أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليالي ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين!
وها نحن في سورة آل عمران، وما زلنا مع الآيات التي نزلت بسبب وفد نجران، وهم نصارى جاءوا من نجران، من جنوب البلاد يجادلون رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى.
والآيات التي درسناها بالأمس، وهي ثلاث آيات نعيد تلاوتها؛ لنتذكر النور الذي أضفاه علينا بها، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [آل عمران:69]، وهذه الطائفة هي: رؤساء اليهود والنصارى.. علماؤهم وأحبارهم، يحافظون على العوام؛ للإبقاء على سلطتهم، وعلى منزلتهم بينهم، وعلى ما يكتسبونه من أموال منهم، عرفوا الحق وجحدوه؛ للحفاظ على متاع الدنيا وحطامها، فلنحذر نحن المسلمين أن يوجد بيننا هذا النوع.
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:69]، (أهل الكتاب) أي: اليهود والنصارى، ودوا وأحبوا: لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [آل عمران:69]، فأنتم الآن على هداية الطريق الموصل إلى السعادة والكمال، وهم منحرفون ضالون يريدون أن يخرجوا بنا عن الصراط المستقيم إلى هاوية الضلال والكفر والشر والفساد، ولا يستطيع ابن امرأة أن ينكر هذا، إلا أن يكون أحمق أو جاهلاً؛ لأن هذا إخبار غارز الغرائز وطابع الطبائع وعلام الغيوب، العليم بذات الصدور، إلا أن الواقع معروف، لا ينكره ذو عقل، فإلى الآن اليهود والنصارى طوائف منهم يعملون على إضلالنا بشتى الوسائل والحيل، وحسبنا ما ينشره اليهود من الدعارة والخلاعة والسفور والفجور وأندية اللواط، وأندية القمار والربا، وما إلى ذلك في العالم فواضح كالشمس.
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [آل عمران:69]، يضلون أنفسهم، إذ أبعدوها عن طريق الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة، ولوثوا أنفسهم وخبثوها وعرضوها لغضب الله وسخطه، ثم بالتالي إلى عذابه الدائم الذي لا ينتهي.
قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:70]، أي: لم تكذبون بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران:70]، فهذا تقريع وتوبيخ وتأديب من الله عز وجل لليهود والنصارى.
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران:70]؛ أي: تشهدون أن هذه الآيات هي الحق من الله، كفروا وكذبوا بالقرآن، وبكل ما فيه من الشرائع والأحكام، وكذبوا وأنكروا ما في التوراة والإنجيل من نعوت نبي الأمة، وخاتم أنبياء الله ورسله.
فنعوت الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته في التوراة والإنجيل واضحة كالشمس، ودالة على خاتم الأنبياء أحمد صلى الله عليه وسلم، وهاهي كلمة عيسى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]، فلم تكذبون يا يهود ويا نصارى بهذه الصفات وهذه النعوت؟!
حتى تحرموا أتباعكم من رحمة الله، حتى تمنعوا أتباعكم من الدخول في الإسلام؛ لينجوا من سخط الله وعذابه، ليكملوا ويسعدوا في الدارين، فهؤلاء يستحقون كل هذا التوبيخ.
والاستفهام هنا بـ(لِمَ) للتوبيخ، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران:70] أنها الحق والصدق.
وهذا خاصة ما قدمنا بطوائف الأحبار والرهبان، كما فعل رجالات التصوف عندنا، يحرمون العوام من العقيدة السلفية، والدخول في رحمة الله، ويلزمونهم بالبقاء معهم.
فمثلاً: إذا سألت أحداً: من شيخك يا بني؟ يقول: سيدي عبد القادر . عبد القادر هو شيخك؟!
أين تسكن؟ في نيجيريا.. في المغرب. كم كيلو متر، كم ميلاً من المغرب إلى بغداد؟ عشرة آلاف كيلو.
أنت في أي قرن تعيش؟ في ألف وأربعمائة. وعبد القادر متى كان؟ يقول: كان في القرن السادس.
فتقول له: كيف أصبح شيخك وأنت لا جلست بين يديه، ولا تعلمت عنه، ولا وجهك، ولا رباك، ولا هداك؟ سيقول: شيخي عبد القادر ، حتى لا يجلس أحدهم عند شيخ آخر.
من شيخك؟
قال: سيدي أحمد التجاني. هل عرفته أو عاشرته، أو جلست بين يديه؟ كيف أصبح شيخك؟!
يربطونه بأن شيخه فلان؛ حتى لا يجلس في حلقة علم، ولا يجلس مع طلبة علم ولا.. أنا شيخي فلان وكفى!
وهكذا ربطوهم بمشايخ لا وجود لهم، مضوا قبلهم بقرون؛ ليبقوا مسخرين لأولئك الذين يسمون بالشاوش وبالقائد.
قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران:70] والجملة حالية.
أي: لم تلبسون الحق ثوب الباطل حتى تستروا الحق وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران:71].
وهذا توبيخ أيضاً، فلم يحملهم على كتمان الحق الجهل بل هم عارفون وما حملهم على كتمان الحق إلا الحفاظ على مراكزهم ومناصبهم وعلى السمعة، وعلى وجود من يخدمهم.
أولاً: بيان رغبة كثير من اليهود والنصارى في إضلال المسلمين وإهلاكهم ]. فهذه الآية بينت لنا رغبة كثير من اليهود والنصارى في إضلال المسلمين، وإخراجهم عن جادة الحق والصراط السوي؛ ليهلكوا معهم، ولئلا ينشروا الإسلام بينهم وتسقط مكانتهم ويهبط مستواهم، دل على هذه الهداية قوله تعالى: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [آل عمران:69] .
[ ثانياً: عاقبة الشر والفساد تعود على صاحبها في نهاية الأمر ].
يا فاعل الشر! يا فاعل الفساد! أنت تفعل، نهاية الأمر يعود فسادك عليك وشرك عليك في النهاية؛ دل على هذا قوله تعالى: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [آل عمران:69]، ما يشعرون؛ لأن إحساسهم تبلد، الرغبة في المنصب والطعام والشراب والنكاح و.. و.. أشغلتهم وأنستهم حتى وجودهم.
[ ثالثاً: قبح من يكتم الحق وهو يعرفه ]. يا ويح! يا ويل! من يكتم الحق وهو يعرفه.
مثلاً: يا سيد! أنا أريد قباء من أين الطريق؟ فيقول: لا أعرف وهو يعرف، فهذا يكون قد كتم الحق.
تسأله: يا فلان! أين المسجد؟ فيقول: لا أدري وهو يعرف أين هو فهذا أيضاً كتم للحق.
تسأله: يا سيد! هل يجوز لي أن أكذب بعض الكذبات لجاجتي؟
فيقول: لا أدري. كذلك كتم الحق. لم لا يقول: لا يجوز لك أن تكذب؟!
يا سيد! عندنا فيديو في البيت نستأنس به، ونروح على أنفسنا، هل يجوز؟
يقول: لا أدري. فهذا كذلك كتم الحق، فلو قال: لا يجوز، يفتنكم، يفسد قلوبكم، يدفعكم إلى الشر والباطل ما كتم.
فهذه أمثلة.. ومن عرف الحق يجب ألا يكتمه، إلا إذا خاف، تفصل هذه.
[ رابعاً: حرمة التدليس والتلبيس في كل شيء ]، فالذي يخلط سمن الغنم بسمن الشجر ويبيع يكون قد دلس، والذي يخلط الحليب بالماء يكون قد دلس أيضاً.
مثلاً: عندنا خياط في شارع العينية، يقول: هذه خياطة سوق، وهذه خياطة ذمة. كيف يكون هذا؟
بل يجب عليك أن تخيط كل الثياب بإتقان بحسب قدرتك، ولا تقل: هذه خياطة سوق، وهذه خياطة ذمة، فلا يجوز هذا، فمن التدليس أن تكون الخياطة للسوق غير ما تكون للزبون.
وقد ذكرنا البارحة قصة بائع الطعام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شك الرسول صلى الله عليه وسلم بكيس الطعام، فأدخل يده فأخرج الشعير مبتلاً، فقال لصاحب الطعام: ( لم ما تجعل هذا فوق حتى يعرف؟ من عش فليس منا ).
الآن يقولون: يوجد غش في السيارات.. يعرف أن قلبها مريض، وأن عينها عمياء، فيقول: هذه هي، اشتر كما هي. لا. بل قل لي ما فيها من عيب أو ننقلها إلى الطبيب كاشف العيوب فنقول له: افحصها، فإن قال بها العيب الفلاني الفلاني فأنت حر اشتريها أو خفضت لك من القيمة، أما إذا أشتريها وهي مموهة مطلية ويكتشف أن فيها عيوب فيبدأ يلعن صاحبها، فهذا لا يجوز حتى مع اليهود أعداء الدنيا ( من غش ليس منا )، فلا نرضى به محمدياً مؤمناً.
فالذين يغشون ما عرفوا وما عملوا، فكل شر وكل خبث، وكل فساد، وكل ظلم يحدث بين المسلمين علته الجهل، ما ربيناهم، ما هذبناهم، ما علمناهم، فنشئوا على الضلال والجهل والعمى فهم يفتكون بالحياة ويدمرونها ونحن نلومهم.. وإلى الآن ما تفطنا أبداً، وما ربينا أولادنا، ولا بناتنا ولا أنفسنا.
هذه الحلقة في المسجد النبوي، فالمدينة سكانها أكثر من مائتي ألف، والذين يتعلمون الهدى واحد في الألف.
فكيف يتعلمون هؤلاء الجهلة وهم الآن مع الفيديو مع التلفاز، ومع المجلة، ومع الأغنية، ومع الصاحب، ومع الأضاحيك، وإن كان يأتي يصلي ويخرج ما ينتفع، ما يكمل، واقرءوا إن شئتم: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [الجمعة:2]، هو، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2].
حتى إن بعض الصحابة كانوا يتبادلون الوقت.. عمر كان يفعل هذا، وإلا كيف زكت أنفسهم وطابت أرواحهم، وتفقهوا في دين الله، وأصبحوا أئمة البشر؟ فهم درسوا وتخرجوا من حلق الذكر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأبنائهم.
فالآن -مع الأسف- طلبة المدارس فيهم شياطين -اسمحوا لي ما قلت أنا- آباؤهم يقولون هذا، فأين التربية؟ احضره إلى المسجد ليجلس في بيت الله أربعين يوماً ويمسح ذاك الظلام من نفسه.
قال وأخيراً: [ حرمة كتمان الحق في الشهادة وغيرها ]، سواء كان: اشهد على كذا.. فلا تكتم الحق وصرح به، أو في غير الشهادة؛ دل على هذا قوله عز وجل: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران:71] أنه حق، فهذا الذي هذب المؤمنين والمؤمنات من تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجاله، فوالله! ما عرفت الدنيا منذ أن كانت أمة أطهر ولا أصفى ولا أكمل ولا أعز ولا أكرم من تلك الجماعة التي عاشت على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتربيته، لم تكتحل عين الوجود بمثلها، ما سبب ذلك؟
لم يكن الغنى، بل عاشوا فقراء.. فقد كان أبو هريرة رضي الله عنه يحمل الكيس على ظهره، وقد كان عمر رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين يحمل اللحم في طرف ثوبه من السوق.
يقول تعالى: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]، (وجه النهار) أي: من وقت صلاة الصبح حتى الساعة التاسعة أو العاشرة من النهار.
وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمران:72]، أي: وقت صلاة المغرب أو العصر.
وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آل عمران:73]، هذا كلامهم لبعضهم البعض لا علاقة لنا به.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:72]، أي: قالوا لبعضهم البعض وهم رؤساء اليهود في خيبر والمدينة، آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]، أي: يرجعون إلى دينكم.. إلى الوثنية والشرك؛ لعلهم يخرجون من الإسلام لماذا؟
أولاً: هذه الآية أدت غرضين صحيحين:
الأول: لما تحولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، إذ صلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون والمؤمنات في المدينة إلى بيت المقدس غرب المدينة سبعة عشر شهراً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يصلي بين الركنين اليمانيين، يجعل القبلة غرب، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لو يستقبل الكعبة لكان خيراً له، من أجل أن يفارق اليهود؛ لأن اليهود أصبحوا يتبجحون يكذبنا ويكفرنا ويصلي إلى قبلتنا، سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142].
الشاهد: أنها وقعت ضجت في المدينة ليست بالهينة، وهي: كيف يصلي إلى قبلتنا ولا يؤمن بديننا؟
ما إن حول الله تعالى القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة حتى ازدادت الفتنة، وأصبح اللغط والكلام حتى قالوا: وغداً يستقبل قبلة أخرى ما يثبت على شيء، وجاءت الآيات القرآنية: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ [البقرة:150]؛ لأنهم ما يسكتون، فهم كالكلاب لابد وأن يقولوا، فلا تلتفتوا إليهم.
فاستغلها بعض اليهود كـابن الصيف وفلان وفلان، وقالوا لبعضهم البعض: صلوا معهم إلى قبلتهم، وفي المساء صلوا إلى بيت المقدس، فإذا تسأل: لم؟
قالوا: ظننا أنه الحق وبعد تبين لنا أنه خطأ فعدنا إلى الحق، وهذه تفعل وتؤثر في قلوب العوام والجهال، هذا تؤديها هذه الآية الكريمة، وأعظم من هذا وهو المقصود، وهو أنهم اتصلوا بعلماء اليهود في خيبر، وعلماء اليهود بالمدينة، وعقدوا مؤتمراً لضرب الإسلام، فقالوا: يا فلان، ويا فلان ويا فلان، أعلنوا عن إسلامكم في المسجد النبوي، وقولوا: دخلنا في دين الله أول النهار، وآخر النار، لا تدخلوا المسجد، ولا تصلوا معهم ولا تقولوا مسلمون، فيتساءل الناس: لم؟
قالوا: دخلنا في الإسلام، ظننا أنه هو الحق، وأنه الدين الذي جاء به موسى وعيسى، وتبين لنا بإرشاد وبينان علماءنا أن هذا خطأ لا دين إلا اليهودية، فمثل هذا يحدث زعزة في قلوب المؤمنين واضطراباً في نفوسهم.
والآن هناك تخطيط يقوم به اليهود، في إذاعة لندن، وإذاعة كذا، ويعملون بهذا عملاً في الصحف والمجلات و..
قال تعالى: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:72]، أي: اليهود هنا، قالوا لبعضهم: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمران:72].
(وَجْهَ النَّهَارِ): أي: أول النهار، وأول النهار وقت شروق الشمس.
وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]، أي: يرجعون عن الإسلام إلى الشرك، يريدونهم أن يتركوا الإسلام، ولو عادوا إلى الشرك؛ لأن العرب كانوا مشركين، فضلاً عن اليهود الذين دخلوا في الإسلام، كما سمعتم.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:72]، أي: قالوا لبعضهم البعض، مؤامرة.. رؤساؤهم خططوا، واتفقوا مع أهل خيبر وأهل المدينة، آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:72]، الذي أنزل عليهم، أي: القرآن، وما حواه من العقائد والشرائع والآداب والأحكام.
وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمران:72]، أي: اكفروا آخر ذلك اليوم، فإذا تساءل الناس: لم العالم الفلاني صلى الصبح مع الرسول صلى الله عليه وسلم؟
قال: ظن أنه الحق، ولكن تبين لنا أنه ما هو بحق.
فلهذا سن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة قتل المرتد، فالذي يدخل في الإسلام، ثم يخرج منه يقتل، لا يصح بقاؤه؛ لأن هذا يفتح الباب.. لم خرج فلان بعدما أسلم وهو دكتور في علم النفس أو الطب أو كذا؟
قالوا: تبين له أنه ما هو بدين حق، فلا ينفع، ولهذا خرج منه، فهذا يقتل: ( من بدل دينه فاقتلوه )؛ لأنه يثير الهواجس والخواطر، ويبعث النفوس على التفكير من جديد، وجعجعة المجتمع، وهبوط هذا المجتمع، ( من بدل دينه فاقتلوه )، إلا أنه قد يكون مغرراً به مخدوعاً ما عرف يمهل ثلاثة أيام، فإن أصر على ردته يقطع رأسه؛ وهذا هو السبب: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72].
ثم شيء آخر: اعلموا أن من عرف معرفة حقيقة، وآمن إيماناً صادقاً، وأيقن مثل هذا لا يمكن أن يرجع لا بالإغراء بالنساء، ولا بالمال، ولا بالمنصب، ولا.. ولا.. لو يقطع أو يصلب أو يحرق ما يرجع؛ لأنه عرف، والذين خرجوا من الإسلام في الشرق والغرب وبالمئات بالآلاف، بعض الجاهلين يقول: علتهم الفقر؛ لأن جمعيات التنصير في إندونيسيا وماليزيا وإفريقيا، وموجودة حتى في مصر وسوريا، فهذه الجمعيات تستغل فقر المؤمنين، فتداويهم وتطعمهم وتلبسهم وكذا.. فيتنصرون.
وأنا قلتها: والله، ما تنصروا إلا من أجل جهلهم، وعدم معرفتهم، أيؤمن ويعرف الحق وينشرح له صدره ويبيعه بأسبرين أو إبرة أو ثوب في الشتاء يلبسه؟!
مستحيل، فبدل أن نقول: هيا نجمع لهم الأموال والكساء والأدوية، نقول: هذه بعدين وليس الآن، بل علموهم وعرفوهم بربهم، ودلوهم على الطريق السوي الموصل إلى كمالهم، فإذا عرفوا الله، ولو أعطوهم ملء الأرض ذهباً ما رجعوا عن الإسلام.
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي
أقول واشهد اللهم على ما أقول وأنا في بيتك في مسجد رسولك يا رب: لو أن المسلمين في هذه الظروف وفي هذه الأيام تكونت لهم لجنة تضم عالماً ربانياً صالحاً من كل قطر إسلامي، كل إقليم من إندونيسيا إلى موريتانيا يمثلوا عالماً ربانياً، وهذه اللجنة العليا للدعوة الإسلامية، لما تتكون وتتعاهد في روضة النبي الكريم تخطو الخطوة الأولى وتجوب بلاد العالم الإسلامي، ولكن في غير إشهار وإعلان؛ حتى لا تحسد وتوضع العراقيل في طريقها، لسنا في حاجة إلى التبجح: نفعل ونفعل.. ودخلوا كل بلد إسلامي، وقالوا لنسائه ورجاله في مساجدهم: أيها المسلمون! إن فريضة الجهاد قد تركت وأهملناها، فهيا بنا نعود: باسم الله.. وتعرفون كلمة جهاد يقفز لها كل واحد.
إذاً: هي أن على كل ذكر وأنثى سنوياً أن يدفع عشر ريالات، يصوم يومين أو ثلاثة؛ ليوفر عشر ريالات، فهذا هو الجهاد فقط، وهم صادقون في كل مسجد صندوق في سرية كاملة، فألف مليون مسلم سيجمعون عشرة آلاف مليون، وتصبح أكبر ميزانية لا تملكها أمريكا.
جولة واحدة أربعين يوم يتم هذا.. فالآن توجد الطيارات وليس هناك مشقة سفر.
ثم بعد ذلك اللجنة العليا تتفرع منها لجنة أخرى تسند إليها مهمة التجول في العالم الغربي والشرقي، من البرازيل إلى اليابان يتتبعون الجمعيات الإسلامية أو المراكز الإسلامية، فيعرفون في فرنسا كذا، في المكان الفلاني، بلجيكا، ألمانيا، كندا، البرازيل.. كذا، يعرفون مواقعها وعدد أفرادها، فتوضع لها خارطة وهذه الخارطة حينئذٍ عرفت اللجنة العليا للجهاد الإسلامي.. وللدعوة إلى الله، تكون قد وضعت العالم بين يديها.
عرفت القدر الذي تحتاج إليه من هذا المال، فتأخذ أولاً في إرسال المربين والمعلمين والهداة الصالحين، وتفتح لهم مركز أو دورة لمدة ستة أشهر فقط؛ حتى توحد المذاهب، ولم يبق بين الجماعات الإسلامية في الشرق والغرب مذهبي، فقط مسلم ويوحدون الكتاب الذي يدرس، من الضرورة كتاب لا ينتسب إلى زيدية ولا إباضية ولا شيعية ولا حنفية ولا.. ولكن مسلم قال الله وقال رسوله؛ لأن تلك الجاليات خليط مختلفون وطنياً ودينياً أيضاً، لابد من محو هذا الخلاف، بل مسلم فقط نبيي محمد صلى الله عليه وسلم، ونور هدايتي قال الله وقال رسوله.
فيوحدون الكتاب الذي يدرس على نهج كتاب المسجد وبيت المسلم، وعلى نهج منهاج المسلم نعلم كيف نتوضأ ونغتسل ونصوم ولا نقول: أنا مذهبي كذا ولا كذا، وتأخذ تلك الدعوة في نشر ظلها، ويصبح أولئك المؤمنون المسلمون كلمتهم واحدة، وعقيدتهم واحدة: آدابهم وأخلاقهم، يأخذ النور ينتشر في تلك البلاد.
والله أعلم أن خلال خمسة وعشرين سنة، أي ربع قرن تظهر دول إسلامية، ونحن ما ضججنا ولا صرخنا ولا بكينا ولا قمنا جاهدنا أبداً، دعوة الله ماضية. فهذه هي الدعوة التي نؤدي بها واجب الجهاد؛ لننقذ إخواننا في الإنسانية من الخلد في عذاب النار؛ لننقذهم من الخبث والظلم والشر والفساد الذي يعانونه، إنهم في بلاء ما يعرفه إلا من لامسه، لا تظن أنهم أكلوا وشربوا وفازوا، بل إنهم في كروب وهموم، كالبهائم فمن يمد يده إليهم؟
أناس أكمل منهم آداباً وأخلاقاً ومعارفاً، وطهراً وصفاء، وبذلك أدى المسلمون فريضة الجهاد، بدل ما ترسو سفننا على شواطئهم لنغزو لا. لا، مفتوحة الأبواب، أراحنا الله لا نفاثة ولا صاروخ أبداً.
فوالله! لو كنا على هذا المستوى لكانت أوروبا دخلت في الإسلام منذ أن استعمرونا، لكن لما استعمرونا كانوا أفضل منا، أسمى وأرقى، ما تسمعون بوعد بريطانيا، فأهل المشرق يقولون: وعد إنجليزي، وأهل المغرب يقولون: وعد فرنسي.
الله الله! كفار أشرف! لا خيانة، ولا كذب، ولا باطل، ولا ظلم، ولا اعتداء، والمسلمون: الخيانة .. الكذب، لا إله إلا الله! فكيف يدخلون في الإسلام؟!
أسلم فرنسي، فقال: الحمد لله أسلمت قبل أن أعرف المسلمين، فلو عرفتهم ما أسلمت، فأين رابطة العالم الإسلامي لتقوم بهذا الواجب من جديد؟
والشاهد من هذا: ليست قضية فقراء عندنا في العالم الإسلامي حملتهم على الكفر، بل حملهم على الردة والانتقاض على الإسلام جهلهم، فما عرفوا وما ذاقوا طعم الإسلام ولا تلذذوا به؛ لأنهم ما علمناهم وما عرفناهم به.
وهذا الكلام إلى الآن يوصي بعضهم بعضاً وخاصة اليهود.
قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ [آل عمران:73] يا معشر اليهود! ليس هداكم ولا ضلالكم، قل يا رسولنا لهؤلاء المتآمرين الذين يتعلمون الباطل، ويريدون نشره، علمهم: إن الهدى هدى الله، وليس اليهودية ولا النصرانية.
قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ [آل عمران:73] لا هدى غير هدى الله، فمن يهدي سوى الله، ومن ينير الطريق سواه، ومن يأخذ بالقلوب فيقلبها سواه، من للمؤامرات التي تحاك ضد الإسلام بدعوى أننا ندعو إلى الإسلام وننشره سواه.
أي: علمهم حتى ييئسوا أن لا يهودية ولا نصرانية ولا خرافة ولا ضلالة، الهدى هدى الله الذي لاحت أنواره على لسان رسوله وفي كتابه.
ثم قال تعالى: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ [آل عمران:73] هذا عائد إلى كلام المتآمرين من أهل الكتاب، جملة: قُلْ إِنَّ الْهُدَى [آل عمران:73] معترضة، وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آل عمران:73] خشية: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ [آل عمران:73] يوم القيامة.
يا معشر يهود: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آل عمران:73] أي: انتبهوا هذا الذي تجرون وراءه وتصدقوه؛ خشية أو كراهة أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ [آل عمران:73]، أي: أنتم أوتيتم الديانة الحقة والطريق السوي والصراط المستقيم، وأنتم.. أنتم.. أنتم..، فإذا أنتم اتبعتموهم إذاً معناه جاءوا بدين خير من دينكم، واعترفتم به إذاً فلا تعترفوا أبداً.
أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ [آل عمران:73] حتى لا يصبح العرب أصحاب دين كأنتم، أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ [آل عمران:73] يوم القيامة، وهذه من خزعبلاتهم وضلالهم.
يوم القيامة يحتجون عليكم يقولون: يا رب قد عرفوا الإسلام، وأنه حق ورفضوا أن يدخلوا فيه، فلا تجعلوا لهم فرصة يوم القيامة يحتجون عليكم؛ لأنكم إذا قلتم: أيها المسلمون إنكم على الحق، ودينكم هو الحق وهو الصواب، معنى هذا وأنتم ما دخلتم يحتجون عليكم يوم القيامة، إذاً فلا تعترفوا وتقولون: الإسلام دين حق، بل باطل واثبتوا، فلا دين إلا اليهودية.
هذا يعقدونه في ليال وأيام، مخططات أقل ما يقال: للإبقاء على اليهودية حتى لا تفنى وتضيع ويغمرها الإسلام؛ لأنهم يريدون تجديد عهد سليمان وداود، فهم عازمون على إيجاد مملكة بني إسرائيل، وليس من النيل إلى الفرات كما في بعض كتبهم، فالآن العالم بأسره، إذ البشرية عند اليهود وسخ، وسيأتي بيان ذلك في كلام الله.
البشرية كلها نجس ما فيها إلا اليهود، فلهذا يستبيحون دماء الناس.. فروجهم.. أموالهم؛ لأنهم ليسوا ببشر حتى يؤمنوا باليهودية، فهذه معتقداتهم في بواطنهم ولا يعلنونها لكنها تظهر.
فمن عجيب ما بلغنا أيام موشي ديان -عليه لعائن الله- أنهم عقدوا مؤتمراً وخطب موشي ديان ونفخ فيهم، فهاجوا.. فقالوا: لو أنت الملك.. أنت الملك. قال: اسكتوا لا تفضحوا أنفسكم لم يحن الوقت، وكان هذا أيام وضع خطة عالمية لذبح الملوك والقضاء عليهم.
فالأحداث لا يعرفون هذا، هذا عرفناه نحن والله. قالوا: اذبحوا العالم ومصارينه اخنقوا بها الملك؛ حتى يتسع لكم الوقت، وتصلوا إلى أهدافكم في العرب والعجم وفي اليهود والنصارى، المهم القضاء على هذه الأديان هو من طريق العلماء والملوك.
وانتصر المبطلون فملك فرنسا ذبحوه، والعرب أخذوا يصفقون، فقد عرفنا والله! علماء لما يذكر الملك يتقززون، واحتج عليَّ عالم فقال: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا [النمل:34] .
ولما يسقط ملك في بلاد العرب يتغنون في هيجان عجب، وهي مكرة يهودية وقد تبين للعيان أن وجود ملك خير ألف مرة من رئيس جمهورية؛ للإبقاء على الإسلام والمسلمين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر