فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، ومع آياتها المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.
وتلاوة تلك الآيات هي قول الله عز وجل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.
اللهم اجعلنا منهم، هذا فريق السعداء الأطهار الأتقياء، أهل الإيمان واليقين، أهل إقام الصلاة والإنفاق مما رزق الله.
وهؤلاء المنافقون ضرب الله لهم مثلين: مثلاً نارياً ومثلاً مائياً؛ لأنهم نوعان: نوع انتهى أمرهم، ونوع متهيئون لقبول الحق والهداية إن شاء الله، فقال تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17-18] هؤلاء انتهى أمرهم كتلك الفرقة الكافرة، وحكم الله بأنهم لا يرجعون إلى الحق وطريقه؛ لما أصابهم من عمى القلوب، ونتيجة التوغل في الشر والظلم والكيد للإسلام والمسلمين.
والمثل الثاني للنوع الثاني: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:19-20]. وهذا قرأناه ودرسناه واكتسبنا أجره وعلمه، والمنة لله رب العالمين.
و(الناس) اسم مشتق من ناس ينوس إذا تحرك، وفيه معنى الأنس، وفيه معنى النسيان، والقرآن حمال وجوه، وكل ما يجب علينا في هذا: أن نفهم أن نداء الله هذا لكل إنسان.
ويناديهم لم؟ ليأمرهم، أو لينهاهم، أو ليوجههم، أو ليحذرهم، أو ليخوفهم؛ لأنه سبحانه تعالى عن اللهو والباطل والعبث.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] خيراً لكم اعبدوا ربكم، ما قال: (اعبدوا الله) حتى يقولوا: من هو؟ بل قال: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ . أي: خالقكم ورازقكم .. مدبر حياتكم .. الخالق لكل شيء، ترونه، وتعلمونه، وتسمعونه.
هل عبادة خالقي ومولاي وسيدي والمنعم علي فيها غضاضة أو فيها عيب وانتقاص؟ لا أبداً.
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ عرفتم أن الرب هو الخالق، الرازق، المدبر، الحكيم العليم؟ وهذا يجب أن يُعبد، وكيف يُعبد؟ يطاع فيما يأمر به وفيما ينهى عنه، هو ورسوله المبلغ عنه صلى الله عليه وسلم.
إذاً: ذلوا له واخضعوا واخنعوا، فلا تترفع يا عبد الله ولا تلوِ رأسك متبرماً لا تريد أن تطيعه! أطع؛ إذ أنت مخلوق لهذه الحكمة.
ولو سئلت من قبل الفلاسفة والعلماء: لم خلق هذا الإنسان؟! هم يجهلون، يقولون: ليعيش في الحياة الدنيا فيأكل ويشرب ويلهو ويلعب، هذه علة الخلق؟! ما هي بعلة هذه! هو يأكل ويشرب من أجل أن تبقى حياته للعلة التي من أجلها خلق ألا وإنها عبادة الله عز وجل.
أراد الله عز وجل أن يُعبد في هذه الأرض فخلقها، وخلق أرزاقها، وفجر مياهها، وأصلح أجواءها وهواءها، وأصبحت كالفندق صالحة للنزول، ثم أهبط آدم وزوجه حواء، وزوجهما وبارك في نسلهما، فأخذا يلدان البنين والبنات، وأصبح أولادهم يعبدون الله، فهذه هي العلة.
أما الأكل والشرب فمن أجل البقاء على الحياة، أما الحراثة والصناعة فمن أجل البقاء على الحياة، والحياة لم؟ لأن يُعبد الله.
فلهذا كثيراً ما تسمعون أن الذي يموت تاركاً لعبادة الله كافراً بها يعبد غيره أو لا يعبد سواه، هذا جزاؤه أن يخلد في عالم الشقاء، ويعيش بليارات السنين بلا نهاية.
فإن قلت: لم؟ أجرم، فسق، كفر مائة سنة .. مائتين .. طال عمرة ألف سنة، كيف يعذب مليارات السنين؟ أين العدل؟!
والجواب: جريمته أنه نسف الكون كله، السماوات السبع، والأراضين السبع وما فيهما، والجنة، والنار.. الكل نسفه ودمره، كيف؟! كل ما خلق الله في السماوات والأرض من أجله هو، وهو من أجل أن يعبد الله، فلما أبى أن يعبد كان كمن نسف الكون كله، كم تعذبون هذا؟ بلا حساب، لو أن شخصاً أحرق قرية أو أغرق إقليماً فهل جزاؤه عشرين سنة سجن، أو يموت؟ هذا ما يكفي، فكيف بالذي يدمر العالم كله، هل فهمتم عني هذه؟
هو في الظاهر عصى الله، وفسق عن أمره، وكفر به مائة سنة .. ألف سنة، هذا يعذب أبداً عذاباً فوق ما نتصور أو ندرك، وإن وصفه الله بكتابه وبينه، فما جريمة هذا؟ جريمته في الحقيقة أنه دمر الكون كله؛ إذ الكون كله خلق من أجل أن يُعبد الله فيه، فهمتم هذه الحقيقة؟ حتى لا يقول قائل: أين العدل في شخص يكفر مائة سنة، ويعذب مليارات السنين؟ هذا جريمته أنه نسف الأكوان كلها.
والدليل على أنه خلق لعبادة الله قول الله تبارك وتعالى من سورة (والذاريات): وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] لا لغرض آخر، لا لعلة ولا لحكمة تريدون، أبداً، إلا أن يعبدني.
فإذا قال العبد: لا أعبدك وأعبد عدوك، كيف تجازون هذا المخلوق؟!
يقول: لا أعبدك وهو يأكل طعامه، ويشرب شرابه، ويتنفس هواءه، ويعيش في كنفه وفي رحمته!
يقول: لا أعبدك، ويعبد شجرة أو فرجاً من فروج النساء! كيف هذا؟!
ويوضح هذا المعنى حديث قدسي شريف يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إن صح الخبر، يقول: ( يقول الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك، وخلقتك من أجلي ) هذا واضح الدلالة.
ماذا يبغي الله مني؟ أن أذكره وأن أشكره، فمن عطل ذكر الله وشكره، والعبادات كلها لا تخرج عن الذكر والشكر مطلقاً، وفي القرآن الكريم: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، ومن سورة أخرى وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13].
إذاً: ( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك ) وهذا الخبر صحيح، والقرآن يشهد له.
أما قانون البلاشفة: لا إله، هذه صناعة خبيثة يهودية وتبخرت، وما عاشت أكثر من سبعين سنة.
والبشرية في كل عصورها بالفطرة .. بالغريزة تؤمن بأن الله موجود، ولكن ما تعرف أسماءه، وما تعرف كيف تعبده، فطلبت اللياذ بجانبه، والحماية به فما عرفت، وزين لها الشيطان أصناماً، تماثيل، الشمس، القمر..، وقال لهم: هذه تشفع لكم عند الله. فعبدوا غيره، ولهذا إذا قال المفسر: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] أي: ليوحدوني؛ لأن العبادة موجودة، ولكن يعبدون معه غيره، فالمطلوب هو أن يعبد وحده.
ومن القرآن الكريم قول الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا ما هذه الرسالة؟ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] ما الطاغوت؟ ما عبد من غير الله سواء كان الشيطان أو كان صنماً، فزين الشيطان عبادته وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا [النحل:36] من القائل يرحمكم الله؟ الله. هل يتطرق إلى هذا الكلام النقص أو الخطأ؟ والله كما أخبر، فما كانت أمة على سطح هذه الأرض من ذرية آدم إلا بعث الله فيها رسولاً يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً.
ومع هذا لاحظوا مجرد طاعة في ذل لا يكفي، وقد يوجد العبيد يطيعون أسيادهم هذه الطاعة، ولكن يجب أن يكون المطيع معظماً لربه محباً له، فتطيعه وأنت تكرهه ليست عبادة، وتطيعه وأنت تستهين به كما تطيع المرأة زوجها أو الزوج زوجته هذه ما هي بعبادة، فلا بد مع غاية الذل والتعظيم والحب. أطعه؛ افعل ما يأمرك، واجتنب ما ينهاك وأنت تحبه أعظم حب، وتعظمه أعظم تعظيم، ومنكسر ذليل بين يديه. هذه هي العبادة.
لو قال قائل: أريد أن أعبد ربي فكيف أصنع؟
نقول له: اسأل أهل العلم عما يأمر الله به فافعله، وعما ينهى عنه فاجتنبه.
الباب مفتوح، وأهل العلم موجودون، واقرع الباب واسأل: ما الذي يحب ربي أن أفعله؟ يقول لك: صل. بعد فترة: ما الذي يكره مولاي؟ يكره الكذب. لا تكذب، ولا تزال تسأل وتعلم وتعمل، حتى تصبح ولي الله.
وعند ضلال المسلمين: هل سيدي عبد القادر خلق شيئاً؟ هل فاطمة أو الحسين خلقا شيئاً؟ هل البدوي ..؟ من الذي خلق؟ الله خلقنا، هذه منة عظيمة علينا، كنا غير موجودين منذ مائة سنة، ولا يوجد منكم واحد وأوجدنا، هذا ما يحمد! هذا ما يشكر! ما يتملق إليه! ما يتزلف! ما يحب ولا يعظم؟!
لو أن شخصاً وهبك أصبعاً فقط لحمدته طول دهرك، فكيف لو أصلح عينك وأصبحت تبصر؟ ومع هذا الشياطين لا تسمح لبني آدم أن يعرفوا ربهم؛ حتى لا يعبدوه من أجل أن يساكنوهم ويعاشروهم في دار البوار في جهنم: لم ندخل النار ويدخلون الجنة؟ هذه قولة إبليس. إذاً فهو الذي يضرب على القلوب حتى لا تتحرك.
هذا تعليل واضح: اعبدوه وأطيعوه حتى تنجوا من عذابه، فإن الذين لا يعبدونه سيعذبهم. حكم بهذا؛ فهم عبيده وخليقته. وقضى بهذا فمن أين لك أن تتكلم أنت أو ترد؟
(لعلكم) لعل للترجي بالنسبة إلينا، ونحن نقول: هذه الإعدادية من أجل أن تعدوا أنفسكم للنجاة من النار ومن غضب الجبار.
جَعَلَ لَكُمُ [البقرة:22] أو له هو؟ أو لغيركم؟ (لَكُمُ).
إذاً: هذه وحدها تجعلنا نستحي من الله عز وجل جَعَلَ لَكُمُ [البقرة:22] لا لغيركم فِرَاشًا .
ومن سورة الحج: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحج:65]، لو أن كوكباً واحداً ينزل احترق الكون كله.
قال: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ [الحج:65] مخافة أو كراهة أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ [الحج:65]، لو وقعت السماء انتهت الحياة، وكل هذا ما يذكره ابن آدم؛ لأن الشياطين صارفة لقلبه عن مثل هذا الذكر، فلهذا أبعدوهم عن القرآن، والذي يسمع القرآن يذوب.
قال: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحج:65]، وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الحج:66]، والآيات في هذا ما أكثرها.
قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21] من الأمم والأجيال إلى آدم، كم عددهم؟ والله لا يعرفه إلا الله، من خلقهم؟ الكل يقول: الخالق هو الله جل جلاله.
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، أي: من أجل أن تتقوا سخط الله وعذابه؛ لأنكم ضعفة فمن يقوى على الاحتراق بالنار، ومن يقوى على الغربة والبعد في ذلك العالم.
إن أحداً بلغنا يوضع في تابوت من حديد، فلا يسمع، ولا يبصر، ولا يأكل، ولا يشرب، ويلقى في ذلك العالم ملايين السنين وهو في عذاب، كيف؟ والله لو يتفكر المؤمن ويتصور الحقيقة قد يصعق، وقد يترك الطعام والشراب، ويموت قائماً يصلي، هل مات أحد وهو قائم يصلي؟ ما بلغكم؟ نعم، مات سليمان عليه السلام وهو قائم يصلي.
قالوا: الآن الصناعة الحديثة .. المطر الصناعي، فاندهشنا، قلنا: هؤلاء ممكن يسوقون السحاب إما بالصواريخ أو غيرها، قالوا: المطر الصناعي .. المطر الصناعي، أشادوا بهذا، ورأيناه فقط أنابيب مخروقة وترش الماء، هذا المطر الصناعي! والله يقول: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:22]، فلا تسأل كيف تكون الماء، مكونه ومكون الكون هو الله جل جلاله، لا تذهب بعيداً تفكر، فقط انظر إلى هذا الماء العذب الفرات الحلو الذي يتغربل، ويتصفى ويطهر، وينزل من السماء إلى الأرض، أيدينا هي التي فعلت؟ سحرتنا هم الذين فعلوا؟ من يفعل هذا؟ الله وحده.
أما طائرات العرب فيبيعون الخمر فيها، لا إله إلا الله، لولا حلم الله عز وجل ورحمته، ولكنه حكيم عليم، ( يملي للظالم ولا يهمله، وإذا أخذه لم يفلته )، وهذه الكلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يخطب الناس قال: ( إن الله ليملي للظالم )، وما معنى يملي؟ يزيد له في أيامه، وفي سلاحه وقوته، ( فإذا أخذه لم يفلته )، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى من سورة هود: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، والمراد من القرى: العواصم والحواضر، لا الاصطلاح الجغرافي الهابط، فالقرآن يريد بالقرية المدينة التي تجمع فيها الناس بكثرة.
إذاً: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22]، فالبر، الشعير، الذرة، التفاح، العنب، التمر .. بسبب الماء أو لا؟ والماء من خلقه وأوجده؟ من أنزله؟ من فتح له قلوب الأرض حتى تداخلت معه وخرجت هذه الزروع، وهذه الأشجار والنخيل؟ هل هناك من يقول: غير الله؟! الملاحدة العور قالوا: الطبيعة. وعرفنا كيف أنها انمسخت، فلا طبيعة، ولا ضرورة، ولا صدفة، هذه كلها تفاعلات شيطانية ممسوخة فكفروا بها، وما بقي إلا الله.
أضرب لكم مثلاً، رجلان جميلان طويلان وقفا أمام عمارة من ناطحات السحاب، أحدهما قال: هذه بناها فلان بن فلان. والآخر قال: أنت مجنون، هذه موجودة هكذا، كيف تقول: مبنية؟ هذه ما بناها أحد، أنت تكذب، أنت شاهدت من بناها؟ حضرت معه؟
سمعتم المثالين؟ ما تقولون في هذا الرجل؟ يستحق الحياة هذا؟! عمارة؛ ناطحة.. يقول: لا لا لا.. هذه موجودة من نفسها، لما أقول أنا: يا هذا! هذه مبنية، يقول: أنت حاضر؟ أقول: لا ما أنا حاضر. يقول: أنت شاهدت؟ أقول: لا. إذاً: كيف تقول؟ هذا مثال المؤمن والملحد، فالإلحاد هابط وانتهى.
إذاً: بناءً على ما سمعتم أيها الناس! فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] هذا هو المقصود.
أعيد البيان: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، لصالحكم هذه العبادة، لصالحنا أو لا؟
والله العظيم ما شرع الله عبادة لعباده إلا من أجل إكمالهم وإسعادهم، ومن أجل غناهم وإعزازهم، ومن أجل صحتهم، ومن أجل رفاهيتهم، ومن أجل طهارتهم وصفائهم، ولا تفهم أن الله يأمر بأمر أو ينهى بدون ما يحقق ذلك الأمر للعبد مصلحة وفائدة، أو ينهى عن شيء بدون ما يدفع عنه ضرراً ولا مرضاً، والله ما كان.
ولهذا لو تفطنت البشرية ولو عرف هذا المسلمون لطبقوا شريعة الله في أربع وعشرين ساعة؛ ليسودهم الطهر والأمن، والرخاء، والصفاء، والحب، والولاء، ولم يبق ما ينغص الحياة، ولا يكدر صفوها بحال من الأحوال.
المسلمون كجسم واحد: حب وولاء، طهر وصفاء، لا أذى، ولا اعتداء، ولا ولا.. كالملائكة في السماء، نتيجة عبادة الله وتطبيق هذا الدين القيم، لكن الشياطين صرفتهم فذاقوا البلاء، والهول، والنزاع، والصراع، والشقاء، وفي الآخرة مثل ذلك إلا من شاء الله، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].
ثم زاد في البيان: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22] أو للجن؟ ( لَكُمْ).
فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا [البقرة:22] أضداداً تضادونه بها. هذا موقف عظيم، هذه الفاء ما أجملها، أي: فبناءً على الذي عرفتم لا تجعلوا لله أنداداً، والحال أنكم تعلمون أن الأصنام، والقبور، والأشجار، والأحجار، والملائكة، والرسل، وكل هذه مخلوقات لا تستحق العبادة.
قال تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، يدلك على هذا قول الله عز وجل: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ [يونس:31] سيدي عبد القادر ؟ لا والله؟ ماذا يقولون؟ اللَّهُ [يونس:31].
وقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ [العنكبوت:61] اليهود يقولون: عزير؟ والله ما يقولون. اليهود يقولون: عيسى؟ والله ما يقولون. من؟ اللَّهُ [العنكبوت:61]، يعلمون أو لا؟ يعلمون.
العرب جهال، ضلال، مشركون، يطلقون على هبل إله، وعلى العزى إله، وأما أهل الكتاب فعندهم علم، يستحي أن يقول: هذا إله، أبداً، يقول: هذا ولي، نبي، نتقرب به إلى الله عز وجل، وورث المسلمون هذا عنهم، فالمسلمون يؤمنون بأن الله هو الخالق، الرازق، المدبر، المحيي، المميت، لا عيسى، ولا أم محمد، ولا فاطمة، ولا الحسين ، لا يستطيع أحد أن يخلق ذبابة أبداً، هذا إيمان كامل، الله يحيي ويميت، ولكن كيف عبدوهم؟ من طريق قالوا: نتوسل بهم إلى الله ونستشفع. فأعطوهم ما هو لله، وتركوا الله بلا شيء، وقالوا: نحن متوسلون فقط.
مما هو مضحك ومبكي لتعلموا علماً يقينياً، كان عندنا أحد المؤمنين توفاه الله، وقد جالسنا وجلس في الدرس أكثر من عشرين سنة، قال: أنا أكنت أذبح للسيد حمزة ، وكانوا يذبحون لـحمزة بن عبد المطلب شهيد أحد رضي الله عنه وعليه السلام، وهذا من أهل المدينة، وهذا قبل دخول دولة التوحيد، ثبتها الله وأطال أيامها، وقبلها لا تسأل، أيام كان الشرك عاماً في العالم الإسلامي، لا توحيد، لكن لما جاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاربة الشرك قال لنا: نذهب في الليل ونذبح، فهذا استشفاع أو توسل بسيدي حمزة ليقضي الله حاجاتنا. قلنا له: يا حاج مسعود ! أنت الآن بطلت ما تذبح لسيدي حمزة اذبح لنا طلبة العلم كبشاً. قال: ما أستطيع. أنت كنت كل عام تذبح كبشاً في الخفاء بالليل للشيطان، وحاشا حمزة ، حمزة قال: اذبح لي! أوصاه؟! ينتفع بهذه الذبيحة؟ حمزة سيد الشهداء، لكن أنت تذبح للشيطان والآن عرفت، قال: والله عرفت، لا إله إلا الله، الآن لن أذبح عصفوراً لمخلوق. قلنا له: إذاً هيا اذبح لنا أيضاً نحن. قال: ما أقدر، وما عندي نفس.
إذاً: ماذا فعلنا؟ جعلنا لله أنداداً، ومن أراد أن يفهم النِّد لا النَّد، النَّد هذا عود هندي، النِّد لا النَّد، فهذا عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، في حلقة كهذه -وتلك أطهر فيها رسول الله وأصحابه- وقف هناك في طرف الحلقة أراد أن يعلم، من باب إياك أعني واسمعي يا جارة، فوقف: ( أي الذنب أعظم عند الله يا رسول الله؟! فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أن تجعل لله نداً وهو خلقك )، أن تجعل لله ماذا؟ نداً، ليس معناه تجعل رباً كالله عز وجل، من أنت؟ ذبابة ما تصنعها.
المقصود: لا تجعل لله شريكاً تناد به الله، بدلاً أن ترفع كفيك إلى الله ترفعهما إليه، بدلاً ما تحلف بالله وتعظمه باليمين تحلف بهذا وتعظمه، بدل أن تذبح لله تتقرب إليه بقربان وتذبح لهذا القبر، بدل أن تنذر لله: لك يا رب علي أن أفعل كذا إن فعلت لي كذا، تقول: يا سيدي فلان! إذا حصل لي كذا وكذا أعمل لك كذا وكذا. والمرأة تقول: يا سيدي عبد القادر ! يا سيد مبروك ! يا فلان! إذا تزوجت بنتي ورزقها الله بزوج صالح أشتري لك كذا. كانوا يشترون الشموع، فيجعلونها على الضريح طول الليل تشتعل، تقرباً إلى السيد، واستشفاعاً به إلى الله؛ ليقضي الحاجات، لا إله إلا الله.
إذاً: عرفتم يا بني آدم أو لا؟
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، البلاء والشقاء والعذاب الأبدي في الآخرة وعذاب الدنيا.
اعْبُدُوا [البقرة:21] من؟ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22]، إذاً: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، لو قلت لمن يعبد البدوي: البدوي خلق .. رزق .. يحيي؟ يقول: لا لا لا.. هذا مخلوق، إذاً لم تعبده؟ قال: أستشفع به وأتوسل. فأصبحوا يعلمون أو لا؟ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنهم لا يخلقون، ولا يرزقون، ولا يحيون، ولا يموتون، ولا يعزون، ولا يذلون، ولا يعطون، ولا يمنعون، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ [النحل:21].
وما الذي جعل هذه الأمة تقع في هذا الضلال؟ لأنهم خدعوهم، وقالوا لهم: القرآن لا يفسر، الذي يفسر القرآن إذا أصاب أخطأ، وإذا أخطأ كفر. صوابه خطأ، وخطأه كفر.
إذاً: ماذا نصنع بالقرآن؟ نقرؤه على الموتى فقط، ومن إندونيسيا إلى موريتانيا إذا مات الميت يأتون بالطلبة يقرءون عليه، فإذا كان غنياً طول الليل، ثم لكلٍ ألف ألف ريال، حتى في سوريا هناك مكتب يسمى نقابة، إذا توفي لك أبوك .. أخوك .. زوجتك دق التلفون: نريد قارئاً؛ هذه الليلة عندنا وفاة، فيقول: من أصحاب مائة ليرة أو خمسين؟ يعني: هذا الميت غني أو فقير؟ إذا كان فقيراً خمسين ليرة، وهذا مثال! أما الواقع فهو كما تعرفون، فالقرآن لا يقرأ إلا على الموتى، ولا يجتمع اثنان قط يقول له: أسمعني كلام ربي ماذا فيه. وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر