وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ).
حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.
وها نحن مع سورة النحل، وتسمى أيضاً سورة النعم؛ لكثرة النعم المذكورة فيها، وسميت بالنحل؛ لقول الله تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:68]. وتسمى بسورة النعم؛ لما ذكر فيها من أنواع النعم العديدة الكثيرة.
وآياتها: مائة وثمان وعشرون آية، وهي مكية بلا خلاف.
والسور المكية تعالج وتقرر ماذا؟ وتدعو إلى ماذا؟
إنها تقرر العقيدة وتدعو إلى تصحيحها!
تدعو إلى الإيمان بالله لا إله غيره ولا رب سواه!
تدعو إلى الإيمان بأن محمد بن عبد الله رسول الله إلى الناس أجمعين!
تدعو إلى تحقيق الجزاء في الدار الآخرة.
فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات مجودة مرتلة ثم نتدارسها إن شاء الله:
قال تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ * خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:1-7].
الله جل جلاله وعظم سلطانه.
يخبر بماذا؟
الجواب: بأن أمر الله بتعذيب الكافرين قد قرب وحان وقته، وهذا يشمل ما توعد الله به طغاة قريش ورؤساء الضلالة من العذاب الذي أصابهم في الدنيا في أيام محدودة، وما تم لهم في بدر، ويشمل أيضاً عذاب يوم القيامة، إذ قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، وقال: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1].
فـ أَتَى هنا: يوم القيامة بلا جدال، وكل ما هو آتٍ قريب.
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1] يا معشر الطغاة الجبابرة المتكبرين الذين يقولون: هات العذاب يا محمد! وعلى رأسهم النضر بن الحارث الذي قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، النضر بن الحارث أحد رؤساء الضلال يقول بصراحة: (اللهم)! إذ كانوا يؤمنون بالله رباً، ولكن لا يؤلهونه بل يعبدون معه غيره، أما إيمانهم بالله فاسمعه؛ إذ قال: اللهم -أي: يا ألله- إن كان هذا الذي جاء به محمد هو الحق فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، واستجاب الله له فقال: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1].
وَتَعَالَى [النحل:1]، أي: وارتفع عما يشركون معه من آلهة باطلة؛ إذ كانوا يشركون بالله في عبادتهم، فكما يتقرب إلى الله بالذبائح يتقربون إلى الأصنام بمثل ذلك، كما يتقرب إلى الله بالسجود يسجدون للأصنام، كما يتقرب إلى الله بالدعاء يدعون الأصنام، كما يتقرب إلى الله بتعظيمه والحلف به يحلفون ويعظمون الأصنام، فهم لذلك مشركون في عبادة الله غير الله من أصنامهم وأوثانهم التي زينها الشيطان لهم، ودعاهم إلى إيجادها فأوجدوها وعبدوها، إرضاءً لإبليس، وإغضاباً للرحمن جل جلاله وعظم سلطانه.
هذا الخبر عظيم وكأنه الواقع: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1]، ونزه سبحانه وتعالى نفسه عن الشريك والمثيل والنظير وصفات المخلوقات فقال: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [النحل:1].
قال تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ [النحل:2]، ما المراد بالملائكة هنا؟ جبريل عليه السلام؛ إذ هو الموكل بالوحي، هو الذي ينزل بوحي السماء إلى أهل الأرض، جبريل هو المقصود بالملائكة.
هل تتم حياة إنسان على الوجه المطلوب بدون ما إيمان ولا تصديق بالله ورسوله ولقائه؟
والله ما تتم ولن تتم، فلهذا سمي القرآن روحاً؛ لأنه لا حياة بدون روح فلا حياة بدون تطبيق القرآن بعد الإيمان به.
وقد تكرر القول بأن هذه الحقيقة جهلها المسلمون وعرفها الكافرون، جهلها المؤمنون وعرفها الكافرون، فاحتالوا على المؤمنين فأبعدوهم عن القرآن العظيم فماتوا، ولولا أنهم ماتوا لما كان يحكمهم ويسودهم الكفار؟
كيف يستعمرونهم لعشرات السنين، عرف المشركون -اليهود والنصارى والمجوس: الثالوث الأسود- أن القرآن روح، فما آمنت به أمة وعملت به إلا حييت وسادت وعزت وطالت، وما جهلته أمة وكفرت به إلا هبطت وخمدت في الأرض.
فاحتالوا على المسلمين فوضعوا قاعدة تقول: تفسير القرآن صوابه خطأ، وخطؤه كفر، هذه موضوعة من الثالوث الأسود، هكذا تقول هذه القاعدة التي قعدوها للمسلمين؛ ليصرفوهم عن القرآن فلا يجتمعوا عليه أبداً لدراسته وفهم مراد الله مما جاء فيه، قالوا لهم: تفسير القرآن صوابه خطأ، إن فسرت فأصبت فأنت مخطئ، وإن فسرت فأخطأت فأنت كافر.
فمضت فترة من الزمان قرون ومئات السنين لا يجتمع اثنان على آية يتدارسانها، ولا يجتمعون أبداً على تفسير كتاب الله عز وجل، بل إذا فسرت القرآن يدخل السامع أصبعيه في أذنيه ويشرد من مكانك؛ خشية أن ينزل به العذاب، ومن ثم أماتونا فمتنا.
فهيا لنعود إلى الحياة، نعود إلى القرآن، لنحقق الإيمان الصادق والتطبيق الحق، بدراسته بعد الحفظ والقراءة والعمل، بإحلال ما أحل وتحريم ما حرم، واعتقاد ما أمر باعتقاده، والعمل بما أمر بعمله، وإقامة حدود الله وشرعه كما هي مبينة في هذا القرآن العظيم.
من شاء من عباده؟
الجواب: محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، نظر إلى البشرية كلها فما وجد أهلاً لأن يوحي إليه إلا محمدًا صلى الله عليه وسلم، والله ما كان في الأرض من هو أهل لأن يتولى الوحي ويبلغ الرسالة إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أعده لذلك إعداداً عجباً.
لقد حفظ الله النطفة من إسماعيل إلى عبد الله في أصلاب الآباء فما خالطها زنا أبداً حتى وإن كان فيهم المشرك الكافر.
آية من آيات الله، من عدنان من ذرية إسماعيل إلى محمد صلى الله عليه وسلم والنطفة تحفظ من الزنا إلى عبد الله والد رسولنا صلى الله عليه وسلم.
وحفظه وهو صبي لما كان في صحراء بني سعد يرعى الماشية والغنم، فأجريت له عملية شق الصدر في تلك الصحراء وهو طفل يلعب.
إذاً: اختاره الله أم لا؟
قال تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [النحل:2]، فشاء الله أن يكون محمداً
فكان محمد صلى الله عليه وسلم رسول الوحي يتلقاه من الله ويعلمه عباد الله.
إذاً: الخبران يحققان معنى: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقل واعتقد واعمل بأنه لا معبود يستحق العبادة إلا الله، وأيما معبود يعبد مع الله فهو ضد الله ويا ويله وويل من عبده معه.
ما هي مهمة هذه الرسالة؟
قال تعالى: أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل:2]، يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [النحل:2]، أي: من الأنبياء والرسل، ويقول لهم: أنذروا البشرية علموها خوفوها حذروها من أن تعبد معنا غيرنا، أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا [النحل:2]، إذاً: فَاتَّقُونِ [النحل:2]، بم يتقى الله عز وجل ذو العظمة والجلال والكمال الذي بيده كل شيء ويقول للشيء كن فيكون، يميت ويحيي، كيف يتقى؟ نحن مأمورون بأن نتقي الله، أي: نتقي عذابه وسخطه وغضبه، فبم يتقى عذاب الله وسخطه وغضبه؟
يتقى بشيء واحد، ألا وهو طاعته فيما يأمر به، وفيما ينهى عنه، بهذا يتقى الله، ما يتقى بشيء آخر أبداً، اللهم إلا بأن يطيع المرء فيفعل ما يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به ويترك ما ينهى عنه قطعاً بعد الإيمان به.
فَاتَّقُونِ [النحل:2] يا بني الإنسان! يا معشر البشر! اتقون.
هكذا يقول تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل:1-2].
فقال تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [النحل:3]، من يشرك الله في الخلق؟ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [النحل:3]، هل هناك من شركاء لله في الخلق؟ والله لا شريك، هو وحده خلق السماوات والأرض، فما سر خلق السماوات وما الحكمة في ذلك؟ خلقها من أجل أن يعبد في هذه الأرض، خلقها بالحق، أوجد هذا النزل وهيأ فيه الطعام والشراب ومقتضيات الحياة، ثم جاء بآدم من السماء إلى الأرض، وبارك في ذريته من أجل أن يعبد فقط، ما هو في حاجة إلى السماوات ولا إلى الأرض ولا إلى خلقهما، ولكن خلقهما بالحق، بالحكمة، أراد أن يذكر ويشكر، أراد أن يعبد فخلق هذا الخلق.
خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ [النحل:3]، لا بالباطل، لا باللهو واللعب.
هل ترون رجلاً عاقلاً يبني بناية وينسفها عبثاً؟ أو يخيط ثوباً ليلبسه ثم يحرقه؟ ما يكون هذا أبداً، فكيف يخلق الله تعالى هذا الخلق كله لا لشيء؟! إذاً: خلقه من أجل أن يرى فيه شكره ويسمع ذكره، أي: من أجل أن يعبد فيه وحده.
خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [النحل:3]، والسماوات لفظ يشمل سبع سماوات، والسماء تقف عقول البشر دونها عاجزة عن تصورها، سمك السماء خمسمائة سنة، ما بين السماء والسماء الأخرى مسيرة خمسمائة سنة، من خلق هذا الخلق؟ وكيف كان؟ قد كان وقد خلق فهو مخلوق، ولم يبق إلا أن نطأطئ رءوسنا ونقول: لا إله إلا الله.
الأرض فقط ما هي بمزرعة ولا مدينة ولا قرية، هذه القارات من خلقها؟ ما سمعت البشرية أبداً أن هناك من خلق هذه الأرض إلا الله.
وقوله تعالى: تَعَالَى [النحل:3]، أي: تعاظم عن شرك المشركين وارتفع، كيف يشركون به مخلوقات ويجعلونها آلهة معه يعبدونها كما يعبدون الله؟ تعالى الله عما يشرك المشركون والعياذ بالله.
والسورة مكية، وهي تعالج -كما علمتم- قضية تقرير التوحيد وإبطال الشرك.
خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ [النحل:4]، نعم خلق آدم من طين كما قال الله: مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:26]، وخلق البشرية ذريته من نطفة من ماء مهين.
خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [النحل:4]، (خصيم): بين الخصومة يجادل، هذا أبي بن خلف عليه لعائن الله، ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عند الصفا، فجاء بعظم وقال: يا محمد! أترى أن الله يحيي هذا بعدما رم. وفتت العظم! فأنزل الله تعالى فيه أواخر سورة يس: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78]، أجبه! قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79]، ما تحتاج إلى جدال أبداً، الذي أنشأ أول مرة هو الذي يعيد، والذي ما أنشأ كيف يحيي؟! قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79] بتركيبه وخلقه وإيجاده ووقته المناسب له.
خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [النحل:4]، أي: بيّن الخصومة يجادل ويعاند.
إنما خلقها لنا، أما نستحيي؟ كيف نشرك به ونصرف عبادته إلى غيره ونحن نعرف أنه هو الذي خلق هذه الأنعام لنا؟ فنستحي إذاً أن نعبد غيره، أو ننادي سواه، أو نلتفت إلى غيره وهو خالقنا وخالق هذه الأنعام لنا ومن أجلنا.
وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [النحل:5]، ( لكم فيها دفء )، الدفء معروف: ضد البرد، الدفء يكون بلباس الصوف، أليس كذلك؟ والصوف في الغنم، والوبر في الإبل، ومنهما تتكون أنواع الملابس على اختلافها، التي للدفء والتي لغير الدفء كالفراش وما إلى ذلك.
لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ [النحل:5]، كالألبان والجلود واللبن والسمن، وكل ما فيها ننتفع به.
لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [النحل:5]، فاللحوم من أين؟ من الإبل والبقر والغنم، لا من الحمر ولا من البغال، ولكن من الأنعام: الإبل والبقر والغنم.
ما هناك من يقول: اللات أو العزى أو مناة أو عيسى أو محمد، أبداً، ما هناك إلا من يقول: الله. فكيف إذاً يعبد معه غيره؟! كيف تكفر هذه النعم؟ ونحن فطرنا على فطرة بشرية أن من قدم لك رغيفًا من الخبز تستحي منه أن تسبه وتشتمه، قدم لك أدنى معروف فتحترمه وتكبره، فكيف بالذي خلق هذا كله لنا لا نعبده ولا نشكره ولا نذكره؟
يقول تعالى: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النحل:6]، والجمال: تناسب أجزاء الشيء، والجمال في الإنسان هو كمال عقله وآدابه وأخلاقه وسعة حلمه وكرمه، الجمال في الصناعات ما اتحدت وانتظمت وكانت صالحة للعمل بها والانتفاع بها.
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ [النحل:6]، متى؟ حين تريحونها وحين تسرحون بها.
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ [النحل:7] جمع ثقل، قناطير القمح والشعير وما إلى ذلك مما نحتاج إليه، كيف ننقله من بلد إلى بلد؟ من باريس إلى مرسيليا كيف ينقلونه؟ في البحر خلق الله تعالى السفن، لكن في غير البحر يحمل الناس بضائعهم وسلعهم على الإبل والبغال والحمير.
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ [النحل:7] من البلدان، لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ [النحل:7]، بعض البلاد ألف كيلو، من الرياض إلى المدينة ألف كيلو، فكيف يحمله على ظهره إلا بشق النفس حتى يصل إلى هذا المكان.
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ [النحل:7] أبداً إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:7].
هذه مظاهر رحمته ورأفته بنا، خلق لنا السفن ننقل بضائعنا من إقليم إلى إقليم، وخلق لنا البهائم نحمل عليها بضائعنا أيضاً من مكان إلى مكان، ونركب الإبل والخيل والبغال والحمير، ونركب السفن ونتنقل بها من بلد إلى بلد، من فعل هذا؟ هل آباؤنا أو أمهاتنا؟ هذا فعله الله عز وجل.
إذاً: هذه مظاهر رحمته ورأفته بعباده.
لو لم يخلق لنا السفن وهذه الحيوانات فكيف نتنقل من بلد إلى بلد؟ كيف ننقل سلعنا وبضائعنا؟ ما نستطيع، لكن رحمة الله ورأفته بنا هي التي اقتضت وجود هذه المخلوقات.
هكذا يقول تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ * خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:1-7].
أي: عذابكم أيها المستعجلون له لقد دنا منكم وقرب، فـالنضر بن الحارث القائل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم؛ جاءه بعد سُنيات قلائل فهلك ] -والعياذ بالله تعالى- على صورة عجيبة في موته، [ببدر صبراً ] صار محبوسًا حتى مات، أبشع موتة ماتها [ إلى جهنم، وعذاب يوم القيامة لمن استعجله قد قرب وقته، ولذا عبر عنه بالماضي ]. ما قال: يأتي أمر الله، قال: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ [النحل:1].
[ عبر عنه بالماضي؛ لتحقق وقوعه وقرب مجيئه، فلا معنى إذاً لاستعجاله والمطالبة به، فلذا قال الله تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1].
وقوله: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [النحل:1]، أي: تنزه وتقدس عما يشركون به من الآلهة الباطلة؛ إذ لا إله حق إلا هو.
وقوله: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النحل:2]، أي: بإرادته وإذنه، عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [النحل:2]، أي: ينزل جبريل عليه السلام بالوحي على من يشاء من عباده وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل:2]، أي: بأن انذروا، أي: خوفوا المشركين عاقبة شركهم؛ فإن شركهم باطل سيجر عليهم عذاباً لا طاقة لهم به؛ لأنه لا إله إلا الله، وكل الآلهة دونه باطلة.
إذاً: فاتقوا الله بترك الشرك والمعاصي وإلا تعرضتم للعذاب الأليم.
في هاتين الآيتين تقرير للوحي والنبوة للنبي صلى الله عليه وسلم وتقرير التوحيد أيضاً.
وقوله تعالى في الآيات التالية: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [النحل:3] استدلال على وجوب التوحيد وبطلان الشرك، فالذي خلق السماوات والأرض بقدرته وعلمه وحده دون ما مُعِين له ولا مساعد حق أن يعبد، لا تلك الآلهة الميتة التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنطق.
وقوله: تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [النحل:3]، أي: تنزه وتقدس، تعالى عما يشركون به من أصنام وأوثان.
وقوله: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ [النحل:4]، أي: من أضعف شيء وأحقره: قطرة المني، خلقه في ظلمات ثلاث ] الرحم والبطن والمشيمة [وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئاً، حتى إذا رباه وأصبح رجلاً إذا هو خصم لله يجادل ويعاند، ويقول: من يحيي العظام وهي رميم.
وقوله تعالى: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [النحل:5]، فهذه مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة والرحمة، وهي الموجبة لعبادته تعالى وترك عبادة ما سواه.
فالأنعام -وهي الإبل والبقر والغنم- خلقها الله تعالى لبني آدم ولم يخلقها لغيرهم، لهم فيها دفء إذ يصنعون الملابس والفرش والأغطية من صوف الغنم ووبر الإبل.
ولهم فيها منافع كاللبن والزبدة والسمن والجبن والنسل -أيضاً أولادها- حيث تلد كل سنة فينتفعون بأولادها، ومنها يأكلون اللحوم المختلفة، فالمنعم بهذه النعم هو الواجب العبادة دون غيره من سائر مخلوقاته.
وقوله: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ [النحل:6]، أي: منظر حسن جميل حين تريحونها عشية من المرعى إلى المراح، وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النحل:6]، أي: تخرجونها صباحاً من مراحها إلى مراعيها، فهذه لذة روحية ببهجة المنظر.
وقوله تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ [النحل:7]، أي: إلا بجهد النفس والمشقة العظيمة.
فالإبل في الصحراء كالسفن في البحر تحمل الأثقال من بلدٍ إلى بلد، وقد تكون المسافة بعيدة لا يصلها الإنسان إلا بشق الأنفس وبذل الجهد والطاقة لولا الإبل سفن الصحراء، ومثل الإبل الخيل والبغال والحمير في حمل الأثقال فالخالق لهذه الأنعام هو ربكم لا إله إلا هو فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً.
وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمْ [النحل:7]، أي: خالقكم ورازقكم ومربيكم وإلهكم الحق الذي لا إله لكم غيره لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:7].
ومظاهر رحمته ورأفته ظاهره في كل حياة الإنسان، فلولا لطف الله بالإنسان ورحمته لما عاش ساعة في الحياة الدنيا
فلله الحمد وله المنة عز وجل].
أولاً: قرب يوم القيامة ] والله إنه لقريب، [ قرب يوم القيامة، فلا معنى لاستعجاله فإنه آتٍ لا محالة، وكل آتٍ قريب ] يكفي قول الله: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء:1]، وقوله: اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ[القمر:1]
[ ثانياً: تسمية الوحي بالروح؛ من أجل أنه يحيي القلوب، كما تحيا الأجسام بالأرواح.
ثالثاً: تقرير التوحيد والنبوة والبعث الآخر بذكر مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة والرأفة والرحمة ].
وهذا الذي تقرره السور المكية، كلها تقرر التوحيد والنبوة والبعث الآخر.
والله تعالى نسأل أن ينفعني وإياكم بكتابه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر