وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بتلكم الجوائز التي جاءت على لسان رسولنا صلى الله عليه وسلم:
الأولى: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).
والثانية: أن من صلى صلاة المغرب وجلس يذكر الله حتى صلى العشاء فالملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث، فإن أحدث وانتقض وضوءه خرج للوضوء وتركت الملائكة الصلاة عليه، وهذا حاصل بحمد الله لأهل الحلقة، فإنهم صلوا المغرب وهم ينتظرون صلاة العشاء.
وثالث الجوائز وأعظمها: ما قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا ما رجونا يا رب العالمين.
ها نحن مع هذه الآيات أو مع هاتين الآيتين الكريمتين من خاتمة سورة البقرة، فقد ابتدأناها من أولها، وأعاننا الله حتى نختمها في هذه الليلة المباركة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:285-286].
أذكركم بفضيلة هاتين الآيتين، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من قرأهما عند نومه في ليلته كفتاه، أي: كفتاه قيام الليل ومن الشياطين، وورد أن من قرأها مرتين في الليلة الواحدة كفتاه من قيام الليل ومن الشيطان؛ وذلكم أن هاتين الآيتين لم يعطهما نبي سوى نبينا صلى الله عليه وسلم كما أخبر بذلك عن نفسه، وأنهما كانتا في كنز تحت العرش، فأعطيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته.
وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ [البقرة:284]، أي: تظهرونه علناً وتنطقون بألسنتكم وتباشرونه بأعمالكم وجوارحكم، فيحاسبكم به ويجزيكم، إلا أنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
وهنا يفسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فيقول: ( إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم )، تجاوز الله عنا فيما تحدثت به أنفسنا ما لم نقل بألسنتنا أو نعمل بجوارحنا.
الذي يبدو -والله أعلم- أن ما في النفس إن كان كفراً، إن كان بغضاً لما يحب الله ورسوله، إن كان تكذيباً لله ورسوله كحال المنافقين، أما كانوا يضمرون الكفر، ويضمرون عداوة الرسول والمؤمنين وبغض شريعة الله؟ فهذا يؤاخذ العبد به، إلا إذا تاب منه وتخلى عنه وأعرض، أما إذا أصر على بغضه للإسلام والمسلمين في نفسه وإن لم ينطق، وإذا أصر على تكذيب الله عز وجل ولو في قضية من القضايا، أو تكذيب رسوله؛ فهذا هو الكفر بعينه.
ويبقى ما دون الكفر، مثلاً: خطر ببالك أن ترتكب معصية من المعاصي دون الكفر والشرك، هذه المعصية هممت بها، ثم تركتها لله؛ خوفاً من الله، حياءً من الله، حفاظاً على طهارة روحك وزكاة نفسك، فهذه تكتب لك حسنة، وإن فعلتها تكتب سيئة.
وعلى العكس: هممت أن تفعل حسنة من الحسنات؛ صلاة أو صدقة أو ما شاء الله من أنواع البر والخير، ثم لم تعملها، حال حائل دونها، فتكتب لك حسنة، فإن عملتها كتبت عشر حسنات، وهذا من إفضال الله تعالى على هذه الأمة.
يبقى الذي بكى منه الصحابة، أفصحوا للرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه شيئاً لأن يخر من عنان السماء إلى الأرض خير له من أن ينطق به؟ وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( يقول الشيطان: هذا الله خلق السماوات والأرض، فمن خلق الله؟ فإذا وحد أحدكم ذلك في نفسه فليستعذ بالله وليقل: آمنت بالله، آمنت بالله، آمنت بالله )، ثم أعلمهم أن هذا لا يكون إلا لأهل الإيمان، هذه الهواجس والخواطر التي تتنافى مع أصول الدين وعقائد الإسلام الشيطان هو الذي ينفخها في قلب العبد ويجعلها تدور على قلبه، فهي من مس الشيطان، فإذا وجد ذلك عبد الله أو أمة الله قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، آمنت بالله، آمنت بالله، آمنت بالله، ويعرض عنه فلا يضره ذلك.
إذاً: ما كان عقيدة في النفس من الشرك والكفر وبغض الله ورسوله والمؤمنين فهذا وإن لم يفعل فسوف يجزى به؛ لأنه بإرادته، أما ما كان خاطراً يخطر بالبال ولا يستمر، وإن عاد عاد العبد إلى طرده بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم؛ فإن هذا لا يضره أبداً، وهذا الحديث الصحيح يوضح القضية تمام التوضيح: ( إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم )، فمن قال أو نطق سجل ذلك عليه وأخذ به، ومن عمل ولو لم ينطق أخذ بذلك وعذب به، إلا أن يغفر الله لمن تاب.
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ [البقرة:285]، أي: كل فريق وكل واحد منهم؛ كل من الرسول والمؤمنين آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285]، هذه بعض أركان الإيمان، وأركان الإيمان كما هو مقرر ومعلوم للمؤمنين والمؤمنات ستة أركان: الإيمان بالله، الإيمان بملائكته، الإيمان بكتبه، الإيمان برسله، الإيمان بالقضاء والقدر، الإيمان المنجي المنقذ من الكفر الذي يجمع أصحابه مع الرسل والأنبياء والمؤمنين مبناه ستة أركان، لو سقط ركن فقط لبطل الإيمان؛ وحديث جبريل معلوم ومعروف، إذ جاءه الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه، ودخل وشق الحلقة وانتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليعلم الناس، وسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان، فأجاب الرسول وجبريل يصدق، ويقول: صدقت.. صدقت.
المهم في القضية: أن الذي يكذب برسول أو نبي يعتبر كافراً ولا حظ له في الإسلام، ولهذا قال تعالى: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285]، وكالرسل الكتب، ما علمنا منها وما لم نعلم، وما نزل ذكره منها في القرآن هو: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن الكريم، هذه أربعة كتب، ما وعدا ذلك كصحف إبراهيم عشر صحف، وصحف موسى غير التوراة، وصحف شيث، فنحن نؤمن بكل ما أنزل الله من كتاب، لا نقول: هذا الكتاب نزل على نبي ليس هو بنبي لنا فلا نؤمن به، فعقيدة المسلم الحق أنه يصدق بكل ما أنزل الله من كتاب أو صحيفة، الكتب الأربعة لا يحل جهلها؛ لأنها في القرآن الكريم بأسمائها: التوراة، والإنجيل، والزبور، فالتوراة: أنزلها الله على موسى عليه السلام، والزبور: أنزله على داود عليه السلام، والإنجيل: أنزله على عيسى عليه السلام، والقرآن أو الفرقان: أنزله على خاتم أنبيائه ورسله محمد صلى الله عليه وسلم.
لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285]، هذا هو معتقد المؤمنين مع رسولهم، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285].
إذاً: إذا بلغك عن الله أو رسوله شيء فهل يمكنك أن تقول: لا أقبل هذا؟ أو تقول: سمعت ما قلت عن الله والرسول، ولكن لا أعمل أنا بهذا؟! صاحب هذا الموقف ما هو بالمؤمن، لا بد أن تقول: سمعت ما جاء عن الله ربي، وعن رسول الله نبيي ورسولي وأطعت، إن كان أمراً فعلت، وإن كان نهياً تركت في حدود طاقتك وما تستطيعه.
فالصحابة قالوا: سمعنا وأطعنا، وطلبوا غفران الله لهم فقالوا: غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].
والعلاج كما سمعتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا خطر ببالك خاطر سوء فقل: آمنت بالله.. آمنت بالله ثلاث مرات، واستعذ بالله من الشيطان الرجيم، واله عنه وأعرض فإنه يرحل من ساحتك، واحذر أن يحملك على أن تنطق بحرف أو تعمل بمقتضى ذلك الوسواس، فإن ذلك مما يؤاخذ العبد به ويحاسب ويجزى به، أما مجرد خاطر وهواجس ووسواس فهذا من الشيطان، ولا يوجد هذا إلا عند المؤمنين، بل صرح الرسول بأن هذا دال على قوة إيمان العبد وصدقه في إيمانه؛ لأن العدو يأتي إلى القلب الذي فيه إيمان فيحاول أن يفسده، أما القلب الفاسد فماذا يعمل الشيطان فيه.
وقالت الحكماء: اللص السارق ما يأتي إلى بيت خرب ما فيه شيء ويحاول أن يسرق، فماذا يسرق منه؟ ولا يأتي إلى جيب ما فيه فلس، يبحث عن مكان فيه المال والدينار والدرهم، فلهذا هذه الخواطر هذه لا تكون إلا لذي الإيمان، ومع عدم الإيمان ما يوجد هذا أبداً.
وهذا فيه تفصيل: فالنسيان كمن أكل أو شرب ناسياً لا شيء عليه، فالصائم إذا أكل أو شرب ناسياً لا يؤاخذ بذلك، لا كفارة عليه ولا صيام، إلا إذا كان في رمضان وأراد أن يقضي يوماً فله ذلك كما يرى ذلك مالك ، أما النوافل فبالإجماع لا يطالب بقضاء صومها أبداً، أكل وشبع وهو ناسٍ أو مخطئ.
والخطأ: مثاله: أراد أن يتناول التمر فيضعه في الصندوق فوضعه في فيه، هنا الخطأ والنسيان.
وما استكرهوا عليه: إذا أكره العبد بالضرب، بالسجن، بالتعذيب على أن يقول كلمة الكفر وقالها ليدفع عن نفسه ذلك ونفسه مطمئنة بالإيمان فإنه لا يؤاخذ بذلك، فقد كانوا يكرهون بعض أصحاب رسول الله في مكة على كلمة الكفر، فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بـعمار بن ياسر رضي الله عنهما وهو يعذب، فقال له الرسول: ( أعطهم يا
مثلاً: أنت بسيارتك صدمت صندوقاً فيه حليب يساوي ألف ريال، فالخطأ معفو عنه، لكن هنا لا بد أن تغرم وتؤدي قيمة هذا اللبن، فصاحبه ماذا يصنع؟ ضاع لبنه وضاع ماله، فليس عليك إثم، اطمئن، ولكن تعين حق للناس عليك فأد هذا الحق، فإن لم تؤده كنت كمن أخذ حق إنسان، أما الإثم من حيث هو فمرفوع؛ لأنك مخطئ، فالغرامات هذه كمن أفسد مالاً من أموال المسلمين مطلقاً بدون عمد ولا رغبة في ذلك، وقع ذلك بدون إرادته، فلا يعذب بهذا ولا يتلطخ قلبه بالإثم، ولكن تعين حق لمؤمن ينبغي أن يؤديه.
والديات أساساً تقوم بها العاقلة: أقرباؤه، ورثته، أعمامه، أبناء أعمامه، أبناء إخوانه يشتركون ويسددون الدية، فإن كان ما عنده أحد فإمام المسلمين يسدد عنه؛ لأن المقتول ورثته حقهم ضاع، كان يعمل ويأتيهم بالطعام والشراب، وقد قتلته، فبقوا مفتقرين محتاجين، فلا بد أن يعوضوا، وإذا قالوا: عفونا وتنازلنا وسامحنا فخير كثير.
فهنا أحببت أن يفهم المستمعون والمستمعات قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )، النسيان كما عرفتم: أكل وشرب وهو صائم، فلا شيء عليه، نسي وهو محرم فلبس سروايل أو ثوباً ثم ذكر، فإنه ينزع ولا شيء عليه، أو نسي صلاة ما صلاها، فلا يؤاخذ ولكن يقضيها: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها ).
وأما ذاك الذي كسر إناء أحد فلا إثم عليه، ولكن الحق ترتب، فلا بد أن يدفع قيمة هذا الإناء، كذلك إذا كان في رمضان وأخطأ، حال دون الشمس سحاب فقال: الآن دخل الليل، فأفطر ثم طلعت الشمس، هل يقضي؟ حدث هذا هنا في المسجد على عهد عمر ، أفطروا حيث ظنوا أن الشمس غابت، وحين كانوا يأكلون طلعت الشمس، فأمرهم عمر بالقضاء؛ لأن هذه فريضة، ولا إثم عليهم، بخلاف ما لو أكلوا متعمدين، فاليوم يقضى بشهرين.
وقوله تعالى: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] استجاب الله وقال: قد فعلت. ومعنى الإصر: هو التكليف الشاق الذي يعرقلك ولا يسمح لك بالحركة؛ لأن الإصر: الحبل يربط به الشيء، ولهذا تتبع شرائع الله في الإسلام فلن تجد شريعة أو فريضة يعجز عنها العبد ولا يقدر على فعلها، فإن وجدت ذلك فاعلم أنه ليس من الشريعة، إذ قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].
على سبيل المثال: الصلاة هي عماد هذا الدين، فإذا ما استطاع أن يتوضأ لأن الماء بارد، أو ما وجد الماء، فماذا يصنع؟ يضرب الأرض ويمسح وجهه وكفيه، فهل في هذا مشقة؟ رفعت المشقة، الماء بارد ويخاف الزكام والمرض، ولا يغتسل بالماء البارد، ما تعود عليه لأنه يمرض، فيتيمم.
وكذلك صلاة فريضة لا تصلى إلا من قيام، فلو صلى قاعداً أو ركع قاعد بطلت صلاته، لكن إن عجز فكيف يصلي قائماً؟ هل يربطونه بالحبال؟ إن عجز عن القيام صلى قاعداً، وإذا ما استطاع القعود صلى على جنبه، وإذا ما استطاع على جنب صلى وهو مستلقٍ.
والحج فريضة الله عز وجل، فإن حال دون هذه الفريضة حائل فما هو بمكلف حتى يزول الحائل.
وعلى سبيل المثال: اليهود إذا قتل أحدهم وقالت القبيلة: عفونا كان الحكم الشرعي: لا عفو، إذا قال أبو الولد: أنا تنازلت لم يقبل منه، فهذا هو الإصر، وفي عهد عيسى في الإنجيل ما هناك إلا العفو، فإذا قتل أخاك فقل: سامحته، لا تطالب بشيء غير هذا، إذاً: هذه من الآصار والتكاليف الشاقة التي امتن الله علينا فرفعها عنا وما أنزلها فينا.
وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا [البقرة:286] لا مولى لنا سواك، أنت مولانا لا مولى لنا غيرك.
ونصرهم أيضاً في الحروب، فما قاتل أصحاب رسول الله أعداء الله ورسله إلا نصرهم الله، ويكفي أنه في ظرف خمس وعشرين سنة وصل الإسلام إلى السند وإلى الأندلس، فلولا النصر فكيف سيتم هذا؟
وهنا لطيفة من لطائف العامة: كسول نائم في ظل شجرة أو جدار، فطلعت الشمس وأخذت تزحف حوله فوصلت إلى قدميه، فما استطاع أن يجذب رجليه إليه، فيمر به شخص فيقول: يا عم، يا أخي! أبعدني عن الشمس، فيقول له: جر رجليك إليك، فيقول: انظروا إلى البخل؟! ويبقى، ثم يأتي الثاني والشمس قد وصلت إلى ركبتيه أو إلى صدره، فيقول: أبعدوني عن الشمس، فيقول له: ما لك؟ أمجنون أنت؟ قم من هنا وابتعد عن الشمس! فيقول: انظر إلى البخل!
فكذلك وضع العالم الإسلامي إلا من رحم الله، يقولون: (انصرنا على القوم الكافرين)، فما بايعتم إماماً ولا التففتم حوله ولا أعلنتم الحرب على دولة كافرة وتقولون: انصرنا!
نعيد تلاوة الآيتين الكريمتين: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [البقرة:285] اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، ربنا إنا آمنا بك إلهاً لا إله غيرك ولا رب سواك، وآمنا بما أنزلت على رسولنا من كتابك وشرعك يا رب العالمين.
كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285] وقد سبق أن عرفنا الملائكة في العقيدة، وأكثر المسلمين لا يدرون من هم الملائكة؟ ولكن لا بد من طلب العلم، فنحن نخبر عن إيماننا بملائكته، وكل يوم نصلي على إخواننا، فمن أخذ أرواحهم؟ الملائكة، وهل هناك من ينكر هذا؟
النطفة في رحم المرأة بعد أربعة أشهر من ينفخ فيها الروح؟ تبقى لحمة ثم تتحول إلى بشر، فكيف تصبح حية وفيها الروح؟ ملك ينفخ فيها.
والقرآن الذي بين أيدينا نزل على أمي لم يقرأ ولم يكتب، فكيف وصل إليه؟ وفوق هذا رأى الصحابة جبريل بينهم يمشي، والشاهد عندنا: أننا نؤمن بملائكة الله وأنهم خلق من خلقه أطهار أصفياء، كلهم أنوار، لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، ونؤمن بكتب الله كلها ما علمنا منها وما لم نعلم، هذا معتقدنا.
اللطيفة التي لا ننساها: أن الخير فعله فطري في الإنسان، فعل الخير ما تجد له كزازة في النفس ولا شدة ولا انقباضاً، إن أردت أن تفعل الخير، لكن الشر هو الذي تجد فيه ذلك حتى تجاهد الفطرة وتغلبها.
مثلاً: الآن أي واحد أراد أن يقول لأخيه:كيف حالك، هل أنت طيب، هل أنت بخير؛ فإنه لا يصعب عليه هذا، ولو أراد أن يسبه لا يجده يفعله بسهولة، فهذا مثال سهل؛ لأن الله قال: لَهَا مَا كَسَبَتْ [البقرة:286] من الخير؛ لأنها تكسبه بدون تكلف، بخلاف الشر فلها ما اكتسبته وافتعلته وانفعلت حتى فعلته، والمثال كما علمتم، تستطيع أن تعطي ريالك في يد أي مؤمن بكل سهولة، ولا تستطيع أن تخطفه من يد مؤمن، ما تقدر إلا إذا جاهدت نفسك، وهكذا فعل الخير لين سهل مبارك طيب يتناسب مع الفطرة، وفعل الشر بضد ذلك، كل شر لا يقدم عليه الإنسان إلا بعد مجاهدة نفسه والتكلف ليخرج عن فطرته وبشريته حتى يفعل ذلك الشر: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286] لأن الافتعال هذا تكلف.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر