أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلك الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا هذا الموعود، اللهم آمين.
الآية التي درسناها في الدرس السابق كنا ما وفيناها حقها مما ينبغي أن نعرفه منها ونفهمه، فلهذا أذكركم بها أولاً تلاوة وتأملوا مضمونها، ثم نذكر مضمونها في الشرح.
فعلمنا أن البشرية أو الإنسانية مرت بها فترة طويلة من عهد آدم عليه السلام إلى أن بعث الله تعالى نوحاً، كانت تعيش على التوحيد، لا شرك ولا كفر، فلما اجتالتها الشياطين، ونفخت فيها روح الإلحاد والشرك والكفر، وأصبحوا يشركون بربهم ويكفرون به؛ بعث الله تعالى رسوله نوحاً، فكان أول الرسل يحمل الرسالة للبشارة والنذارة، يبشر المؤمنين المتقين، وينذر الكافرين الفاجرين، دل على هذا قوله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] أي: على ملة التوحيد، إذ الأصل التوحيد، إذاً: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة:213] بعدما ارتبكت الحالة واختلطت، وأصبح فيها الشرك والفسق والباطل والشر، فحكمة الله تقتضي أن يرسل رسلاً يحملون هدايته إلى عباده، فمن أجاب فآمن واستقام بشروه بوعد الله الصادق بالنجاة من النار ودخول الجنة، ومن أصر على الشرك ومشى وراء الشياطين فإنهم ينذرونه بعذاب الله اللازم له.
وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة:213] حال كونهم بغاة، من أجل البغي والحسد فقط، وإلا فكتاب الله هو كتاب الله، ورسول الله هو رسول الله، أنزل الله كتاباً ونسخه بآخر، فنأخذ بالناسخ ونترك المنسوخ، لكن البغي النفسي والحسد والبغض هو الذي حملهم على هذا.
أولاً: اختلف اليهود والنصارى في عيسى، اليهود قالوا: ابن زناً والعياذ بالله، وقالوا: ساحر، حين كانوا يشاهدون المعجزات يقولون: سحر، والنصارى قالوا فيه: ابن الله، واختلفوا، وقال المؤمنون المسلمون بحق: هو عبد الله ورسوله، عبد الله من سائر عبيده اصطفاه بالرسالة فأرسله، فهو عبد الله ورسوله، ولهذا نشهد أن عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله.
ثانياً: اختلفوا في يوم الجمعة مع ما له من فضل، هذا اليوم خلق الله فيه آدم، وأنزله فيه إلى الأرض، وهو يوم تقوم فيه الساعة، وهو أفضل الأيام، وحسبنا أن فيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي ويدعو الله شيئاً إلا أعطاه الله إياه.
فاليهود عليهم لعائن الله قالوا: إن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وهي: الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة واستراح يوم السبت، فقالوا: هذا هو اليوم الذي نستريح فيه نحن، وهذا من تزيين الشيطان، وأبطل الله هذه الفرية في آية من سورة (ق)، إذ قال: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38]، أي: نصب أو تعب، فأبطل فريتهم.
وجاء النصارى فاختاروا الأحد، وجاء المسلمون بعدهم أتباع النبي الخاتم فهداهم الله إلى يوم الجمعة، فلنا يوم الجمعة ولليهود السبت، وللنصارى الأحد، هدانا الله لما اختلفوا فيه، فالحمد لله.
ومما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن فترة الحياة من عهد آدم إلى أن تقوم الساعة هي بمثابة طلوع الشمس إلى غروبها، كيوم واحد، فتلك الأمم توالت وجئنا، فنحن الآخرون الأولون، وقتنا: من صلاة العصر إلى غروب الشمس، هكذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم، فنحن الآخرون الأولون.
وكثيراً ما أقول للمستمعين والمستمعات: من هم الذين يشاء الله هدايتهم؟ بنو الأصفر، العرب، بنو كذا؟ من هم؟ الجواب -معشر المستمعين والمستمعات-: هم الذين قرعوا باب الله ولازموه، واستمروا طول حياتهم يدعونه الهداية، هم الذين شاء الله هدايتهم، أما المتنكبون والمعرضون -فضلاً عن الساخرين والكافرين- فهؤلاء لا يشاء الله هدايتهم؛ لأنه عليم حكيم، فالذي أقبل على الله في صدق يتضرع إليه ويسأله الهداية حاشا لله أن يحرمه إياها أو يخيبه في دعائه، والذي يقرع الباب مرة ومرتين ثم يتأخر ما ينتفع، لا بد من ملازمة، وحسبنا هذا الحديث، كلما قام في الليل يتهجد ويبكي يتوسل إلى الله بهذه الوسيلة العظيمة: ( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم )، فلا بد من سؤال الله الهداية طول الحياة.
إذاً: ومما اختلف فيه الأولون وهدى الله إليه المؤمنين: القبلة، كان اليهود يستقبلون بيت المقدس، والنصارى يستقبلون مطلع الشمس ومشرقها، فهدانا الله نحن إلى الكعبة، وهي قبلة إبراهيم وإسماعيل والأنبياء حتى هود وصالح، فاختلفوا في القبلة فاستقبل اليهود بيت المقدس، واستقبل النصارى طلوع الشمس، وهدانا الله نحن إلى كعبته التي بناها لآدم لما هبط إلى الأرض، فاختلفوا وهدانا الله، فالحمد لله.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآية:
من هداية الآية:
أولاً: الأصل هو التوحيد والشرك طارئ على البشرية ] كما قدمنا؛ لأن آدم خلقه الله بيديه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وأخرج من ضلعه الأيسر حواء امرأته وأهبطهما إلى الأرض، فآدم نبي الله، يعلم عن الله ويوحي الله تعالى إليه، وأولاده تناسلوا، كلما يولد مولود يعرف الحق ويعرف التوحيد ويعبد الله، وقد قص الله تعالى علينا قصة قابيل وهابيل، وهما ابنا آدم عليه السلام، وقتل قابيل هابيل حسداً، ولهذا فالحسد أخطر ما يصاب به البشر، قل لأخيه: لم يقبل الله صدقتك ولا يقبل صدقي؟ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ [المائدة:27]، والعلة في قبول الله هذا ورفض هذا أن هابيل قدم خير ماله وأفضل ما يملك لربه، والآخر جمع أشياء فاسدة ما له حاجة إليها، وتقدم بها قربناً لله، وهكذا الصدقة إذا كانت مما فيه رداءة وعدم صلاحية لا قيمة لها، أنت تتقرب إلى الله وتقدم إليه بما لا تريده! كيف يصح هذا؟ كيف تواجه الله عز وجل؟ ( إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً ).
إذاً: واستمر التوحيد في أحفاد آدم وأحفاد أحفاده إلى أن حدث الشرك بدعوة إبليس وفتنته، إذاً: لما انتشر الشرك أرسل الله نوحاً، فدعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً.
[ ثانياً: الأصل في مهمة الرسل البشارة لمن آمن واتقى والنذارة لمن كفر وفجر ]، الأصل في مهمة الرسل ما هي؟ أن يبشروا من آمن واتقى، وينذروا من كفر وفجر، ثم المهام الأخر من العبادات إلى الجهاد تابعة، يقوم بها المؤمنون الصادقون.
[ ثالثاً: من علامات خذلان الأمة وتعرضها للخسار والدمار أن تختلف في كتابها ودينها، فيحرفون كلام الله ويبدلون شرائعه طلباً للرياسة وجرياً وراء الأهواء والعصبيات، وهذا الذي تعاني منه أمة الإسلام اليوم وقبل اليوم، وكان سبب دمار بني إسرائيل ].
من علامات الخذلان أن يختلف الناس في دين الله، فلهذا على العلماء أن يعملوا ما استطاعوا على أن لا يفتحوا باب الخلاف للمسلمين، ولو قام بهذا الواجب العلماء لما ظهر الخلاف، الخلاف كله شر لا خير فيه، الأمم التي اختلفت تدمرت وخسرت حياتها.
إذاً: فالآية تحمل هذا التنبيه: لا تختلفوا في كتابكم، فإن من اختلفوا في كتابهم هلكوا.
[ رابعاً: أمة الإسلام التي تعيش على الكتاب والسنة عقيدة وعبادة وقضاء هي المعنية بقوله تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213] ]، أي: لما اختلف فيه أهل الكتاب: اليهود والنصارى.
[ خامساً: الهداية بيد الله، فليطلب العبد دائماً الهداية من الله بسؤاله المتكرر أن يهديه دائماً إلى الحق وإلى الطريق المستقيم ]، وقد قدمنا الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان كل ليلة يسأل الله أن يهديه لما اختلف فيه الناس من الحق، ويهديه إلى صراط مستقيم.
قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [البقرة:214] هذا الاستفهام معناه: بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة أيها المؤمنون. وهذه كانت أيام الشدة، أيام البأساء واللأواء؛ المدينة محاصرة من جهاتها، حرب الخندق، حرب أحد، الجوع، وحسبنا ما علمنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم مات ولم يشبع من خبز الشعير ثلاثة أيام متوالية، حسبنا أن أبا هريرة كان يصرع في المسجد من شدة الجوع، فيأتي أطفال المدينة يركبون على ظهره ويقولون: جن أبو هريرة ! قال: وما فيَّ من جنون، ولكن الجوع.
هذه الآية تحملهم على الصبر والثبات والشجاعة، حتى يفرج الله الهم ويزيل الغم ويرفع البلاء، وفعلت هذه الآية ما فعلت فيهم، صبروا ثبتوا، فهو يقول لهم: أحسبتم أن تدخلوا الجنة دار السلام بدون بلاء؟ ما هو بمعقول أبداً.
وحسبنا أن لا ننسى حكم الله الصادر علينا، أبيضنا وأسودنا أولنا وآخرنا؛ ذلكم الحكم العظيم الذي أقسم الجبار عليه لتطمئن النفوس وتسكن إليه، إذ قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، كثيراً ما نقول: هنا تقرير المصير، لا تفهم أن مصيرك تقرره يوم القيامة، لا والله، المصير يتقرر هنا، فمن آمن وحقق إيماناً سليماً صادقاً يقينياً، ثم اتقى الله فلم يفسق عن أمره ويخرج عن طاعته في الفعل والترك فقد زكى نفسه بهذه العبادات وطهرها من تلك الأرجاس والأنجاس، إذ ابتعد عن الشرك والكفر والخبث والفسق والفجور، فإذا جاء ملك الموت وجد نفسه مشرقة، والله! إنه ليحييه ويسلم عليه ويبشره وهو على سرير الموت: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30]، ما مالوا يميناً ولا شمالاً، أحلوا ما أحل الله وحرموا ما حرم الله، ونهضوا بما أوجب الله من الجهاد والرباط إلى الصيام والصلاة، هؤلاء: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] في ساعة الاحتضار، وفود الملائكة تبشرهم وتهنئهم، اللهم اجعلنا منهم.
أما الذين يموتون وأرواحهم خبيثة منتنة بالإلحاد والشرك والكفر والعياذ بالله فقد أعلمنا الله بحكمه فيهم، ما ننسى آية من سورة الأعراف: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41]، إذ المجرمون أجرموا على أنفسهم، لوثوها وأخبثوها بما أفرغوا عليها من أطنان الذنوب والآثام، ولا توبة ولا تراجع، الظالمون هم المشركون، ظلموا أنفسهم، بدل أن يطيبوها ويطهروها أخبثوها وعفنوها، وبين الرسول هذا بياناً شافياً، عندما يحتضر المؤمن التقي ولي الله، وتأتي الملائكة يسفر وجهه ويستبشر ويبتسم وهو يعالج بقبض روحه، ثم يعرجون بها ويستأذنون من أهل السماوات فيؤذن لهم إلى أن يقفوا بها عند العرش، ويكتب اسمها في عليين، ثم تعود إلى الأرض لفتنة القبر، ثم تعود إلى الجنة دار السلام، وأما الروح الخبيثة فوالله! ما يؤذن لها ولا تعرج إلى السماء ولا تصل إلى دار السلام، وتعود إلى الأرض لفتنة القبر، ثم تعود إلى أسفل سافلين في الدركات التي ما يخطر في البال أين هي.
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الأعراف:40]، التكذيب بالآيات هو التكذيب بالوضوء والغسل، هو التكذيب بالصلاة والزكاة، الذي كذب بالآيات كيف يعبد الله؟ الآيات هي حاملة للشرائع والعقائد والآداب والأخلاق والعبادات، والمستكبر كالمكذب، قال: أنا مؤمن، لكن يمنعه الكبر أن يغتسل من جنابة أو يصلي، فهل ينفعه هذا الإيمان؟
وضربنا لهذا مثلاً قديماً: مريضان بأشد المرض، زرناهما فقدمنا للأول أدوية وعقاقير للعلاج، فقال: مع الأسف أنا لا أؤمن بهذه الخرافات والضلال، لا أقبل هذا العلاج الذي تقولونه. فهذا كذب به فمات، انتهى، فمشينا إلى الثاني فقلنا: مرحباً، أهلاً وسهلاً، جئناك بعلاج، فقال: جزاكم الله خيراً، نعم أنا مريض والعلاج نافع وأنا مؤمن بنفعه، ولكن مع الأسف ما عندي رغبة في هذا، تركه استكباراً فمات، فما الفرق بين المكذب والمستكبر؟ كلاهما هلك، فالذي يكذب بآيات الله ولا يقول بها ولا يعترف كالذي يقول: آيات الله ودين الله الإسلام حق ولا يريد أن يطبق شيئاً كبرياء، هل بينهما فرق؟ لا فرق.
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، تعرفون سَم الخياط؟ سَم الخياط: عين الإبرة، التي كنا نخيط بها ثيابنا قبل الآلات، هل تستطيع أن تدخل حبلاً في عين الإبرة؟ فكيف بالجمل؟!
إذاً: من أراد أن يدخل الجنة ونفسه خبيثة طلب المستحيل، كالذي يريد أن يدخل حبلاً في عين الإبرة، أو جملاً في عين الإبرة، هذا يقال فيه: التعليق على المستحيل، فهو مستحيل.
وهكذا القرآن يخاطب العرب والعجم والعالم والجاهل بألفاظ قريبة جداً، هل من المعقول أن يدخل الجمل في عين الإبرة؟ مستحيل، كذلك النفس الخبيثة بالشرك والجرائم، هذه النفس يستحيل أن تدخل الجنة أو تفتح لها أبواب السماء أبداً، لا تعود إلا إلى الدركات السفلى في الكون في سجين.
أَمْ حَسِبْتُمْ [البقرة:214] أحسبتم أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [البقرة:214] هكذا بالاستراحة الدائمة؛ بالأكل والشرب والركوب والأمن ثم يقال: ادخلوا الجنة!
فهذا التساؤل معناه: الإنكار عليهم، انزعوا من آذانكم هذا، لا بد إذاً أن تبتلوا -كما قدمنا- بالصلاة بالزكاة بالصيام بالحج بصلة المعروف، بالبر بالإحسان، بكلمة الحق، بالرحمة بالعدل، هذه التي تزكي النفس، فإذا ما عملتم والنفوس خبيثة فكيف تدخلون الجنة؟ وقد تصابون أياماً بحصار عدو وحرب تدخلون فيها معه، وبجوع، وقحط، ولا يتبدل فيكم شيء، قلوبكم مع الله وألسنتكم ذاكرة، وقلوبكم ذاكرة شاكرة، هذا هو الطريق.
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:214] أي: حالهم وصفتهم، مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [البقرة:214] زلزالاً، وتزلزلت المدينة في حرب أحد لما انكسر المؤمنون وانهزموا، كل بيت فيه من يصرخ ويبكي، حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214] هذا مع الرسل السابقين، وحتى مع رسولنا صلى الله عليه وسلم، يقولون: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214]؟ والله يقول لهم: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214] لا تستبطئوه.
إذاً: ها نحن الآن مبتلون فقط بالتكاليف، هيا نتخلى عن الربا، لا يراني الله واقفاً أمام بنك ربوي، وصاحب البنك يغلقه أيضاً ويرمي بالمفتاح، ويطلب رزق الله حتى من الحمالة أو من أي شيء، نطهر قلوبنا من النظر إلى غير الله، من التعلق بغير الله، ونجعل قلوبنا خالصة لله، لا نلتفت إلى نبي ولا ولي، ما لنا إلا الله عز وجل، نطهر أنفسنا من اللغو والكلام الباطل، هذه الغيبة والنميمة والأضاحيك، نطهر بيوتنا، عجلوا قبل أن تنزل المصيبة، بيوت المؤمنين فيها عاهرات يغنين، والمؤمن وامرأته وأولاده يشاهدون، أهذا هو الإيمان؟ أين الحجاب؟
وقد بلغنا اليوم خبر من نقمة الله، أحد الغافلين سقط الدش على رأسه فكسر رأسه، هل من معتبر؟ الأحياء يعتبرون والأموات لا يعتبرون، على الأقل نقلل من هذا الإسراف في الطعام والشراب، وإذا توافر ريال أو عشرة نسد به خلة محتاج أو نساعد به مؤمناً، أو نضعه في خير من الخيرات، لم التكالب على هذه الأوساخ مادمنا في أمن ورخاء، لم ما نتنزه عن هذه القاذورات والأوساخ؟ كأننا نسينا أن الله بالمرصاد، ونحن نريد أن ندخل الجنة، هل نحسب أن ندخل الجنة؟ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [البقرة:214] إلى حد أن يقول الرسول والمؤمنون معه: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214] يستبطئون هذا، والرسول يقول ذلك لأن الأعراض البشرية عامة في الرسل وفي غيرهم، يقولون: متى نصر الله؟ والرسول يقول: اثبتوا واصبروا فستنفرج: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يسلم عليه أحد أصحابه وهو على غير وضوء، فيعمد إلى جدار من جدران المدينة من لبن وتراب، ويتيمم من أجل أن يرد السلام؛ لأن في الرد اسم الله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أي: من أجل أن يذكر الله، ما استطاع أن يذكر الله بدون وضوء، وشرع لنا السواك لم؟ قال: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )؛ لأنهم يذكرون الله عز وجل، هذه الأفواه مجاري ذكر الله أو لا؟ كيف تذكر الله بدون فمك وحلقومك ولسانك؟ هذا الموضع حرام أن يتلوث، أما الكافر الذي لا يذكر الله فيجعل في فمه حتى الخرء ما يضره ذلك، أرني مؤمناً تمضي عليه ساعة ما يذكر الله، ما هو بمعقول أبداً، فهو يرد السلام: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ويقال له: كيف حالك، فيقول: الحمد لله، ويقف: باسم الله، ويجلس: باسم الله، دائماً يذكر الله، كيف يلوث فمه؟ وما استجبنا، وما عرفنا، كأننا مشدودون بالأرض.
وكذلك اللحية، قلنا: يا عباد الله! أنتم عسكر محمد صلى الله عليه وسلم، أنتم جيش الله، لا بد أن تكون لكم سمات خاصة لا تشتبه بسمات الكفار والمشركين والفاسقين أبداً، ما هي الميزة التي تميزكم؟ هي لحاكم، اليهود والنصارى والكفار لا لحى لهم، وجيش محمد له لحية أو لا؟ يحرم أن يكون مثلهم، وقد قلنا لهم: الجندي في اليابان، في الصين، في الأمم الهابطة، في الراقية، العسكري لا يستطيع مدني أن يلبس لباسه، فإنه يسجن أربع سنوات ويؤدب، كيف تلبس لباس جندي وأنت مدني؟ هذا معروف في العالم أو لا؟ ورجال الإسلام كلهم عسكر محمد صلى الله عليه وسلم، إذاً: فلباسهم يجب أن يتميز عن لباس الكافرين والمشركين، ومن أكبر الميزات الذي وضعها الرسول اللحية، فأعفوا لحاكم، فالمشركون والكافرون يحلقون، وصرخنا في باب الحجاب.
المهم أننا -والله- لبالمرصاد، ما ندري متى يغضب الجبار، سئل أحدهم: أين الله؟ فقال: بالمرصاد، أتعرفون المرصاد أو لا؟ ذاك الذي يجلس على جبل ويترقب الغزلان أو الطيور متى تنزل ليضرب.
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]، فإما أن يتوب المسلمون فوراً بعجالة، ويظهروا في مظهر إسلامهم الحق، وإلا فسوف تنزل بهم الويلات والنكبات ويخسرون دنياهم وآخرتهم إلا من رحمه الله، هكذا قيل لأصحاب الرسول أو لا؟ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:214] ما هو؟ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214] من شدة البلاء والكرب، ونحن -والحمد لله- لا كرب ولا بلاء، أحدثنا الكروب والبلاء بأنفسنا، مزقنا صلات الروابط والعلاقات الطيبة علاقات الإيمان، وأخذ الحسد يمزقنا والكبر يشتتنا، وأثارت الشياطين الخلاف بيننا، وتمزقنا بأنفسنا، إلى أين مصيرنا؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ معنى الآية الكريمة:
ينكر تعالى على المؤمنين وهم في أيام شدة ولأواء ] ينكر عليهم [ ظنهم أنهم يدخلون الجنة بدون امتحان ولا ابتلاء في النفس والمال، بل وأن يصيبهم ما أصاب غيرهم من البأساء والضراء والزلزال، وهو الاضطراب والقلق من الأهوال، حتى يقول الرسول والمؤمنون معه استبطاءً للنصر الذي وُعدوا به: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214]؟ فيجيبهم ربهم تعالى بقوله: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]].
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية:
أولاً: الابتلاء بالتكاليف الشرعية -ومنها الجهاد بالنفس والمال- ضروري لدخول الجنة ]، الابتلاء والله لا بد منه لدخول الجنة، والذي يريد أن لا يبتلى ولا يكلف ويعيش كالحيوان مصيره معروف إلى عالم الشقاء النار والعياذ بالله.
[ ثانياً: الترغيب في الائتساء بالصالحين والاقتداء بهم في العمل والصبر ]؛ إذ قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [البقرة:214] إذاً: ائتسوا واقتدوا أيضاً، فاصبروا كما صبروا، وإن كان زلزالكم وبلاؤكم أقل أو أكثر فلقد سبقكم أمم من الصالحين وصبروا على هذا.
[ ثالثاً: جواز الأعراض البشرية على الرسل كالقلق ]، فالرسول رسول، ولكن يقلق، يستبطئ النصر، يتألم، لماذا؟ لأنه بشري ما هو بملك، فيه صفات البشر، والإنسان يحزن، يكرب، يخاف، يجوع، ويعطش، لا بد من هذا، وإن كان نبياً ورسولاً، فهذه الآية دلت على هذه.
[ جواز الأعراض البشرية على الرسل كالقلق والاستبطاء للوعد الإلهي انتظاراً له.
رابعاً: بيان ما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من شدة وبلاء أيام الجهاد وحصار المشركين لهم ] في مكة، وفي المدينة أعظم، في مكة ابتلوا من المشركين، فهذا يضربونه، وهذا يقتلونه وهذا يفعلون به كذا، وما ننسى أبداً أن سمية وزوجها ياسر قتلا على مرأى ومسمع بين الناس.
معاشر المستمعين! هل من توبة إلى الله، هل من رجعة إلى الله قبل فوات الوقت، والله! إننا لتحت النظارة، والبلاء ينتقل من بقعة إلى بقعة، فالمؤمنون إذا ثبتوا وصبروا كان هذا القلق والاضطراب رفعاً لدرجاتهم، وأما العذاب فيمسهم منه ما يمس غيرهم، والذين تهوكوا وهبطوا وأعرضوا عن الله وذكره فمصيرهم معروف، والله تعالى أسأل أن يحسن عاقبتنا وعاقبة كل مؤمن ومؤمنة.
ندعو لإخواننا المصابين بالبلاء في الأفغان والديار الجزائرية، إذ ما نملك إلا الدعاء، فنحن ندعو الله عز وجل والله لا يخيب داعياً يدعوه في صدق وإخلاص.
فاللهم يا ولي المؤمنين، ويا متولي الصالحين، ويا رب العالمين، إن عباداً لك مؤمنين في الديار الأفغانية والجزائرية قد أصيبوا بكرب عظيم وخلاف شديد، واشتعلت نار الفتنة بينهم فقتل بعضهم بعضاً، ونكل بعضهم ببعض، اللهم فرج ما بهم، اللهم فرج ما بهم، وأطفئ نار الفتنة بينهم، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين، ربنا إنه لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء وأنت السميع العليم، كما نصرت نبيك ورسولك محمداً والمؤمنين في غزوة الخندق بعد الحصار الشديد، فانصر عبادك المؤمنين على أنفسهم وعلى شياطينهم وأهوائهم؛ ليعودوا إليك ويتوبوا إلى صراطك لينجوا من هذه الإحن والمحن والفتن يا رب العالمين، وق ديارنا هذه من مثلها وديار المؤمنين يا رب العالمين، وتب على الجميع إنك رب الجميع.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر