وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله القرآن العظيم، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم لنا هذا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
وها نحن مع قول ربنا جل ذكره وعظم سلطانه من سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [البقرة:208-210].
هذه الآيات عظيمة الشأن أيها المستمعون والمستمعات، فهيا نكرر قراءتها ونتدبرها.
يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:208] لبيك اللهم لبيك، نادانا بعنوان الإيمان لأننا أحياء؛ إذ المؤمنون أحياء والكافرون أموات، فالله لا ينادي الأموات ولكن ينادي الأحياء، الحمد لله أن كنا أهلاً لأن ينادينا الله الذي خلق كل شيء وملك كل شيء وبيده كل شيء، ذاك الذي يحيي ويميت ويعز ويذل ويرفع ويضع ويعطي ويمنع، ذاك الذي أمره أن يقول للشيء إذا أراده: (كن) فيكون.
الله الذي خلقنا ووهبنا عقولنا وأوجد الحياة كلها من أجلنا، وأوجد دار السلام لنا وأوجد دار البوار لأعدائنا، هذا الله ينادينا، فكيف حال قلوبنا؟
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] لا يتخلف منكم أحد، لهذا نادانا، نادانا لأن يأمرنا بأن ندخل في الإسلام نساءً ورجالاً أحرارً وعبيداً، لم؟ إذ لا كمال ولا سعادة إلا بالإسلام.
ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] لا يتخلف رجل ولا امرأة ولا شعب ولا قبيلة، هذا سبيل نجاتكم وسعادتكم، فالحمد لله، فأعظم برحمة ربنا وحلمه! ينادينا ليأمرنا بما يسعدنا وينجينا من الشقاء والخسران الأبدي: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208].
والمعنى اللطيف الآخر: طبقوا كل ما يأمر الله به وينهى عنه بفعل المأمور وترك المنهي، ولا ترغبوا عن شيء وتعرضوا عن آخر سواء كان أمراً أو نهياً.
ويوضح هذا المعنى أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه، ذلكم الحبر اليهودي الإسرائيلي الذي كان أول من أسلم من أهل الكتاب، ما إن دخل الرسول المدينة حتى جاء يمتحنه فطرح عليه ثلاثة أسئلة، فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم أن جبريل قد أتاه بها الآن قبل مجيئك إلي، فما إن أجابه على الثلاثة حتى قال: أشهد أنك رسول الله، وكان بحراً في العلم.
ومضت أيام وزين له الشيطان أن يعظم السبت كما كان يعظمه في شريعة بني إسرائيل، وقال: وما الفرق؟ تعظيم السبت طاعة لله عز وجل؛ إذ فرض هذا على عباده، فلنضف إلى تعظيم الجمعة تعظيم السبت! وسمع ذلك منه الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] لا يبقى شيء من الإسلام خارجاً عنكم أو أنتم خارجون عنه، لا تدخل في الإسلام ببعضه، تدخل في الإسلام وتبقى متعلقاً بتعظيم السبت الذي كان شريعة مضت ونسخها الله عز وجل.
كما أن بعضهم أيضاً ممن أسلموا استمروا على عدم أكل لحم الإبل؛ لأنها محرمة على بني إسرائيل في الكتاب، فقالوا: نبقى على تحريمها أيضاً، فلا نأكلها، فكانت هذه الآية رادعة لهم عن هذه الخواطر والهواجس التي يمليها الشيطان، فلا يصح إسلامك يا عبد الله حتى تسلم قلبك ووجهك لله، حتى لا يبقى لك اختيار مع الله.
والله عز وجل قد نسخ تلك الشريعة بكاملها فلم تتشبث ببعض ما فيها وإن كنت برغبة صادقة تريد أن تزيد حسناتك وأن يعظم أجرك؟ فكفوا عن ذلك وانتهوا.
أيعقل أن رجلاً يعرف أن آخر عدو له وفي يده سكين ليذبحه ويمشي وراءه؟ أمعقول هذا؟ مستحيل، عدوك الذي يريد أن يقتلك والخنجر أو السكين في يده أو البندقية ويقول: تعال إلى ما وراء الجبل، فهل هناك عاقل يمشي وراءه؟ فالشيطان عدو الآدميين عداوة أصيلة باقية لا تزول ما بقيت الحياة، لا يريد لهم سعادة ولا كمالاً أبداً، لا يريد لهم إلا الشقاء والخسران في الدنيا والآخرة معاً، فكيف -إذاً- نستجيب لندائه ونمشي وراءه خطوة بخطوة؟!
من مشى وراءه فوالله! لن ينتهي به إلا إلى فضيحة وإلى جريمة من جرائم الذنوب، فلهذا جاء نداء آخر لعامة المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور:21]، فكل فاحشة ارتكبت الشيطان هو الذي دعا إليها، وكل منكر فضيع أو غير فضيع ما فعله الآدمي إلا بدعوة الشيطان له وتحسينه له وتزيينه؛ لأنه عدو هذه مهمته، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208] بين العداوة ظاهرها، ما ارتكبت جريمة على الأرض إلا وهو الداعي إليها والباعث عليها.
ما يريد الآدمي أن يكمل ويسعد بحجة أنه شقي بسببه، وذلك يعود إلى أنه لما أمر بالسجود لآدم رفض وتعالى وتكبر فأبلسه الله وطرده، فقال: هذا الذي أبلست بسببه وطردت إلى النار وأبعدت من الجنة؛ إذاً: لأعملن طول حياتي على إفساده وإضلاله.
وقد قالها واضحة: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، فانظر إلى عبد الله بن سلام المبشر بالجنة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه ووسوس وقال له: ما هناك شيء، فالسبت عظمه الله في التوراة فلنعظمه أيضاً، وهذا اللحم حرمه الله علينا في التوراة، إذاً: لا نأكله، وليس فيه ضرر، لكن فيه حنين وشوق إلى ما نسخه الله من الشريعة السابقة، وما أراد الله هذا.
فكانت هذه الآيات تتناول هذه الحادثة بالذات، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لو أن مؤمناً في بريطانيا أو إيطاليا أو في اليابان أو الصين وقال: أنا سأدخل في الإسلام إلا أنني لا أستطيع ولا أقدر على ترك الخمر، هل يقبل إسلامه؟ ما يقبل، لو قال: أنا أسلم وسأفعل كل شيء إلا أنني ما أصلي صلاة الفجر، فهل يقبل إسلامه؟
وهكذا لو رفض مسألة واحدة من واجبات الإسلام ما صح إسلامه حتى يذعن ظاهراً وباطناً ويقبل ذلك، ونقرأ عليه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208].
وقوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:208] هذا لفظ أيضاً عام.
يا معشر المستمعين والمستمعات! إن الشيطان يحسن لنا القبائح ويزين الفضائح، فلا نستجب له، لنطرده بكلمة (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) لم؟ لأنه عدو لنا بين العداوة ظاهرها أصيل فيها، فكيف نتبعه؟
فَإِنْ زَلَلْتُمْ [البقرة:209] أنتم ماشون في الطريق إلى الله على الصراط المستقيم، فمن زل أو سقط فاستحل ما حرم الله أو ترك وهجر ما أوجب الله فهذا الذي زل وسقط.
فَإِنْ زَلَلْتُمْ [البقرة:209] بترك فرائض أو بارتكاب محرمات، مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:209] التي يحملها القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم، فما من حرام إلا وقد جاء في القرآن وبينه الرسول عليه الصلاة والسلام، وما من واجب ولا فريضة إلا جاء في القرآن وبينه الرسول عليه الصلاة والسلام.
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا [البقرة:209] ماذا نعلم؟ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:209] عزيز لا يمانع في شيء أراده أبداً، عزيز غالب قاهر لكل شيء، حتى لا تظنوا أنكم بقبائلكم ورجالكم أو ما أنتم عليه يمكنكم أن تنجوا من نقمة الله، انزعوا هذا من أذهانكم، فإن الله عزيز غالب قاهر.
وشيء آخر: أنه حكيم لا ينتقم إلا ممن يستحق النقمة، لا يعذب إلا من استحق العذاب، فلا يخلط ولا يخبط حتى تظن أنه يلتبس عليه الأمر ولا يراك وأنت تستر نفسك بمعصيتك، فهو القوي القادر الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه؛ إذ كل الحياة بين يديه، فهل هذا يُعصى؟ هل يحاول العاقل أن يهرب منه ويمشي وراء عدوه؟ لو كان عاجزاً فقد تقول: لا يستطيع أن ينزل البلاء بأمة كاملة، لو كان غير حكيم فستقول: ممكن أنه بدل أن يضربنا نحن العصاة يضرب آخرين، فلا والله ما كان ولن يكون.
إذاً: ما لهم تقاعدوا فما تحركوا، ماذا ينتظرون؟ هذا الوعيد الشديد: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210] هل ينظر هؤلاء المعرضون عن الله المتكبرون عن طاعته الخارجون عن نظامه، هؤلاء السائحون بالباطل ماذا ينتظرون بعد هذا التهديد والوعيد؟ لم ما أسلموا ودخلوا في الإسلام بكامله، ماذا ينتظرون؟ هل ينتظرون أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة أيضاً؟ وإذا جاء الله لفصل القضاء هل بقي أمل للآملين؟
واقرءوا من سورة الفجر: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر:21-23]، ماذا ينفع؟
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى [الزمر:67-68] مرة أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ [الزمر:68-71]، ثم قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا [الزمر:73]، وانتهت الحياة كلها واستقر أهل النعيم في نعيمهم وأهل الشقاء في شقائهم، إذ لا عالم ثالثاً، عالم علوي هو الجنة دار السلام وعالم سفلي هو النار دار الشقاء والبوار.
يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في الإسلام بكامله، حرموا ما حرم الله وأحلوا ما أحل الله وانهضوا بكل ما أوجب الله وتخلوا واتركوا كل ما نهى الله بكلكم، ليس هناك اختيار لا للفرد ولا للجماعة ولا للأمة، وإلا فالنقمة منتظرة.
وقد يقال: كيف تقول للمسلمين هذا، وتقول: النقمة منتظرة؟
والله! إنها لمنتظرة، وهل سبق في تاريخ المسلمين أن أصابهم شيء؟ لما عبدوا سيدي عبد القادر وحجوا القبور وزاروا الأضرحة واستحلوا الحرام، وأصبح الذي لا يزني ليس له قيمة، يقول لصاحبه: أنت ما عندك صديقة؟ فيقول: لا، فيقول له: أنت ميت! وأصبح القرآن يقرءونه على الموتى ولا يجتمع اثنان على تلاوة آية يتدبرانها، وهبطت الأمة، فسلط الله تعالى عليهم الكفرة المشركين، فساموهم الخسف وأذاقوهم مر العذاب، استعمروهم استعبدوهم أذلوهم ترفعوا فوقهم وسادوهم، كيف تم هذا؟ لأنهم ما قبلوا الإسلام بكامله، اختل نظام الإسلام، نظام الإسلام نظام دقيق كالمركبات الكيماوية إذا اختل فيه جزء هبط فلم يفعل شيئاً.
عطلوا حدود الله عز وجل وأوقفوها، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وفعلوا ما فعلوا، فضربنا الجبار تلك الضربة، والآن ننتظر متى تنزل النقمة، لم لا تقام الصلاة في العالم الإسلامي بكل دقة ولا يبقى عسكري ولا مدني ولا رجل ولا امرأة لا يشهد صلاة الجماعة إذا دقت الساعة؟
أما خلقنا لهذه؟ لم ما تجبى الزكاة ويعرض عن الضرائب إلا من حاجة؟ لم عطلت الزكاة؟ لم ما هناك من يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر؟ يقوم الرجل في المقهى فيكفر حتى تحمر السماء، ولا يجد من يقول: هذا لا يجوز، وامرأة تخرج سافرة عاهرة وليس هناك من يقول: هذا باطل أو منكر، فماذا نقول؟ إعراض كامل.
وبعد فماذا يفعل الله بهم؟
يمهلهم على حسب علمه، فإذا دقت الساعة ضربهم، وقد قلت: كان نبينا صلى الله عليه وسلم على ذاك المنبر وقرأ قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] ثم قال: ( إن الله ليملي للظالم حتى أخذه لم يفلته ).
أين الأندلس؟ أين الجمهوريات الإسلامية في شرق أوروبا؟ انتقم الله تعالى، فهذه الآية هل درسها المسلمون، هل اجتمع عليها ثلاثة أو أربعة وتفكروا فيها؟ هل درسها مجلس الوزراء وتكلم فيها؟ والله! ما قرءوها ولا يريدون أن يقرءوها.
المهم النجاة النجاة، يا عبد الله! اطلب النجاة لنفسك، عجل والتزم بما ألزمك الله به، كف لسانك لا تنطق إلا بما فيه رضا ربك، غض بصرك، طيب طعامك وشرابك وكساءك، ولا تبال بما عليه غيرك من الهابطين، والزم باب الله فإنك لن تذل ولن تخزى، ويجعل الله لك النجاة، أما أن تمشي مع ركب الهالكين فستهلك معهم في أي مكان من العالم. يقول تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210] من هؤلاء؟ المتباطئون، ماذا ينتظرون وبعضهم في الإسلام وبعضهم خارج عنه والله تعالى يقول لهم: ادخلوا كلكم كافة، قبل أن يحين الحين وتدق الساعة، هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210] إذا جاء الله لفصل القضاء وجاء الملك صفاً صفاً انتهت الحياة، وقضي الأمر وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [البقرة:210] إليه تعود كل القضايا والشئون.
[ شرح الكلمات:
السلم: الإسلام.
كافة ] في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]: [ جميعاً، لا يتخلف عن الدخول في الإسلام أحد، ولا يترك من شرائعه ولا من أحكامه شيء ].
أما قلت: إن الآية تحمل وجهين مشرقين أم لا؟
أولاً: لا يتخلف عن الدخول في الإسلام أحد لا أبيض ولا أصفر ولا أسود في العالم البشري.
ثانياً: لا يترك من شرائعه ولا من أحكامه شيء، كل أحكام الله يجب أن تطبق وتنفذ، كل شرائعه يجب أن ينهض بها المؤمنون والمؤمنات.
[ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:208]: مسالكه في الدعوة إلى الباطل وتزيين الشر والقبيح.
فَإِنْ زَلَلْتُمْ [البقرة:209]: وقعتم في الزلل، وهو الفسق والمعاصي ]، الفسق عن طاعة الله ورسوله والخروج عنها ومعصية الله ورسوله.
[ هَلْ يَنظُرُونَ [البقرة:210]: ما ينظرون، الاستفهام للنفي ] ما ينظرون إلا كذا فقط، إلا ساعة الحساب والجزاء.
[ الظلل: جمع ظلة، ما يظلل من سحاب أو شجر ونحوهما.
الغمام: السحاب الرقيق الأبيض ]، هذا الذي يتجلى فيه الله عز وجل.
[ معنى الآيتين الكريمتين:
نادى الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين ] فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:208]، [ ناداهم آمراً إياهم بالدخول في الإسلام دخولاً شمولياً ] ما يبقى جزء لا من الناس ولا من الشريعة، [ بحيث لا يتخيرون بين شرائعه وأحكامه، ما وافق مصالحهم وأهواءهم قبلوه وعملوا به، وما لم يوافق ردوه أو تركوه وأهملوه، وإنما عليهم أن يقبلوا شرائع الإسلام وأحكامه كافة، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان في تحسين القبيح وتزيين المنكر، إذ هو الذي زين لبعض مؤمني أهل الكتاب تعظيم السبت وتحريم أكل الإبل بحجة أن هذا من دين الله الذي كان عليه صلحاء بني إسرائيل، فنزلت هذه الآية فيهم تأمرهم وتأمر سائر المؤمنين بقبول كافة شرائع الإسلام وأحكامه، وتحذرهم من عاقبة اتباع الشيطان فإنها الهلاك التام، وهو ما يريده الشيطان بحكم عداوته للإنسان. هذا ما تضمنته الآية الثامنة بعد المائتين.
أما الآية الثانية -وهي التاسعة بعد المائتين- فقد تضمنت أعظم تهديد وأشد وعيد لمن أزله الشيطان فقبل بعض شرائع الإسلام ولم يقبل البعض الآخر، وقد عرف أن الإسلام حق وشرائعه حق ]، وفي العالم الإسلامي من يصلي ومنهم من لا يصلي، منهم من يزكي ومنهم من لا يزكي، امرأة محجوبة متحجبة وأخرى سافرة، الربا مباح، البنوك نتكالب عليها، بيوت المؤمنين من صلاة العشاء تغني فيها العواهر ويزغردن ويرقصن، وفيها صور الفساق والفجار والكفار يتبجحون بالكلام وأهل البيت ينظرون، هل كفروا بعد إيمانهم؟ آلله أذن لهم في هذا؟ هذا هو الإسلام؟ ولولا حلم الله وإنظاره وإمهاله لكانت هذه موجبة لنقمة الله منا، بيوتنا شأنها شأن بيوت الرب لا تسمع فيها لغواً ولا باطلاً ولا كلمة سوء، ولا ترى فيها منظراً يسيء بحال من الأحوال؛ لأن المؤمنون أولياء الله، كيف تصبح كبيوت اليهود والنصارى وأخبث؟ أين يذهب بعقولنا؟
يا شيخ! لا تلمنا لأننا ما علمنا! أي نعم ما علموا، والله! ما علموا، ومن علمهم؟
إذاً: الطريق هو أن نعلم أم لا؟ والله الذي لا إله غيره! لا طريق إلى إقامتنا واستقامتنا وتحقيق ولاية ربنا إلا بالعودة إلى الكتاب والحكمة في بيوت الرب تعالى، وأعطوني وزراء الإعلام ووزراء التعليم ووزراء الدولة فإن غلبوني فاذبحوني، والله لا سبيل إلى النجاة مما يتوقع في يوم ما من الخراب والدمار إلا بالعودة إلى بيوت الله عز وجل، ففي الساعة السادسة مساءً يقف دولاب العمل، لا مقهى ولا متجر ولا مصنع ولا مزرعة ولا ملهى، ونحمل نساءنا وأطفالنا وقد تطهرنا وتطيبنا إلى بيوت ربنا، ما هي بيوت الله؟ المساجد حيث الطهر الكامل، ونصلي المغرب كما صليناه الآن ونجلس كما جلسنا الآن، فالنساء وراء الستارة والفحول أمامهن، وليلة آية وأخرى حديثاً، ندرس كتاب الله وسنة رسول الله، فلا نزال نسمو ونعلو ونرتفع، والعلم نور وهداية، فنطهر، فلا غش ولا خداع ولا كذب ولا شح ولا باطل ولا إسراف ولا ترف ولا كسل ولا قعود عن العمل، وبعد سنة واحدة يصير أهل القرية كأنهم أسرة واحدة من أسر الصحابة رضوان الله عليهم.
ومن غير هذا فوالله الذي لا إله غيره! لا يتحقق الكمال، وجربنا، أما عندكم مدارس وكليات وجامعات، أين آثارها؟ أين هي؟ السرقة والتلصص والإجرام والخيانة والكذب وشهادة الزور والربا؛ لأننا ما علمنا، ما عرفنا، أعرضنا فأعرض الله عنا.
وعندنا بشرى قد يفرح بها بعض المؤمنين، وهي: أننا -كما علمتم- لسنة كاملة وزيادة ونحن نصرخ هذا الصراخ ونبكي هذا البكاء ونقول: هيا بنا نعود إلى ربنا ليرحمنا، فقط من المغرب إلى العشاء، المصانع تشتغل والمدارس وكل الأعمال طول النهار، وفيما بين المغرب والعشاء فقط نأتي بيت ربنا بأطفالنا ونسائنا ونبكي بين يديه ساعة وندعوه ونستمطر رحماته ونطلب ألطافه وإحسانه، ونخرج شباعاً مستنيري القلوب والبصائر، وهذا كل ليلة، فلا تمضي سنة إلا ونحن علماء، ليلة نحفظ آية ونفهم معناها وغداً نطبقها على الفور ونعمل بها، وفي الليلة بعدها حديث من أحاديث الرسول الشارحة للقرآن المفسرة المبينة له، يحفظ الحديث ويعمل به، وبعد سنة أو سنتين كيف تكون تلك الأمة؟ كأنهم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، لا غيبة، لا نميمة، لا كبر، لا غش، لا خداع، لا شح، لا بخل، لا كبر، كل مظاهر السوء والباطل تنتهي؛ لأنها سنة الله في خلقه.
وندلل على هذا ونقول: هيا يا علماء الفلسفة والنفس، فعندنا شيء واقع: أعلمنا بالله وأعرفنا به وبمحابه أتقانا لله عز وجل، في أي بقعة، هل هناك من يرد هذا؟ أعرفنا بالله أتقانا لله، أقلنا سوءاً وباطلاً ومنكراً، وأجهلنا أكثرنا ضلالاً وظلماً وشراً وفساداً، أمر واضح كالشمس، فمن يرده؟
ثم أكبر برهان أن القرون الذهبية الثلاثة لما كانت الأمة فيها مقبلة على الكتاب والسنة لا تعرف غيرهما أين وصلت؟ والله! ما عرفت الدنيا لهم نظيراً ولا مثيلاً.
ثانياً: لما هجرنا الكتاب والسنة وأحيل القرآن إلى الموتى وتركت السنة وأهملت أين وصلنا؟ إلى الحضيض.
وهل تطالب بدليل وبرهان؟ تفضل امش إلى قرية واجمع نساءها وأطفالها وعلمهم ليلة آية وليلة حديثاً وانظر العاقبة كيف تتم؟ ففي سنة واحدة فقط نسبة الفساد تقل أكثر من خمسة وتسعين في المائة.
وهذه البشرى أزفها إليكم؛ حيث وردنا اليوم كتاب يقول صاحبه: حضرنا دروسكم في المسجد النبوي وقرأنا معكم كتاب (المسجد وبيت المسلم)، وقد حملنا الفكرة كما هي في قرية في مدينة صحراء الديار الجزائرية البعيدة، يقول: نحن الآن إذا جاء المغرب لن تجد رجلاً ولا ولداً ولا امرأة في الشارع، كلهم في المسجد، ونقرأ ليلة آية وليلة حديثاً كما في الكتاب، وضاق المسجد بنا ما اتسع لنا فوسعناه فاتسع.
هذه ظاهرة ككوكب لاح في سماء المسلمين، فلو عمل العلماء وأخذوا بهذه لانتشر هذا النور في الشرق والغرب، ولكن ما وفقوا.
قال: [ أما الآية الثانية -وهي التاسعة بعد المائتين- فقد تضمنت أعظم تهديد وأشد وعيد لمن أزله الشيطان فقبل بعض شرائع الإسلام ولم يقبل البعض الآخر، وقد عرف أن الإسلام حق وشرائعه حق، فقال تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:209] يحملها كتاب الله القرآن الكريم ويبينها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله سينتقم منكم؛ لأنه تعالى غالب على أمره، حكيم في تدبيره وإنجاز وعده ووعيده.
وأما الآية الثالثة فقد تضمنت حث المتباطئين على الدخول في الإسلام؛ إذ لا عذر لهم في ذلك حيث قامت الحجة وظهرت ولاحت المحجة ] أي: الطريق، [ فقال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ [البقرة:210] أي: ما ينظرون إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210] وعند ذلك يؤمنون، ومثل هذا الإيمان الاضطراري لا ينفع حيث يكون العذاب لزاماً بقضاء الله العادل، قال تعالى: وَقُضِيَ الأَمْرُ [البقرة:210] أي: إذا جاء الله تعالى لفصل القضاء وانتهى الأمر إليه فحكم وانتهى كل شيء، فعلى أولئك المتباطئين المترددين في الدخول في الإسلام المعبر عنه بالسلم -لأن الدخول فيه حقاً سلم، والخروج منه أو عدم الدخول فيه حقاً حرب ] والعياذ بالله
عليهم [ أن يدخلوا في الإسلام، ألا إلى الإسلام يا عباد الله ] عجلوا، أسلموا قلوبكم ووجوهكم لله، إذا أحل شيئاً فأحلوه، وإذا حرم شيئاً فحرموه حتى النظرة والكلمة، وإذا أوجب واجباً فقوموا به، وإذا نهى عن شيء فاتركوه، هذا هو الإسلام؟
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: وجوب قبول شرائع الإسلام كافة وحرمة التخير فيها.
ثانياً: ما من مستحل حراماً أو تارك واجباً إلا وهو متبع للشيطان في ذلك.
ثالثاً: وجوب توقع العقوبة عند ظهور المعاصي العظام؛ لئلا يكون أمناً من مكر الله.
رابعاً: إثبات صفة المجيء للرب تعالى لفصل القضاء يوم القيامة.
خامساً: حرمة التسويف والمماطلة ] والتراخي [ في التوبة ].
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر