وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل، ولنا رجاء في ربنا أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). فهنيئاً لهم ولنا معهم إن شاء ربنا جل جلاله وعز.
وها نحن مع ثلاث آيات، وإليكم تلاوتها فتدبروها وتأملوا ما فيها، واعزموا على العمل والتطبيق.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [البقرة:267-269].
ثلاث آيات قرآنية نورانية، الأولى مفتتحة بهذا النداء الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:267] لبيك اللهم لبيك، نادانا مولانا، خالقنا، رازقنا، خالق الكون والحياة من أجلنا، نادانا فمرحباً بندائه، ماذا يريد منا؟
نحن مستعدون، يا رب! مر نفعل، انه نترك، بشر نستبشر، أنذر نحذر، علم نتعلم؛ إذ نداءات الرحمن التسعون تدور على هذه، ينادينا ليأمرنا بما يكملنا ويسعدنا، ينادينا لينهانا عما يشقينا ويردينا ويخسرنا، ينادينا ليبشرنا، ينادينا لينذرنا، ينادينا ليعلمنا فنعلم.
الحمد لله أن لنا رباً ينادينا، ويعلمنا، ويأمرنا وينهانا، ويبشرنا وينذرنا، وغيرنا من تلك الأمم اللاصقة بالأرض كيف حالهم؟ آيسون قانطون، جهلاء في الظلام، أحياء إلا أنهم أموات، وبئس المصير يصيرون إليه في عالم الشقاء.
أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267] هذه الكلمة الربانية أوجبت -بلا نزاع- إخراج الزكاة مما تنبت الأرض من البر، الشعير، الذرة، التمر، الزيتون، العنب.. هذه كلها مما تخرج الأرض أم لا؟ فمن الذي أخرج هذه؟
الله. لو تجتمع البشرية كلها على أن تنتج حبة عنب فوالله! لما استطاعت، فمن أخرج هذه الغلال وهذه الثمار وهذه الحبوب؟ الله عز وجل. واحذر أن تقول: سيدي عبد القادر أو عيسى؛ والله! ما أخرجها إلا الله، هو الذي خلق التربة وخلق الماء وصب الماء، وأمره أن يتفاعل مع التربة فتفاعل وخرج القصيل والسنبل، فهل نحن نفعل هذا؟ هل نملك هذا؟
إذاً: هل ينبغي ألا نقول: الحمد لله؟ والله! ما ينبغي، يخرج هذه الأنواع من الثمار ونأكل ولا نقول: باسم الله، ولا الحمد لله؟ أعوذ بالله من إنسان لا يحمد الله على إنعامه، ولا يشكره على بركاته، ولا يذكر اسمه عند أكله وشربه.
وممن ينتسبون إلى الإسلام جهلاً يأكلون ويشربون ولا يعرفون باسم الله ولا الحمد لله، ما لهم؟ ما عرفوا، من علمهم؟ من أرشدهم؟
وها نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مع ابن أم سلمة عمر قال: ( يا غلام! سم الله، وكل بيمينك وكل مما يليك ) لا تمد يدك إلى جهات أخرى في القصعة والناس يأكلون معك. فهذه الآداب التي ما يتلقاها أطفالنا وهم صغار، فكيف يعرفونها وهم كبار؟
وهل تعرفون لم نقول: باسم الله؟ هذا من أسرار الشريعة، نقول: باسم الله؛ إذ لو لم يأذن لنا في هذا الطعام فوالله! ما أكلناه، هل تستطيع أن تتناول كأس خمر وتقول: باسم الله؟ أعوذ بالله! أتكذب على الله؟ آلله أذن لك؟
والغافل ممكن أن يشعل السيجارة ويقول: باسم الله! آلله أذن لك؟ كيف تقول: باسم الله؟
فأنت تأكل هذا الطعام باسمه تعالى الذي خلقه وأوجده وأذن لك في أكله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] لا من الخبائث، وحاشا الله أن يرزقنا من الخبائث.
ولنعلم أن علماء الفقه الإسلامي من أئمة الإسلام جمهورهم على ألا زكاة فيما كان مثل البقول كالبصل والثوم والخردل والطماطم والفلافل والقثاء على اختلافها، والبطيخ، والحبحب.. وما إلى ذلك؛ لأنها ما هي بمقتاتة ولا مدخرة، لا يقتاتها الإنسان ويعيش عليها العام والأعوام، ولا تدخر ويحتفظ بها، فمن هنا عفا الله عز وجل على لسان رسوله عن الزكاة منها، والذي بين لنا هذا الإجمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أمر أهل المدينة أن يزكوا البطيخ أو القثاء أو البصل أو الثوم وهم ينتجونه، لكن أمرهم بزكاة العنب إذا كان زبيباً، وزكاة التمر، أما التين فهذا أيضاً لا يزكى، وقس عليه البرتقال، وهكذا الفواكه والخضار.
إلا أن المسلمين الربانيين إذا جنوا ثماراً من بساتينهم أو أراضيهم يعطون منه لجيرانهم وأقاربهم وفقرائهم ومساكينهم، لا على أنها زكاة مقننة مقدرة، ولكن استجابة لأمر الله العام: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267] وهذا هو المنهج السليم، فالحبوب، الذرة، البر، الشعير هذه تزكى بالإجماع؛ لأنها غذاء مدخر، أما البصل والثوم فهذه كل ما في الأمر أنه يقال فيها: يا صاحب البستان، يا صاحب المزرعة، يا صاحب الحقل! حين تأخذ كمية إلى بيتك أعط منها لجيرانك أو للفقراء حولك، فتكون استجبت لأمر الله عز وجل على سبيل الإنفاق تقرباً إلى الله وتزلفاً.
وهكذا الغنم، فمن ملك أربعين شاة ماعزاً أو ضأناً صغيرة أو كبيرة وحال عليها الحول فيجب أن يخرج منها شاة، وكذلك البقر، فمن ملك ثلاثين بقرة عداً فإنه يخرج منها تبيع أو تبيعة، وهل الدجاج يزكى والبط والطيور؟ لا زكاة فيها، فهذه هي الأموال الناطقة.
والصامتة: الذهب، الفضة، العملات على اختلافها، ففيها زكاة، فزكاة الذهب إذا بلغ سبعين جراماً، إذا كان عندك ذهب ووزنته في ميزان الذهب فقالوا: هذه سبعون جراماً وجبت الزكاة، وفي أقل من سبعين جراماً لا زكاة عليك؛ لأن النصاب بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونصاب الفضة أربعمائة وستون جراماً، فإذا كان عندك كمية من الفضة سواء في شكل ملاعق، أو في شكل أدوات، وإن كنا نقول: لا يحل للمؤمنين أن يأكلوا بملاعق الذهب والفضة، ولا أن يصنعوا الصحاف من ذهب أو فضة، هذا ليس لنا، هذا لغيرنا، للمحرومين منها يوم القيامة؛ إذ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( هي لهم في الدنيا ولنا في الآخرة )، والله! ما يشاهدون ذهباً ولا فضة ولا أواني في عالم الشقاء والعياذ بالله، أما المؤمنون والمؤمنات فيعوضهم الله، والله! ما هي إلا صحاف الذهب وآنية الفضة.
أقول: علماؤكم جزاهم الله خيراً يفتون بأن النصاب ثمانون أو خمسة وثمانون، ثم لما ذهبنا وجئنا بالشعير ووزناه، ونظرنا أيضاً إلى أن الفضة نصابها أربعمائة وستون جراماً، ويجوز أن تزكي بالفضة أو بالذهب، ما بينهما فرق، فلو زكينا أربعمائة وستين جراماً فمعناه أن خمسين جرام ذهب تعدل هذا أو أقل، فبالتحري كانت النتيجة أن من ملك سبعين جرام ذهب فأكثر وجبت عليه الزكاة إذا حال عليها الحول كالدراهم والدنانير.
وقد يقولون لكم: النصاب خمسة وثمانون، وهذا تقليد فقط، أما عملياً فهو سبعون جراماً، وهذا أرحم بالفقراء والمساكين وأحوط لرب المال، هذه هي الحقيقة.
ثم لو كان هذا المملوك يزكى فلم ما نزكي الأسرة التي ننام عليها والزرابي التي تبلغ الآلاف، والسيارة التي تركبها، وأواني البيت؟ لا زكاة فيها؛ لأنها مستعملة، فالذهب إذا كان مستعملاً فما هو بكنز يباع ويدخر للاستعمال، فهو كالقصعة إذاً وكالإبريق وكالآنية، وأي فرق؟
هذا فقه المسألة، ومع هذا فأيما مؤمنة تريد أن تزكي حليها فإنا نبارك لها في ذلك.
وشيء آخر: إذا كان الذهب اشترته للقنية والادخار؛ إذ بعض المؤمنات تقول: الزمان حواج، سأحتاج في يوم من الأيام، فإذا كان عندها دريهمات فإنها تشتري بها قطعة من الذهب، لا على نية أن تلبسها، بل على نية أنه إذا جاء الزمان وأحوجها فستبيعها، فهذه بالإجماع تجب زكاتها، هذا كنز، والله يقول: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ [التوبة:34-35] الآيات، وبين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن ما أخرجت زكاته لا يقال فيه: كنز، أيما دراهم، ذهب، فضة تخرج زكاته كل عام فلا تخف أنك تكوى به يوم القيامة.
فتأملوا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267] أولاً: الإبل، البقر، الغنم، الذهب، الفضة، الدراهم، والخارج من الأرض كذلك: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267] ما هو؟ التمر، العنب، الذرة، الشعير، القمح.. وما إلى ذلك، أخرجها الله لنا من الأرض.
فبعض المرضى والمنافقين كان يأتي بعرجون الحشف والدقل ويعلقه، في الظاهر أنه دخل يحمل أقنية من التمر للفقراء، وفي الباطن هو حشف ودقل، ففضحهم الله، فقال: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ [البقرة:267] لو قسم لكم أنتم إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا [البقرة:267] أعينكم، وهذا عام، أيما صدقة تصدق بها يجب أن تكون نقية طاهرة صالحة نافعة، فطعام لا يؤكل هل تقدمه للفقراء والمساكين تضرهم وأنت ما تأكله؟ هذه ترفع همم المؤمنين وآدابهم إلى القمم، فمن ربانا هذه التربية؟ الله، ما وكلنا إلى زيد أو عمرو، هو الذي ربانا وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ [البقرة:267] الرديء غير الجيد، ضد الطيب، مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ [البقرة:267] لو قدم لكم أو أعطيتموه لقلتم: هذا ما نأكله ولا نلبسه ولا نشربه، إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267] أغمض عينيك وامش، العامة يعرفون هذا، هذا معنى قوله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267].
إياك أن يخطر ببالك أن الله محتاج إلى طعامك أو شرابك أو مالك، ولهذا يلح عليك ويطالبك، بل هذا من أجلك أنت وأجل إخوانك، أما هو فغني غنى مطلقاً، والله! لا يفتقر الله إلى شيء؛ إذ كل شيء خلقه هو بيده، وهو حميد أيضاً محمود على خلقه وإيجاده المخلوقات، الملائكة يحمدونه، لو لم يحمده البشر فالملائكة أكثر منهم بمليارات المرات، فهو محمود في الأرض والسماء.
فهذه الجلسة التي أنا جالسها يحمد عليها الله أو لا؟ من خلق هذا الشيء؟ من علمه؟ أنتم أيها الجالسون من خلقكم؟ من علمكم؟ من أتى بكم إلى ها هنا؟ الله. هذا هو الحمد.
فذكر المحامد؛ لأن المنافقين والمرضى يقولون: لم يطلب منا هذا ويلح علينا في أن نخرج طعامنا وشرابنا؟ ألحاجته إليه؟! فأبطل هذه الوساوس بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [البقرة:267].
الشيطان هذا هو المكنى بأبي مرة، وإبليس وصف له؛ لأن الله أبلسه، كان له اسم أيام كان يصلي ويعبد الله مع الملائكة والجن، ثم أبلسه الله، أي: أيأسه من كل خير، ما أصبح فيه خير قط.
فهذا الشيطان أخبر تعالى عنه أنه يعدنا بالفقر، إذا أردت أن تنفق قال: تنفق وغداً ماذا تأكل وتشرب؟! مهمته أن يعدنا بالفقر، فيخوفنا من الإنفاق، فما يستطيع المرء أن ينفق وهو يفهم أنه إذا أخرج ماله اليوم فغداً من يعطيه؟ غداً يصبح يمد يديه! غداً يموت بالجوع أو بالعري! هذه وساوسه يعد بها أولياءه والذين يستجيبون له، من أخبر بهذا؟ خالقه، يقول تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [البقرة:268]، لم يعدنا بالفقر بمعنى: أنه يحذرنا من الفقر، يحذرنا من الإنفاق حتى لا نفتقر؟ لأنه يريد منا أن نهلك، أن نشقى، أن نخسر، أن نجاوره في عالم الشقاء؛ يقول: لم أنت يا آدمي تنجو وأنا وجماعتي نهلك ونخسر؟
إذاً: كل خصلة قبيحة شديدة القبح هي من الفواحش، والآية تريد من الفاحشة هنا البخل، والعرب يسمون البخل فاحشة، والبخيل: فاحش.
إذاً: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالبخل، ولو نستجيب له لما أنفقنا درهماً، بما يلقي في النفس من هذه الخواطر، يهدد بالفقر والحاجة وما إلى ذلك.
أما نحن فما زالت المحطة فينا صالحة، فإذا كان عندك رادار قوي فما إن يحوم حولك حتى تطرده، وإذا كان ما هناك رادار ولا حراسة فإنه يسكن هناك ويغني.
الثمن: أن تخاف الله فلا تعصيه بترك واجب أوجبه ولا بفعل حرام حرمه من العقائد والأقوال والأفعال، إن كان هكذا حالك فاعلم أنك تملك هذا الرادار، وإليكم الآية القرآنية التي تدل على هذا الرادار، قال تعالى من سورة الأعراف: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200] إذا شعرت به فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فيطير كالبرق، ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202] إخوان الشياطين.
فهذا الجهاز العظيم تكتسبه بتقوى الله عز وجل، أنت عاقل، أنت قوي، أنت قادر، أنت عالم، لا تخرج عن طاعة الله ورسوله، لا بترك واجب مأمور بفعله أو قوله أو اعتقاده، ولا بفعل المنهي عنه والمحرم عليك اعتقاداً أو قولاً أو عملاً، بهذه تصفو نفسك وتزكو وتطيب، ويصبح عندك رادار أشد حساسية، فإذا حوّم العدو عندك فقط تعرفه وتطرده.
والآن هناك رادارات للجيوش، فإذا حومت طائرة العدو عرفوها، فالحمد لله، ولهذا لا يهلك على الله إلا هالك.
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ [الأعراف:201-202] إخوان الشياطين يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202] لا يقصرون أبداً عن فعل المعاصي والجرائم والموبقات؛ لأنهم عمي، الشياطين تؤزهم أزاً، وتدفعهم إلى الباطل والمنكر.
فهل عرفتم هذا العدو؟ من أخبر بهذا الخبر؟ الله العليم الحكيم، يقول: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [البقرة:268]؛ حتى لا تنفقوا أموالكم في سبيل الله، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] والخصال القبيحة كالبخل وما إلى ذلك.
والله يعدكم بمغفرة ذنوبكم وبفضل، وهو الجنة ونعيمها، الرزق الواسع الطيب.. قل ما شئت، فضل من هذا؟ فضل الله، ولا تشك إذا قال، فالله واسع الفضل، عليم بالمستحقين، لا تقل: لعل ما عند الله قد انتهى، فهو واسع عليم، لا تقل: ممكن أنه ما يعرف عني شيئاً، ما يدري أننا في نواكشوط مثلاً، أنت معلوم لله عز وجل في أي مكان؛ لأن العوالم كلها بين يديه، إذاً فاطمئن إلى صدقه ووعد الرب تبارك وتعالى.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما نقصت صدقة من مال ) فمن يرد على رسول الله؟ كل مال تزكيه ينميه الله ويبارك فيه، وتنتفع به أكثر من الأموال المحرمة، وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].
الجواب: الذين يطلبونها ويقرعون باب الله سائلين طالبين، هم الذين يؤتيهم الحكمة، أما المعرض واللاهي والمشغول عنها وغير الراغب فيها فما يشاء الله له ذلك، هذه سنته، أتريد الحكمة؟ اطلبها تعط، وأما وأنت مستكبر ومعرض وغير مبال فلن تعطى، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ [البقرة:269] أي يعطها فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269].
أولاً: القرآن والسنة، إذ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا حسد إلا في اثنتين ) الأولى: ( رجل آتاه الله مالاً فهو ينفق منه الليل والنهار )، فتقول: لو يعطيني ربي مالاً كما أعطاه فسأنفقه، فأنت وإياه في الأجر سواء بالنية الصادقة، ( ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها الليل والنهار )، إذا قلت: يا رب! لو تؤتيني هذه الحكمة لقضيت بها الليل والنهار، وهي هنا القرآن، فأنت وإياه في هذا سواء، وهذا ليس بحسد، هذا غبطة؛ لأن الحسد أن تتمنى أن تزول النعمة من فلان لتحصل لك، وبعضهم يتمناها أن تزول من فلان ولو لم تحصل له، وهذا شر الحسد والعياذ بالله، المهم ألا يرى فلاناً في خير، أما الغبطة فلا تكون إلا في شيئين.
والشاهد عندنا في أن القرآن حكمة؛ لأنه ما وضع شيئاً في غير موضعه قط، والله! لا كلمة ولا حرف؛ إذ الحكمة وضع الشيء في موضعه، والحكيم يضع الشيء في موضعه، فحين يصب الحليب أو اللبن لا يصبه في الأرض، يصبه في الكأس.
إذاً وضع الشيء في موضعه هو الحكمة، والحكيم من كانت هذه صفته، الكلمة لا يقولها حتى يبحث عن المكان اللائق بها، وحتى يعرف ما تنتجه فيضعها في موضعها، وهذه الحكمة تكتسب، فأولاً القرآن الكريم والسنة النبوية، احفظ ما شاء الله أن تحفظ وافهم ما شاء الله أن تفهم، وطبق واعمل، ولا تزال كذلك حتى تصبح حكيماً في كل تصرفاتك، في البيع، في الشراء، في الرحيل، في الإقامة.. في كل شيء، لا تضع الشيء إلا في موضعه؛ لأنك حكيم.
قال تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269] ولهذا من أعطي القرآن فحفظه وفهمه وعمل بما فيه وقال: إنه فقير فأدبوه، فأين الفقر مع القرآن؟ أغنى الناس أهل القرآن.
واسمعوا التنبيه: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267] تقصد الرديء غير الجيد الذي ما يصلح وتعطيه الفقراء والمساكين، واذكروا قصة العراجين التي كانت تعلق في الصفة، يدس معها قنواً فاسد ليقولوا: فلان جاء بقنو من بيته أو من بستانه.
إذاً: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267] إذا أغمضت عينيك فستأخذ الرديء.
ثالثاً: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [البقرة:267] لا يخطر ببالك أن الله محتاج إليك أو إلى مالك، ما أعطاك هو حقه وماله، فإن طلب منك أن تنفق لتزكية نفسك أو إسعادها فليس معناه أنه في حاجة إليه.
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] كل قبيح الشيطان يدعو إليه، فالذي يفتح مخمرة في بلاد المسلمين أليس هو الشيطان؟ الذي يفتح بنكاً ربوياً يلقي الناس في جهنم أما أمره الشيطان؟ الذي يستورد المحرمات من الحشيش أو الدخان ويبيعها بين المسلمين أما أمره الشيطان؟
وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا [البقرة:268] فقولوا: الحمد لله.
وأخيراً: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269] يا صاحب العلم والمعرفة! لا تقل: أنا فقير، انتبه، استح! أنت تملك ما لا يملك ملايين البشر، تملك الكتاب والحكمة.
وَمَا يَذَّكَّرُ [البقرة:269] من يفهم هذا الكلام ويعيه ويعمل به؟ هل المجانين؟ بل أصحاب العقول، أرباب الألباب والنهى، وصدق الله العظيم.
إليكم هذا الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما حبر هذه الأمة، يقول في هذه الآية: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [البقرة:268] إلى آخرها، يقول: اثنتان من الله واثنتان من الشيطان. وهو كذلك، ويفسر هذا الحديث عند الترمذي ؛ إذ فيه قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن للشيطان لمة بابن آدم ) يلم به: يحوط به كما قدمنا، ( وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ).
من وجد في نفسه لمة الملك فليقل: هذه لمة الملك، أنه يشجعه على النفقة، وعلى رجاء الله وعلى طلب الفضل والخير، إن وجدت هذا في نفسك فاحمد الله، فهذا من الملك، وإن وجدت حال النفقة خاطراً يقول: كيف تخرج ما في جيبك؟ من يعطيك كذا؟ فذلك -والله- من الشيطان؛ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا [البقرة:268]، إن وجدت في نفسك العزوف عن الشهوات وترك الرغبة فيها ودوافع تبعدك عن هذه المحرمات فاعلم أن هذه من لمة الملك الذي يدخل قلبك.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: وجوب الزكاة في المال الصامت من ذهب وفضة وما يقوم مقامهما من العمل ] على اختلافها، [ وفي الناطق من الإبل والبقر والغنم؛ إذ الكل داخل في قوله: مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267]، وهذا بشرط الحول وبلوغ النصاب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر