدكم صلاة حتى يستعيذ بالله من أربع، وهي آخر ما يصلي على النبي يقول: ( اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، وفتنة
وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:91] فلا يوجد من ينصرهم بتأخير العذاب أو بتفتيره عن أوقات معينة، فقد انطوت الحياة كلها وما بقي إلا عالمان أعلى وأسفل .. عليون وسجين، ليس هناك حياة أخرى، وأهل النار في سجين، وإن كانوا من أهل التوحيد فإنهم يصهرون فيها ويلبثون فيها أحقاباً ويحترقون حتى يصبحوا كالحمم أي: كالفحم، ثم يخرجهم الله بتلك الحسنة وهي قولهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله! ويقدمون أو يساقون إلى نهر يسمى: نهر الحيوان، مبالغة في الحياة، فيغسلون فيه فينبتون كما ينبت البقل، ثم يدخلون دار السلام. هذا إن كانوا موحدين لم يشركوا بالله شيئاً، لكن من ذنوبهم أنهم سفكوا الدماء .. أكلوا أموال الناس .. فجروا، كذا .. وماتوا بدون ما توبة، والله يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40] فهذه حسنة التوحيد.
يا من قلوبهم مع الله! أبشروا حتى لو عذبتم ما شاء الله في عالم الشقاء تعودون إن شاء الله إلى دار السلام.
نسأل الله ألا ندخل النار وألا نعذب لا ساعة فيها ولا يوم، بل نريد أن ندخل مع السابقين: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:10-14] اللهم اجعلنا من هذا القليل.
وهذه الآية معشر المؤمنين والمؤمنات نزلت فينا لا في اليهود ولا في النصارى؛ لأننا تواقون إلى البر، وسباقون، وكل يرغب أن يكون من الأبرار، والأبرار جمع بار وهو المطيع الصادق في طاعته لله ورسوله، قال تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا [الانفطار:13-15] متى؟ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ [الانفطار:15-16].
يا من صاموا وصلوا! يا من قاموا الليل! يا من بذلوا أنفسهم! يا من يسارعون في الخيرات ويسابقون! يا عمر! يا فلان! تعالوا إلى هذا الإرشاد الإلهي وهو: اعلموا أنكم لن تنالوا البر وجزاءه وهي الجنة دار النعيم، ولن تنالوا وصف الأبرار على الحقيقة حتى تنفقوا في سبيل الله مما تحبون، أما الذي لا ينفق أو ينفق مما يكره لا مما يحب فلن يصل إلى هذا المستوى؛ لأن لفظ البر كلمة جامعة للخير كله، والمراد به هنا: الجنة، إذ هي جزاء الأبرار، فلن تنالوها حتى تنفقوا مما تحبون.
والحمد لله! ما قال: حتى تنفقوا ما تحبون وإلا خرجنا الليلة من بيوتنا: حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92].
واشرأبت أعناق المؤمنين لهذا النداء القرآني، فهذا عمر قال: يا رب! أنا ما عندي إلا الجارية الفلانية هي أحب ما أحب من الجواري، فهي لك يا رب، فعتقها.
أما ولده عبد الله فقال: أنا عندي نافع مولاي فهو لك يا رب، فأعتق نافعاً .
ومِن الصحابة من كان عنده فرس هي أحب ما يكون إليه فقال: هذه فرسي لك يا رب! فهي الذي أحب.
وجاء ذاكم الصحابي الجليل طلحة صاحب حديقة بيرحاء، وبئرها كان موجوداً، والآن زال، وقد رأينا بئرها وشربنا منه، فقال : ( يا رسول الله! لقد نزل عليك قول الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ) أي: حائط بيرحاء، وعنده بساتين أخرى لكن هذه ذات أشجار وظلال ونخيل وماء عذب، وهذا الماء شربنا منه بعد ألف وأربعمائة سنة.
قال الصحابي: ( ضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال له الرسول: بخ بخ، ربح البيع. اجعلها في أقاربك، فوزعها بين أقاربه ).
ولو يقوم إمام المسلمين الآن ويقول: نريد أن نغزو فأنفقوا مما تحبون، فالذي يقدم سيارة ممتازة يكون حاله كحال هذا الصحابي، والذي يقدم سيارة مهللهة فلا ينفع.
أقول: الحمد لله! ما قال: أنفقوا ما تحبون، فمن يطيق؟ بل قال: مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، فإذا كان عندك قطع من الذهب فأنفق منها قطعة، وإذا كان عندك قطع من الفضة فأنفق منها قطعة، وإذا كان عندك من البساتين الكثير وأحب إليك البستان الفلاني فأخرجه تصدق به، وهكذا. وفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زال المؤمنون يفعلون.
قال تعالى: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ قل أو كثر فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92] ومعنى هذا: لازمه أنه يجزيكم عليه، ويعطيكم ثوابه، والحسنة بعشر أمثالها، وريال الذي راتبه ألف ريال يعدل مائة ريال الذي راتبه عشرة آلاف ريال، فتختلف الحسنة بأصحابها، فإن كانوا أغنياء فدرهمهم ليس كدرهم الفقير الذي لا يملك، ومعنى هذا أن باب الله مفتوح، فيا من يريدون أن يدخلوا الجنة فإنها مفتحة الأبواب.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [آل عمران:90] فلو كان كفروا ثم تابوا قبلوا كما تقدم في الآية السابقة، لكن ازدادوا كفراً وتوغلوا فيه فلن تقبل التوبة، فخبثوا، وما أصبحت أرواحهم قابلة للطهر والصفاء وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ [آل عمران:90] والضال هو البعيد الضلال الذي لا يرجع.
ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [آل عمران:91] فما تابوا قبل أن يموتوا، فهؤلاء الجزاء : فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ فداء مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا [آل عمران:91] لو افتدى به، مع أن هذا لا وجود له، فهو من باب الفرض والتقدير فقط. قال: أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:91] ينصرونهم، لا بتخفيف العذاب ولا بتأخيره ولا ولا.
ثم قال: [ ثانياً: اليأس من نجاة من مات كافراً يوم القيامة ] فإذا مات أبوك أو أخوك أو زوجتك أو أمك -والعياذ بالله- على الكفر، فلا نجاة أبداً، وليس هناك رجاء أبداً، أيئس. وإذا مات من مات على الكفر أيسوا المؤمنين من أن يدخلوا الجنة أبداً، وهذا كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا [آل عمران:91] فهذا تيئيس.
ثم قال: [ ثالثاً: لا فدية تقبل يوم القيامة من أحد، ولا فداء لأحد فيه ] فلو قدمت أسرتك كلها أو تقدمت الأسرة تقول: يا رب! أدخلنا النار وأنج والدنا وأدخله الجنة؛ والله لا يقبل أبداً، بل لو تقف البشرية كلها وتقول: يا رب! أنقذ فلاناً فقط وأدخله الجنة.
ومن أراد الصورة المثالية: فهذا رسول الله قائم على الحوض في عرصات القيامة، وإذا بجماعات ممن ينتسبون إلى الإسلام يقبلون على الحوض فيطردون، فتطردهم الملائكة فيقول: ( رب! إخواني، يقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً ).
وأوضح من هذا إبراهيم وقد واعده ربه في القرآن بإنقاذ والده من النار، فلما يجد والده في النار يصرخ: يا رب! لقد واعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، وهذا أبي الأبعد في النار فأي خزي أخزى من هذا يا رب! فيقال له: انظر تحت قدميك. وكان رافع رأسه يبكي، فينظر وإذا بين يديه والده آزر البابلي في صورة ذكر الضباع ملطخ بالدماء والقيوح، فما إن يراه إبراهيم عليه السلام حتى يقول: سحقاً سحقاً، فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في عالم الشقاء، فتطيب نفس إبراهيم.
إذاً: من مات له ميت على الشرك والكفر فلييأس من نجاته، أما من مات على ذنب: آكل ربا .. زنا فعل كذا وعقيدته مؤمنة سليمة فهذا يرجى له، وأما من مات على الكفر، والكفر هو الجحود، فمن جحد كلمة واحدة من شرع الله فهو كافر، والتكذيب من كذب الله أو رسوله في قضية واحدة وآمن بكل القضايا فهو كافر.
قول ربنا لنا نحن المؤمنين: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ قلَّ أو كثر فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92]، ولازم ذلك أن يجزيكم، فلا تقل: آه لعل الله ما يدري أنني أنفقت يوم كذا كذا وكذا، فانتبه! فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92].
وهذا الشاطبي يقول في أصول الفقه: لو تتناول كأس اللبن أو الماء أو العسل على الهيئة التي يتناولها عليها الشرّيب الذي اعتاد يشرب الخمر؛ فتأخذ الكأس على الطريقة التي يأخذ انقلب فوالله إن لبنك إلى خمر، وإنك آثم.
وكذلك الذي يمسك القلم ليكتب به على هيئة الحشاشين أصحاب الدخان، وانظر لما يركب السيارة كيف يعمل السيجارة، وأنت تتناول القلم رغبة في أن تكون مثله فانقلب قلمك إلى سيجارة، وهذا لا يصح.
واسم البيرة يكفي، وأكثر من يشربها من أبنائنا الطائشين يشربها من أجل اسمها البيرة.
ثانياً: الحجاج والزوار عندما يزورون دولة الإسلام التي يمنع فيها صنع الخمر وبيعه وتوريده، ويجلد صاحبه أمام المسجد، يقولون: البيرة موجودة في المدينة، كيف هذا؟! وهي والله موجودة، فسببتم حكومة القرآن وشتمتموها أمام العالم، وهذه وحدها كافية في تحريم هذه المادة، وهذا السائل حرام أن تقدمه، وقد سببتم دولة القرآن وعرضتموها للطعن والنقد والإهانة.
ثالثاً: إنهم يوردون عشرين كرتونة كما يقولون بيرة، ويدسون كرتون الوسكي بينها، والله قد فعلوا، وهذه حيل الفساق والفجار والجاهلين الذين لا يعرفون الله إلا بالانتساب، والحمد لله قد استجابت الهيئة وطاردوهم ومنعوها من الدكاكين.
قال: [ ثانياً: لن يبلغ العبد بر الله وما عنده من نعيم الآخرة حتى ينفق من أحب أمواله إليه ]، فإن ورثت باخرة كاملة من البيرة فارمها في البحر، والله ليعوضنك الله أكثر مما رميته، وأنت يا صاحب المقهى إن اشتريتها في غفلة أو جهل فارمها في بئر، واطلب الجزاء من الله، فوالله لن تخيب ولن يخيبك.
أما أنت يا ضائع! يا من يتلذذ باسم الحرام في مدينة الرسول! فاعلم أنك على حفا هاوية، وإن لم ينقذك الله هلكت، والذي يشرب البيرة ويتلذذ بها والله لو وجد المسكر شربه، أقسم بالله لما نعرف من سنة الله في الخلق.
قال: [ ثالثاً: لا يضيع المعروف عند الله تعالى قلَّ أو كثر، طالما أريد به وجه الله تعالى ]، فالذي يتصدق بمليار كالذي يتصدق بريال، والله لا يضيع أجر هذا ولا ذاك، والذي يتصدق بتمرة كالذي يتصدق بصاع من التمر؛ لأن الله لا يضيع أجر المحسنين.
وصل اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر