وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:132-134] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم تلك البشرى النبوية التي أكرمنا الله بأن أصبحنا من أهلها، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فأبشروا بما بشرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرى أيضاً هي قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).
إذاً: بعدما تلونا آيات الكتاب هيا نتدارس تلك الآيات:
إنها لا إله إلا الله، إنها الملة الحنيفية، الملة الإبراهيمية، وهي: أن نعبد الله وحده ولا نعبد معه غيره، هذه هي التي وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب أيضاً، ويعقوب هو حفيد إبراهيم، إذ إبراهيم عليه السلام ولد إسحاق، وإسحاق ولد يعقوب.
وإسحاق ويعقوب بشرى الرحمن الرحيم لـسارة وإبراهيم، في قصة ضيوف إبراهيم لما دخلوا عليه وقام بإكرامهم: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:26-27]، وامرأته قائمة ورأوها تعمل وتقدم الطعام فبشروها، فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [الذاريات:29]، كيف ألد وهذا بعلي شيخاً؟ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71].
التبشير بإسحاق من باب المألوف، المرأة موجودة والفحل موجود وإن كان شيخاً كبيراً وكانت المرأة عجوزاً لا تحيض ولا تحمل، فالله على كل شيء قدير، لكن البشرى أن هذا المولود الذي يولد لكما سيكبر ويتزوج ويلد مولوداً واسمه يعقوب، هذا ما يقدر عليه إلا الله، فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، إذاً: هذا يعقوب الذي يلقب بإسرائيل.
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ [البقرة:132] وهي: الموت على لا إله إلا الله، لا تعترفوا بألوهية كائن من كان إلا الله، ولا تعبدوا كائناً من كان إلا الله، فوصوا بها أولادكم وبناتكم ونساءكم كما وصى بها إبراهيم.
وها هو ذا يعقوب عليه السلام وقد حضره الموت، والصالحون قد يرون في المنام أنهم يموتون ولا حرج، الرؤيا الصالحة جزء من النبوة.
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ [البقرة:132] يناديهم: يا أولادي! إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132].
ومعنى: (اصطفى): اختاره لكم واجتباه وانتقاه من بين الأديان الهابطة الباطلة التي هي بدع وضلالات وخرافات، اصطفى لكم الدين الحق، إذاً بناء على هذا: الزموا هذا الدين ولا تتخلوا عنه أبداً، حتى يوافيكم الموت وأنتم مسلمون؛ لأن من عبد ثم انقطع كان كمن لم يعبد، لو عاش دهراً يعبد الله وقبل موته انقطع ضاع ذلك كله ولم يثب عليه ولم يؤجر أبداً؛ فلهذا لا بد من مواصلة العبادة الحقة القائمة على أساس التوحيد وعلى أساس ما شرع الله وبين من تلك العبادات حتى الوفاة.
وللعلماء في هذا مثل معقول جداً، وهو: إذا توضأ أحدنا وأحسن الوضوء، وقبل أن يدخل الصلاة فسا أو ضرط فانتقض وضوؤه، هل ينفعه ذلك الوضوء؟ والله! ما ينفعه، انتهى، فكذلك العبادة إذا داخلها الشرك وهو الالتفات إلى غير الله رغبة فيه أو طمعاً أو خوفاً أو رهبة، فناداه أو استغاث به أو تملقه وتقرب إليه بشيء بطل ذلك الدين كله وما أثيب على شيء.
الدين العمل الذي تثاب عليه وتعطى الجزاء، وفيه معنى الذلة والخضوع لله، هذه العبادة أقوال وأفعال شرعها الله لنا وأمرنا بها، بل وألزمنا بها ووعدنا خيراً عليها أو شراً إن تركناها، هذه العبادات هي الدين، نعبده ويجزينا عليها ويثيبنا بها كالدَين بين الناس في هذا المعنى.
إذاً: اصطفى لكم الدين الحق، والدين الحق يعتمد على أمرين:
الأول: أن يكون الله هو شارعه ومقننه وواضعه.
والأمر الثاني: أن تؤديه على النحو الذي بين الله عز وجل، فإن زدت أو نقصت، قدمت أو أخرت بطل، ما أصبح صالحاً لتزكية النفس وتطهيرها.
آهٍ لو عرف المسلمون هذا، الدين الذي هو عبادة الله لن ينتج لنا نتاجاً طيباً ولن نسعد به في الدنيا ولا في الأخرى إلا إذا كان الله شارعه، الله منزله، والرسول صلى الله عليه وسلم مبينه ومفصله، فنأتيه كما أتاه الرسول ونؤديه كما أداه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا يتوقف على العلم والمعرفة، يتوقف على أن ندرس السنة والكتاب حتى نعرف الدين الصحيح من الباطل، حتى نعرف كيف نؤدي هذا الدين تأدية من شأنها أن تزكي أنفسنا وتطيبها وتطهرها، لا بد من العلم.
هذه وصية يعقوب، وقبلها وصية إبراهيم، ونحن نوصي أو لا نوصي؟ نحن ما من مؤمن ولا مؤمنة له أو عليه حق يبيت ليلة إلا ووصيته عند رأسه، هذه الوصية المتعلقة بالحقوق، إذا كان لك حقوق على آخرين أو كان عليك حقوق لآخرين ينبغي أن تكتبها، وهذا لا خلاف فيه، وأعظم من هذا إذا مرض الفحل واجتمع عليه بنوه وأهله فيوصيهم بوصية يعقوب لبنيه: (يا أبنائي) إن كانوا ذكوراً، (يا بناتي) إن كن إناثاً، (يا أولادي) إن كانوا ذكوراً وإناثاً، يقول لهم: إن الله أكرمكم بالإسلام واختاره لكم ديناً ووفقكم له فحافظوا عليه، فلا يمت أحدكم إلا وهو مسلم، ونكون قد ائتسينا بالصالحين من قبلنا، أما أن يوصي أولاده بكذا وكذا وكذا ويترك هذه الوصية فقد حاف وانحاز ولم يسلك سبيل الرشاد.
أقول: كلنا مهيأ للوفاة، فمن كان له بنون أو بنات أو أولاد واجتمعوا عليه وهو في سياقات الموت فليذكر هذه الوصية ويوصيهم: أوصيكم يا أبنائي أو يا أولادي أو يا بناتي أن تواصلوا دينكم وعبادة ربكم وإسلامكم لله حتى الموت، فإن الله أمرنا بذلك فقال: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
ونحن مأمورون بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، لا سيما عند سياقات الموت: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].
لأن الصالح هو الذي أدى حقوق الله كاملة ما بخسها ولا نقصها ولا ترك ركعة أو سجدة، كل حقوق الله، سواء كانت صياماً أو زكاة أو صلاة أو جهاداً، كل حقوق الله أداها وافية.
وأدى حقوق العباد كذلك، سواء كانوا كافرين أو مؤمنين، والكافر أيضاً تعيش معه أو هو جارك أو تعمل معه ثم لا تنصح له بأن هذا الذي هو عليه يقوده إلى عذاب أبدي خالد في النار، تقول: يا عبد الله! أنقذ نفسك، أنا ناصح لك، هذا حقك علي، هذا إذا كان كافراً؛ فكيف بالمؤمن وأنت تراه تاركاً للمعروف أو مرتكباً للمنكر؟ ما أديت حقه وافياً حتى تصبح في عداد الصالحين، لا بد من هذا.
وبعض الناس إذا قلت له: صل غضب، فدعه ينتفض ويغض، فغضبه وعدم رضاه لا يمنعك من أن تؤدي حقه عليك، هذا من حقه عليك، قل له: يا عبد الله! والله إن من حقك علي أن أبين لك وأن أنصح لك، ولتغضب أو لا تغضب، أنا مسئول، أنت عبد من عباد الله، نعيش مع بعضنا في هذه الحياة، واجبك علي أن أبين لك وأنصح لك، لم؟ قل: أريد أن أسجل في ديوان الصالحين، فإذا لم آمرك وأنهك فما أستطيع أن أسجل في ديوان الصالحين، فلا بد من هذا.
وإذا رفع العصا عليك فممكن أن نقول: إلا من أكره، لكن كونه يغضب أو ينتفض هذا ليس بضار أبداً، لو تبتسم وتقول له: هذا واجبك علي، أنا ملزم بهذا لأنك أخي، فوالله! ليعودن يبكي أو يضحك، ولا يغضب ولا يسخط.
وهكذا وصى بها إبراهيم بنيه ووصى بها يعقوب بنيه فقال: يَا بَنِيَّ [البقرة:132] يا أولادي! إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ [البقرة:132] الحق الإسلام الملة الحنيفية، فبناء على هذا يا أبنائي واصلوا العبادة، واصلوا الإيمان، واصلوا الطاعة؛ حتى لا تموتوا إلا وأنتم مسلمون.
وقد بينت لكم أن من عبد الله دهراً طويلاً ثم في آخر أيامه ترك العبادة هلك، اللهم إلا عبد ما زال يعبد الله وفجأة أصيب بشلل أو شيء منعه من العبادة، فهذا لا بأس عليه، أما أن يموت على ترك الملة والعبادة والطاعة فلن يستفيد مما مضى كله، وقد أمر الله تعالى المؤمنين المسلمين بما كان يأمر به إبراهيم أولاده: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
قال تعالى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ [البقرة:133]، فهل وصى باليهودية بنيه، أم هل وصى عيسى بالنصرانية؟ وهذا استفهام تقريع لهم وتوبيخ.
أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133] هذا يعقوب عليه السلام وحوله اثنا عشر رجلاً نبياً وهم الأسباط: يوسف ومن معه، اثنا عشر ولداً، وكل ولد تحته أولاد؛ فلذا يسمون بالأسباط، أصبحوا قبائل.
إذاً: يا من يدعون اليهودية ديناً وهي بدعة منتنة، يا من يدعون النصرانية ديناً وهي بدعة باطلة! هل كنتم حاضرين مع يعقوب لما حضرته الوفاة وهو يوصي أبناءه، هل وصاهم بيهودية أو بنصرانية؟ ما عرفوها ولا ذكروها، فمن أين جاءت هذه؟ ابتدعتموها بعد غياب ذاك النور الإلهي.
يقول تعالى لليهود والنصارى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ [البقرة:133] أي: حاضرين، الشاهد الحاضر، والشهيد كذلك، مأخوذ من المشاهدة.
إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ [البقرة:133] وليس شرطاً أنهم رأوا ملك الموت معه، ولكن علامة الموت معروفة تظهر على المريض، وهو يشعر بها.
إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ [البقرة:133] الاثني عشر فحلاً، منهم يوسف عليه السلام، ولعل أحفادهم وأولادهم بينهم أيضاً
إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133] أنا إذا مت الآن فمن تعبدون أنتم بعدي؟ استفهام.
أيها الإخوة! ما معنى (نعبد) سلمكم الله؟
معناه: نطيعه في ذلة وخضوع، إذا أمرنا بالصيام صمنا، وإذا أمرنا بالإفطار أفطرنا، إذا قال: جاهدوا جاهدنا، وإذا قال: اقعدوا قعدنا، العبادة: الطاعة مع غاية الذل والتعظيم، أما طاعة بدون تعظيم للمطاع فما هي عبادة، طاعة مع العنترية وعدم الاستكانة والذلة ما هي بعبادة أبداً، هي مجرد طاعة لا نسميها عبادة، طاعة مع عدم تعظيم المطاع وإجلاله وإكباره وتعظيمه ما تسمى عبادة، العبادة: هي الطاعة مع غاية الذل والتعظيم.
فيعقوب عليه السلام يقول لهم: يا أبنائي! ما تعبدون من بعدي إذا رحلت عنكم وتركتكم؟ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ [البقرة:133] أي: معبودك، ومعبود يعقوب هو الله تعالى، لا يشك في هذا عاقل.
نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة:133] أي: ومعبود آبائك. وسموهم: إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133]، وهل إسماعيل أبوه؟
إسحاق أبوه، لكن العم إذا ذكر مع الآباء يقال له: أب، نحن الآن إذا مررنا برجل كبير نقول: يا أبت! وليس في هذا عيب أبداً، ونقول للصغير: يا بني، والموازي لي في سني أقول له: يا أخي، هذه هي آداب البشرية، فكل من كان أكبر منك هو بمنزلة أبيك، ومن كان دونك هو بمنزلة ابنك، ارحمه كما ترحم ابنك، ومن كان مساوياً لك هو بمنزلة أخيك، عامله معاملة الأخ.
إذاً: فهذا يعقوب عليه السلام، ومن هو يعقوب؟ هذا من أنبياء الله ورسله، إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ [البقرة:133] أي: معبودك الذي تعبده أنت وهو الله الذي لا إله إلا هو.
وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة:133] من هم؟ قال: إِبْرَاهِيمَ [البقرة:133] أولاً، وَإِسْمَاعِيلَ [البقرة:133] ثانياً، وَإِسْحَاقَ [البقرة:133].
ثم إنا نقول: هذا الأمر العلم به لا ينفع والجهل به لا يضر، فلهذا ما نتعرض له، كون إسحاق أولاً أو إسماعيل أولاً، لا فرق بين هذا وذاك، وإنما لما قالوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133] فمعناه: أن إسماعيل كان قبل إسحاق حسب الترتيب اللفظي.
قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا [البقرة:133] لا ثاني له، أي: معبوداً واحداً.
أين اليهودية؟ قل لليهود والنصارى: هذا جدكم، هذا إسرائيل عليه ألف سلام يوصي أولاده ويسألهم ويستنطقهم، فهل قالوا: إنهم يهود أو نصارى؟ قالوا: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]، فكيف أصبح الدين -إذاً- ثالوثاً؟ على كل حال القرآن بكَّتهم وأخزاهم وأذلهم، ولكن لا يريدون أن يعترفوا بهذه الحقيقة؛ ليعيشوا على باطل اليهودية والنصرانية لتأكلهم جهنم، وإلا فوالله! ما عندهم ما يعتمدون عليه أبداً في صحة بدعتهم، لا يهودية ولا نصرانية، قال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، وهم مشركون.
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ [البقرة:134] من خير أو شر، وتجزى بالخير كما تجزى بالشر.
وَلَكُمْ [البقرة:134] أنتم أيضاً مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134]، معنى هذا: ما هناك حاجة إلى أن يتشبث اليهود بدين سموه يهودية، ولا أن يتشبث النصارى بدين سموه المسيحية أو النصرانية، الرب واحد لا إله غيره ولا رب سواه، الذي أرسل موسى وهارون وأرسل عيسى، ونبأ إبراهيم ويعقوب وإسحاق هو الله، ها هو ذا تعالى قد أنزل كتابه وبعث رسوله، أي عذر لكم أن تتركوا الإسلام؟ بأي منطق أو حجة أو عقل؟ أنتم تعبدون الله أم لا؟ عبدتموه دهراً، فأنزل كتابه وبعث رسولاً وأوقف تلك العبادة كاملة ووضع شرعاً جديداً وقانوناً جديداً، فهل من العقل أن نقول: لا ونتشبث بالماضي؟
من الأمثلة القريبة المعقولة -لو يفهمونها- أنا نقول: الدولة سنت قانون كذا وألزمت الشعب به، لا فرق بين الغني والفقير والكبير والصغير لا بد من تنفيذ هذا القانون لصالح الشعب والأمة، بعد عشر سنين أو عشرين سنة نسخته وأبطلته ووضعت غيره، هل يستطيع مواطن أن يقول: أنا أعمل بذلك القانون الماضي؟
أسألكم بالله: لو يتشبث مواطن ويقول: لا، هذا كان قانوناً شرعته الدولة، وهو يعلم أنه نسخ وأبطل العمل به ولم يصح أبداً أن يعمل به مواطن، فالذي يعمل به هل يقال له: عاقل؟
الدولة سنت قانوناً في المال أو في غيره، وعمل به الشعب سنة أو سنتين أو عشر سنوات، ثم بدا لها أن من المصلحة إيقاف هذا القانون واستبداله بقانون آخر أنفع للشعب، وعرف المواطنون هذا وأخذوا يطبقون الجديد، لو قال قائل: أنا أعمل بهذا القديم وأصر على ذلك فكيف ينظرون إليه؟ يرونه أحمق، ويؤدبونه ويقهرونه ويذلونه حتى يخضع للقانون الجديد، ولا يسمح له أن يقول: لا، ذلك قانون شرعه الحاكم، فهذه الصورة واضحة.
ولذلك نقول: يا يهودي أو يا نصراني أو يا بوذي! ما دمت تؤمن بالله وتشريعه وتقنينه وإرسال رسله؛ فها هو ذا تعالى الذي أرسل موسى وأرسل عيسى أرسل محمداً وأبطل ما كان، وجاء بقانون جديد وكتاب جديد، فكيف تؤمن بالكتب وبالرسل ولا تؤمن بهذا؟ هذه مهزلة؛ ولهذا فكفرهم عفن، ما له أبداً قيمة، نعم لو كانوا ملاحدة لا يؤمنون بالله فهذا أمر آخر، لكن أنت تؤمن بالله وبرسله وتعتقد أنك على دينه وسميته باليهودية أو النصرانية، وجاء الكتاب العظيم والرسول الكريم فبين أخطاءكم ومفاسدكم وما أنتم عليه من البدع والضلالات ونسخها بما هو النور والهداية، فبأي منطق أو ذوق تقول: نتمسك بديننا؟ إذاً: ما تريدون الله ولا الدار الآخرة، أصبحت المسألة قبليات وعصبيات، يقال: نتمسك بديننا، فهذا دين من؟ أليس هذا دين البشرية كلها؟ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، والرسول يقول له ربه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158] هل استثنى الله شعباً أو أمة، أبيض أو أسود؟ كلمة (الناس) تشمل البشرية كلها، ما بعث للعرب فقط ولا للعجم فقط ولا لأهل إقليم، كانت الرسل تبعث في أممها بحسب الأحوال والظروف، والله العليم الحكيم، وقد علم الله أن يوماً سيأتي تصبح البشرية فيه كلها كأنها إقليم واحد، والآن ارفع صوتك في آلة من الآلات والعالم يسمع، إذاً: ما هناك حاجة إلى أن يبعث في كل إقليم رسول ما دامت الدعوة تصل في يومها.
فنقول: آمنا بالله .. آمنا بالله .. آمنا بالله، سبحان الله العظيم! أرسل محمداً إلى الأبيض والأسود وإلى الناس كافة لعلمه بما سيقع وما يوجد في الكون من هذه الآلات والاتصالات، حتى يصبح العالم وكأنه إقليم واحد، وأما القرون الماضية فأهل كل إقليم منقطعون في إقليمهم، حتى إن فيهم من يعيش ثمانين سنة أو مائة سنة ما يخرج من ذلك المكان، ولا يشاهد رجلاً من إقليم آخر؛ لانعدام الاتصالات.
فعلم الله عز وجل ما سيكون فبعث رسولاً واحداً للبشرية كلها، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، ما استثنى أحداً، وتحقق هذا، ومن أراد نجاته من عذاب الخلد بعد نهاية هذه الحياة فهذا هو سبيل النجاة، يؤمن بمحمد رسولاً وبالقرآن كتاباً ويعبد الله بما جاء به الكتاب والرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ [البقرة:134] فما سبق من باب البيان والتوضيح وإيقاع الحق في موقعه، وإلا فدعنا منهم فقد مضوا، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [البقرة:134]، وهانحن أمام وحي جديد وتنزيل وكتاب ورسول وقانون وشريعة، فلم نتشاغل بالماضي؟ أما نريد أن نسعد ونكمل في حياتنا في الدنيا والآخرة؟
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:134] لها ما كسبت تجزى به، أم أن هناك من لا يجزى بكسبه؟ لا يوجد إلا مجنون، وإلا فكل ذي عقل سيجزى بكسبه خيراً أو شراً.
لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134]، هل يسأل اليهودي أو النصراني عما كان يعمل الماضون؟ ما يسأل عنه أبداً، ما هو بمسئول، قد يسأل المرء عن عمل عمله هو، من نشر بدعة وعلم الناس باطلاً فكل الذين عملوا به هو يسأل عنه؛ لأنه كسبه، من دعا إلى ضلالة، من دعا إلى فتنة، من دعا إلى باطل واستجاب الناس له، فكل كسبهم هو يجزى به، وهم كذلك يجزون به، ولكن بما أنه هو الذي نشر هذا الباطل فسوف يحاسب ويجزى به.
وقوله تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:134] كقوله: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر:18]، الوازرة: الحاملة للوزر، والوزر هو حمل الذنوب والآثام، وقد بين هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدق صورة، حين توضع الموازين في ساحة فصل القضاء للحكم بين الخلائق، ويجيء الرب تبارك وتعالى ليحكم بين عباده، يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الأم توضع حسناتها في كفة الميزان وسيئاتها في الكفة المقابلة، ويستوي الوزن، فتأتي لابنها وتقول: أي بني! لقد علمت أني كنت لك خير الأمهات، فيقول: نعم يا أماه. فتقول: أريد حسنة فقط من حسناتك ترجح بها كفة حسناتي، فيجيبها الولد بقوله: أي أماه! أعلم أنك كنت خير الأمهات لي ولكن نفسي نفسي، إذا أعطيتك حسنة فرجحت كفتك سأدخل النار، ويأتي أيضاً الابن إلى أبيه والأب إلى ابنه: يا أبي! يا بني! يطلب حسنة واحدة فما يتحقق ذلك أبداً، وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر:18]، وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر:18]، ولو كان أماً أو أباً، ما تجد أبداً من يساعدك، ومن يحمل معك.
إذاً: فمن الجد ومن النصح للنفس أن نترك ما كان عليه الأولون من ضلالة أو هداية، ولنعمل على هداية أنفسنا وإصلاحها وإسعادها، لا نشتغل بالماضي ونعتز بما ليس بعز، هذه هداية الله عز وجل لعباده.
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134]، وهذا الذي ينبغي أن نعيش عليه ونذكره، نحن نعتز بآبائنا وأجدادنا وقبائلنا ومذاهبنا وطرقنا، فينبغي أن نعمل على هداية أنفسنا وإنقاذها، لا ننظر إلى الماضي كما كان، فهل أخذنا بهذه الهداية الإلهية؟
نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لسلوك سبيل الرشاد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر