وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل أملاً في أن يحقق الله تعالى لنا ذلك الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده
وها نحن مع هذه الآيات الأربع من سورة البقرة:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:190-193].
إذاً: أذن لهم في قتال من يقاتلونهم، ولم يأذن لهم في قتال من لم يقاتلهم، ثم بعدما انتصر الإسلام وانتشرت الدعوة نزلت آيات من سورة التوبة، فأعطى الله المشركين في الجزيرة فرصة للتفكر والتأمل: إما أن يدخلوا في الإسلام، أو أن يخرجوا من هذه الديار، وإلا فسوف يقاتلون، قال تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5]، أعطاهم أربعة أشهر، حيث قال تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التوبة:1-3]، إذا بعث الرسول صلى الله عليه وسلم علياً في السنة التاسعة يعلن هذا الإعلان: لا يطوفن بالبيت عريان، ولا يحجن مشرك بعد هذا العام.
إذاً: فهم ممهلون أربعة أشهر، هؤلاء أصحاب العهود، فمن كانت مدته أقل من أربعة أشهر فمدته تلك، ومن كانت أكثر من أربعة أشهر فأربعة فقط: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5]، والمراد من هذا: تطهير هذه الديار، ديار التوحيد، ديار الجزيرة.
ثم نزلت آية أخرى في آخر سورة التوبة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123]، إعلان في قتال المشركين والكافرين، ومعنى (يَلُونَكُمْ) أي: يحاددونكم.
إذاً: فدائرة القتال تكون ضيقة أولاً، ثم نقاتل من حولنا فتتسع وتتسع حتى تنتظم الكرة الأرضية، فالجهاد واجب كفائي، ولا ينتهي حتى لا يبقى في الأرض من يعبد غير الله.
الأول: أن يدخلوا في رحمة الله، في الإسلام، نقول لهم: جئناكم بدين ربكم، من أجل إكمالكم وإسعادكم، والقضاء على الشر والفساد والخبث بينكم، فإن قبلوا دعوة الله وادخلوا في رحمته فكلنا إخوان في الله عز وجل، وإن رفضوا، وأصروا على معتقداتهم ودينهم قلنا: إذاً: اسمحوا لنا أن ندخل دياركم، ونتولى أمر قيادتكم وأنتم آمنون في بلادكم على دينكم؛ لأن دخولنا ومشاهدة إخوانكم لنا يحملهم على أن يدخلوا في الإسلام، كانوا خائفين من الإسلام والمسلمين، إذا دخل المسلمون ديارهم، وشاهدوا أنوار الصدق والطهر والعدل والرحمة والكمال انجذبوا ودخلوا في رحمة الله، ونحن نتولى حمايتكم والدفاع عنكم، مقابل إعلان أنكم قابلون لحمايتنا، ويدفعون الجزية، يدفعها الذكور منهم دون الإناث، والقادرون دون العجزة، كذا درهماً في السنة يسمى بالجزية، فإن قبلوا هذه دخل المسلمون وتولوا القضاء، ونشر الدعوة والتعليم والإصلاح؛ وفي سنة أو أقل إذا البلاد كلها أنوار.
فإن رفضوا فلم يبق إذاً إلا القتال، فإن رفضوا الأولى والثانية تعين قتالهم، لا قتلهم، فندخل في حرب مع جيوشهم، وسوف ينكسرون، وتدخل خيل الله لتنشر الهدى والطهر والصفاء، وهذا الذي تم في البلاد الإسلامية، طهرت الجزيرة، يليها الشام، يليها اليمن، يليها العراق، وأخذ الإسلام ينتشر.
هذه لا بد من معرفتها:
أولاً: ما أذن للمؤمنين بالقتال؛ لضعفهم وعدم قدرتهم، كانوا يؤمرون بكف أيديهم، ولم يسمح لهم بقتال، فما اغتال مؤمن كافراً في مكة ثلاث عشرة سنة أبداً، ولم يسمح لهم بالقتال ولا في المدينة، حتى نزلت آية: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ [الحج:39] لأنهم يقاتلونهم بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39].
ثم تتابعت الآيات، فأذن لهم بقتال من يقاتلهم والكف عمن يكف عنهم، وبعد فترة من الزمن انتشر الإسلام وانتصرت دولته، فأمروا أولاً بتطهير الجزيرة، حتى لا يبقى فيها دينان أبداً، لا يجتمع دينان في الجزيرة، وبعد طهر الجزيرة نزل قوله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ [التوبة:123]كلما اتسعت الحدود قاتلنا من يلينا حتى لا يبقى على الأرض من لا يعبد الله، هذا هو المفروض الواجب، فإن عجز المسلمون فعجزهم مؤقت، ويوم يزول ويقوون ويقدرون يقاتلون ويدخلون الناس في رحمة الله.
وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ [البقرة:191] إذاً فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ [البقرة:191]، أي: قتالكم لهم وإخراجكم لهم كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [البقرة:191]، هم قاتلوكم وأخرجوكم.
وأطلق العدوان هنا من باب المشاكلة فقط، وإلا فقتالنا لمن قاتلنا لا يسمى عدواناً ولا ظلماً، مثل قوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، ما هي بسيئة لكن من باب المشاكلة في اللفظ.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ شرح الكلمات:
سبيل الله: الطريق الموصل إلى رضوانه وهو الإسلام، والمراد إعلاء كلمة الله ].
هذا سبيل الله: الإسلام؛ لأنه يصل بالسالك إلى الجنة، والإسلام معناه: أن من أسلم قلبه لله عبد الله وحده، إذاً: فسبيل الله هو الطريق الموصل إلى رضوانه تعالى وهو الإسلام، فلن يظفر إنسان برضا الله ما لم يسلم له قلبه ووجهه.
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [البقرة:190]: المشركون الذين يبدءونكم بالقتال.
وَلا تَعْتَدُوا [البقرة:190]: لا تجاوزوا الحد فتقتلوا النساء والأطفال أو من اعتزل القتال من الرجال ].
نقاتل ولكن في عدل لا في ظلم واعتداء، فلهذا لا يحل قتل النساء ولا الأطفال ولا من اعتزل القتال ولم يرض به، فالنساء إن قاتلن ودخلن المعارك يقتلن، كذلك أهل الصوامع والرهبان والعُبّاد من اليهود والنصارى إن بقوا في صوامعهم وعبادتهم فلا يحل قتالهم، فإن دخلوا المعارك وحملوا السلاح فإنهم يقتلون، والأطفال أمرهم واضح أنهم لا يقتلون.
[ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة:191]: تمكنتم من قتالهم.
وَالْفِتْنَةُ [البقرة:191]: الشرك.
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:191]: المراد به مكة والحرم من حولها.
وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة:193]: بأن لم يبق من يعبد غير الله تعالى.
فَلا عُدْوَانَ [البقرة:193]: أي: لا اعتداء بالقتل والمحاربة إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193]، أما من أسلم فلا يقاتل ] ولا يقتل.
[ معنى الآيات:
هذه الآيات الثلاث: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:190] ] إلى قوله: جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [البقرة:191] هذه الآيات الثلاث [ من أوائل ما نزل من الآيات في شأن قتال المشركين، وهي متضمنة الإذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقتال من يقاتلهم، والكف عمن يكف عنهم.
وقال تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:190] أي: في سبيل إعلاء كلمة الله ليعبد وحده الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [البقرة:190]، واقتلوهم حيث تمكنتم منه، وأخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم أيها المهاجرون من دياركم ] لأن المهاجرين في المدينة هم الذين يعودون إلى قتال أهل مكة.
[ ولا تتحرجوا من القتل، فإن فتنتهم للمؤمنين لحملهم على الكفر بالاضطهاد والتعذيب أشد من القتل نفسه. وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة:191] فلا تكونوا البادئين؛ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة:191]، كذلك القتل والإخراج الواقع منكم لهم يكون جزاء كل كافر يعتدي ويظلم، فإن انتهوا عن الشرك والكفر وأسلموا فإن الله يغفر لهم ويرحمهم؛ لأن الله تعالى غفور رحيم.
أما الآية الرابعة ] في هذه الآيات [ وهي قوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة:193] فهي مقررة لحكم سابقاتها؛ إذ فيها الأمر بقتال المشركين الذين قاتلوهم قتالاً يستمر حتى لا يبقى في مكة من يضطهد في دينه ويفتن فيه، ويكون الدين كله لله فلا يُعبد غير الله عز وجل في مكة.
وقوله: فَإِنِ انتَهَوْا [البقرة:193] من الشرك بأن اسلموا ووحدوا فكفوا عنهم ولا تقاتلوهم؛ إذ لا عدوان إلا على الظالمين، وهم بعد إسلامهم ما أصبحوا ظالمين.
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: وجوب قتال من يقاتل المسلمين، والكف عمن يكف عن قتالهم، وهذا قبل نسخ هذه الآية ].
أما الآية الختامية من آخر سورة التوبة وآخر ما نزل فهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123]، كيف يلوننا؟
مثلاً: لنفرض أن البلاد التي حول الجزيرة ما زالوا كافرين، فهل نزحف لنقاتل تركيا قبل الشام؟ هل نقاتل إيران قبل بغداد؟ الجواب: لا، هل نقاتل شمال إفريقيا قبل المصريين؟ الجواب: لا.
نقاتل الذين يلوننا، فإذا أسلموا دخلوا في رحمة الله ويصبح جيرانهم من الجهة الثانية هم جيراننا، ونأخذ في القتال حتى تتسع دائرة الإسلام وتنتظم الأرض كلها، كبركة ماء أو مستنقع واسع، فخذ حجراً وارمه في وسطه، فستنفتح دائرة ثم لا تزال تتسع حتى تصل إلى كل حافاته.
فما نتجاوز بلداً مجاوراً ونذهب نقاتل من وراءه، لا يصح هذا، فالذي يلينا أولى بالرحمة والإحسان ممن كان بعيداً، والناس يعرفون أن الصدقة أولى بها الأقربون؛ لأن هذه الدعوة ما هي دعوة استعمار واستغلال، هذه دعوة نشر الهدى والرحمة بين البشر، والله رب الجميع هو الذي أذن في هذا وأمر به.
وهكذا فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما وصلوا إلى الأندلس إلا بعدما فتحوا شمال إفريقيا، ما وصلوا إلى جبال الألب في فرنسا حتى فتحوا أسبانيا.. وهكذا، قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123].
وهنا حدثت التساؤلات: لماذا -إذاً- نشرب الخمر؟ فنزلت: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219]، فأجاب الله تعالى: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، واستمرت الحالة على هذا فترة من الزمن، فكان عمر يرفع صوته: يا رب! بين لنا في الخمر بياناً شافياً، يا ألله! بين لنا في الخمر بياناً شافياً. فنزلت آخر آية بشأن الخمر في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [المائدة:90] إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] فقال عمر : انتهينا يا ربنا. فأهريقت في أزقة المدينة حتى جرت في الأرض.
فكذلك القتال، كانوا يتمنون ويطلبون الإذن من الرسول فقال لهم: اصبروا، أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فلما قويت شوكتهم وأصبحوا أهلاً نزلت: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ [الحج:39] نزلت هذه الآية أن: قاتلوا من يقاتلكم، ثم في الآية قبل الختامية أعطوا المشركين عهداً لأربعة أشهر: إما أن تسلموا أو تخرجوا من الجزيرة؛ لأن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قربت، ولم يصلح أن يموت الرسول وفي الجزيرة من يعبد غير الله، لتكون قبة الإسلام وبيضته، وبعدها نزلت آية: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ [التوبة:123] فتحمل مسئوليتها أبو بكر الصديق، فبعث بجيش أسامة إلى الأردن والشام، وعمر بعث بجيشه إلى العراق وفارس.. وهكذا، وعثمان بعث بجيشه إلى شمال إفريقيا، وأخذ الإسلام ينتشر وأصبحت حدودنا تلي نهر السند، ثم توقفنا بكيد أعدائنا ومكرهم، لكن في يوم ما لو عاد لنا سلطاننا وقدرتنا وقتالنا فسنطبق أمر الله عز وجل، نبدأ من جديد بأسبانيا لأنها في حدود المغرب، نبدأ بروسيا لأنها في حدود يوغسلافيا.. وهكذا.
فلو كانت الآية: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله معكم؛ لغنى المؤمنون، ولما أصبح أحدهم يبالي بالمعصية، فالنصر حتم لأن الله معنا، لكنه قال تعالى: (مع المتقين)، إن اتقيتم أوامرنا فنحن معكم، وإن عصيتم تركناكم لأنفسكم.
والآن بعض حكوماتنا المتقدمة جيشت النساء! وهذه أضحوكة، رأيت في المجلة مجاهدات، والشاهد عندنا أن هذا خبط وضلال وتفاهة في العقول، نعرض عن الإسلام ولا نطبق قواعده ولا شرائعه، ونجيش النساء ونجعل الحارسات والمجاهدات، هل انعدم الرجال؟
قال: [ حرمة الاعتداء في القتال بقتل الأطفال والشيوخ والنساء إلا أن يقاتلن ] فشيء آخر، فمن أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190].
لما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم باثني عشر ألفاً هل دخلوا ليقتلوا المشركين؟ كلا أبداً، من قاتلهم قتلوه، ومن أسلم وانقاد لم يقتل، ومع هذا أعلن الرسول عن حرمتها من يوم أن خلق الله السماوات والأرض، وأنها حرام إلى يوم القيامة، ولم تحل إلا ساعة من نهار، أحلها الله لرسوله، ثم عادت حرمتها إلى يوم القيامة، لكن لو أن أشخاصاً هربوا إلى مكة وهم مجرمون فما الحكم؟
الجواب: الأولى أننا نلقي القبض عليهم ونخرجهم خارج الحرم، ونعدمهم إذا كانوا قد قتلوا، ولا نقتلهم في الحرم، هم قتلوا إخواننا خارج مكة في جدة في الطائف وهربوا إلى الحرم، فهل نقتلهم في الحرم؟
الذي عليه الجمهور أن يخرجوا إلى خارج الحرم ويقام عليهم حد القتل خارج الحرم، امتثالاً لقول الله تعالى: وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:191]، لكن لو هاجموا ودخلوا برجالهم إلى مكة فماذا نصنع؟ نقاتلهم، ما دام أنهم قد قاتلونا فيه فلا بد أن نقاتلهم.
فالتوبة أيضاً تجب ما قبلها، وهي التوبة النصوح التي صاحبها لا يعود إلى الذنب ولو صلب وقتل وأحرق، والإسلام يجب -أي: يقطع- ما قبله، ما الدليل على هذا؟ هو قوله تعالى: فَإِنِ انتَهَوْا [البقرة:192] عن الشرك والكفر وقتالكم وأذيتكم وإخراجكم من دياركم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:192]، فإن انتهوا وتابوا فالله عز وجل يغفر لهم ويرحمهم، لماذا؟ لأنه تعالى غفور رحيم.
فالإسلام يجب ما قبله، أخذنا ذلك من قوله تعالى: فَإِنِ انتَهَوْا [البقرة:192] عن قتالكم وحربكم وعن الشرك والكفر والفسق والفجور؛ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:192] فسيغفر لهم ويرحمهم؛ لأنه هذا وصفه: الغفور الرحيم.
إذاً: [ وجوب الجهاد، وهو فرض كفاية ] إذا قام به جيوش المسلمين أو مقاتلوهم سقط الواجب عن الباقين، فإن عجز الجيش ولم يقدر على الفتح أو الدفع فحينئذ تعين على المؤمنين أن يكملوا ذلك النقص ويسقط الواجب حينئذ، ولهذا يقول أهل الفقه: يتعين الجهاد ويكون فرض عين في ثلاثة مواطن:
الأول: أن يداهم العدو مدينة من مدننا في حدوده، ميناء من موانئنا، فأهل المدينة أو المنطقة يجب عليهم أن يقاتلوا هذا العدو نساء ورجالاً حتى يردوه من حيث أتى، ويواصلوا قتالهم حتى يصلهم المدد، وفي الزمان الأول كان المدد يحتاج إلى عشرة أيام، لأنهم يسيرون ببغال وخيول وجمال، والآن في خمس ساعات، فأهل المنطقة التي هاجمها العدو بالليل أو بالنهار يجب أن يقاتلوا ولا يسقط الفرض عن أحدهم إلا عن عاجز، حتى يردوا العدو ويقهروه، أو يصل إليهم إمدادات المسلمين وحينئذ يسقط وما يصبح فرض عين، هذا موطن.
الموطن الثاني: أن يعين الإمام المجاهدين، يقول: أبناء الخامسة والعشرين إلى الثلاثين كلهم في التعبئة، أو يقول: أصحاب الواحد والعشرين من أعمارهم إلى الثلاثين الكل يدخلون ويلتحقون بالجهاد، فلا يصح لواحد من هؤلاء أن يتأخر.
وموطن آخر وهو ما يعرف بالتعبئة العامة أو النفير، إذا رأى إمام المسلمين أن هذا العدو ما يكفي له عدد فالأمة كلها تدخل المعركة، كما حدث في غزوة تبوك ونزل: إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ [التوبة:39]، فلم يبق مؤمن إلا مريض أو من اعتذر بعذر باطل، وما تخلف إلا ثلاثة نفر بدون عذر، وحصل الذي حصل، وتاب الله تعالى عليهم.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] هذا يتناول أولاً جهاد النفس، يجاهد نفسه في ذات الله، أتدري لم نجاهد الكفار؟ لأجل أن يعبدوا الله أولاً، من أجل أن يعبدوا الله وحده ويدخلوا في الرحمة.
إذاً: وجهادنا لأنفسنا لأجل ماذا؟ من أجل أن نعبد الله أولاً، وأن ندخل في رحمته، ولهذا فجهاد النفس ذكره الحافظ ابن حجر في شرحه للبخاري فقال: جهاد النفس هو أن تحملها وهي كارهة على أن تتعلم ما يُعبد به الله، وتعرف كيف تعبده.
فتعلم العلم الضروري، تتعلم كيف تتوضأ، وتغتسل، وتتيمم، وتصلي،و تصوم، وتزكي، وتحسن.. وسائر هذه الضروريات، تحملها على أن تتعلمها وهي كارهة قطعاً، فهي ما تريد التعب ولا السهر، ثم تحملها على أن تعمل بكل ما علمته، ولا تتخلى أبداً عن فريضة عرفتها أو واجب علمته ولم تعمله، وهذا يحتاج إلى إكراه لها وضغط عليها، حتى تعمل بكل ما تعلمته، ثم تحملها على أن تُعلِّم ذلك، فهذا هو الجهاد الأكبر.
نحن نغزو الكفار من أجل أن نعلمهم، وهذه المرتبة الثانية، إذ نحن أولاً نعبد الله ونستقيم على منهجه، فإذا كملنا وطبنا وطهرنا ننقل رحمة الله إلى غيرنا، هذا الجهاد هو جهاد النفس.
آذوا مؤمنة جاءت إلى حداد تصلح عنده سواراً أو خلخالاً أو كذا، وجلست تنتظر بنقابها، فجاء يهودي وهي جالسة يتهكم بها وأخذ ثوبها من ورائها ووضعه على رأسها لتبدو عورتها، وهم يضحكون، فصاحت فجاء مسلم فقتله، فاجمعوا على المسلم فقتلوه، وحينئذ أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتالهم؛ لأنهم نقضوا العهد بأذية المؤمنة، وشفع لهم ابن أبي وأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المدينة بدون قتال، ولكن خرجوا ولم يبق منهم أحد.
وبنو النضير تآمروا على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، كان بينه وبينهم معاهدة على أنهم يدفعون الدية باشتراك وتعاون، وكانت الدية كثيرة، فذهب الرسول مع أبي بكر وعمر إلى بني النضير يطالب بموجب الاتفاقية أن يساهموا في هذه الدية التي تحملها الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مرحباً، وأنزلوه في ظل جدار وفرشوا له الفراش، ثم أخذوا يفكرون كيف يقتلونه، فهداهم الشيطان إلى أن يطلقوا عليه رحى من السطح، واتفقوا على هذا، وأوحي إليه صلى الله عليه وسلم بالمؤامرة بالهاتف الإلهي أن: قم، فجمع عليه ثيابه وقام ومشى وراءه أصحابه، ودخل المدينة وأمر بإعداد العدة لجهاد بني النضير، فخرج مع رجاله وعلى رأسهم الراشدون وطوقوا البلاد.
ونزل فيهم قرآن: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]هؤلاء بنو النضير، فلما هاجمهم الأصحاب قطعوا نخلهم، كما قال تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [الحشر:5]، وإن كان بعض الصحابة تألم لقطع النخل أو إحراقه؛ لأنهم أصروا وأبوا أن ينزلوا، وبعد ذلك أعلنوا عن هزيمتهم وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحملوا أمتعتهم، فأذن لهم، فحملوا حتى الأبواب والأخشاب، وذهبوا ونزلوا بخيبر.
وبنو قريظة آخرهم لما جاءت الأحزاب بالمؤامرات وتضامنوا مع أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن ثم أعلن عن قتالهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر