وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وها نحن في سورة آل عمران، وقد درسنا في الدرس السابق هذه الآيات الثلاث، أسمعكم تلاوتها، وتذكروا ما علمتم منها، وسوف نستعرض نتائجها وعبرها؛ لنتأكد من صحة ما علمنا، ثم ننتقل إلى ثلاث آيات أخرى ندرسها إن شاء الله.
الآيات السابقات تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:42-44].
وهذه الصدّيقة مريم أمرت بذلك في قوله تعالى لها: اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، إذ كانت تعيش في مقصورة، والمقصورة لاصقة بالمسجد، ومن هنا تشهد الصلاة مع المؤمنين، أمرها بالقنوت وهو الطاعة الكاملة لله والخشوع والخضوع، وأمرها أن تسجد وتركع مع الراكعين.
قال: ( وفضل
وورد عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ( خير نساء العالمين أربع:
فهؤلاء الأربع: آسية بنت مزاحم جاء ذكرها في القرآن الكريم، إذ هي التي قالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11]، واستجاب الله تعالى لها ففاضت روحها وأخذها ملك الموت قبل أن ينزل السيف فيقسمها، وشاهدت مقامها في الجنة، هذه امرأة فرعون وما ضرها أن كانت تحت كافر طاغية جبار؛ لأنها مؤمنة.
و مريم بنت عمران عرفتم عنها أنها نذيره لله، نذرتها أمها لله تعالى بحيث لا تنتفع منها بشيء، وبمجرد ما وضعتها وقمّطتها خرجت بها إلى بني إسرائيل ودفعتها إليهم؛ ليكلفوها، ومن ثم لم تنتفع بشيء منها، فتربت في حجر زكريا عليها السلام وهو أحد أنبياء الله ورسله، والله الحكيم العليم كفّلها زكريا؛ لتعيش فترة من الزمن مع خالتها؛ لأن امرأة زكريا أخت حنة .
ثم لما كانت لله ما كان من زكريا عليه السلام إلا أن وضعها في المحراب الذي هو عبارة عن بنية صغيرة لاصقة بالمسجد بدرج يصعد عليه إلى ذلك المكان، وكانت تعبد الله فيها ليل نهار.
هم أهل الطاعة، أهل طاعة الله أهل القنوت والخضوع والخشوع هم أهل القرب من الله، وأهل التكبر والترفع أبعد الناس عن الله، ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )، حديث مسلم .
فمن أراد أن يقرب من الله فليتواضع، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، اسجد واطلب القرب وتقرب، وفي الحديث القدسي: ( من تقرّب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا ).
إذاً: يا طالب القرب من الله! إن الطريق إليه الطاعة والقنوت له عز وجل.
إليكم مثالاً محسوساً يعقله العالمون: لو كنت أنت تتصل بملك في أعظم أمر تتوقف عليه سعادتك أو شقاوتك، وشرعت في الحديث معه، وجاء من قطعك، كيف تعامله؟
يكرب يحزن يضطرب، لو أمكنه أن يضرب به الأرض لضرب به الأرض؛ لما فوّت عليه من تلك السعادة، أنا أقول: الأمثلة معقولة: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا ليعرف لماذا يحرم علينا أن نمر بين يدي المصلي، كيف نرضى أن نقف أربعين سنة ولا نمر بين يديه؛ لأن الأمر عظيم، وهو أن العبد مع الله يناجيه ويساره ويكلمه ويطلب حاجته، فإذا مر بين يديه رجل قطعه، فقطع هذه الصلة التي بينه وبين الله، ووالله لن تتم لك - ولو أنفقت ما في الأرض ذهباً - إلا في هذه الحال، كيف إذاً ترضى عن هذا الذي قطعك عن الله؟ فمن هنا يجب علينا أن نقف ولا نمر بين يدي المصلي وسترته إن كانت له سترة، فإن لم تكن له سترة نبتعد عنه مسافة مكان وضع رأسه، نترك قدر ممر الشاة، والتنبيهات من أهل العلم يقولون: أحياناً المصلي هو الآثم، المصلي الذي يصلي في ممرات الناس وطرقهم هو الآثم، حرمهم من العمل ووقف بهم عن أعمالهم، فلم يظلمهم؟ هو العاصي هو الآثم، والذي يصلي بدون سترة وفي إمكانه أن يضع سترة لم لا يتخذ سترة يصلي إليها؟ كانوا يتسابقون إلى أعمدة المسجد يصلون؛ إذ هذه الصلاة هي النوافل، أما الفريضة فإذا دخلوا فيها ومر من مر بين الصفوف؛ لإتمامها أو لوجود مكان يصلي فيه فمأذون في هذا، أقر هذا النبي صلى الله عليه وسلم في منى لـعبد الله بن عباس .
إذاً: عرفنا من هم أهل القرب من الله؟ أهل الطاعة والقنوت؛ لأن الملائكة ماذا قالت لـمريم؟
قالت: اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43].
قلنا: الصلاة سلم العروج إلى الملكوت الأعلى، يا من يرغب في أن يصل إلى ما فوق السموات السبع! الطريق موجود، فيه سلم آلي: توضأ تطهر قف في مكان طاهر، أقبل على الله وقل: الله أكبر، فإذا أنت قد اجتزت هذا الملكوت وأنت مع الله عز وجل.
من قوله تعالى: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران:44]، هل تذكرون أن حنة عليها السلام لما ألقت بطفلتها في صلحاء بني إسرائيل أنهم تنازعوها كل أراد أن يكفلها، لا يوجد عالم من علمائهم ولا صالح إلا رغب أن تعيش هذه في بيته، لم؟ لأنها نذيرة الله؛ لأنها بنت عبدين صالحين حنة وعمران عليهما السلام، فرغبة كل واحد فيها ألجأتهم إلى الاقتراع، فاستهموا عليها فكفّلها الله زكريا، ماذا صنعوا؟ جمعوا أقلامهم التي يكبتون بها التوراة كتاب الله، وأخذوا يرمونها في النهر -نهر الأردن-، ومن وقف قلمه هو الذي يأخذها، ومن دحرج الماء قلمه ورمى به بعيداً فما له حق في ذلك، فأخذوا يطلقون الأقلام قلمًا بعد قلم والماء يذهب بها، لما ألقوا قلم زكريا وقف كأنما هو خشبة في الأرض، هل كان نبينا صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، هل كان في ذلك الزمن؟
هذه حاثة قبل سبعمائة سنة تقريباً، فكيف عرف هذا؟ وإذا كان أبوه لا يعرف وأمه وجده والعرب كلهم سواه فكيف هذا؟ هذا دليل نبوته وبرهان رسالته، ويكفي أن يقول الله تعالى له: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ [آل عمران:44]، أنباء الغيب: قصة حنة وعمران ومريم كل هذا ما كان يعرفه الرسول من غيب أوحاه الله إليه، وما كنت حاضرًا يوم استهموا واقترعوا على من يكفل مريم ، ما كنت معهم، فكيف عرفت؟ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44]، إذاً: صلوا على نبينا الرسول صلى الله عليه وسلم.
هذه كافية في إثبات نبوته، ومع هذا ملايين البشر لا يؤمنون بها؛ لأنهم عميان ومحجوبون ومسحورون، كيف تُنكر نبوة محمد عليه الصلاة والسلام مع هذه الحجج والبراهين القطعية؟
القرعة معروفة، إذا قسمنا داراً أو بستاناً قابلا للقسمة كل يريد أن يأخذ هذا أو هذا؛ فالقرعة تفصل بيننا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى جهاد أو نحوه يقرع بين نسائه، فمن خرجت قرعتها خرجت معه، إذ ما هو بقادر أن يأخذ تسع نسوة.
إذاً: واحدة فقط تخدمه في سفره، وتعبد الله معه، وعلى الذين تحتهم زوجات أيضاً أن يأخذوا بهذه السنة، عندك امرأتان كلتاهما تريد العمرة معك فالقرعة، والتي خرجت قرعتها اعتمرت أو حجت، سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.
فالقرعة مشروعة وقد ذكرت القرعة في سورة الصافات، تمت قرعة قبل زكريا، وهي قسمة يونس بن متّى عليه السلام، إذ قال تعالى: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات:141-142]، اقترعوا؛ لأن السفينة حملها كبير، فربانها وملاحوها قالوا للركاب: أنتم بين خيارين: بين أن تضحوا بواحد منكم وينجو الباقون، وبين أن تشحوا بنفوسكم وتغرقوا كلكم، فماذا يصنعون؟ قالوا: القرعة، الذي تخرج القرعة عليه هو الذي يلقى في البحر، وهذا تدبير العزيز العليم، فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس الهارب من الدعوة إلى الله عز وجل الذي ملّها.
وهذا قول الله عز وجل: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:139-144].
فسبحوا ربكم، نزهوه وقدسوه بتلك الكلمة الطيبة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، اشغل بها - يا عبد الله - وقتك، إذا فرغت من أكلك من شربك من وضوئك اشتغل بالتسبيح.
والمسحاة في يدك تضرب بها: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، بدراجتك تدفعها برجليك، بطائرتك تقودها بمقودها وأنت تسبح الله، إذا أردت النجاة فهذا إحدى سبلها، أما قال تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144]؟ والله لن يخرج إلى يوم القيامة، لكن لما كان يسبح وهو في الظلمات الثلاث وسمعته الملائكة تحت العرش؛ حينئذٍ صدر أمر الله إلى الحوت أن يرميه خارج البحر.
فإذا كنت مشغولاً مع أعمالك مع إخوانك فكلما تسكت قل: سبحان الله، لكن إذا كنت فارغًا فهل تفكر في الشهوات والمطاعم والملاذ أم تسبح الرحمن؟
اشغل هذا الوقت بكلمة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن )، محبوبتان إلى الله عز وجل، فمن أراد أن يقرب من الله يتملقه، ما دمت تعرف أن ربك يحب هذه فأعطه هذه وتقرب إليه وتملق.
من يوم أن بلغنا، ويوم كنا أطفالاً ونحن نقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ونضيف إليها (أستغفر الله) مائة مرة، ما بين أذان الصبح وصلاتها، فإن كنت مشغولاً فقل وأنت على السيارة" سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، أستغفر الله.
وأذكر ليلة كنا ننتظر فيها الإعلان عن هلال العيد في نادي الترقي، والشيخ الطيب العقبي خرّيج المسجد النبوي الذي رأيته منذ يومين كالبدر في رؤيا، والله كالبدر، وكنت أقول لإخواني: هذا هو الشيخ الطيب ، هذا مؤسس جريدة القبلة واستبدلها بأم القرى وتركها للطيب التونسي بعده، فكنا ننتظر متى يعلن، وأهل النادي مكتظون، وجاءت المناسبة وأخذ الشيخ يسبح: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، وسبح النادي بكامله، ضجت المدينة ووقف الناس والبوليس: ما هذا؟ لقد وجد لذة ما استطاع أن يتركها.
إذاً: سبحوا الله عز وجل: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ما دامتا حبيبتين إلى الرحمن فكيف لا نتقرب بهما إلى الله؟! أو لسنا في حاجة إلى الله؟ أنفاسنا التي نرددها هي لله، حياتنا كلها لله، لولا الله ما كنا ولا ولدنا، كيف نستغني عن الله وحبه؟!
إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:45-47].
اذكر يا رسولنا! لوفد نجران، لنصارى نجران الستين فارساً الذين جاءوا يتعنترون ويريدون أن يعلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان عليه عيسى، فحدثهم عن جدته لا عن مولده هو، هم يجهلون موت جدته، فقص عليهم قصص عيسى قبل أن يوجد بكذا سنة، وحدثهم عن مريم بأحاديث ما سمعوها أو سمعوها مخلوطة مخبوطة رأسها مع رجليها أكاذيب وأباطيل.
هذا وحي الله: إذ قالت [آل عمران:45]، أي: اذكر يا رسولنا لهذا الوفد التائه الحيران إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ [آل عمران:45]، الملائكة هنا اسم جنس واحدهم ملأك، وخفف فكان ملك، والمراد به هنا جبريل عليه السلام، هذا رسول الله إلى الأنبياء والرسل، هذا السفير الأعظم جبريل، خاطبها وقال: يا مريم ! إذ هذا اسمها: مريم ، ما قال: يا سيدة، أو: يا مدام! قال: يا مريم . يا خادمة الله! هل عرفتم معنى مريم ؟
خادمة الله، يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ [آل عمران:45]، والبشارة ضد النذارة، والبشارة: الكلمة السارة المفرحة التي تثلج الصدر، ويتجلى ذلك في بشرة الوجه حيث تكون صفراء مشرقة.
يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ [آل عمران:45]، ما هي هذه الكلمة؟ هي عيسى عليه السلام، وهل عيسى كلمة؟ نعم. كان بكلمة كن فكان، من القائل كن؟ الله جل جلاله.
هذا آدم أبو البشر، خلقه الله ونفخ فيه من روحه، صنعه الله من طين لازب من حمإٍ مسنون، وتركه حيناً من الدهر أربعين سنة، ممكن أنها بأيام العالم الأعلى، ثم نفخ فيه من روحه فإذا هو آدم، يعطس فَيُلْهم: الحمد لله، فتقول له الملائكة: يرحمك الله يا آدم! وكانت سنة باقية إلى يوم الدين، باقية مع من؟ مع الصعاليك ومع المجرمين والجاهلين! مع الربانيين أمثالكم، إذا عطس المؤمن يقول: الحمد لله، ومن سمعه يشمته ويقول: يرحمكم الله، كيف يشمته؟
يشمته أي: يزيل الشماتة عنه، كما يقال: يقشر التفاح، أي: يزيل القشرة عنها؛ لأنه لما عطس تغير وجهه وتغير صوته وخرج منه لعاب أم لا؟ أمنظر محمود هذا؟ لا، إذاً: ليزيل أخوه الشماتة عنه فيقول له: يرحمك الله، فهل يوجد هذا الكمال في غير أمة الإسلام؟
فهذه وحدها تساوي الدنيا وما فيها، ولكننا غافلون وجاهلون، تشميت العاطس سنة مؤكدة، إذا عطس أحدنا ماذا يقول؟
يقول: الحمد لله، واملأ بها فاك يا عبد الله، والذي سمعك عطست وحمدت ينبغي أن يقول لك: يرحمك الله، هذه الجملة خبرية ومعناها إنشاء الدعاء: اللهم ارحمه لأنه حمدك، ويرد عليه أخوه المؤمن قائلاً: يغفر الله لي ولك، فهذه تساوي خمسين ألف ريال، كيف تحصل على هذه الدعوة، يغفر الله لي ولك مكافأة له، أما قال له: يرحمك الله؟ إذاً: يكافئه بقوله: يغفر الله لي ولك، وإن كان الحاضرون جميعاً: يغفر الله لي ولكم، وهناك أيضاً دعوة مستواها أقل من هذه، ولكن تصلح لدنيانا، فيقول له: يهديكم الله ويصلح بالكم، أو: يهديك الله ويصلح بالك إذا كان واحدًا، يهديكم الله لما فيه سعادتكم وكمالكم، ويصلح بالكم، ما هو البال؟ هذا سر باطني، الآلة التي توجهك إلى أن تخدم أو تترك، إلى أن تنام أو تستيقظ.
أعود إلى من خلق بلا أب ولا أم وهو آدم عليه السلام، وهناك من خلق من أب ولا أم، وهي حواء، خلقها الله من ضلع آدم الأيسر، قال لها: اخرجي فخرجت، فإذا العروس إلى جنبه، من هذه؟ هذه حواء .
يقول أهل العلم: الضلع الأيسر أقل من الأيمن؛ لأنه فقد بعضه، أخذته حواء، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( خلقن من ضلع أعوج )، فهذه حالها ( إن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها على عوج )، والحمد لله، تبقى معك على عوج أحسن من أن تكسرها وترميها.
ولقد عشت مع هذه المؤمنة التي تغمدها الله برحمته قرابة الستين سنة ما سمعت مني كلمة سوء ولا سمعت منها أخرى.
الربانيات الصالحات كلهن يسألن الله أن يمتن قبل أزواجهن ليمتن طاهرات عفيفات، والشاهد من هذا أن الجهل هو الظلمة التي ما فوقها ظلمة، تعلموا يا عباد الله الكتاب والحكمة، اجتمعوا في بيوت ربكم بنسائكم وأطفالكم تستمطرون رحماته فلا تلبثون أن تصبحوا كالحواريين، أما ونحن مبعدون بالحيلة والسحر عن الكتاب والحكمة وبيوت الرب فأنى لنا أن نفيق من هذه الغفوة أو نصحو من هذه السكرة أو نعود بعد هذه الجفوة؟ هيهات هيهات! ما هو إلا باب الله يقرع، وقد بين الرسول ذلك وعلمنا.
أهل الحي في مجلسهم الجامع يجتمعون فيه بنسائهم وأطفالهم كل ليلة طول الحياة يتعلمون الكتاب والحكمة، أهل المساجد في الأحياء كذلك.
أعود فأقول: بقي من له أم ولا أب له، ألا وهو ابن مريم، ألا وهو عيسى عليه السلام؛ إذ كان بكلمة الله: كن، فكان، فإذا بالطلق والمخاض يهزها، عيسى بكلمة التكوين، وهذا هو شاهد الآية الكريمة: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران:45]، وأمه هي خادمة الله مريم .
قوله: وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران:45]، من هم المقربون؟ اللهم اجعلنا منهم.
قال تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، من أراد أن يقرب يقرب، لا مسافات بيننا وبين الله، تملق لله عز وجل في ذكره ودعائه والركوع والسجود له، والبعد عن مساخطه ومكارهه، فلا تزال تقرب حتى يقربك ويدنيك وتكون من المقربين.
قال العلماء: قال: وَكَهْلًا ؛ لأنه لما قال: (يكلم الناس في المهد) قد تفهم منه أنه يموت أو يصاب بالبكم، فقال: وَكَهْلًا ، وهذا سيتم إن شاء الله بعد أعوام أو أيام، سوف ينزل فينا ابن مريم والله العظيم، سوف ينزل فينا ابن مريم من الملكوت الأعلى ويعيش إلى أن يبلغ ثلاثًا وستين سنة، كأن عمره محاذ لعمر النبي صلى الله عليه وسلم، وسوف يزور المدينة ويحج ويلبي من الروحاء: لبيك اللهم لبيك حجاً أو عمرة، بهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كأني بابن
وقد ذكرت لكم ما قال بعض أهل العلم القدامى لا المعاصرين: أن في الحجرة الشريفة مكانًا يتسع لدفن إنسان، إذ فيها الآن ثلاثة قبور: قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر أبي بكر ، وقبر عمر ، وبقي فيها قدر قبر إنسان، وما استطاع ملك ولا سلطان لمدة ألف وأربعمائة سنة أن يقول: ادفنوني معهم، من صرفهم؟ الله، إذاً: فمن الجائز: أن يدفن عيسى معهم، ويصبح من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
الصالح منا: من أدى حقوق الله وافية، ما نقصها ولا بخسها ولا جحد منها شيئاً، وأدى حقوق الناس كذلك، ما سرق ولا بخس ولا نقص، ذلكم هو العبد الصالح وهو في زمرة الصالحين، وهو الموكب الرابع الذي يشمل: الأنبياء والصديقين والشهداء، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69]، (مَنْ) من ألفاظ العموم أم لا؟ من العرب من العجم في الأولين في الآخرين، من يطع الله والرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، كل نبي من الصالحين، كل صديق من الصالحين، كل شهيد من الصالحين، أليس كذلك؟ وليس كل صالح بنبي ولا صديق ولا شهيد، بدليل أنكم أنتم من الصالحين وما أنتم أنبياء ولا شهداء.
وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر