أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس إن شاء الله كتاب الله، راجين أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة إبراهيم الخليل عليه السلام، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة الآيات مجودة مرتلة، ثم نتدارسها، والله نسأل أن يفتح علينا، وأن يعلمنا وينفعنا بما يعلمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:31-34].
وقال هنا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ لِعِبَادِيَ [إبراهيم:31] الذين آمنوا بي وأحبوني وعرفوا جلالي وكمالي، وآمنوا برسالة رسولي، هؤلاء -والله- أحياء.
وأكرر وأعيد القول: المؤمن بصدق حي، والكافر ميت، المؤمن حقاً وصدقاً حي؛ لأن الإيمان بمثابة الروح، فإذا دخلت الروح في جسد حيي، ودلالة الحياة أنك إذا أمرته يطيع، وإذا نهيته يطيع، وإذا ناديته أجاب واستمع نداك، والميت هل يطيع إذا أمرته؟ أو يجيب النداء إذا ناديته؟
وإقام الصلاة يكون أولاً -معشر المستمعين- بالطهارة الجسدية والقلبية، بحيث يكون المصلي موحداً لله لا يعرف عبادة غير الله، ويكون طاهر البدن والثوب والمكان الذي يصلي فيه، ويستقبل بيت الله سواء كان في الشرق أو الغرب.
ثانياً: أن يفعلها كما نزل جبريل من السماء إلى رسول الله في مكة وصلى به يوماً وليلة، فعرفه بأوقات الصلاة وهيئتها وكيفيتها، والحمد لله؛ فكما صليتم المغرب يجب أن نصلي المغرب هكذا، وكما نصلي العشاء بعد ساعة ونصف فينبغي أن نصلي العشاء كذلك، صلينا الصبح غداً أو اليوم نصليه كما صلينا، هكذا تؤدى بأركانها وبواجباتها وسننها وآدابها، وسر ذلك: هو أنها تنتج وتولد طاقة نورانية في قلب المؤمن، أي: تزكي نفسه، أي: تطهرها، وقد أفلح من زكى نفسه وخاب وخسر من دساها، وهذا حكم الله، أما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].
أفلح من زكاها؛ كان أبيض أو أسود، عربياً أو عجمياً، أفلح وفاز بالنجاة من النار وبدخول الجنة دار الأبرار، ولا فوز أعظم من هذا الفوز، ذلك هو الفوز العظيم: وهو النجاة من عالم الشقاء، من عالم العذاب من جهنم ودركاتها، ثم دخول الجنة دار النعيم المقيم في الملكوت الأعلى، ذلك هو الفوز العظيم.
والنفس بم تزكى؟ بم تطيب؟ بم تطهر؟
أولاً: بالإيمان، آمن حق الإيمان ثم أقم الصلاة، الصلاة عملية تزكية لا نظير لها، إلا أنها ومع الأسف إذا لم تؤد على الوجه المطلوب كما بينها جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها تفشل في أداء تلك المهمة، ويدخلها العبد ويخرج منها ولا شيء، والدليل على هذا أنه يدخل يصلي ويخرج يعصي الله عز وجل، يسب، يشتم، يحسد، يقول الباطل، أين آثار الصلاة؟
إقام الصلاة: أداؤها على الوجه المطلوب الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أولاً: النية، والاعتقاد الصحيح، ثم الأداء لتلك الأعمال والأقوال كما أداها رسول الله وبين له جبريل.
يا شيخ! كيف تقول: ما نحتاج إلى شرطي؟
والجواب: دولة رسول الله عشر سنوات كم كان شرطياً عندها؟ دولة أبي بكر ثلاث سنوات كم كان عنده من شرطي وبوليس؟ دولة عمر عشر سنوات كم كان عندها؟ ماذا نصنع بالبوليس والشرطي؟ كلنا شرطي وكلنا بوليس، إذ كلنا أتقياء وأطهار، لا نرضى بالباطل ولا بالشر ولا بالخبث بحال من الأحوال، فماذا نصنع -إذاً- بالحرس؟ والله الذي لا إله غيره إن هذا لهو الحق.
لو أقمنا الصلاة كما أراد الله وأمر الله وبين رسول الله لانتفى انتفاءً كاملاً كل شر وبخل وخبث وفساد، وقد قلنا لهم: جربوا، أوجدوا لنا قرية من القرى في الشرق أو الغرب يقيم أهلها الصلاة ويجتمعون نساءً ورجالاً وأطفالاً كل مساء بعد المغرب على تلاوة كتاب الله وتدارسه، ثم بعد سنة واحدة نفحص ونتتبع، إن وجدناها يوجد فيها خبث أو شر أو فساد فحينئذ قد تشكون في كتاب الله، ووالله ما يبقى خبث ولا شر ولا ظلم ولا فساد.
والشاهد عندنا: أنه إذا أقمنا الصلاة والفقراء حولنا والمساكين فكيف يكون ذلك؟ كيف نقيم الصلاة وهم حولنا جياع، عراة، يتألمون من الجوع والمرض؟ فمن هنا فرض الله الزكاة، فرض الله هذه الصدقة، ينفقونها سراً وعلانية، (وينفقوا) بصيغة المضارع المقتضية للحدوث والتجدد.
ثم يوجدون في محرابهم صندوقاً من الحديد، ويقول المربي: معشر الأبناء والإخوان! يا نساء المؤمنين! من زاد على قوته درهم فليودعه في هذا الصندوق، لم؟ من أجل ألا يبقى بيننا من يمد يده، من يتألم لجوعه أو يتحسر لفقره.
معشر الأبناء! معاشر المؤمنين والمؤمنات! ندعوكم، باسم الله، من زاد على قوته درهم فليودعه هذا الصندوق، لا تقل: كيف؟ ها أنتم تودعون فلوسكم في البنوك الربوية، من زاد على قوته درهم فليودعه في هذا الصندوق، وهذا الصندوق له لجنة تربت وتكونت في ذلك المسجد، رجالها: العالم المربي والإمام المصلي والمؤذن وشيخ الحارة أو عمدة الحي، خمسة رجال ربانيون كلهم صدق وطهر ووفاء، والله ما تمضي أكثر من أربعة أشهر حتى يمتلئ الصندوق ويفيض، فإن كانوا في صحراء فإنهم يستطيعون أن ينموا ذلك المال بما ينموا به من الغنم والإبل، وإن كانت الأرض زراعية ينشئون مزارعاً تستوفي تلك الأموال وتوفر أضعافها، أو أرضاً صناعية ينشئون مصنعاً ينتجون به، وفي نهاية السنة من كان أودع ماله لله، لا يريد فضيلة ولا زائداً، يريد الحسنة من الله، لا يعطى شيئاً، والذين أودعوا أموالهم على أن تنمو لهم وتكثر يعطونهم بحسب ما أودعوا، هنا المال الزائد ينفق على من؟ على أهل القرية، يزوجون به العزب، ويبنون به الدار لمن سقطت داره، ويطعمون من جاع، ويكسون من عري، والله ما يبقى بينهم من يسأل غير الله، ومن ثَمَّ تطمئن النفوس، فكل يقول: لم نشح؟ لم نبخل ونحن آمنون والحمد لله؟ إذا مت فأطفالي في حماية هذه الجماعة لا يخافون ولا يرهبون، لم نكنز المال؟ لم ندخره؟ ما فائدة الادخار؟ فتكون الأمة قائمة على أصول الدين لا يجوع بينها جائع ولا يعرى عار، وتنتهي مظاهر البخل والشح وحب الدنيا والتكالب عليها.
ثم تلك الآداب التي يتلقونها كل يوم هي التي تمسح القلوب من أوساخ الدنيا وأوضارها الباطلة، وتمحو كل أثر من آثار الشهوات والباطل، والله ليفيضن المال عنهم وليحولنه إلى بعض القرى، هذا الذي أراده الله بهذه الآية.
قُلْ [إبراهيم:31] يا رسولنا لعبادي المؤمنين ليكملوا ويسعدوا ويتهيئوا للسعادة في الملكوت الأعلى، ليطيبوا ويصفوا، يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً [إبراهيم:31]، عرفتم سر هذا الأمر؟ تكوين مجتمع رباني، وقد قلت لكم: العهد النوراني هل كان فيه من يشحت أو يسأل أو يسرق أو يكذب أو يفجر؟ سدت حاجاتهم وقضيت.
أسألكم بالله يا عقلاء يا رحماء: إذا دقت الساعة السادسة ألا يقف العمل في المصانع والمزارع والمتاجر؟ يقف، عادة البشر هذه، يتطهرون ويحملون نساءهم وأطفالهم إلى بيت ربهم، وإن ضاق وسعوه، ويجتمعون كل ليلة اجتماعنا هذا، لأننا نقرأ آية ونحفظها ونفسرها ونعزم على تطبيقها ومن الغد ونحن نطبقها يوماً بعد يوم، فما يمضي أربعون يوماً حتى يتغير ذاك الوجه لتلك القرية وذلك المجتمع، ما المانع؟ نحن الآن في حيرة، ما المانع؟ ولا مانع أبداً، لا حكومة تمنع ولا سلطان يقهر، كيف نفسر ذلك؟ نقول: ذنوبنا هي التي أوقعتنا في هذا الهبوط.
جربوا، فما أكثر القرى وما أكثر المدن والأحياء، لم لا يجتمعون على هذا النظام؟ يكونون لجنة في المسجد من إمام المسجد وشيخ القرية أو عمدتها، ثلاثة أو خمسة نفر، هؤلاء يكفي وجودهم في أن يربوا أهل القرية، ما يشذ بينهم شاذ ولا يتطرف متطرف، وإن تطرف أحد استدعوه وأدبوه ثم نفوه وطردوه، ويسودهم الأمن والطهر والصفاء، ويصبحون حقاً أحياء غير أموات، بلغوا معشر المستمعين والمستمعات وموعدنا معكم يوم القيامة.
ما ننسى حكم الله الخالد: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، عجلوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ [إبراهيم:31]، والخلال والخلة: الصداقة والمودة والمحبة، فحين يكون الإنسان في قبره هل يجد من يشتريه ويبيعه؟ هل يجد صداقة وخلة بينه وبين الناس تنفعه؟ والله ما ينفع، هذا في القبر فكيف بيوم القيامة؟
إذاً: هيا نعجل، بماذا؟ نقيم الصلاة وننفق مما رزقنا الله سراً وعلانية، نعم، أفراد ينفقون أو يقيمون الصلاة ليسوا هم الأمة، لا بد أن يكون على الأقل ثلثا أهل القرية أو ثلثا أهل المدينة، أما خمسة في المائة أو عشرة في المائة فماذا يجدون؟ ماذا ينفعون؟ لو أخرجوا مالهم كله وتصدقوا به هل يجدي؟ لا يجدي، فلا بد -إذاً- من الاجتماع.
وأكرر القول: ما بلغنا أن أهل قرية في العالم الإسلامي -باستثناء البلاد الشيوعية- منعوا من إقام الصلاة أو إيتاء الزكاة أبداً، ما هناك من منعهم، وإنما إذا أصبحوا يحاربون الحاكم فالحاكم يغضب وما يرضى ويضربهم على رءوسهم، هذه سنة الله عز وجل، ولا عجب فيها ولا غرابة، لم نحارب الحكام ونحن أسوأ منهم؟ أين آدابنا؟ أين أخلاقنا؟ أين إيماننا؟ أين صلاحنا؟ أين استقامتنا؟ لو وجدت لغطت أهل بلادنا وأصبحوا كلهم ربانيين نساءً ورجالاً، أما أن نجاهر بالفسق والفجور والباطل والكذب والخيانة والشرك -والعياذ بالله- وسوء الفهم والإدراك ونقول: الحكومة والحاكم! عبث هذا القول، وقد جر من البلاء ما تسمعون وتعرفون، والذي لا إله غيره إني لعلى علم يقيني بما أقول، وسوف تسمعون هذا يوم القيامة.
إليكم بيانه: يقول: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [إبراهيم:32]، هل يقول عاقل: يا عباد الله! ما هناك أرض أبداً ولا سماء؟ من قال: لا أرض ولا سماء هذا مجنون أم عاقل؟ أنت واقف على الأرض أم لا؟ وما فوقك ماذا يسمى؟ أليس سماء! فمن خلق الأرض والسماء؟ أمي؟ بنو هاشم؟ الفراعنة؟ الملاحدة، الفلاسفة، العلمانيون؟ من خلقهما؟
ما هناك جواب أبداً إلا كلمة: الله، أو تسكت، أما أن تنسب هذا الكون لمخلوق فهيهات هيهات أن يقبل قولك أو يسمع.
فها هو تعالى يعرفنا بنفسه لنحبه أكثر من حبنا لأنفسنا فضلاً عن ذرياتنا وأموالنا، ونطيعه فيما أمرنا ونهانا وإن مرضنا وإن شفينا:
اللَّهُ [إبراهيم:32] هذا هو الاسم الأعظم لذي الجلال والإكرام، الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ [إبراهيم:32] كم؟ سبع سماوات، غلظ السماء مسيرة خمسمائة عام للطائر، هذا غلظها، وما بينها وبين السماء التي فوقها مسيرة خمسمائة عام، سبعة آلاف وخمسمائة سنة وأنت طائر حتى تصل إلى السماء الآخرة، ومع هذا اخترقها رسول الله صلى الله عليه وسلم في دقائق، في دقائق لا ساعات، ولا عجب؛ إذ كانوا يعرفون معرفة يقينية أن المسافر من الأندلس إلى المدينة ليطلب العلم يحتاج إلى ستة أشهر، لو قال لهم قائل: إنه في ساعتين يكون هناك يعجبون، يقولون: ما يصح هذا إلا إذا أخبر الله به، والآن كما تشاهدون.
سبع سماوات غلظ السماء خمسمائة سنة، بين السماء والسماء خمسمائة سنة، كم سنة هذه؟ سبعة آلاف وخمسمائة، هذه السماوات من أوجدها؟ ماذا نقول في السماوات؟ بلايين البلايين من النجوم والكواكب والأفلاك فوق ما تقدر أو تتصور، فقط انظر إلى هذا القمر فوقك، وهناك ملايين الأقمار والشموس، من أوجد هذا؟ أهذا يوجد من نفسه؟ لو كان القمر وجد من نفسه فإنه لن يضعف هذا الضعف ويمشي كل يوم بالدقيقة، إنها إرادة الله وتدبيره، واضع السنن والقوانين الكونية التي لا تتخلف، ثم ننسى ونقول: يا سيدي عبد القادر ، يا فاطمة ، يا حسين ! أنت مجنون أم عاقل؟ من يسمعك إذا ناديت الأموات؟ وهل يستجيبون لك؟ والله ما يستجيبون، كل ما في الأمر أنه قد صرفك الشيطان، ومنعك من أن يستجاب لك وتعطى حاجتك لو قلت: يا رب، يا خالق السماوات والأرض.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [إبراهيم:32] وهذه الأرض نحن على ظهرها، من كوكبها؟ من كوَّرها؟ من أوجد تربتها؟ من أوجد ماءها؟ لا أحد إلا الله، إذاً: لا إله إلا الله.
من كونها؟ أمي أم أبي؟ أمريكا أم روسيا؟ من كون السحب؟ من ملأها بالأمطار؟ من ساقها في الفضاء في الهواء؟ من أذن لها أن تمطر هنا ولا تمطر هنا؟ من فعل هذا سوى الله؟ ومن قال: فلان فليشير إليه، ما دام أنه لا أحد فما بقي إلا الله الذي أخبر بنفسه أنه هو الذي أنزل من السماء ماءً.
وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [إبراهيم:32] جميع أنواع الثمار والحبوب والفواكه والخُضَر مفتقرة إلى الماء أم لا؟ بدون الماء يكون شيء؟ والله ما يكون، هذا سر، هذه حكمة إنزال المطر وجريان الماء في الأنهار وفي الأودية، حكمة ذلك ما هي؟ أن نجد ما نقتات به من أنواع الثمار والفواكه والحبوب، من فعل بنا هذا؟ الله، ألا نشكره؟ أعوذ بالله، كيف لا وهو يغذينا ويسقينا وأوجدنا وخلقنا وحمانا؟ الحمد لله، قلها بملء فيك: الحمد لله.
إنه الله، سخر لكم ما في الأرض جميعاً، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ [إبراهيم:32] النيل والفرات وأنهار في العالم أخرى، ماؤها عذب صاف صالح للسقي والزراعة وما إلى ذلك، من أجرى هذه الأنهار؟ من جاء بمائها؟ من سخرها حتى نسوقها هنا وهناك؟ إنه الله تعالى.
فمن أوجدهما؟ الذي أوجدهما هو الذي سخرهما هذا التسخير لفائدتك يا ابن آدم حتى تقول: لا إله إلا الله وتعبد الله وحده، ومن أجل أن تنتقل من عالم الشقاء إلى عالم السعادة، ما هناك غرض ولا هدف سوى هذا.
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [إبراهيم:33] أرأيتم لو دام الليل وما طلع النهار شهرين أو ثلاثة، ماذا تصنعون؟ لو طلعت الشمس واستمر النهار طول العام فماذا تصنعون؟ بأيدينا تصيير الليل والنهار؟ من سخرهما وذللهما من أجلنا لنعبده ونشكره في حياتنا وليسعدنا في آخرتنا؟
إذاً: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ [إبراهيم:34] بالآلات والله لا تحصوها أبداً، أجل نعمة، أكبر نعمة أنك تبصر، كل دقيقة كل لحظة كم تساوي؟ أنك تسمع في كل لحظة، الكون كله موجود من أجلك، فكيف تستطيع أن تحصي هذه النعم؟ مستحيل.
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، ولكن: إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، كان عمر يقول في دعائه: (اللهم اغفر لي ظلمي وكفري)، والله ما ظلم عمر ولا كفر، ولكنه الإيمان، ولكنها الرهبة من الرحمن يدعو بهذا الدعاء؛ لأن لفظ (إنسان) عام للأبيض والأسود، والأول والآخر.
وهنا ورد في القرآن الكريم وصف الإنسان بالظلم والكفر في هذه الآية الكريمة: إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، وورد وصفه بالظلم والجهل، وورد أيضاً وصفه بالهلع: جزوع عند الشر، مناع للخير عنده، هذه الأمراض فطرة في الإنسان، هل هناك مستشفى في العالم يعالج هذه الأمراض؟ يخرجونك من المستشفى لا تظلم أبداً ولا تكفر شيئاً! أو يخرجونك من المستشفى لا تجزع حتى ولو لسعتك العقرب تقول: الله، ولا تبكي، ولا تمنع الخير أبداً وتعطيه لكل من سأله؟
هذه الآية جامعة للأرقام الثمانية أسمعكموها من سورة المعارج، اسمعوا: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ [المعارج:19] هذه فطرته: خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:19-23] رقم واحد. وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25] رقم اثنين. وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المعارج:26] رقم ثلاثة. وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المعارج:27]، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:32-35] كم هذه الأرقام؟
والأفضل أن تستعملها تحت إشراف طبيب عالم رباني وإلا فما يجريك أن تأخذ أدوية تستعملها كما تحب فتهلكك، فلهذا يجب أن نجتمع حول العلماء ليعلمونا كيف نستعمل هذه العقاقير، كيف نستعمل هذه الأدوية؟ وإلا فما تنفعنا، هذا كلام الله، هذا هو القرآن، هل يقرأ على الموتى! أعوذ بالله. ماذا أصابنا؟ لا إله إلا الله.
قال: [ أولاً: وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإكثار من الصدقات لاتقاء عذاب النار ].
من أين هذا؟ من قوله تعالى: قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً [إبراهيم:31].
أقول: هل نستطيع أن نقيم الصلاة وننفق كما أمر الله ونحن على هذه الفوضى التي نعيشها؟ والله ما هو بممكن، إلا إذا اجتمعنا في صدق على كتاب الله وسنة رسوله في مدننا وقرانا، وأقبلنا على طلب العلم الشرعي من كتاب الله وسنة رسوله وكلنا عزم وصدق على أن نطيع الله ورسوله.
[ ثانياً: جواز صدقة العلن كصدقة السر وإن كانت الأخيرة أفضل ]، الزكاة أعلنها ولا حرج، والصدقة أحياناً يكون السر فيها أفضل وأحياناً يكون العلن أفضل، والكل جائز، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً [إبراهيم:31].
[ثالثاً: التعريف بالله عز وجل؛ إذ معرفة الله تعالى هي التي تثمر الخشية منه ]، ومن خاف من الله وارتعدت فرائصه إذا ذكر بين يديه ما يستطيع أن يعصيه أبداً، إذا بلغه أمره لا بد أن يطيعه، بلغه نهيه لا بد أن يجتنبه، لأنه عرف وآمن وتأخذه الخشية في نفسه.
[ رابعاً: وجوب عبادة الله تعالى وبطلان عبادة غيره.
خامساً: وصف الإنسان بالظلم والكفر وشدتهما ما لم يؤمن ويستقيم على منهج الإسلام ].
فإن آمن وطبق الأرقام الثمانية فلا ظلم ولا كفر.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر