وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
وها نحن قد انتهى بنا الدرس من سورة البقرة إلى أطول آية في كتاب الله، أطول آية في كتاب الله هي آية الدين، أو آية كتابة السَّلَم، فهيا نتلوها أولاً تبركاً بها وتقرباً إلى منزلها، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها.
لو يجتمع البشر كلهم من ذوي العقول والأفكار وخريجي علم الاجتماع والسياسة فوالله! ما استطاعوا أن يأتوا بمثل هذه الآية، ولا تمكنوا حتى من مشابهتها، هذه الآية نزلت على رجل أمي لا يعرف الألف ولا الباء، لا يكتب ولا يقرأ، ما جلس بين يدي مرب قط، كيف يأتي بهذه العلوم والمعارف؟ والله لن يكون إلا رسول الله.
هذه هي فضيلة الإيمان، ولعلكم ما نسيتم أن الإيمان بمثابة الروح للحياة، فالمؤمن حي والكافر ميت، والبرهنة القاطعة أننا لا نكلف يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً تحت رايتنا بأن يصوم رمضان أبداً، ولا نكلفه بصلاة ولا زكاة،لم؟ لأنه ميت، وهل الميت يكلف؟ هل يفعل إذا كلم؟ لا.
فإذا نفخنا فيه الروح بإذن الله وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله؛ صار حياً، فقل له: اغتسل وتقدم إلى بيت الرب لتناجيه وتعبده؛ فإنه سيفعل، أما وهو ميت فهل نكلف الموتى؟
قال تعالى: إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [البقرة:282] يقول الحبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: هذه الآية نزلت في بيع السلم. وهو كذلك إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأن هذا كتاب للبشرية إلى يوم القيامة، ما هو كتاب حادثة وانتهت.
وما هو بيع السلم أو السلف؟
كان أهل المدينة النبوية التي كانت تسمى في الجاهلية بيثرب ذات السبخة والنخيل، كانوا يسلفون ويسلمون، مثلاً: أنا عندي بستان في قباء واحتجت إلى نقد من دراهم أو دنانير، فآتي إليك وأقول لك: أبيعك خمسين قنطاراً من العجوة أو البرني أو الصفاوي؛ إذ لا بد من تحديد العين، فتدفع لي القيمة على أساس أن القنطار بمائة دينار، وإذا جاء وقت الجذاذ أقدم لك الخمسين قنطار كما اتفقنا، هذه المعاملة فيها نوع من الغرر، قد يموت البائع أو المشتري ويحصل التباس، قد لا توجد هذه السلعة، قد يفسد الثمر وهو على رءوس النخل، ولكن لرحمة الله عز وجل بالمؤمنين وببركة نبيهم الجليل بينهم أذن الله لهم في هذا؛ لعلم الله تعالى بضعفهم وحاجتهم، فأذن لهم في بيع السلم.
فالحصاد ما زال بعد ستة أشهر وتقول: أي فلان! أبيعك خمسين قنطاراً من البر أو القمح أقدمها لك بعد ستة أشهر في منزلك أو في دكانك، يقول: بكم؟ فيتفقان في السعر قطعاً، إذا كان السعر يساوي الآن عشرين فسوف يرفعه، فقد يطرأ عليه طارئ فيصبح أغلى من هذا، فيحتاط لنفسه ويقول: بعناك بخمسة وعشرين مثلاً.
ويأخذ النقود فيشتري بها أبقاراً أو يسافر بها أو يبني أو ينفق على أهله حتى يأتي وقت الحصاد فيأتيه بذلك البر الذي اشتراه منه، هذا هو بيع السلم، فيه رخصة من الله رحمة بالمؤمنين، وإلا فالبيع يكون بأن تكون السلعة أمامك فتعطي ثمنها وتأخذ البضاعة، لا حتى تأتيك يوم كذا، لكن من رحمة الله بالمؤمنين وببركة نبيهم بينهم رحم الله ضعفهم وأذن لهم بهذا السلم.
فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282] هذا فرض: إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282] وجوباً.
قال إمام المفسرين: الأمر هنا للوجوب، لم؟ حتى لا يتنازع المؤمنون، حتى لا يكون هذا البيع سبباً لبغضائهم ولعداوتهم ولكره بعضهم بعضاً وهم أمة واحدة كرجل واحد يحملون راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فكل ما من شأنه أن يفرقهم وأن يشتتهم وأن يوجد البغضاء بينهم حرام لا يجوز.
وهذه كررناها، فهل من واع؟ تستطيع أن تعرف المعاملات التجارية بهذه النظرية، كل ما من شأنه أن يسبب خلافاً أو عداوة أو بغضاء بين المؤمنين فهو حرام، لأنهم كجسم واحد يحملون راية واحدة ينشرون الإسلام والهدى في العالم، فلا يحل -إذاً- اختلافهم ولا قتالهم ولا كل عمل من شأنه أو يوجد عداوة أو بغضاء بينهم.
وكيف حال العالم الإسلامي اليوم؟ هل هم متحابون متوادون متفقون متعانقون؟ لا والله، إذاً: هبطت راية لا إله إلا الله ومزقوها، ما سبب هذا؟ العدو نشر بينهم الفرقة والخلاف، فجعل مذهبهم مذاهب، وأخيراً الاستعمار قسمهم تقسيماً، والآن صاروا ثلاثاً وأربعين دولة.
ولم يصح المسلمون، ما بلغنا إلا هذه الصحوة، وأية صحوة هذه؟ ما رأينا لها آثاراً، أية إفاقة هذه؟ لنترك هذا لله ولنواصل دراسة كتاب الله؛ لنخرج من هذه الآية بنور ينفعنا.
فإذا كنت تكتب في دين بين اثنين فلا تلفت إلى قرابة ولا صداقة، أقم العدل كما أمرك الله، والعدل ضد الحيف والانحراف والسقوط، هو الاعتدال.
فـ(لا يأب) معناه: لا يرفض، وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ [البقرة:282] تكتب كما علمك الله، وهذه لطيفة، فأنت ما كنت تعرف الكتابة، ولا تعرف الباء ولا الألف، فمن علمك؟ الله. هل كائن غير الله يعلم؟ علمك الله، إذاً: رد إليه ما أعطاك، يأتي عباده المؤمنون يطلبونك فاذكر نعمة الله عليك واستح من الله واكتب بينهم. وفيها معنى: ألا يحيف ولا يجور ولا يقدم ولا يؤخر، بل بالعدل في الكتابة، وفيها معنى: أن يذكر هبة الله عليه.
وهذا ينبغي أن نلاحظه في كل شئون حياتنا، أنت كنت تمشي على رجليك من بيتك إلى المسجد، ورزقك الله دابة تمشي بالنار أو بالماء، فإذا رآك مؤمن فقال: أركبني فأركبه، اذكر نعمة الله عليك، بهذا تنتظم حياتنا كلها، النعم التي أنعم الله بها علينا يجب ألا ننساها، وهذه الجملة من هذه الآية عجب، كما علمه الله يكتب، كما أعطاك الله فأعط، كما أقدرك الله أقدر، ولكن أهل الغفلة ما يعرفون هذا، أما الذاكرون فيشعرون بهذه، لأن أحاسيسهم فوق العادة مرهفة؛ لأنهم دائماً مع الله بقلوبهم وأبدانهم.
أنا الكاتب والقلم بيدي والقرطاس بين يدي، وأنتما اثنان تبايعتما، فمن يملي علي؟ الذي اشترى أو الذي باع؟
الذي اشترى هو الذي يملي؛ حتى يعترف بأنه اشترى خمسة قناطير أو سبعين قنطاراً، بخلاف البائع، فإذا قلنا له: أمل أنت فقد يقول: بعناه مائة قنطار، اكتب مائة وخمسين!
وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ [البقرة:282] هو الذي يملل ويمل، وبالفك: يملل، أمل وأملى بمعنى واحد.
وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:282] وليخف الله حتى لا يزيد ولا ينقص ولا يقدم ولا يؤخر، أو يغش في صفة من صفات هذه الدين.
وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا [البقرة:282] معنى يبخس: ينقص، بخسه أو نقصه، فلا ينقص من ذلك الحق أدنى شيء، يكتبه كاملاً وافياً غير منقوص. وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا [البقرة:282] هذا الذي يملي، والكاتب كذلك.
قال تعالى: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [البقرة:282] الذي يتولى أمره من عم أو أب أو قريب أو بعيد هو الذي يملي. فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [البقرة:282] وكلمة العدل عليها قام أمر السماء والأرض، العدل عليه قام أمر السماء والأرض، والله! لو تنحرف الشمس في فلكها أدنى شبر لخرب العالم، قائمة بالعدل، كل الكواكب في أفلاكها لو تنحرف يخرب العالم، أمر السماء والأرض قام بالعدل، فإذا انعدم العدل هبطت الأمة، فلهذا يعدل الرجل بين نسائه، يعدل بين أولاده، يعدل في حكمه، يعدل في قوله، إذا قال لا يحيف بكلمة ولا يجور بها: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152].
وما أصبح العالم الإسلامي اليوم يشعر بشيء اسمه العدل، إلا من رحم الله عز وجل، العدل حتى في المشي، فإذا مشيت فامش في عدل ولا تتمايل.
قال تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة:282] أي: اطلبوا شهيدين، فالهمزة والسين والتاء أحرف استفعال بمعنى الطلب، ابحث عمن يشهد من إخوانك.
وإذا ما وجدنا المرأتين ووجدنا الشاهد فحسب فقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بيمين وشاهد، هذا في باب القضاء والتحاكم، أما الآن فإما رجلان أو رجل وامرأتان أو أربع نسوة، وأما الكاتب فإن كان غير صاحب الحق؛ فإنه يكتب لهما ويتخذانه شاهداً يشهد.
والشاهد عندنا: أنه إن لم يكن الشهداء رجلين وإنما وجد رجل واحد فيقوم مقام الرجل الثاني امرأتان، فتشهدان ويمضي البيع: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282] كل جملة لها مفعولها، ممن ترضون، لا بد أن يكون الشهود صالحين عدولاً بررة أتقياء، أما تاجر يتعاطى الخمر ويتعاطى الجريمة فما تصلح شهادته.
وحد العدل عند أهل العلم: الرجل الذي يجتنب الكبائر كلها، ما يعرف كبيرة من كبائر الذنوب، ويتجنب الإصرار على الصغائر أيضاً، هذا هو العدل.
أما من عرف بجريمة من الجرائم فلا يستشهد ولا تقبل شهادته، ولما هبطنا بلغنا أن بعض الصعاليك يجلسون حول المحكمة يلعبون الكيرم أو الورق، وإذا احتاج إليهم واحد من المحكمة قال: تعال لتشهد بعشرة ريال أو خمسين ريالاً، ويدخل ويشهد معه، وهذا وجد في العالم الإسلامي، ولا غرابة ولا عجب، فما عرفوا الله حتى يخافوه.
فالذي يقول: المرأة والرجل سواء عندنا نحن كفر وخرج من الإسلام، والذي يقول: يجب أن تتفوق فوالله! لا حظ له في الإسلام، يقول تعالى في امرأة لوط ونوح: كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ [التحريم:10] ما معنى (كانتا تحت عبدين)؟ هل يعني أنهما مساويتان لهما، أو فوقهما؟
إذاً: فالذي يقول: المساواة؛ هذا كاليهودي وكالنصراني، بل اليهود والنصارى كانوا يستحون من هذا، لكنه عمل البلشفة الحمراء واللادينيين الذين حلموا بهذا الحلم: المساواة، فهل أنت رب الناس؟ هل أنت الخالق؟ أما تستحي إذاً؟ ما خلقت أنت ولا رزقت ولا دبرت الكون، وخالقهم فضل هذا على هذا، فتقول: أنت يا رب ما تعرف! فهل هذا يبقى مسلماً؟ هل يدخل في رحمة الله؟!
ويتبجح الغافلون والمقلدون والعميان الذين لا بصائر لهم، ويطالبون بالمساواة وحرية المرأة، فكما أن الرجل يعهر ويفجر فلها حق هي أن تعهر وتفجر، أهذا دين؟!
قال تعالى: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [البقرة:282] لم يا رب؟! أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا [البقرة:282] تنسى، أو تخطئ لصغر عقلها وطاقة فهومها؛ فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282] حين تكونان اثنتين إذا نسيت الأولى فالثانية تذكرها: أما تذكرين كذا وكذا؟ فيثبت الحق لأهله، ولا تضيع حقوق الناس.
إخوانك يكتبون كتاباً، فقالوا: تعال اشهد معنا، وأنت مؤمن تقي، فتقول: سامحوني، فلن أشهد؟!
وأذكر أني عوقبت بهذه؛ فقد كنت في دكان عند المحكمة، فجاءتني امرأة فقالت: قم يا شيخ لتشهد معي، فأنا تضايقت وكرهت أن أشهد وما أعرفها، فاعتذرت وامتنعت، فقالت: إذاً: والله! لأدخلنك المحكمة بنفسها، وتمضي الأيام، وزوجها من البهاليل، فكان يزورني في البيت ويطلعني على خفايا أمره، ثم مات، فقالت: إن الشيخ الفلاني عنده مال زوجي، وهو مدخر عنده، وفجأة يجيء العسكري فيقول: القاضي يريدك في المحكمة! فحضرت المرة الأولى فما نجحت، وشاء الله ذلك، ولو جاءت بشاهد آخر علي لكانت تأخذني، لكن الله صرفها صرفاً كاملاً، إذاً: فلم يبق إلا أني حلفت بالله الذي لا إله غيره ما ترك عندي فلان شيئاً، فصدر الحكم بإلغاء شكواها.
أرأيتم كيف عوقبت؟ لأنني ما شهدت لها، والله يقول: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [البقرة:282] احضر، وأد شهادتك، فالحمد لله؛ أرانا الله مصداق آياته.
ثم يقول تعالى: ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:282] ذلكم الذي علمتم من الكتابة والإشهاد أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا [البقرة:282] لا إله إلا الله! هذا كلام الله، ذلك الذي سمعتم أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:282] يعني: أكثر قسطاً وعدلاً، وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ [البقرة:282] حتى لا يظلم صاحبها أو يضيع حقه، وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا [البقرة:282] أقرب ألا تشكوا، فالكتابة وحدها ما تكفي، فلا بد من الإشهاد، كتبتم الصك فأشهدوا من عدولكم رجلين، وإذا ما وجدتم إلا رجلاً واحداً فأضيفوا إليه امرأتين من نسائكم.
إذاً: في هذه الحالة إذا كانت تجارة مدارة: خذ وأعط، كحال الدكاكين، فلو فرضنا أنه استلف منك كذا؛ فإذا ما كتبتم فلا شيء فيه: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا [البقرة:282] لا إثم عليكم في عدم الكتابة، ولا مضايقة ولا إرهاق وإتعاب، هذا ما هو في بيع المنازل والدور والسيارات، هذا في البصل والثوم والسكر والزيت، هذه تجارة حاضرة، فهذه إذا ما كتبتم فيها فلا شيء عليكما، أما ما كان من إبل وبقر وغنم مثلاً وبساتين ودور، وسيارات؛ فحين تبيع سيارة وما تكتب الدين ولا تشهد؛ فإنها تضيع.
أو شهد معك في المحكمة، وحصل خلاف بينك وبين الخصم في أبيار علي، فتقول للشاهد: تعال عندنا إلى أبيار علي، وهو عاجز أو مريض ما يستطيع أن يمشي، فهل أضررت به أم لا؟
أو أن فلاناً معروف أنه كاتب في القرية، فتأخذه إلى قرية أخرى ليكتب لك؟ أما أضررت به؟ فسبحان الله العظيم! بين الله تعالى كل جزئيات هذه القضية! وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة:282]، فالذي يكتب لك لا تكلفه ما لا يطيق، تأتي به في نصف الليل، أو في وقت برده شديد، انظر إلى الوقت المناسب له، والشهيد كذلك، لا تقل: تعال لتشهد معنا، وتمشي به خمسين كيلو؟! آذيته، فلا بد أن يكون الكاتب الذي كتب والشاهد الذي شهد أن يكون ذلك ميسوراً سهلاً عليهما، ما فيه ما يكلفهما عناء أو مشقة أو فقد مال مثلاً.
لا تفهم أنه بما أن الله أمرنا أن نشهد وأن نكتب ففي هذه الحال نلزم كل واحد أن يكتب لنا ويشهد، ونكلفه ما فيه مشقة عليه، عجب هذا الكلام الإلهي!
وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [البقرة:282] إن أضررتم بالكتاب أو بالشهود فهذا فسق منكم وخروج عن طاعة الله ورسوله.
وما المراد بالفسوق؟ هل هو الخروج عن الأدب؟ عن اللياقة؟ الفسوق: هو ترك أمر الله أو انتهاك ما حرم الله.
فإبليس فسق عن أمر ربه، أبى أن يسجد لآدم فقط، ما ترك صلاة ولا صياماً، بل قال له: اسجد فقال: لن أسجد، أنا أفضل منه، وتكبر، قال تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50] فكل من ترك واجباً وهو يعلمه وقادر على فعله يقال فيه: فسق، أي: خرج عن الطاعة.
والفسق مأخوذ من قولهم: فسقت الفأرة: إذا خرجت من جحرها، ولذا تسمى الفويسقة، تأتي في الليل وتحرق عليهم المنزل، أيام كانوا يستصبحون بالفوانيس، تأتي على الفانوس فتحترق، وحين تشعل فيها النار تدخل بين النائمين في فرشهم فتحرق عليهم الفراش، فلهذا سماها النبي صلى الله عليه وسلم بالفويسقة، فهي تأتي على الفانوس، وحين تشتعل في شعرها النار ماذا تصنع؟ تبحث عن النائمين فتدخل بينهم، فالفسق: الخروج عن طاعة الله ورسوله عن عمد وعلم.
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282] أخذ منا وأعطانا، أخذ وعطاء، اتقوا الله ويعلمكم الله، والله! ما اتقى الله عبد إلا علمه، وعدنا إلى تلك القضية، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً إلا علمه، والله يقول: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282]؛ لأنه إذا أراد الله أن يتخذك ولياً له فإنه يعلمك، أنت أحببته ورغبت فيما عنده وخفته ورهبته، فأصبحت تطلب معرفته ومعرفة محابه ومساخطه، وتفعل المحبوب، وتتخلى عن المكروه، يوماً بعد يوم ستبلغ مستوى الولاية وتصبح تقياً ولياً لله تعالى.
فاتقوا الله ويعلمكم الله، فما تنسونه أو تجهلونه أو يُحدث لكم تعباً أو يحدث لكم سوءاً، فالله يعلمكم.
وضربنا لهذا أمثلة: كـخالد بن الوليد ، ولم تكتحل عين الدنيا بقائد عسكري يقود الجيوش كما قادها خالد بن الوليد ، حتى كفار الشرق والغرب كانوا يتمثلون حياته ويعرفونها، خالد بن الوليد سيف الله في أرضه، في وقعة مؤتة كان المسلمون فيها ثلاثة آلاف، خرجوا من المدينة يقودهم زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه جعفر ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، ثلاثة آلاف واجهوا مائتي ألف، ما هناك مدافع ولا صواريخ، بل وجهاً لوجه بالرماح والسيوف، ثلاثة آلاف مع مائتي ألف! واستشهد القادة واحداً بعد واحد، فتولى خالد القيادة، فاستل تلك البقية من ثلاثة آلاف استلال الشعرة من العجين.
فخالد بن الوليد كيف حصل على هذا العلم؟ في أي كلية حربية درس؟ من هم أساتذته؟ ما هو إلا تقوى الله عز وجل، اتقى الله فيما أسند إليه، فيما أمر به، فأداه على الوجه المطلوب كما يحبه ربه الذي أمره به، فأوتي هذا الفرقان، فأصبح يعرف القتال وكيف ينتصر فيه على أعدائه.
فاتق الله، فإن فعلت فوالله! لن تخلو من هذا الفرقان، وستصبح تميز في بيتك ومع إخوانك النافع من الضار؛ نتيجة تقوى الله.
وهل تقوى الله تتم بدون علم؟ مستحيل! لا بد أن تعرف الله عز وجل بأسمائه وصفاته، بآياته في الكون والكتاب، فيصبح قلبك مملوءاً بحبه والخوف منه، ثم تعرف ما يحب من الكلام من القول، من العمل، من النيات، من الاعتقادات، من الصفات، من الذوات، فتعرف ذلك وتصبح تحب ما يحبه، وتكره ما يكره، وتفعل المحبوب وتكره المكروه، وشيئاً بعد شيء تتم لك ولاية الله، وتصبح ولي الله، فلو سألته أن يزيل الجبال لأزالها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر