وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة:142-144].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم الجائزة الكبرى التي تفوزون بها في هذا المجلس، اذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، هذه لكم.
وأخرى: يقول الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).
وثالثة: هي أن المرء إذا صلى في المسجد وجلس ينتظر الصلاة الأخرى -كانتظارنا هذا لصلاة العشاء- فإن الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له .. اللهم ارحمه، اللهم اغفر له .. اللهم ارحمه، ما لم يحدث، أي: ينتقض وضوؤه، إلى صلاة العشاء.
لو أردت أن تستخدم ملكاً واحداً يصلي عليك ساعة ونصفاً فكم ستعطيه؟ ما تستطيع، وها أنت بفضل الله في ملائكة تحف بالحلقة وتصلي علينا وتدعو لنا، غفل عن هذا المؤمنون وجهلوه، فهجروا بيوت الله وملئوا بيوت الباطل وحرموا هذا الهدى، وويل للذين كانوا سبب هذه الفرقة وهذا البعد عن دين الله وبيوت الله.
اعلموا أن القبلة حيث نستقبل مكاناً فيصبح قبلتنا أمامنا، لما فرض الله عز وجل على نبينا وعلينا معه الصلوات الخمس؛ هذا الفرض تم في الملكوت الأعلى، الصلوات الخمس فرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته في الملكوت الأعلى، أي: فوق دار السلام، إذ تمت له رحلة من الأرض إلى السماء، ووصل إلى مكان فتأخر جبريل وتقدم هو صلى الله عليه وسلم، فجبريل تأخر وهو الدليل، فقال: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ [الصافات:164]، وتقدم الرسول صلى الله عليه وسلم وحده وناجاه ربه وكلمه وفرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس.
متى هذا؟ كان في السنة العاشرة من البعثة، عرج بالرسول إلى السماء وفرضت عليه الصلوات الخمس فنزل وصلى به جبريل عليه السلام، علم جبريل الرسول كيف يصلي، وعلمه أوقات الصلوات الخمس حول الكعبة، جبريل يصلي والرسول وراءه، فعلمه الصلاة وأوقاتها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى الكعبة وهو -فيما يبدو- ما بين الركنين: الركن اليماني وركن الحجر الأسود، فصلى ثلاث سنوات، فلما هاجر إلى المدينة استقبل بيت المقدس، فصلى هو والمؤمنون والمؤمنات قرابة السبعة عشر شهراً وهم يستقبلون بيت المقدس.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع إلى تحويل القبلة إلى الكعبة، كان يود ويرغب كما سيأتي بيان ذلك في قول الله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، واليهود فرحوا لأن الرسول يستقبل قبلتهم، وكانوا بالمدينة يكونون ثلاثة أرباعها.
إذاً: فلما تطلع إلى أن يستقبل الكعبة بيت الله أنزل الله تعالى هاتين الآيتين، وهو إخبار بما سيكون: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ [البقرة:142]، والسفهاء: جمع سفيه ضد الرشيد، والمراد من السفهاء هنا اليهود والمنافقون وضعفة الإيمان ممن لم يتمكن الإيمان من نفوسهم.
سيقولون عندما تتحول القبلة كذا وكذا، أخبر تعالى بهذا قبل حدوثه حتى لا يحصل للرسول والمؤمنين اضطراب وتألم مما يسمعون من المنافقين واليهود والمشركين، سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]، القبلة التي كانوا عليها هي بيت المقدس، ثم نزلت الآية: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].
قيل: هذه الآية -آية التحول- نزلت في مسجد بني سلمة الذي يعرف الآن بمسجد القبلتين، وهو جائز؛ إذ قد يكون دعي لطعام عند أحد المؤمنين هناك، فجاءت صلاة الظهر فخرج وصلى بهم ركعتين، ثم أعلم بتحويل القبلة فاستداروا كما هم عليه إلى الكعبة النساء والرجال، وهذا مروي وجائز.
وبعض الروايات تقول: الآيات نزلت والرسول هنا على المنبر يخطب الناس؛ حتى إن بعض الصحابة لما قرأ الرسول هذا عرفوا أن القبلة ستتحول، فقالوا: هيا بنا نغتنم الفرصة فنصلي فنكون أول من صلى إلى القبلة، وتم لهم ذلك ففازوا بالأولية والأسبقية.
إذاً: فهذه الأقاويل زلزلت أقدام المؤمنين واضطرب الناس، فهم يحسنون كيف يعيبون، يقولون: كيف يستقبل بالأمس بيت المقدس والآن يتحول؟ ما سبب هذا التحول غير عدم رأي وعدم بصيرة؟ هذا من الجائز أن يترك القبلة بالمرة والعياذ بالله، هذا الذي أخبر به تعالى قبل أن يكون وكان كما أخبر.
وبهذا قطع ألسنتهم وهدأ من روع واضطراب المؤمنين، ألسنا بالمؤمنين؟ بلى، أليس الله بالعليم الحكيم؟ بلى، يهدي من يشاء؟ نعم، إذاً: أراد أن نستقبل بيت المقدس فاستقبلناه، ثم أراد أن يحولنا إلى الكعبة فتحولنا، وهذه هي طاعة الله وطاعة رسوله، فلم يبق مجال لمن يعترض أو ينتقد أو يقول ويقول.
قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142]، والصراط المستقيم هو سبيل الله الموصل بالسالكين إلى دار السلام، الصراط: الطريق الذي لا اعوجاج فيه، سالكه ينجو ويفوز ويسعد، وقد علمنا من سورة الفاتحة أن الصراط المستقيم هو الإسلام، من أسلم ظاهراً وباطناً، أسلم قلبه ووجهه لله واستقام على طاعة الله وطاعة رسول الله فهو ناج فائز، ما إن يتوفاه الله حتى يكون في دار السلام.
وهناك أمثلة: اليهود عليهم لعائن الله ماذا قالوا في عيسى ابن مريم؟ قالوا: ساحر، وقالوا: ابن زنا، وقالوا ما فيه من الأباطيل ما قالوا، هذا طرف فرط، والنصارى ماذا قالوا في عيسى ابن مريم؟ قالوا: ابن الله وهو الله وثالث ثلاثة مع الله، هؤلاء غلوا، وماذا قال المؤمنون المسلمون؟ قالوا في عيسى: عبد الله ورسوله، يكفيه أن يكون عبداً لله ورسولاً له، فانظر إلى الوسطية.
اليهود قالوا: عيسى ابن زنا وساحر ودجال وكذاب، وصرفوا الناس عن رسالته ودعوته، والنصارى الذين اتبعوه ما هي إلا فترة سبعين سنة وأفسدوا عليهم دينهم وقلبوا أوضاعهم وحولوهم إلى وثنيين يقولون في عيسى: هو ابن الله، ومنهم من يقول: هو الله وثالث ثلاثة مع الله، فأمة الإسلام أمة محمد صلى الله عليه وسلم قالوا في عيسى ما قال الله فيه: عبد الله ورسوله، فهذا مثال للوسط.
مثال آخر: فيما فرض الله على بني إسرائيل أن من قتل يقتل، لا دية ولا عفو، إن قتل فلا بد أن يقتل، وأما المسيحيون النصارى فعندهم أن من قتل لا تؤخذ دية منه ولا يقتل، يجب أن يعفى عنه! فانظر إلى الطرفين: اليهود أمروا بألا يقبلوا دية ولا يعفوا، لا بد أن يقتل، وهذا شرع الله فيهم، والنصارى أمروا بالعفو، فرض عليهم العفو، فمن قتل يعفى عنه، لا دية ولا قصاص، وأمة الإسلام أمة محمد صلى الله عليه وسلم مخيرة في الثلاثة: القتل والدية والعفو، إذا طالب أولياء القتيل بالقتل قدم لهم القاتل وقتل قصاصاً، وإن طالبوا بالدية وأعطيت لهم أخذوها، وإن شاءوا قالوا: عفونا لا نأخذ دية ولا نقتص ممن قتل أخانا أو أبانا، فانظر إلى الوسطية: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] أي: خياراً عدولاً.
فمن هنا -معاشر المستمعين والمستمعات- تتجلى كرامة هذه الأمة لو استقامت على منهج الله؛ لأن العدل بيننا وعندنا هو ذاك الذي يجتنب كبائر الذنوب والآثام، العدل بيننا من لا يغشى كبائر الذنوب ولم يأت الآثام، وليس معنى هذا أنه معصوم، هو محفوظ بحفظ الله، فإن زلت قدمه في يوم من الأيام وارتكب كبيرة وتاب توبة نصوحاً عاد إليه نوره وكماله الأول وما زال عدلاً.
فالذي شهدتم له بالخير فهو على خير وهو في الجنة، والذي شهدتم عليه بعدم الخير بالشر وجبت له النار؛ لأنكم شهداء الله في الأرض، وهذه بينت قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] .
وهذا نظيره ما علمتم من ( أن الله تعالى إذا أحب المؤمن أو المؤمنة ينادي جبريل عليه السلام: يا جبريل! إني أحب فلان ابن فلان فأحبه. فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماوات: إن الله يحب فلان ابن فلان فأحبوه. فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض )، لا يراه عبد صالح إلا أحبه.
إذاً: بيننا من هم محبوبون ومن الناس من لا يحبهم بل لا يشهد لهم بخير، فهل غير العادل تقبل شهادته؟ ما تقبل، الآن في المحاكم إذا استدعى الأمر شاهدين فلا بد أن يكونا عدلين، وإلا فما يعطي القاضي حكماً بمجرد شهادة، لا بد من شهادة عدل، فمن هنا نقول: إذا شهد المؤمنون الصالحون لعبد مؤمن فقولوا: وجبت وجبت له الجنة، وإذا شهد أولئك الصالحون المؤمنون الأتقياء على شخص بالشر فقولوا: وجبت له النار. أما الذين ليسوا بعدول فشهادتهم لا تقبل ولا يعول عليها، ففي المحاكم يرفضونها ولا يقبلون شهادة معروف بالفجور معروف بالظلم والشر والفساد وبالخبث والشرك، ما تقبل شهادته.
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا حقاً عدولاً، ما رأت الدنيا أعدل ولا أرحم من أولئك الأصحاب في الأمم السابقة واللاحقة، أما بعد مرور هذه القرون المتتالية ففي هذه الأمة عدول وما أكثرهم وفيها سفهاء وما أكثرهم، فأحببت أن تعرفوا أن العدل هو الذي تقبل شهادته، ذاك المؤمن المستقيم على منهج الله الذي لا يعرف الكذب ولا قول الزور ولا شهادة الزور ولم يغش كبائر الذنوب، فهذا إذا أعطى شهادته لا يعطيها إلا لمن عرفه وعرف ظاهره وباطنه، وقال: فلان عبد صالح فاشهدوا له بالصلاح.
بلغنا أن أعمالنا تعرض عليه؛ إذ الأعمال تعرض على الله يوم الخميس، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الإثنين ويوم الخميس، فسئل: لم تصومهما؟ قال: أما يوم الاثنين فهو يوم ولدت فيه. وبعث فيه وهو يوم توفي صلى الله عليه وسلم فيه، وأما الخميس ففيه تعرض الأعمال على الله سبحانه وتعالى.
إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم يشهد علينا، يشهد على أنه بلغنا فقضى ثلاثاً وعشرين وسنة وهو يبلغ هذه الدعوة، وحملها رجاله وأصحابه ونشروها في الشرق والغرب، إذاً: فالرسول يشهد على هذه الأمة بأنه بلغها ما أمر بإبلاغه وأوصل ما أمر أن يصل به إليها، ولنذكر أن شهادة النبي صلى الله عليه وسلم فيها درجة عالية ومستوى راق، كون محمد صلى الله عليه وسلم يشهد على هذه الأمة، وهو الذي يقول الله عز وجل له: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5] وعد صادق، فيقول: كيف أرضى وواحد من أمتي في النار! فلهذا فإن أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله، أي: الموحدون لله عز وجل في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته لم يعرفوا له شريكاً في قلوبهم ولا في حياتهم؛ هؤلاء من ارتكب منهم كبيرة فزج به في عالم الشقاء في النار بشروه أنه لا يخلد فيها؛ لأنه تابع لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: كيف أرضى وواحد من أمتي في جهنم؟ فهذه الشفاعة التي يخرج بها الموحدون من النار.
أما الذين ماتوا على الشرك -والعياذ بالله تعالى- والكفر فكونهم من أمة محمد نسباً لا قيمة لذلك، وقد عرفتم أن للرسول شفاعات، منها أنه يشفع لمن دخل النار من أهل التوحيد ويخرج منها.
وبعض المفسرين يقولون في قول الله تعالى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] أي: لكم. ولا حاجة إلى هذا، ما دام أنه أخبر تعالى بقوله: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، فأن نقول: ويكون الرسول لنا شهيداً فكأننا نرد على الله عز وجل، وهذا اللفظ موجود في التفاسير، لكن الحقيقة ما أخبر الله تعالى به، يشهد رسول الله على أمته أنه بلغها.
وأمم ما آمنت به صلى الله عليه وسلم، هذه الأمم المعاصرة لنا؛ إذ الرسالات ختمت برسالته والنبوات ختمت بنبوته، فما بعده من رسول ولا نبي، إذاً: فالبشرية كلها الرسول شاهد عليها، فلهذا لا نحتاج إلى أن نقول (عليكم) بمعنى (لكم)، فهذه الأمم من اليهود والنصارى والصابئة والبوذيين والمشركين من عهده صلى الله عليه وسلم من هو نبيهم؟ من هو رسولهم؟ هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، فهو يشهد على أنه بلغ اليهود والنصارى والمجوس والصابئة والمشركين، لا يشهد لهم بل عليهم، أما العدول الخيار فهم يشهدون لغيرهم وعلى غيرهم.
هذه كمالات هذه الأمة، ومع الأسف خانوها وغشوها وخدعوها وأبعدوها عن كل سبيل لنجاتها وسعادتها، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143] أي: قضية اختبار وامتحان، وقد مر قوله تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2] هذا الحسبان باطل، لا بد من الافتتان، لا بد من امتحان لا بد من الاختبار حتى يصفو النبع وتطيب النفس.
فانظر ماذا حدث في تحويل هذه القبلة، والله هو الذي حولها، فهو الآمر والمشرع للامتحان والاختبار، إذ قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143]، وبالفعل أصيب المنافقون بمرض فصاحوا وضجوا، وضعاف الإيمان كذلك انتكسوا؛ فقالوا ما قالوا، وتعرفون البشر في مجالس في بيوتهم، يقولون: انظروا ماذا حدث! كيف تحولت القبلة؟ بالأمس كان هنا واليوم هنا وغداً يكون في جهة ثالثة! فاضطرب الناس وثبت أهل الإيمان واليقين وزادهم الله ثباتاً ويقيناً، والضعاف المهزولون انتكسوا ومنهم من ارتد والعياذ بالله.
وهذه التي تعرف الآن بالطابور الخامس، ويستعملها الغرب وخاصة اليهود بأبشع صورة، وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً [البقرة:143] تلك التحويلة من جهة إلى جهة إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143]، الذين هداهم الله لحبه وطاعته والإيمان بلقائه والاستقامة على منهجه هؤلاء ما تزعزعوا ولا تحركوا ولا تألموا أبداً، فهم يقولون: إن شاء حولنا يومياً إلى جهة، أليس ربنا ونحن مأمورون بطاعته؟ يمتحننا كل شهر فيحولنا إلى جهة فنتحول، أطعناه في كل شيء، لا في قضية القبلة فقط.
يقول تعالى: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143] عز وجل، وهم أبو بكر وعمر وأصحاب الرسول والعشرة المبشرون بالجنة وأمثالهم في المدينة، وقد صاروا أكثر من ثلاثين ألفاً.
إذاً: فهذه الصلاة هي الإيمان بهذه الآية الكريمة، فهل يقف عبد بين يدي الله يبكي، يركع ويسجد ويعفر وجهه في التراب ولا يكون مؤمناً؟ اللهم إلا إذا كان ينافق، فقلبه كافر، أما عبد يقيم الصلاة ويسجد بين يدي الله وفي اليوم خمس مرات فكيف لا يكون مؤمناً؟ فلهذا أطلق على الصلاة بهيكلها لفظ الإيمان، بهذه الآية الكريمة: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143].
إذاً: فالذين ماتوا وهم يستقبلون بيت المقدس قبل تحويل القبلة صلاتهم مقبولة صحيحة سليمة لا تشكوا فيها، وصلاتكم أنتم أيضاً يا من ما زلتم وتحولتم إلى الكعبة؛ صلاتكم في العام الماضي والأشهر الماضية مقبولة، ويكفي أن يقول الله تعالى لهم: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143].
أعيد فأقول: الصلاة إيمان، الله سماها إيماناً، فتارك الصلاة لا إيمان له، تارك الصلاة كافر.
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ [البقرة:143] كل الناس لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143]، إلا أن أولياءه هم أولى برحمته ورأفته، بخلاف أعدائه، إلا أن رحمة الله واسعة، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله خلق مائة رحمة كل رحمة ملء ما بين السماء والأرض، قسم منها رحمة بين الخلائق بها تعطف الوالدة على ولدها وبها يشرب الوحش والطير الماء وبها تتراحم الخلائق، فإذا كان يوم القيامة قصرها على المتقين وزادهم تسعًا وتسعين )، جزأ تعالى الرحمة إلى مائة جزء، وادخر لأوليائه تسعة وتسعين في الجنة، ورحمة واحدة تتراحم بها الخليقة كلها، حتى إن الفرس لترفع حافرها مخافة أن تطأ مهرها أو فلوها، هذه الظواهر تشاهدونها في الحيوان.
والأم من بني آدم يكون الحمل في بطنها، ما إن تأتي ساعة الطلق والوضع والولادة حتى يتحول دمها الأحمر إلى لبن أبيض خالص ناصع حتى يرضع هذا الطفل من هذا اللبن، اللبن هذا كان دماً خالصاً، فانظر إلى تلك الرحمة الإلهية التي أودعت في الأمهات كيف تتحول إلى لبن!
انظر إلى العصفور كيف يزق أفراخه! انظر إلى الدجاجة كيف تزق أفراخها وكيف تطعمهم! انظر إلى العنز كيف تصنع مع وليدها، تميل له وتنزل حتى تكاد تقع على الأرض وتناغيه بصوت خاص.
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! إن الله قسم الرحمة إلى مائة قسمة، ادخر لنا -أيها المؤمنون والمؤمنات- تسعة وتسعين جزءاً، وجزء واحد تتراحم الخليقة كلها به، إذاً: حقاً إن الله رءوف رحيم، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143].
فنقول: لا تصح الصلاة إلى غير القبلة التي شرعها الله، فمن عزف عنها أو تكبر أو ارتفع أو أبى أن يستقبل بيت الله فصلاته باطلة بالإجماع، إذ من شروط صحة الصلاة: الطهارة واستقبال القبلة، لكن إذا عجز العبد عن استقبال القبلة، كمريض على سريره لا يستطيع أن يتحول، فهذا يكون رخصة له فيصلي حيث أمكنه، أو مسجون، أو مكبل بالأغلال، أو مكتوف في يديه ورجليه ما يستطيع أن يستقبل القبلة فيصلي حيث أمكنه.
وأما جاهل بالقبلة ما عرفها، وجد نفسه في صحراء أو في طائرة أو في باخرة؛ فإنه يجتهد فحيث ترجح عنده أن الكعبة هنا اتجه، ولو صلى وجاء من قال: إنك صليت إلى غير القبلة فليس عليه أن يعيد صلاته، تكفيه صلاته الأولى، فإن صلى ركعتين أو ثلاثاً إلى غير القبلة ظناً أن القبلة هنا وجاء من قال: يا فلان! استدر يميناً أو شمالاً، فإنه يستقبلها وصلاته صحيحة، والذين كانوا في مسجد قباء كانوا في صلاة الصبح، فجاءهم رجل صلى العشاء مع رسول الله هنا، فأعلمهم بأن القبلة قد تحولت إلى الكعبة، فاستداروا كذلك بعدما صلوا ركعة من صلاة الصبح، وأتموها إلى الكعبة.
أما الذي يتعمد عدم استقبال القبلة فبالإجماع صلاته باطلة، أما الذي صلى ولم يجتهد فصلى كما يرى؛ فهذا إن صلى إلى غير القبلة فصلاته باطلة، فلا بد للمؤمن أو المؤمنة عند القيام لله في الصلاة أن يتحرى القبلة ما استطاع، فإن وفق وصلى إليها صحت صلاته، وإن لم يوفق وصلى إلى غيرها صحت صلاته، ولا يعيدها، وهذا من رحمة الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143].
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144] كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرغب في أن يستقبل الكعبة ويود ذلك، فكان ينتظر الوحي متى ينزل، والوحي ينزل من السماء، فكان يرفع رأسه انتظاراً لجبريل متى ينزل والله عز وجل به عليم، فأخبره بما كان عليه: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144] هذا وعد الله: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144]، إذاً: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ [البقرة:144] أيها المؤمنون فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].
فالذي نريد أن يفهمه المستمعون والمستمعات أن الذي يصلي في المسجد الحرام والكعبة أمامه لا يصح أن يصلي منحرفاً عنها، لا بد أن يستقبل الكعبة وإلا فصلاته باطلة.
ومن كان خارج المسجد من أهل مكة وهم قريبون من الكعبة قد يشاهدونها وهم على سطوحهم، فهذا أيضاً يجب أن يتجه شطرها، والذين في الآفاق يكفيهم الجهة التي فيها الكعبة.
ثم هذه الكعبة كانت قبلة الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، كانت قبلة إبراهيم وموسى والأنبياء، فلم -إذاً- حول الله عز وجل رسوله والمؤمنين إلى بيت المقدس؟
للامتحان، للاختبار، فلهذا كان ذلك التحول من أجل امتحان المؤمنين واختبارهم ليبقى المؤمن الصادق وينهزم الكاذب كالمنافقين واليهود.
إن كنا في اليابان أو الصين أو كنا في كندا وأمريكا، حيثما كنا نولي وجوهنا شطر المسجد الحرام.
وها نحن نشاهد أيضاً العالم الإسلامي قد هجر القرآن إلا من رحم الله عز وجل، فالبلاد التي لا تطبق شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولا تطبق شرع الله الذي حواه كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أما هجرت القرآن؟ بلى هجرته، والجزاء معلوم عند الله، فلهذا نسأل الله أن يتوب علينا وعلى المؤمنين والمؤمنات.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر