إسلام ويب

تفسير سورة البقرة (133)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن حرب الله عز وجل على الربا لا تقتصر على الكافرين وحدهم، وإنما يدخل في ذلك أهل الإسلام، فالحرب على كل مرابٍ، وقد وجه الله عباده المؤمنين إلى تقواه عز وجل وترك ما بقي لهم من أموال عند الآخرين ناتجة عن الربا، ويكتفون برءوس أموالهم، فلا يأخذون شيئاً زائداً عليها، ولا يتركون شيئاً منها لغيرهم، وحضهم تعالى على إنظار المعسر من المدينين، وأفضل من ذلك التصدق عليه بهذا الدين، والله عز وجل يجزي المتصدقين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذي آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل رجاء أن يتحقق لنا ذلكم الموعود الذي أخبر عنه نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين.

    وقد انتهى بنا الدرس ونحن ندرس سورة البقرة مواصلين دراسة كتاب الله حتى ننتهي بإذن الله، وها نحن مع هذه الآيات الأربع:

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:278-281].

    أهلية المؤمنين لنداء الله تعالى لهم

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا نداء الله عز وجل موجه إلينا بوصفنا مؤمنين، وكوننا مؤمنين هذا يؤهلنا لأن ينادينا ربنا تعالى؛ لأن المؤمنين أحياء يسمعون ويعون ويقدرون على أن يمتثلوا الأمر والنهي؛ وذلك لحياتهم بإيمانهم، أما الكافرون فلا ينادون بمثل هذا النداء ليأمرهم أو ينهاهم؛ لأنهم أموات غير أحياء وما يشعرون.

    فهذه نعمة من نعم الله فالحمد لله عليها وعلى غيرها من نعمه التي لا نحصيها؛ لأننا مؤمنون، أي: مصدقون به عز وجل وبربوبيته وألوهيته وأنه رب كل شيء ومليكه، مؤمنون بكتابه الذي نتلو آيه ونتدارسها ونعلم مراده تعالى منها رجاء أن نمتثل الأمر ونجتنب النهي لنكمل ونسعد، وآمنا برسوله وبكافة رسله، آمنا بلقائه والوقوف بين يديه للاستنطاق والاستجواب ثم الجزاء إما بالنعيم المقيم وإما بالعذاب الأليم.

    يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:278] لبيك اللهم لبيك، مر نفعل، انه نترك، أعلم نتعلم، بشر نستبشر، حذر نحذر؛ لأننا عبيدك وأنت سيدنا فلا تنادينا إلا لصالحنا.

    مقاصد النداءات القرآنية

    وبالتتبع والاستقراء لآي كتاب الله وجدنا في القرآن الكريم تسعين نداء، ودرسناها بمنه وفضله هنا ثلاثة أشهر، كل يوم ندرس نداء، فوجدناها تدور على تحقيق ما يلي:

    أولاً: على أمره لنا باعتقاد أو بفعل أو بقول ما من شأنه إعدادنا للسعادة والكمال، أو لينهانا عما من شأنه أن يخسرنا ويضيعنا ويكسبنا الشقاء والخسران، أو ينادينا ليبشرنا لتنشرح صدورنا وتطمئن نفوسنا ونقبل في سرعة على الصالحات وتنافس في الخيرات، أو ينادينا لينذرنا من الأخطار والعواقب السيئة والمدمرات والهلاك في الدنيا وفي الآخرة، أو ينادينا ليعلمنا ما نحن في أمس الحاجة إلى علمه ومعرفته.

    هذه النداءات الإلهية التسعون نداء، وقد يسر الله طبعها مرات ووزعت، والله أسأل أن يحيي بها موات قلوب إخواننا.

    أيناديك ربك ولا تصغي ولا تسمع؟! إنه قد يناديك أبوك أو ابنك أما تسمع له؟ فكيف يناديك خالقك مالكك سيدك، من بيده حياتك وموتك وإليه مصيرك وأنت تعلم، لا يناديك للهو ولا للباطل ولا لإضاعة الوقت ولا لإرهاقك وإشقائك، والله! لا ينادينا إلا ليكملنا ويسعدنا.

    إذاً: هيا ندرس هذه الآيات، وهي مختومة بآخر آية نزلت من السماء، آخر آية نزلت من الله عز وجل هذه الآية: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، أول آية نزلت: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] وآخر آية نزلت من ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية هذه الآية: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281] .

    كيفية امتثال الأمر بتقوى الله تعالى

    يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:278] نادانا ليأمرنا بتقواه إذ قال: اتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:278]، كيف نتقيك يا رب وبماذا نتقيك؟ هل بالأسوار والحصون، بالجيوش الجرارة، بالسراديب تحت الأرض؟ بم نتقي الله ونحن بين يديه وفي قبضته؟

    يقول لنا العالمون: اتقوه فقط بالإيمان به وطاعته وطاعة رسوله وأنتم مؤمنون، لا يتقى الله بشيء سوى هذا، لا تعصه، لا تخرج عن طاعته، فإن كنت كذلك فأنت آمن فلا تخف؛ إذ لا يغضب ولا يسخط إلا على من عصاه وتمرد عليه وخرج عن طاعته وفسق عن أمره وهو عبده مملوك له يغذوه ويسقيه ويكسوه، يحفظه من شياطين الجن لو تركه لاختطفوه، ثم لا يسمع نداءه ولا يمتثل أمره ولا يجتنب نهيه، فما لهذا المخلوق، ما لهذا الإنسان؟

    إذاً: عرفنا بم نتقي ربنا، أي: بم نتقي عذابه وبلاءه وسخطه وغضبه وناره وجحيمه، نتقيه بطاعته وطاعة رسوله، لا تستمر على المعصية ولا تداوم عليها، وإن زلت قدمك وسقطت فعد إليه طالباً العفو والصفح وهو كريم حليم، يكفيك أن ترفع صوتك: غفرانك ربي وإليك المصير، أستغفر الله .. أستغفر الله .. أستغفر الله، وأنت تبكي، فيعفو ويصفح ويتجاوز ويغفر؛ لأنه حليم عظيم.

    أما أن تستديم معصيته غير مبال بقدرته عليك ولا بنعمه التي أغدقها عليك، فتكفرها وتجحدها وتواصل التمرد عليه، يقول: قف فتمشي، يقول: نم فتستيقظ، يقول: كل فلا تأكل؛ فأين يذهب بك يا عبد الله؟ تريد أن تتمزق وتتلاشى؟ وذلكم هو الخسران المبين: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15]، إن أحدهم يلقى في عالم لا يلتقي فيه بأب ولا أم ولا أخ ولا صديق ولا قريب ولا بعيد لمليارات السنين، وأفظع من هذا أن الرجل الكافر قد يوضع في صندوق من حديد ويغلق عليه ويرمى في ذلك العالم فلا يأكل ولا يشرب ولا يتكلم ولا يبصر وهو في الجحيم مليارات السنين؛ إذ الحياة هناك غير قابلة للفناء، الحياة الدنيا -بحسب سنة الله فيها- قابلة للفناء، لا يبقى شيء إلا ويتلاشى ويتمزق، وها أنت تشاهد طفلك يشب ويكبر ثم يموت، وأما الحياة الآخرة فالذي أوجد هذه أوجدها غير قابلة للفناء، فأهل دار السلام لا يكبرون لا يهرمون لا يمرضون لا يشيخون لا يموتون لا ينامون، غير قابلة لهذه الظواهر في الحياة الدنيا الزائلة الفانية.

    حاجة العباد إلى العلم بشرع الله لتحقيق التقوى

    إذاً: والسؤال المكرر لعله ينفع الله به: هل الذي لا يعرف أوامر الله ونواهيه وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ونواهيه يستطيع أن يتقي الله؟ والله! ما يستطيع، إذاً: فمن الضروريات أن يعرف عبد الله وأمة الله ما أمر الله ورسوله به من الاعتقادات والأقوال والأفعال والصفات، وأن يعرف أيضاً ما حرم الله وكرهه من المعتقدات والأقوال والأفعال والصفات والذوات.

    وهنا وقفنا عند الباب، فهيا ندخل، وهو مغلق فلا بد من العلم، نحن مأمورون بأن نتقي ربنا حتى لا نخسر حياتنا وحتى لا نلقى في عالم الشقاء أبد الآبدين، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] في أي شيء نطيع؟ لا بد من معرفة ما نطيع الله ورسوله فيه، أي: معرفة الواجبات ومعرفة المنهيات في هذين المجالين من الاعتقاد والقول والفعل والصفات.

    وإذا ما وجدنا من يعلمنا فلنذهب نشرق ونغرب ونسأل عن الذي يعرف محاب الله ومكارهه، فإن قالوا: إن رجلاً يقال له: فلان يوجد في جبال التبت من القارة الهندية هذا الذي يعرف ما يحب الله وما يكره؛ فوالله! لو آمنا حق الإيمان لمشينا حتى نجلس بين يديه ليعلمنا ما يحب ربنا لنأتيه وليعلمنا ما يكره ربنا لنذره ونتركه، فلم لا يتعلم المؤمنون؟

    سأشرح لكم:

    إن مظاهر الضعف والعجز، بل مظاهر الخبث والظلم والشر والفساد كلها نتيجة الجهل بالله وبمحابه ومكارهه، من عرف الله خافه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، ومن خاف الله عمل على ألا يخرج عن طاعته ولا يفسق عن أمره؛ لأنه علم أن حياته ومصيره بيد ربه، فكيف يجرؤ على أن يتمرد عليه ويخرج عن أمره؟

    ونعيد القول: لم لا نتعلم في بيوت ربنا؟ اليهود والنصارى والمشركون والكافرون إذا انتهى العمل الدنيوي ودقت الساعة السادسة مساءً أوقفوا العمل كما هو مشاهد في أوروبا وأمريكا واليابان والصين، ونظفوا أنفسهم ولبسوا أحسن ملابسهم وذهبوا إلى دور الباطل من المراقص والمقاصف والسينما والملاهي والأباطيل ينفسون عن أنفسهم يروحون عنها من آثار البلاء النفسي؛ لأنهم كالبهائم لا هم لهم إلا الأكل والشرب واللباس والنكاح واللهو والباطل، آيسون من رحمة الله جاهلون بالله والدار الآخرة، يذهبون للترويح على أنفسهم، ومصيرهم معلوم هو جهنم خالدين فيها أبداً.

    ولتعرف صورة توضيحية لجهنم اخرج في الساعة الثانية عشرة ظهراً وارفع رأسك وانظر إلى الشمس، هذه الشمس أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، وكلها لهب وسعير، ولا شجر فيها ولا حطب، نار ملتهبة، لو اجتمعت البشرية كلها خمسين مرة ما سدت زاوية من زوايا الشمس، وتسألني عن النار؟ فإذا كشطت هذه السماوات وأبعدت فالعالم الآخر الذي لا نهاية له.

    وإن ارتبت فأغمض عينيك وضع رأسك بين ركبتيك وفكر وتصور نفسك وأنت هابط إلى الأسفل، فإلى أين ستنتهي؟ إذاً: قولوا آمنا بالله .. آمنا بالله .. آمنا بالله.

    فنحن الربانيون أولياء الله أهل الطريق والصراط المستقيم، إذا مالت الشمس إلى الغروب ودقت الساعة السادسة لم لا نتوضأ في بيوتنا ونلبس أحسن ثيابنا ونأتي بنسائنا وأطفالنا إلى بيوت ربنا، فنجلس الساعة والساعتين نتلقى الكتاب والحكمة، نزكي أنفسنا بهذه الأنوار الإلهية، سنعود شباعا إلى بيوتنا لا رغبة لنا في وافر الطعام والشراب، ولا هم لنا إلا أن يرضى ربنا عنا، لم ما عملنا هذا؟

    أهل القرية في الجبل في السهل في الوادي حيثما كانوا أليسوا مؤمنين؟ ويزعمون أنهم المسلمون! فلم يعيشون على الجهل فيستبيحون الغش والخداع والغيبة والنميمة والشح والبخل والسب والشتم في أمراض لا يرضاها الله لأوليائه؟ لأنهم ما عرفوا -والله- وما علموا، ما طلبوا العلم حتى يعلموا، ما صدقوا حتى يصدقوا، هذه حال أمتنا، وقد شاهدنا ما فعل الله بنا في الشرق والغرب، وما زلنا في سكرتنا ما أفقنا، ما زالت السكرة هي هي، والجهل مطبق وآثار الجهل مشاهدة، كل ظلم كل خبث كل شر كل فساد مرده إلى الجهلبالله وبمحابه ومساخطه، فكيف نتقيك يا ربنا ونحن لا نعرف الكلمة التي إذا قلناها ترضى بها، أو تسخط ولا ترضى؟

    فلا بد أن نتعلم، وما نحتاج للمدارس والأقلام والأوراق، هذا العلم الضروري فقط نتلقاه من فم المربي من وجهه إلى وجوهنا ونعزم على العمل في ساعته، فلا نزال نتلقى الحكمة يوماً بعد يوم حتى ما يبقى في قريتنا رجل ولا امرأة لا يعرف الله ولا ما يحب ولا ما يكره.

    أمر المؤمنين بترك الربا بعد بيان حكمه وحال آكليه

    ونعود إلى الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278] هذا أولاً، وقد بين لنا قبل إذ قال متوعداً: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] يقومون من قبورهم ساعة الانتشار والخروج من الأرض حالهم كالمصاب بالصرع كلما وقف وقع، كلما أفاق هلك؛ لأنهم قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275] وهم المتمسكون بالباطل أيام نزول الآيات، فقال الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ [البقرة:275] وإن ملك مليارات، وأمره إلى الله، ومن عاد بعد التوبة فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:275-277].

    بعد هذه البيانات الإلهية نادانا مرة أخرى، فماذا قال؟ يا من علمتم وآمنتم! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا [البقرة:278] اتركوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278]، من بقي له شيء فليتركه إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278] أما غير المؤمن فليس هذا من شأنه، ما يقدر، فإن كنتم حقاً مؤمنين فاتركوا ما بقي من الربا عندكم وتخلوا عنه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ...)

    إذاً: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:279] فتكبرتم وترفعتم وأبيتم أن تذعنوا لنا وتسلموا وجوهكم وقلوبكم، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ [البقرة:279] اعلموا أن الحرب دارت بيننا وبينكم، والذي يحارب هل الله ينتصر؟ أمعقول هذا الكلام؟

    اعلموا أن الحرب قد دارت رحاها بين الرب تبارك وتعالى وبين العصاة المرابين من عباده، فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] وكلمة (ورسوله) تعني الرسول ومن ينوب منابه من الأئمة والحكام، إذا رأوا من يستحل الربا يستتيبونه ثلاثة أيام، فإن لم يتب قتلوه نيابة عن رسول الله، من عرفوا أنه يتعاطى الربا يستتيبونه بالضرب حتى يتوب، أما إذا استحله فقد ارتد وكفر، مستحل الربا كافر، والذي يقول: إنه حرام ويفعله فهو عاص فاسق يستتاب ويرد، أما الذي ينكر شرع الله فهو مرتد.

    معنى قوله تعالى: (وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)

    قال تعالى: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279].

    مثال ذلك: أنا رابيت خمسين رجلاً في قريتنا، لي على كل واحد عشرون ألفاً، منها خمسة عشر حق مالي هي رأس مالي وخمسة آلاف ربا، فماذا نصنع؟

    قال لي ربي عز وجل: خذ رأس مالك واترك الباقي، فتقول: يا جماعة! ردوا علي خمسة عشر فقط، والخمسة الآلاف التي كانت فوائد ربوية لا آخذها، تركتها لله، بذلك أمرني ربي، وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] لا تظلمون بأن تزيدوا ريالاً واحداً لا حق لكم فيه، ولا ينقص من رأس مالكم ريال واحد أيضاً، تسترده كما هو، لا تظلمون من داينتموهم بالربا ولا يظلمونكم هم فيأخذون من رأس مالكم ريالاً واحد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون)

    ثم قال تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280].

    وإن فرضنا أنه كان ذو عسرة استدان منك وفي ذمته عشرون ألفاً، ثم ما استطاع أن يسدد شيئاً، لا يملك ديناراً ولا درهماً، فماذا نصنع مع هذا الرجل وقد تبنا؟

    قال الملك الحق جل جلاله: فَنَظِرَةٌ [البقرة:280]، من أنظره ينظره: إذا أمهله، فمتى يسر الله عليه أعطاه، فنظرة إلى متى؟ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280].

    والميسرة: اسم من اليسر، أي: حتى ييسر الله عليه بعد عام أو عامين أو بعدما يحصد، فإذا يسر الله عليه أعاد لك رأس مالك فقط ولا تأخذ درهماً واحداً زائداً على رأس مالك.

    ثم جاء الكرم الإلهي وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:280]، وأن تتصدقوا بذلك المال الذي عند معسر ذي عائلة وما يستطيع أن يجمع هذا المال، فقلت له: تركته لله، فبات منشرح الصدر يعبد الله ويشكره ويدعو لك بالخير وزوجته وأولاده فيحصل لك خير عظيم، وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:280] .

    فهذه التوجيهات توجيهات ممن؟ من الله، فكيف يكفرون بالله؟ من أين يأتي هذا الكلام وهذه العلوم والمعارف، ثم يقولون: لا إله والحياة مادة! ألا لعنة الله عليهم.

    ولقد استجاب الله لنا فتحطمت الشيوعية البلشفية الحمراء وانتهت، لا عودة ولا رجعة، ومع هذا ما زال الهالكون بين المسلمين يسبحون بحمدها ويقدسون، أين الشيوعية؟ حفنة من الشيشان دمروا روسيا هذه الأيام، أذاقوها المر، فصفقت الدنيا.

    يقولون: لا إله؟! مجانين، أنت من أوجدك؟ كيف تقول: لا إله؟ أمجنون أنت؟ الذي يقف بيننا نقول له: أنت مخلوق، فإن قال: لا، أنا غير مخلوق، قلنا: أخرجوه، فهذا مجنون! وإن قال: أنا مخلوق؛ قلنا: من خلقك؟ هل جبال الألب أو البحر الأسود تتفنن في وجودك هكذا وفي سمعك وبصرك وعقلك ولسانك ومنطقك؟

    هذا الخالق لا بد أن يكون ذا علم وقدرة لا يعجزها شيء، فقل: آمنت بالله خير لك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)

    وأخيراً جاء الطبع والختم: وَاتَّقُوا يَوْمًا [البقرة:281] عظيماً يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] يقال: فلان مات، رجع إلى ربه، أول خطوة هي القبر، وتتم محنة فيه من أعجب المحن وفتنة لا تقابل بفتنة أبداً، ثم يلي المشكلة إما نزول إلى أسفل سافلين وإما علو إلى عليين، وتبقى النفس مرهونة فقط إلى أن تنتهي هذه الدورة، وهي أوشكت على نهايتها، شاخت الدنيا وشابت، وحينئذ يقع الزلزال العام وتتحلل الكائنات كلها وتعود سديماً وبخاراً كما كانت، ثم يعيد الله عز وجل الحياة لتخلد وتبقى، امتحن الكون وأهله فترة من الزمان ثم استقر في ملكوته، أهل الجنة في جواره يكشف الحجاب عن وجهه الكريم ويسلم عليهم فيسعدون سعادة لا يعرفون الشقاء بعدها أبداً: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:55-58]. ‏

    وقفة مع نعيم أهل الجنة

    وهنا نعيد هذا البيان من سورة يس الذي تقرءونه على الموتى وتحرمون الأحياء منه، مضت أربعمائة سنة أو ستمائة سنة والمسلمون لا يقرءون القرآن إلا على الموتى، هل الميت ينهض ويقوم ليغتسل من جنابة ويصلي ويعترف بحقوق الناس ويردها؟ أما الأحياء فلا يقرءون عليهم القرآن أبداً، يقرءونه على الموتى.

    إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ [يس:55] ما هذا الشغل؟ هل يبنون يحرثون يخيطون الثياب يطبخون الطعام؟ ما هذا الشغل؟ قال العلماء: إنه افتضاض الأبكار، الله أكبر، بشراكم أيها الفحول! إنه افتضاض الأبكار، والبكر هي التي ما تزوجت.

    إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:55-58] قول لا بالكتابة أو بواسطة الملك، مباشرة يكشف الحجاب عن وجهه الكريم ويسلم عليهم فتغمرهم فرحة وسعادة لم يعرفوا لها معنى أبداً قبل ذلك.

    استحقاق الجنة بزكاة الأنفس وطهارة الأرواح

    فمن هؤلاء؟ هل هم البيض؟ هل هم بنو هاشم؟ من هؤلاء؟ أصحاب النفوس الزكية والأرواح الطيبة الطاهرة، والله العظيم! لهؤلاء هم أهل هذا النعيم؛ لأن الله عز وجل أصدر حكمه وأعلمنا أنه إذا أصدر حكماً لا يعقب على حكمه ولا استثناء ولا مراجعة أبداً؛ لعظيم علمه وحكمته وإرادته.

    اسمع هذا الحكم الصادر عليك وأنت غافل، يقول تعالى بعد أيمان مغلظة: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8] كم قسماً هنا؟ أحد عشر قسماً من أجل هذا الحكم الصادر على البشرية العمياء التائهة في متاهات الحياة: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] فمن يعقب على الله؟ قد أفلح من زكى نفسه وقد خاب من دسى نفسه.

    أفلح بماذا؟ هل في تجارته؟ في مصنعه الجديد؟ الفلاح حقيقته أن تبعد عن عالم الشقاء وتدخل دار السلام والنعيم المقيم أبداً، وبينه تعالى بنفسه ما تركه للناس؛ إذ قال -وقوله الحق- من سورة آل عمران: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].

    مواد زكاة النفس وتطهير الروح

    قد تقول: يا شيخ! ما هي المواد التي نزكي بها أنفسنا يرحمك الله؟ هل الصابون (تايت)، أم العطور (الكلونيا)؟ هل هذه تزكي النفس؟ هل الأغاني وأصوات العواهر والماجنين تزكي النفس؟ بم نزكي أنفسنا؟ دلونا يرحمكم الله، ما هي المواد التي تزكي النفس؟

    الجواب: النفس تزكى بما وضع لها من أقوال وأعمال واعتقادات، هذا الذي قلنا: إنه به يتقى الله، كلمة لا إله إلا الله هذه أكثر من طن من الصابون لتغسل بها جسمك، إذا قلتها مؤمناً موقناً تحولها إلى كتلة من النور، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، تحولها إلى أطيب من الطيب وأطهر من الطهر، كما أن كلمة الكفر تحيلها إلى مزبلة منتنة لا تطاق روائحها.

    فالعليم الحكيم شرع من العبادات بالأقوال والأفعال ما شرع لتزكية النفس وتطهيرها، وما حرمه من ذلك فلأنه يدسي النفس ويخبثها ويعفنها، فبفعل الإيمان والعمل الصالح تزكو النفس البشرية، وعلى الشرك والفسق والفجور تدسى وتخبث النفس البشرية.

    هذه هي الحقيقة، فهل عرفها المسلمون؟ ما عرفوها، ما يسمعون بهذا الكلام أبداً، لو سمعوا هذا لما كان يقتل بعضهم بعضاً، ولما كان يزني بعضهم بنساء بعض، ولما كان يسرق بعضهم أموال البعض، ولما تكبر بعضهم على بعض، وقل ما شئت؛ فكل الأمراض والأسقام والعلل هي ثمرة الجهل بالله وبمحابه ومساخطه، وكلمة واحدة تبين لك الطريق: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

    في قريتك ذات الألف ساكن اعلم وفتش فستجد أن أعلمهم بالله أتقاهم له، أقلهم جريمة وكذباً وسرقة، فهيا نتعلم.

    فإن قيل: ما نستطيع، قلت: أما نستطيع أن نجمع نساءنا وأطفالنا في بيت ربنا؟ في الحي الذي نسكن فيه أو في القرية؟ ونتعلم الكتاب والحكمة؟ لم ما نستطيع؟

    نعم في أوقات معينة عند إثارة الفتن الحكومات توقف هذا التيار، لكن سينتهي، وكان غير موجود قروناً وأبينا أن نتعلم.

    فهيا نتلو الآية مرة أخيرة نسمع هذا البيان الإلهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278] إن بقي عندكم، والحمد لله فليس عندنا، ما انغمسنا فيه ولا هو عندنا، لكن إن كان واحد منا فربنا تعالى يقول: وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:278-279] وأصررتم وتكبرتم فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:279-280].

    وأخيراً: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]. فالطريق يا أبناء الإسلام للنجاة أن نعود إلى كتاب الله وسنة رسول الله، نغتنم أوقات الفراغ، لا نوقف مصنعاً ولا مزرعة ولا متجراً، فقط من المغرب إلى العشاء في صدق نتعلم الكتاب والحكمة على هذا المنظر الذي تنظرون إليه.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767952731