وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل، راجين أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )، فلنحمد الله على هذا الإنعام وهذا الإفضال.
وها نحن مع هذه الآيات المباركات، فاسمعوها وتأملوها قبل أن نأخذ في تدريسها وشرحها وبيان معانيها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:200-203].
هذا كلام من؟ كلام الله، فالحمد لله أن عرفنا الله وعرفنا رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل علينا كتابه، فأصبحنا نتلو كلامه، ونسمع كلامه تعالى، وما رأيناه لضعفنا وقصور طاقتنا عن رؤية ربنا، إذ لو كشف الحجاب عن وجهه لاحترق الكون، ولكن الحمد لله فهذا كلامه نتلوه، ونتدبره، ونعمل بهداية الله فيه، فأية نعمة أعظم من هذه النعمة؟! والله! لا توجد، وفي الشرق والغرب ملايين البشر لا يعرفون الله عز وجل، ولا يسمعون به، ولا يعرفون له كلاماً، ولا شرعا، يعيشون كالبهائم، والله! لأشر من البهائم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، من هم شر البرية؟ لا تقل: الحيات والذئاب والثعابين. لا؛ تلك طاهرة، شر البرية من كفروا بربهم، وتنكروا له وأعرضوا عن ذكره، وخرجوا عن طاعته، وعبدوا الشهوات والأهواء والشياطين، ومثلوها في أصنام وتماثيل، أولئك شر الخلق.
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ [البقرة:200] أي: يا من كنتم تجتمعون في منى للمفاخرة والمباهاة وإنشاد الأشعار والتباهي بالقبيلة وزعمائها في عهد الظلام عهد الجاهلية! اذكروا الله كما كنتم تذكرون آباءكم، إذ كانوا كفرة مشركين لا يعرفون الله، فيذكرون آباءهم وأجدادهم: هذا فعل كذا، وهذا فعل كذا.
أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200] أي نعم، بل أشد ذكراً؛ لأن ذكر الله يرفعهم، وذكر الآباء والأجداد يهبط بهم، ولكن من باب أنكم كنتم أيام منى تتفاخرون ثلاثة أيام وتذكرون أجدادكم فالآن اذكروا ربكم أشد ذكراً.
ومن ثم فطول الليل والنهار ونحن في ذكر الله، لا سيما عند رمي الجمرات: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر سبع مرات، وننزل إلى الثانية مثل ذلك، وإلى الثالثة مثل ذلك، وكلنا ذكر، وإذا صلينا الصلوات الخمس من ظهر يوم العيد إلى عصر اليوم الثالث ونحن في بيوت الله في الشرق في الغرب في كل مكان، ما إن نسلم من الصلاة حتى نقول جهراً: الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ولله الحمد، ثلاث مرات في العالم بأسره. والحمد لله، فهل استجبنا لربنا أم لا؟ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200] فماذا تفعلون؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200].
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا [البقرة:200] ماذا؟ الذي بينت لكم، وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200] أي: من نصيب، همه الدنيا، تطلع الشمس أو يطلع النهار وتقبل البشرية على العمل و(95%) لا يسألون الله إلا الدنيا، مع أنها زائلة وفانية ومنتنة وعفنة، كلها بلاء وشر، ومع هذا فكل الطاقات والجهود للدنيا، وعلة هذا الكفر والجهل، الكافرون كافرون، والمؤمنون جهلة ما يعرفون.
هذا إخبار العليم الحكيم أم لا؟ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200] أبداً، مصيره عالم الشقاء إلى الأبد.
والذي يسمع هذه الدعوة في المجلس وما كان يحفظها ولم يحاول أن يحفظها الليلة ويعود بها إلى بيته ويدعو بها؛ بشروه بأنه لا شيء، وأنه ميت، ولا تنزعجوا، فهذا الواقع.
كيف بدعوة يعلمها الله أولياءه، ويبشرهم بقبولها وأنت لا تبالي بها؟ تقول: امش إلى المقهى خير لك! ما هذا مقامك.
هذه الدعوة هي قوله تعالى: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] حتى لو كانت على غير لغتك، فسهل عليك أن تحفظها، ما هي؟ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، لا دعوة أجمع من هذه الدعوة، إذا أعطاك حسنة الدنيا فلا تسأل عن الأبناء والزوجة والإخوان والصلاح والطهر، وإذا أعطاك حسنة الآخرة فالجنة، ووقاك النار وصرفك عنها، فماذا بقي لك؟
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يدخل الجنة يوم الحشر والحساب رجل قبله قط، أول من يدخل الجنة، لا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى، كان إذا طاف في عُمَره أو في حجه يختم الشوط بهذه الدعوة، يبدأ بالحجر الأسود ويطوف، عندما يقاربه يدعو الله بهذه الدعوة: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] في كل شوط، وهو مبشر بالجنة، هو صاحب المفتاح بإذن الله، ونحن نطوف ولا نذكرها!
وَمِنْهُمْ [البقرة:201] اللهم اجعلنا منهم مَنْ يَقُولُ [البقرة:201] في تلك الأيام المشرقة أيام الحج: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] من بين العدد؟ الموكل ببيان كلام الله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، معدودات عداً، يوم العيد ويومان بعده.
وَمَنْ تَأَخَّرَ [البقرة:203] إلى اليوم الثالث حتى رمى الجمرات بعد العصر أو بعد الظهر فليودع ويخرج.
يقول تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] ما هي هذه الأيام المعدودات؟ أيام التشريق الثلاثة، لم قيل فيها: أيام التشريق؟ لأنا نشرق فيها الغنم نذبحها، فمتى نذبح الذبائح؟ أيام التشريق، وأيام التشريق هي يوم العيد وثلاثة أيام بعده.
قال: وَمَنْ تَأَخَّرَ [البقرة:203] ما استعجل فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203] فلا إثم على الأول ولا الثاني، مع ملاحظة لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203] لا يقل قائل: لقد نفى الله عني الإثم في هذا اليوم، فدعنا نفسق ونفجر! وإنما لمن اتقى الله، فلم يخرج عن طاعته، ولم يفسق عن أمره.
فبعض الجهلة يقول: هذا اليوم ما فيه شيء، لا إثم علينا، ويشرب المحرم، أو يأكل الحرام، أو ينهش عرض المؤمن أو يسلب ماله، يقول: هذا اليوم ما فيه إثم! فهل انتبهتم لهذا الاحتراس أم لا؟
وإن فسقوا فما اتقوا الله فيا ويلهم، حياتهم حياة الحيوانات والبهائم يأكل بعضها بعضاً، وهل يذكر السامعون منزلة التقوى؟
إن بها تتحقق ولاية الله للعبد، فالإيمان أولاً، وتقوى الله ثانياً، فأيما بشري على الإطلاق أبيض أو أصفر آمن حق الإيمان واتقى الله فقد أصبح من أولياء الله، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].
إذاً: بم تتحقق ولاية الله؟ بالإيمان وتقوى الرحمن، هل يمكن أن يوالي الله عبداً ما آمن به ولا اتقاه؟ والله! ما كان.
فهل فهمتم هذه؟ فالشيخ يحلف على علم، ما نعرف ولياً إلا من عبد فذبحت له الذبائح، وأقسم باسمه، والتف حوله النساء والرجال، وعكفوا عليه وزاروه، هذا هو الولي! ومن يكذب هذا فليرفع رأسه وليراجع التاريخ.
وما هو السبب؟ من فعل بنا هذا؟ هل سيدنا علي ؟ هل الإمام مالك ؟ هل الإمام أبو حنيفة ؟ من فعل بنا هذا؟ الثالوث الأسود، ما الثالوث الأسود؟! ذاك المكون من المجوس واليهود والنصارى.
لم تكون هذا الثالوث؟ للانتقام، فعرش كسرى أسقطه الإسلام، واليهود حرموا من آمالهم وما كانوا يأملونه، والنصارى غشيهم نور الإسلام، فصاح الرهبان والقسس وقالوا: ما بقي لنا وجود، فهيا نتعاون مع الموتورين، فوجدوا عبد الله بن سبأ الزعيم اليهودي، وفلاناً وفلاناً وكونوا منظمة عالمية لضرب الإسلام.
ونجحوا، ومن مظاهر نجاحهم أن القرآن الكريم الذي هو روح ولا حياة بدونه، والله الذي سماه روحاً: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، وما حيي المسلمون في القرون الذهبية -والله- إلا على القرآن؛ لأنه روح، وما كانت تلك الأشعة وذلك الكمال البشري إلا على روح القرآن، فالقرآن روح حييت به هذه الأمة، وخاصة العرب الذين كانوا لاصقين بالأرض لا وجود لهم ولا قيمة.
فقالوا: ماذا نصنع بالقرآن؟ لا يمكن أن نأخذه من قلوبهم أبداً، هذا يحفظه النساء والرجال، فما هناك حيلة أبداً إلا أننا نحتال عليهم حتى يتخلوا عنه ويتركوه للموتى، فلا يجتمع اثنان على قراءة آية وتدبرها وفهم مراد الله منها، ونجحوا، فمضت قرون عدة والعالم الإسلامي لا يجتمع فيه الناس على القرآن إلا على الموتى.
أيها الأحداث! اسألوا كبار الشيوخ يعلموكم، لا يجتمع اثنان ولا عشرة على تلاوة آية وتدبرها، وفهم مراد الله منها؛ للنهوض والعمل بما فيها أبداً، إذا مررت بحي في طرف وسمعت القرآن يقرأ فاعلم أن ميتاً هنا فقط، فهل نجحوا أم لا؟ نجحوا، وإلا فكيف مزقونا واستبدوا بنا واستعمرونا وجهلونا واستغلونا وأذلونا، كيف ما نجحوا؟ هل سنن الله تتبدل؟ فالروح سلبوها فمتنا.
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول لـابن مسعود : ( اقرأ علي شيئاً من القرآن. فيعجب
فهذه مسألة واضحة أم لا؟ ولأن تتعلم هذا خير لك من خمسين ألف ريال تعود بها إلى بيتك أو إلى بلدك إن كنت ذا روح ترقى إلى السماء.
أعلمكم بإذن ربي أنهم يريدون أن يستبيحوا فروج نسائنا وأموالنا وأعراضنا ودمائنا؛ لأنهم لا يخافون منا، فما نحن بأولياء! أما الولي فترتعد فرائصهم منه؛ لأن الله تعالى قال: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، حتى إن الرجل إذا فجر لا يمر بقبر الولي، يخاف، وتحلفه بالله فيحلف بالله سبعين مرة، وتقول: احلف بسيدي فلان فما يحلف، يخاف، حتى إن القضاة أصبحوا يحلفون بالأولياء، يقولون: دفاعاً عن حقوق الناس! يقول له: احلف بالله فيحلف سبعين مرة، ويقول: احلف بالسيد فلان فما يحلف، فماذا أصنع أنا القاضي؟ أنا مسئول عن رد الحقوق والمحافظة عليها.
إذاً: فلما حصروا الولاية في الموتى فالأحياء ما هم بأولياء، سب، اشتم، مزق، قل، افعل بهم، احتل عليهم، امكر بهم، ولا تخف، فما هم بأولياء، فزال الأمن والطهر والإخاء والمودة والولاء، وأصبح المسلمون كالبهائم يأكل بعضهم بعضاً، إلا من رحم الله؛ لأنك لو عرفت أن هذا ولي فلن تستطيع حتى أن تفتح عينيك فيه، هذا ولي الله، والله يقول:( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، فجاءوا فقلبوا الوضع وحصروا الولاية في الأموات، كما حصروا القرآن في الأموات، تمشي إلى الضريح فتجد الناس حوله ليلة الجمعة أو الإثنين وترى البكاء والتمرغ والدعاء والصياح أكثر من الطائفين بالبيت!
وكم سنة ونحن نصرخ هذا الصراخ:
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي
ما زلنا في اضطرابات وشكوك وأوهام، وبعضنا يقول: هذا الشيخ عميل، هذا كذا، يقولون كلاماً يعجز عنه الشيطان وإن كان هو الذي يمليه، ولا شيء إلا لصرف النفوس عن الهدى؛ ليبقى الضلال والفساد كما هو.
وا حر قلباه ممن قلبه شبم.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ شرح كلمات:
قضيتم: أديتم وفرغتم منها ]، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200] كيف قضيناها؟ أديناها وفرغنا منها.
[ المناسك ] في قوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200] واحدها منسك، [ جمع منسك، وهي عبادات الحج المختلفة ] من الإحرام إلى الرمل إلى الطواف، إلى الوقوف بعرفة، إلى المبيت بمزدلفة، هذه كلها مناسك أم لا؟ الواحد منسك، بمعنى: أنه مطهر، يطهر الروح البشرية، كلما تقوم بمنسك تطهر نفسك.
[ الخلاق: الحظ والنصيب ]، وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200] أي: من نصيب.
[ حسنة ] في قوله تعالى: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً [البقرة:201] [ الحسنة: كل ما يسر ولا يضر ]، عبارة لطيفة، كل ما يسر ولا يضر؛ فشيء يسر ويضر ما هو بحسنة، بل سيئة، ويوجد ما يضر ولا يسر بالمرة، وهذه أقبح سيئة، فالحسنة [ كل ما يسر ولا يضر من زوجة صالحة وولد صالح ورزق حلال، وحسنة الآخرة: النجاة من النار ودخول الجنان ].
[ وَقِنَا [البقرة:201] ] يقال: وقاه يقيه وقاية، والوقاية: ما تقي به نفسك من الشمس أوالحر والبرد، فقنا بمعنى: [ احفظنا ونجنا من عذاب النار ].
[ نصيب: حظ وقسط من أعمالهم الصالحة ودعائهم الصالح.
الأيام المعدودات: أيام التشريق الثلاثة بعد يوم العيد.
تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ [البقرة:203] بمعنى: رمى اليوم الأول والثاني وسافر ]، هذا معنى (تعجل)، ويوم العيد لا يحسب.
[ وَمَنْ تَأَخَّرَ [البقرة:203]: رمى للأيام الثلاثة كلها.
فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203] أي: لا ذنب في التعجل ولا في التأخر.
لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]: للذي اتقى ربه بعدم ترك واجب أوجبه أو فعل حرام حرمه.
(تحشرون): تجمعون للحساب والجزاء يوم القيامة ].
فقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203] من يحشرنا؟ الملائكة، فنحن مشتتون في الأرض، من يحشرنا ويقودنا إلى ساحة فصل القضاء والحكم الإلهي؟ الملائكة: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النبأ:38] وهل هناك من يهرب؟
فهذه المفردات يستعين بها الطالب على الفهم اللغوي.
والله! إن المفروض أن يدرس هذا في كل العالم الإسلامي، إذ لابد من فهم مراد الله من كلامه، فإذا كان هذا التفسير يشرح بسهولة ويبين بيقين وسلامة العقيدة قبل كل شيء، لا خرافة لا ضلالة لا تدجيل لا حكايات لا قصص لا أعاجيب، فلم لا يجتمع عليه المسلمون؟ حين يحيون إن شاء الله سيتم هذا.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ بهذه الآيات الأربع انتهى الكلام على أحكام الحج ]، هذا آخر كلام في الحج في هذه الآيات من سورة البقرة، [ ففي الآية الأولى -وهي رقم مائتين- يرشد تعالى المؤمنين إذا فرغوا من مناسكهم بأن رموا جمرة العقبة ونحروا وطافوا طواف الإفاضة واستقروا بمنى للراحة والاستجمام أن يكثروا من ذكر الله تعالى عند رمي الجمرات وعند الخروج من الصلوات ذكراً مبالغاً في الكثرة منه على النحو الذي كانوا في الجاهلية يذكرون فيه مفاخر آبائهم وأحساب أجدادهم.
وبين تعالى حالهم، وهي أن منهم من همه الدنيا وهو لا يسأل الله تعالى إلا ما يهمه منها، وهذا كان عليه أكثر الحجاج في الجاهلية، وأن منهم من يسأل الله تعالى خير الدنيا والآخرة وهم المؤمنون الموحدون، فيقول تعالى عنهم: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، وهذا متضمن تعليم المؤمنين وإرشادهم إلى هذا الدعاء الجامع والقصد الصالح النافع، فلله الحمد والمنة.
وفي الآية الثانية بعد المائتين يخبر تعالى أن لأهل الدعاء الصالح -وهم المؤمنون الموحدون- لهم نصيب من الأجر على أعمالهم التي كسبوها في الدنيا، وهو تعالى سريع الحساب فيعجل لهم تقديم الثواب وهو الجنة.
وفي الآية الثالثة بعد المائتين يأمر تعالى عباده الحجاج المؤمنين بذكره تعالى في أيام التشريق عند رمي الجمار وبعد الصلوات الخمس قائلين: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ثلاث مرات إلى عصر اليوم الثالث في أيام التشريق.
ثم أخبرهم الله تعالى بأنه لا حرج على من تعجل السفر إلى أهله بعد رمي اليوم الثاني، كما لا حرج على من تأخر فرمى في اليوم الثالث، فقال تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، فالأمر على التخيير، وقيد نفي الإثم بتقواه عز وجل، فمن ترك واجباً أو فعل محرماً فإن عليه إثم معصيته ولا يطهره منها إلا التوبة، فنفي الإثم مقيد بالتعجل وعدمه فقط ]، أما مع الإثم فما ينفى إلا بالتوبة، [ فكان قوله تعالى: لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203] قيداً جميلاً، ولذا أمرهم بتقواه عز وجل ونبههم إلى مصيرهم الحتمي وهو الوقوف بين يديه سبحانه وتعالى، فليستعدوا لذلك اليوم بذكره وشكره والحرص على طاعته ].
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: وجوب الذكر بمنى عند رمي الجمرات؛ إذ يكبر مع كل حصاة قائلاً: الله أكبر.
ثانياً: فضيلة الذكر والرغبة فيه لأنه من محاب الله تعالى ]، الله يحب الذكر، وكيف لا وقد أمر به فقال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة:203]؟
ثالثاً: فضيلة سؤال الله تعالى الخيرين، وعدم الاقتصار على أحدهما، وشره الاقتصار على طلب الدنيا وحدها.
رابعاً: فضيلة دعاء (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، فهي جامعة للخيرين معاً؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت يختم بها كل شوط ]، ولا تفهم أن هذا خاص بالطواف، كل يوم ندعو بهذا الدعاء ليلاً ونهاراً.
[ خامساً: وجوب المبيت ثلاث ليال بمنى ووجوب رمي الجمرات؛ إذ بها يتأتى ذكر الله في الأيام المعدودات وهي أيام التشريق.
سادساً: الرخصة في التعجل لمن رمى اليوم الثاني.
سابعاً: الأمر بتقوى الله وذكر الحشر والحساب والجزاء؛ إذ هذا الذكر يساعد على تقوى الله عز وجل ].
أنا أقول دائماً: أتحدى أن يستطيع أحد أن يذكر الله بقلبه ولسانه ويمد يده ليسرق؟ هل يذكر الله بقلبه ولسانه وينظر إلى امرأة مرت بين يديه ويتابعها بالنظر؟ والله! ما كان.
هل يستطيع أحد أن يذكر الله بلقبه ولسانه ويذبح أخاه؟ مستحيل، فلهذا لا حصانة أكثر من الذكر، ولن يقع في المعاصي والجرائم إلا تارك لذكر الله وناسيه.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر