وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع : ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فكيف نظفر بهذا الخير لولا توفيق ربنا وهدايته لنا، حيث جمعنا على كتابه في بيته نتلوه ونتدارسه؟
وها نحن مع هذه الآيات المباركات، وهما آيتان من سورة البقرة انتهى الدرس إليهما.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة:211-212].
عرفتم من الآمر؟ الله جل جلاله، الذي اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم وأرسله رسولاً للعالمين.
سَلْ [البقرة:211] أي: اسأل، وحذفت الهمزة -كما قدمنا- مع همزة الوصل للتخفيف، لقوله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]؛ فإن قولك: (اسأل) فيه صعوبة، أما (سل) فتخفيف من ربكم، سل يا رسولنا، يا مصطفانا، سل بني إسرائيل أهل الكتاب اليهود، أولاد إسرائيل هم أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، إذ يعقوب يكنى بإسرائيل واسمه يعقوب.
سارة التي هاجرت وفارقت ديارها مع زوجها إبراهيم الخليل عليهم السلام، ولما دقت الساعة لتدمير حواضر ما حلمت الدنيا بمثلها -سدوم وعمورة- جاء الوفد الذي يقوم بهذه المهمة وعلى رأسهم جبريل، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، نزلوا ضيوفاً على إبراهيم، فلما نزلوا عليه ضيوفاً ماذا فعل؟ قال تعالى: فَرَاغَ [الذاريات:26] مال إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ [الذاريات:26-27] هذا الكرم، ولهذا كني إبراهيم بأبي الضيفان على لسان سيد المرسلين، فجاء بعجل حنيذ، مشوي باللهجة اليمنية، وقربه إليهم، ثم ما قال: كلوا، فما ينبغي أن يكون فوقهم، من آدابه السامية الرفيعة أنه قال: أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27] عرضٌ عرضه لا أمرٌ أمرهم به.
فقالوا: إنا لا نأكل طعاماً إلا بحقه. قال: كلوه بحقه. قالوا: فما حقه يا إبراهيم؟ قال: أن تسموا الله في أوله وأن تحمدوه في آخره. والحمد لله؛ فنحن نأكل الطعام صباح مساء بحقه، لا نأكل طعاماً ولا نشرب شراباً بدون أن ندفع القيمة، والحمد لله، القيمة أن تقول: باسم الله، فإذا شبعت قل: الحمد لله، فقد أديت الثمن المطلوب.
إذاً: فلما قال إبراهيم: كلوه بحقه، وسألوه: ما حقه؟ قال: أن تذكروا اسم الله في أوله وتحمدوه في آخره؛ التفت جبريل إلى ميكائيل وقال: حق للرجل أن يتخذه ربه خليلاً! هو أهلٌ للخلة، حق للرجل أي: ثبت وتعين أن يتخذه ربه خليلاً.
إذاً: وعرف أنهم ملائكة، والملائكة لا يأكلون ولا يشربون، فقالوا: جئناك لمهمة، ومع هذا تلطف إبراهيم وقال: إن فيهم لوطاً، قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [العنكبوت:32] خبيثة منتنة، وأما لوط وبناته فسوف نستلهم استلال الشعرة من العجين، فقلبت تلك العواصم وانقلب ظاهرها باطنها وباطنها ظاهرها، وتحولت بمرور الأيام إلى بحيرة منتنة تسمى الآن بالبحر الميت، هذا البحر ما يوجد فيه حوت ولا ضفادع.
إذاً: فاصبر يا رسولنا وتحمل واثبت، وسل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة كالشمس دالة على أنه لا إله إلا الله وأن موسى رسول الله وأن عيسى عبد الله ورسول الله وما آمنوا.
ومن أظهر الآيات -كما عرفتم- العصا، عصا موسى كان يرعى بها الغنم فأمره تعالى أن يلقيها فألقاها فإذا هي حية تسعى تهتز كأنها جان، وابتلعت وأدخلت في جوفها ذلك الوادي المليء بالحبال التي يتصورها ويشاهدها المتفرجون أنها حيات وثعابين، فهذه أعظم آية.
وانفلاق البحر، ضربه موسى باسم الله فانفلق اثنتي عشر فلقة، كل طائفة أو قبيل من بني إسرائيل تمشي في طريق واحد خاص بها، فهل أسلموا؟ ما أسلموا، إذاً: فاصبر يا رسولنا وتحمل واثبت.
وَمَنْ يُبَدِّلْ [البقرة:211] (من) من ألفاظ العموم يدخل فيه الواحد والواحدة والاثنان والاثنتان والجماعة والأمة، وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ [البقرة:211] وشاهدها؛ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211].
وإن أردتم صورة فماذا حل باليهود؟ ماذا أصابهم؟ ما عرفت أمة من الأمم الذل والهون والدون والصغار والاحتقار في العالم كما عرف اليهود،كان المسيحي لا يفتح عينيه في اليهودي بغضاً له وكرهاً له، ما ينظر إلى وجهه، وكانوا يقلونهم كالسمك في قدور الزيت بدعوى أنهم قتلوا إلههم، وتشردوا وتمزقوا وسلط الله عليهم البابليين فساموهم الخسف وسلطوا عليهم ما لا يطاق، ثم تجدد لهم العهد من جديد وظهرت دولتهم وسادت لما رجعوا إلى الله، ثم ما إن فسقوا وخرجوا عن طاعة الله ولبس نساؤهم الكعب العالي حتى أخذوا يهبطون، فاستباحوا الخلاعة والدعارة والزنا والربا، فضربهم وسلط عليهم الرومان فساموهم الخسف والعذاب، شتتوهم، مزقوهم، أهانوهم، فشردت جماعات منهم إلى هذه المدينة، وما زالوا في الهون والدون حتى هبط العالم الإسلامي فظهروا.
هبط العالم الإسلامي وذهبت منه السيادة والقيادة وإرادة الخير للبشرية، ولصق بالأرض وأخلد إليها، حينئذ ظهر اليهود من جديد، وظهروا بالمكر والخديعة، مكروا فوضعوا المذهب الشيوعي، اجتمعوا عليه وفكروا فيه ونظموه وقعدوه وأصلوه وعرضوه، فاجتاح ذلك المذهب أوروبا السامية العالية، فثلاثة أرباعها أصبحوا لا يؤمنون بالله ولا لقائه، يقولون: لا إله والحياة مادة! ومن ثم استولوا على قلوب أوروبا، ذاك العدو الألد الذي لا يفتح عينيه في اليهود أصبح يركع لليهود وينحني لهم، ووضعوا فتنة الربا والبنوك وساسوها وتحكموا فيها وسادوها، فوضعوا العالم تحت أرجلهم.
ولا ينقذ العالم من اليهود إلا المسلمون فقط، وهل نحن أولئك المسلمون؟ لا، فنحن كفرنا بنعمة الله: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ [البقرة:211]، فالعقاب لا يقادر قدره ولا يقوم به شيء؛ لأن الله إذا عاقب فهو شديد العقاب، ها هو ذا قد أذلنا وأهاننا وأفقرنا وشتتنا ورمانا في متاهات لما كفرنا نعمة الإسلام، ما اعتززنا بها ولا التففنا حولها، ولا عشقناها ولا قمنا بها ولا دعونا البشرية إليها، بل أصبحنا نجري وراء الكفر ونتمثله ونعمل ما استطعنا على أن نكون مثلهم، أواقع هذا أو لا؟ والله! إنه لواقع، وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211].
إذاً: من يؤدب اليهود؟ هم المسلمون، والله! إن ساعتهم لآتية، لكن هذا الجيل منا ما هو بأهل لذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم المتكلم بالغيب المخبر عن الله بما يوحيه إليه، وكم من غيب أعلنه وتحقق كما أخبر بلا زيادة ولا نقصان، فاسمعوه يقول: ( لتقاتلن اليهود )، وهذه الكلمة يقولها في أصحابه، وهل بقي يهود يستحقون القتال؟ بنو قينقاع شردوا عن آخرهم، بنو النضير شردوا إلى الشام، أين اليهود؟ ذهبوا إلى الروم ليذلوهم، فكيف يصبحون أمة ويقاتلهم المسلمون؟ ولكن الغيب لله، ( لتقاتلن ) بلام القسم ( اليهود فتقتلونهم حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله، إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود )، تعرفون شجر الغرقد؟
كان البقيع كله غرقداً أيام الأمطار، شجر ذو شوك، وفي بلد المغرب موجود عندنا الآن، فلم يقدِّس اليهود هذا الشجر؟ لعلمهم أنهم إذا اختبئوا تحت الشجرة وجاء مسلم يطاردهم لا تعترف الشجرة بأن اليهودي عندها، وسلوا إخوانكم الفلسطينيين عندما يحجون ويعتمرون فسيعطونكم فكرة كاملة عن شجر الغرقد والعناية به كالتفاح والعنب بل أشد، هم به أكثر عناية من التفاح والتمر.
إذاً: هل الشجر والحجر يكذب؟ يقول: يا مسلم وما هو بمسلم؟ لا يكذب، فلهذا نحن لسنا بأهل لذلك، ليس معنى هذا أن هذا مستحيل وما يمكن، والله العظيم! لو نسلم لله أربعاً وعشرين ساعة فقط نعلن (لا إله إلا الله) ويصير أمرنا واحداً على شرع الله لمات اليهود من الخوف والفزع، فما الذي يمنعنا من أن نسلم؟ لا شيء.
ليجتمع حكامنا في الروضة بالطيارة، الذي في أقصى الشرق وأقصى الغرب تأتي به الطائرة في ست ساعات، ويبايعون خليفة لهم ويأخذون الدستور ويطبقونه، فتقام الصلاة.. تجبى الزكاة.. يؤمر بالمعروف .. ينهى عن المنكر، ينتشر ظل الآداب والأخلاق، وبعد أربعين يوماً وأمة محمد هي الأمة الرائدة القائدة، وتأخذ الدول تسقط، تمد أيديها للإسلام وتعتنقه، وهذا اليوم سيأتي أيضاً، ليأتين يوم لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا دخله الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل في الكرة الأرضية بكاملها، والمقدمات موجودة، فهيا نسلم.
ومع الأسف قد بدل المسلمون نعمة الإسلام بالكفر، من إندونيسيا إلى موريتانيا، باستثناء هذه البقعة، لا يلتفتون إلى الشريعة، القوانين الغربية المستوردة المستوحاة درَّسوها ودرَسوها، بعثوا أولادهم فتعلموا في إيطاليا وأوروبا والإسلام مسكوت عنه، ومن تكلم خافوا منه وقالوا: اسكت لا تزعجنا، اعبد الله إن شئت.
وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ [البقرة:211] ما هذا العذاب؟ ما يقادر قدره فيطاق، يكفي فيه قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211]، والعقاب سمي كذلك لأن الإنسان يؤخذ من عقبه وهو هالك.
معاشر المستمعين! من أوتي نعمة فليشكر الله، على الأقل يقول: الحمد لله .. الحمد لله، ربنا لك الحمد، أنعمت وأفضلت وأحسنت، اللهم لك الحمد، فالله يحب هذا، هيا نتملقه، ثلاثة أرباعنا لا يقولون: الحمد لله عند الطعام والشراب ولا اللباس ولا الركوب، كأنهم هم خالقو النعمة وموجدوها، فهذا كفران للنعمة، أينعم الله علينا بهذه النعم ثم ما نذكرها له، ولا نشكره من أجلها، ولا نحاول أن نرد إفضاله بشكر فنصلي بين يديه ركعتين على الأقل شكراً له على نعمته؟
آية عجب: وَمَنْ [البقرة:211] من أبيض وأسود، في الأولين وفي الآخرين، في أي جنس، وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ [البقرة:211] وأصبحت بين يديه وأكلها أو شربها، أو لبسها وعمل فيها، فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211].
هذه الآية الأولى واضحة، فهل استفدنا شيئاً؟ الآن أصبحنا ننظر إلى العالم بين أيدينا، وأنه يتوقع له الإبادة والدمار.
أزيدكم وضوحاً: كل من يأتي كبيرة من كبائر الذنوب فوالله! إن الشيطان هو الذي زين له، وهل الله يزين الفواحش؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، هل الملائكة تحسن اللواط والجرائم؟ والله! ما كان، فهذه الجرائم المنتنة القبيحة من يزينها للناس؟ الشيطان، زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ [آل عمران:14]، من يزين؟ العدو.
لعلكم شاهدتم هذا، إذا جرى حديث عن الآخرة في جماعة من هذا النوع يغضبون، يجتمعون على اللعب: الكيرم.. الدمنو، ويضحكون ويدخنون ويكفرون ويسب بعضهم بعضاً وكأنهم ما عرفوا لا إله إلا الله، والله! لهذا هو الواقع، ويجلس الرجل مع بناته وامرأته وشاشة التلفاز أمامه أو الفيديو، وعاهرة ترقص وتلوح بيديها وبرأسها وثديها بارز والحمرة في وجهها وشفتيها وهم يضحكون، كأنهم أموات لا يشعرون، أما يستحي أحدهم؟ لو كان فيه إيمان لذاب بين يدي الله، هل هذا هو الطريق الموصل إلى الله؟ أليس هذا المميت للقلوب والمهيج للشهوات والنزعات؟ آهٍ! وامصيبتاه.
ما هي مصيبتنا يا مسلمون؟ أعرضنا عن ذكر الله، أعرضنا عن القرآن، وأصبحنا لا نجتمع عليه إلا ليلة الموت، من منكم يقول: أنا قلت مرة لأخ لي ونحن في العمل وتعبنا وجلسنا لنستريح تحت ظل شجرة أو كذا: اقرأ علي شيئاً من القرآن أتدبره؟ هل حصل هذا؟ أو جلس ثلاثة يتحدثون عن أمور دنياهم أو ينتظرون الأكل فيقول أحدهم: أي فلان! أسمعنا شيئاً من القرآن؟ هذا ما عرفناه إلا عند باز هذه الأمة، عند الشيخ عبد العزيز بن باز ، إذا جلسوا للأكل ينتظرون يقول: من منكم يسمعنا شيئاً من كلام الله؟ وعرفت مؤمناً وأنا صبي أحفظ القرآن قبل البلوغ يأتي يقول: أبا بكر ! أسمعني شيئاً من القرآن. والله! ليعمل هكذا ويصغي وهو أمي ما يفرق بين الباء والتاء، لكنه تلميذ خريج هذه المدينة، يجيء يقول لي: أسمعني، اقرأ علي. أما غيره في ذلك العالم فما واحد يقول: أسمعني شيئاً من كلام ربي أبداً، كل ما في الأمر إذا مات الميت ادعوا طلبة القرآن فيحضرون، فإن كان غنياً فسبع ليال، وإذا كان فقيراً فثلاث ليال، وعندهم الأربعين أيضاً عند الأغنياء.
وفي سورية بالذات عملوا نقابة، فبالتلفون تقول: ألو! نريد عشرة من طلبة القرآن، مات عندنا ميت، فيقول النقيب: من فئة المائة ليرة أو الخمسين؟ فإن كان غنياً فمن فئة مائة، وإذا كان فقيراً فمن فئة خمسين، هذا القرآن من إندونيسيا إلى موريتانيا لا يجتمع عليه اثنان ولا يتدبرون ولا يتفكرون فيما خاطبهم الله به ودعاهم إليه أو نهاهم عنه أبداً، ومن كذبني فليقل لي: هل استعمرت بلاد العالم الإسلامي من قبل الكفار أم لا؟ إذاً: انقطع الكلام، لو كانوا أهل قرآن فهل سيستغلون ويستعمرون؟ معاذ الله.
وهو الذي زين اللواط وهو أخبث خبث عرفته البشرية، وأصبحت له أندية في العالم، هو الذي يزين هذه الجرائم والموبقات.
وقولوا صدق الله العظيم: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:212]، ما الذي زين لهم؟ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [البقرة:212]، عشقوها أحبوها جروا وراءها فنسوا الآخرة نسياناً كاملاً، لم يخطر ببالهم شيء اسمه الدار الآخرة، همهم الدنيا والدرهم؛ لأجل الفحش والإقبال على الشهوات، فقولوا: صدق الله العظيم.
وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:212] في هذه الدنيا ويستهزئون بهم، ويحتقرونهم ويذلونهم ويهينونهم، يرهبون أصحاب المال والسلطان، أصحاب الدنيا يجرون وراءهم، أما المؤمنون فسخرون منهم، لأنهم فقراء ضعفاء معرضون عن الشهوات والأطماع والأهواء.
وأخيراً اسمع خاتم الله: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة:212] بكم هذه الفوقية تقدرونها؟ كم هي مليون كيلو متر؟ إذا كانت دار السلام الجنة التي ارتادها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم بإذن الله وعاش فيها ساعة من الزمن ورأى قصورها وحورها وأنهارها، إذا كانت المسافة إليها سبعة آلاف وخمسمائة عام لو قدر لك أن تعيش سبعة آلاف سنة وخمسمائة عام، فهل هناك من يعيش هذه الفترة؟ مستحيل! ولا عاشها أحد، أطول من عاش عاش ستمائة سنة وسبعمائة وألف سنة، من آدم إلى اليوم، تحتاج إلى سبعة آلاف وخمسمائة عام وأنت طائر حتى تدخل الجنة، والهبوط كذلك: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين:5] في سجين. إذاً: الذين اتقوا فوق الكافرين يوم القيامة.
التقوى: أن لا سرقة ولا خيانة ولا غش ولا خداع ولا كبر ولا سخرية ولا استهزاء ولا نفاق ولا كفر، إذا اتقى أهل الإقليم أو البلد أو القرية ربهم سموا وأصبحوا كالملائكة في السماء، بخلاف الإيمان.
وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
وَالَّذِينَ اتَّقَوْا [البقرة:212] اتقوا ربهم، بم يتقونه وبيديه كل شيء يقول للشيء:كن فيكون؟ كيف يتقى الجبار الذي يكور الليل على النهار والنهار على الليل؟ كيف يتقى يا عباد الله؟
الجواب: يتقى بالخوف منه، خوف من شأنه أن يجعلك ما تفكر في معصيته ولا يخطر ببالك الخروج عن طاعته، فهذا الخائف من جلال الله وسلطانه وجبروته أنه يحيي ويميت، هذا الخائف يبحث طول حياته عما يقربه من الله ويدنيه منه، دلوني عما يحب ربي حتى أفعله له، دلوني على ما يكره مولاي حتى أبتعد عنه وأجتنبه، فيطلب محاب الله ويرحل من إقليم إلى إقليم من قرية إلى قرية من بلد إلى بلد يسأل عن محاب الله ليفعلها تقرباً إليه وتزلفاً، وليعلم مساخط الله ومكارهه ليتجنبها، ليرحل من ساحتها، ليبتعد من دورها وأهلها، هذا هو المتقي، فأين يسكن المتقون؟
إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]، تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [القلم:34].
قد تقول: يا شيخ! بالغت في هذا الكلام! فأقول: عندنا كلمة حفظناها عن أهل العلم، وهي: ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، إذ لا يتخذه ولياً وهو جاهل، الجاهل بما يحب الله وبما يكره يعاكس أمر الله أم لا؟ الله يحب كذا وهو يكرهه، فهل يغضب الله أو لا يغضبه؟ الله يحب الذكر، وهو يحب الأغاني وكلام العاهرات، هل عاكس مراد الله أم لا؟ كيف يكون ولياً؟ فلهذا من شرط الولاية: الموافقة، وهذه كلمة تزن مليارات الدولارات، ما هي ولاية الله؟ الموافقة، وافقه فأنت وليه وهو وليك، وخالفه فوالله! لأنت عدوه، والموافقة فيما يحب، أي: أحبب ما يحب واكره ما يكره فأنت وليه، فإن كنت لا تعرف ما يحب ولا ما يكره فمستحيل أن تكون وليه.
وكيف نعرف ما يحب الله وما يكره؟
اسأل أهل القرآن ليعلموك، اقرع أبواب العلماء كل يوم: علموني مسألة يحبها ربي لأحبها من الآن وأحققها له، علموني ما يكره مولاي وسيدي من الكلام أو الأعمال أو الصفات حتى أتجنبها، فلهذا إياك أن تفهم أن جاهلاً يصبح ولي الله، وليس المقصود من العالم أن يقرأ ويكتب، أكثر الصحابة ما كانوا يقرءون ولا يكتبون، فقط سأل أهل العلم وجالسهم ورحل إليهم فتعلم محاب الله وكيف يفعلها، وتعلم مكاره الله وكيف يتجنبها، فأحب ما أحب الله وكره ما كره الله، وقدم المحبوب لله تقرباً وتزلفاً إليه، وابتعد عن المكروه وأبعده، فهو ولي الله، لو رفع كفيه إلى الله ما ردهما صفراً ولا خائبتين.
قال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة:212]، وهل يستطيعون أن يشاهدوهم؟ أنت في علياء السماء وعدوك مشرك في قعر الجحيم، فهل ممكن أن تتصل به؟ قبل اليوم كان المسلمون يقولون: آمنا بالله، ما يقولون: مستحيل، أما اليوم فالذي ينكر هذا أحمق ومجنون لا قيمة له، لم؟ أنت الآن تشاهد أمريكا في الشاشة أم لا؟ فحافظوا على البقية الباقية من الإيمان، وإلا فسيأتي يوم قريب ما يقبل فيه الإيمان، ما بقي غيباً أبداً.
اسمع هذه الصورة العجيبة ما قال فيها تعالى فيها: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات:50]، لما جلسوا على الأرائك والأسرة الحريرية الذهبية في دار السلام إذ الأكل والشرب والنكاح وذكر الله، لا مسحاة ولا آله ولا عمل ولا شغل ولا عرق، عرقك طيب وأطيب من الطيب، لا خرء ولا بول ولا غائط، كله جشاء أطيب من ريح المسك، هذا عالم الخلد ما هو عالم الفناء، اسمع: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ [الصافات:50-51] أيام كنا في الحزب الشيوعي أو الاشتراكي، في الجامعة البريطانية، كان لي قرين يسخر مني ويستهزئ بي ويقول: أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ [الصافات:52]، جماعة تقول: إنك لمن المصلين، هذا من المصلين، جماعة العلم المطاوعة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر