وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) ، اللهم حقق لنا هذا الرجاء إنك ولينا وولي المؤمنين.
وها نحن مع هذه الآية الكريمة من سورة البقرة، وهي قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258].
فقد قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74]، هذا يواجه به والده آزر، وإذ قال [الأنعام:74]، اذكر يا رسولنا واذكر أيها المؤمن وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ [الأنعام:74-76] ذهب قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:76-79].
وهكذا يستدرجهم من النجم إلى القمر إلى الشمس وهم عبدة الكواكب، لما رأى القمر قال: هذا ربي؛ من أجل جذبهم إلى أن يتأملوا؛ لا أنه يعتقد أنه ربه، لما أفل وذهب قال: ما ينبغي هذا ولا يصلح أن يكون إلهاً، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:77] وهم يسمعون ويشاهدون، فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام:77] معناه أنه يطلب الهداية من أجلهم حتى يفيقوا ويصحوا من غفلتهم.
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ [الأنعام:78] وانتهت وغابت ماذا قال؟
قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:78-79].
هذا كان مع والده وقومه، قال تعالى: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ [الأنعام:80] في مواقف متعددة، وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا [الأنعام:80] ، قالت العلماء: هذا الاستثناء لو أنه عثر أو أصابته شوكة لقالوا: آلهتنا هي التي أصابته، فاحتاط وقال: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ [الأنعام:80]، ثم قال لهم: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81]، أي الفريقين أحق بالأمن من عذاب الله وعذاب النار؟ وكان الجواب: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، قال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83].
إذاً: ولما سجنوه ينتظرون إصدار الحكم عليه وقع هذا الحجاج بينه وبين الملك النمرود ، فقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأمته: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ [البقرة:258]، أي: ألم ينته إلى علمك يا رسولنا ما تم ما بين إبراهيم والنمرود ؟
وعبادة الله عز وجل هي سر الحياة وعلة هذا الوجود، فقد خلق كل شيء من أجل أن يذكر ويشكر، فكيف إذاً يعبد غيره؟! بأي منطق أو قانون أو شرع أو حق؟ أيخلق ويرزق ويدبر الحياة كلها من أجل أن يذكر ويشكر وإذا بالشياطين تجتال الآدميين وتجعلهم يعبدون من لا خلق ولا رزق ولا أعطى ولا منع ولا ضر ولا نفع؟ هذا كيد الشياطين ومكرهم.
إذاً: قوله تعالى: أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة:258]، المفروض أنه يشكر الله الذي ملّكه وأعطاه وأصبح سلطاناً في تلك الديار، لا أنه يحارب أولياء الله ويصرف عن عبادة الله من أجل أن آتاه الله الملك.
واللفظ أيضاً يحتمل معنىً آخر، وهو: أنه لما ملّكه الله وطغى وتجبر وتكبر أعرض عن عبادة الله وحارب أولياءه.
وكلا الحالين مذموم، المفروض أن من أعطاه الله يشكر الله ويعبده ويدعو إلى عبادته، لا أن يعرض عن عبادته ويعبد معه غيره، لكن الطغيان ناتج عما أوتي من الملك والسلطان، والآثار والأخبار تدل على أن هذا الطاغية أهلكه الله وجيشه بالبعوض، فسلط عليهم بعوضاً مزق ذلك الجيش بكامله، نقمة الله عز وجل، والنمرود نفسه دخلت بعوضة في أذنه وأصبح لا يطيق النوم ولا الأكل ولا الشرب، وعن يمينه وعن شماله رجلان يضربانه على رأسه بأشياء، إما بخشبة وإما بحذاء؛ حتى يهدأ، حتى هلك على تلك الحالة.
فقال الطاغية: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258]، فأطلق سراح من كان محكوماً عليهم بالإعدام لجرائمهم وادعى أنه أحياهم فقال: أنا أحييت هؤلاء، وأتى بمن حكم عليهم بالموت فقتلهم، وادعى أنه بهذا يحيي أيضاً ويميت، وهذا مغالطة تشمئز منها العقول، فالإحياء: أن تهب الحياة وتوجدها، والموت: هو أن تميت من تخلق فيه الحياة، فالله تعالى خلق هذا وخلق هذا وحكم بالموت على هذا وأجل هذا، وأنت ما فعلت شيئاً، ما هي قدرتك التي فعلت؟
لقد كانت تلك مغالطة عرفها الخليل وعدل عنها، فقال له: إن ربي يأتي بالشمس من المشرق فائت بها أنت من المغرب، الله يأتي بالشمس عند طلوعها من شرق الكرة الأرضية، فعاكسه أنت وائت بها من المغرب، وبذلك تتجلى قدرتك ويعلو سلطانك وتكون المستحق لئن تطاع، فوقف مشدوهاً حيراناً كما أخبر تعالى: فَبُهِتَ [البقرة:258]، انقطع كلامه ولم يقو على أن يتكلم، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة:258]، لولا كفره ما كان يبهت، كان يفتح الله عليه ويجيب، كما مر بنا في آية الأنعام قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [البقرة:258]، ما من مؤمن ذي بصيرة وربانية صادقة ويحاجه ظالم أو كافر إلا غلبه، ولا يستطيع أن يهزمه.
فهذا المسيحي يسخر من الإسلام فيقول: كيف تكون بطونهم مملوءة وهم يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون؟ وحقاً إن تلك الأغذية تتحول إلى عرق أطيب من ريح المسك.
فقال له العربي الأمي: هل الجنين في بطن أمه حين يتخلق ويصبح يتغذى من دم أمه وينمو بذلك الغذاء أربعة أشهر -السادس والسابع والثامن والتاسع- هل يبول أو يتغوط؟ والله! ما يبول ولا يتغوط، بمجرد أن يخرج من بطن أمه يبول، إذاً: كيف بطن أمه؟ هل امتلأ بالبول والعذرة؟! فانقطع الصليبي واندهش وذهل.
فالولد في بطن أمه تمضي عليه أربعة أشهر وهو يتغذى وعلى الغذاء ينمو، وبمجرد أن يخرج يبول ويتغوط، فلم ما بال أولاً ولا تغوط، لو كان يبول ويتغوط فكيف سيصبح رحم أمه أو بطنها؟! ولكن تقدير وتدبير العزيز العليم.
والشاهد عندنا أنه إلى اليوم لا يحاج كافر مؤمناً إلا انهزم، وقد تمت محاجة عظيمة مطبوعة في جامعة الإمام محمد بن سعود ووزعت في مجلد، فهذا صليبي كبير بريطاني حاج مؤمناً عالماً من علماء المسلمين في الهند، واجتمع للحجاج خلق كثير؛ لأنها محاجة ذات قيمة، ونصر الله عز وجل المسلم وانهزم ذلك الصليبي شر هزيمة.
والذي يذكر بخير: أن السلطان عبد الحميد العثماني ترجم تلك المناظرة إلى تسع لغات عالمية ووزعها ونشرها بين الناس، وهذه هي الحقيقة؛ لأن الله عز وجل ولي الذين آمنوا يخرجهم من ظلمات الجهل والحيرة إلى نور العلم والبصيرة، ما من مؤمن يقف لله عز وجل إلا وينصره الله ويؤيده، وليس هذا خاصاً بإبراهيم ولا بغيره.
وقلنا:إن قوله تعالى: أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة:258]، فيه إشارة إلى أن الذي يؤتى السلطان والقدرة إذا لم يعصمه الله، إذا لم يحفظه الله، إذا لم يتوله الله؛ فإنه إن كان مؤمناً يصاب بالطغيان، وقد شاهدتم وسمعتم، ويصاب بالتعالي والتكبر والإفساد في الأرض، إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى [العلق:6]، متى؟ أن رأى نفسه استغنى، كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] ، أي: رأى نفسه استغنى عن الناس، يتكبر ويتعالى عليهم.
إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:19-21]، إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34].
توجد وصفة طبية والطبيب هو الرب تعالى، هي ذات ثمانية أرقام، أيما مؤمن يستعملها بإشراف طبيب فإنه يخرج من أصح الخلق وأكملهم، وإن لم يجد الطبيب المشرف عليه واستعان بالله واستعملها شيئاً فشيئاً فإنه يبرأ أيضاً من أسقامه: من الظلم والجهل والكفر والشح والبخل والجزع، لكن قد تطول مدته أو لا يكمل برؤه على الوجه المطلوب، بل لا بد من إشراف طبيب.
أين توجد هذه الوصفة الطبية بأرقامها الثمانية؟ توجد في القرآن العظيم، في كتاب الله الذي نقرؤه على الموتى! في سورة المعارج، يقول تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:19-21]، والجزوع: كثير الجزع، والمنوع: كثير المنع، ما قال: إذا مسه الخير جزع وإذا مسه الخير منع، بل جزوع ومنوع.
ثم ذكر الأرقام الثمانية: أولاً: إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:22-23]، الذي يصلي ويديم صلاته على الوجه المطلوب فهذه الصلاة تبرئ من ذلك الجزع وهذا المنع، وتبرئ من ذلك الظلم والكفر، ومن الطغيان والتعالي.
ثانياً: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]، الذي يؤدي الزكاة كما شرع الله وبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم وينفق على أسرته واليتامى والمساكين ولا يبخل ويعطي للسائل والمحروم فهذا الرقم أيضاً يفعل العجب في النفس، صاحب هذا الرقم والله! لا يكذب ولا يغش ولا يخدع، كيف يصرف هذا المال لوجه الله وهو يسرقه؟! ما هو بمعقول أبداً.
ثالثاً: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المعارج:26]، الذي يصدقون بيوم القيامة يوم الجزاء يوم الحساب والجزاء، هذا الرقم أيضاً يفعل في النفس العجب في تزكيتها وتطهيرها، لم؟ هو موقن أنه سيسأل ويحاسب، فكيف إذاً يضن أو يبخل؟ كيف يظلم ويكفر؟ كيف يطغى؟ كيف يجزع؟ هذا يؤثر فيه أعظم تأثير.
رابعاً: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:27-28] قطعاً، فالذين يعيشون على هذا الإيمان وأنهم يخافون من ربهم أن يعذبهم إذا خالفوا أمره وإذا فسقوا عنه وإذا خرجوا عن طاعته يعيشون ليل نهار مشفقين من عذاب الله؛ لأن عذاب الله من يؤمننا منه؟ فلهذا لا يقتحمون أودية الضلال والشرك والباطل والكفر؛ لخوفهم، فصاحب هذا الرقم أيضاً يتعالج بإذن الله تعالى ويبرأ من الأمراض الستة المذكورة في الآية.
خامساً: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المعارج:29-30]، من يلومهم وقد أذن الله لهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم.
إذاً: فهذا الذي يحفظ فرجه من الوقوع في الفاحشة يفعل ذلك فيه العجب من تزكية نفسه وتطهيرها.
سادساً: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المعارج:32]، الذي يعيش كراعي الغنم يرعى أمانته وعهوده لو تضع تحت يديه ما شئت من المال فوالله! لا ينقصك درهماً واحداً، لو تودع عنده امرأة حتى تعود من جهادك أو سفرك فوالله! لا ينظر إليها ولا يلتفت إليها، تودعه كلمة يصونها ويحفظها، هذا الذي يحافظ على الأمانة وعلى العهد هل يعصي الله فيظلم أو يجزع أو يسخط؟
سابعاً: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ [المعارج:33]، لا يميل يميناً ولا يساراً، لا مع أخ ولا عم ولا قريب ولا بعيد ولا غني ولا فقير، يؤدي شهادته كما علمها وليكن ما يكون.
وأخيراً: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج:34]، الإدامة غير المحافظة، يحافظون على أوقاتها وآدابها وشروطها وأركانها حتى تثمر لهم الزكاة في نفوسهم.
هذه الوصفة لا يضعها إلا الله، إن طبقتها بإشراف العالم الرباني المزكي نجحت في أقرب وقت، وإذا ما وجدته وأخذت أنت تستعملها فسينفعك الله تعالى بها.
إذاً: ظلم الإنسان وكفره وجهله وجزعه وطغيانه؛ هذه الطبائع هذه الغرائز التي تقويها وتذكي نارها الشياطين، إذا لم يعالجها الإنسان من ذكر أو أنثى بهذه الأرقام فإنه لا ينجو منها ولا يسلم أبداً، والحمد لله؛ فهو الذي وضع هذا، خلق الداء والدواء، وأرشد إلى استعمال الدواء للبعد والنجاة من الداء.
مرة ثانية: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا [المعارج:19-20]، يجزع، ما تستطيع أن تمشي معه ولا تجالسه من الصراخ والتأمل والتحسر، لا صبر أبداً، ولا يفوض أمره إلى الله أبداً؛ لأنه مريض.
وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ [المعارج:21] منع فلا يعطي ولا يبذل ولا ينفق؛ لأنه مريض، فإذا أراد الشفاء فالوصفة الربانية موجودة:
إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ [المعارج:22-35]، الأعلون السامون فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:35]. اللهم اجعلنا منهم.
قالت العلماء: في هذه الآية بيان جواز الحجاج في الدين مع المبتدعة مع المعطلين مع الكافرين ولا حرج؛ لتظهر حجة الله عليهم، فهذا إبراهيم يحاج النمرود.
قال تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258]، دائماً وأبداً إلى يوم القيامة، والظالمون الخارجون عن عبادة الله عقيدة وقولاً وعملاً، هؤلاء الظلمة.
ويتحداه ويعطيه لغيره، مع أن الله خلقه ورزقه ودبر حياته وكلأه وحفظه ورعاه وهو عبده ومخلوقه، ويغمض عينيه عن ربه الخالق الرازق المدبر، ويفتحهما في صنم أو كوكب أو فرج أو شهوة أو إنسان أو حيوان، أي ظلم أعظم من هذا؟
ويدل لذلك أنه لما نزل قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] اندهش المؤمنون فقالوا: يا رسول الله! أينا لم يظلم نفسه؟ إذا كان لا أمن من عذاب النار إلا لمن لم يخلط إيمانه بظلم؛ فأينا ما ظلم؟ هذا ظلم أخاه، وهذا ظلم حيواناً، لا بد أن يقع ذلك، فقال: ليس الأمر كما فهمتم، المراد من الظلم هنا: الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان الحكيم لما كان يعظ ولده بين يديه يربيه ويعلمه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فلا أعظم من ظلم عبد يترك ربه ويعبد غيره، مع أن هذه المخلوقات كلها مربوبة مخلوقة، فيعبد عيسى وهو مخلوق خلقه الله، وتعبد مريم وهي مخلوقة، الله خلقها، ويعبد روح القدس جبريل، أليس جبريل مخلوقاً لله من جملة ملائكته؟ والذين يعبدون العزير كاليهود، والذين يعبدون الأولياء.
وأعظم من هذا أن المرأة والطلق يهزها وقد ربطوا حبلاً في سارية العمود؛ إذ ما هناك مشاف ولا ممرضات ولا مقبلات وهي تصرخ: يا ألله! يا رسول الله! يا رب! يا سيدي عبد القادر! يا فلان! ولو تموت هذه فكيف ستموت؟
يقولون لك إذا أصابتك مصيبة: يا مغربي! استقبل القبلة وناد: يا راعي الحمراء! يا مولى بغداد! فيأتيك ويفرج ما بك.
وإن شككتم فهذا تفسير المنار للشيخ: رشيد رضا وبعضه للشيخ: محمد عبده ، يقصان عليكم قصة عملية واقعية، قال: كانت سفينة تحمل الحجاج أيام الدولة العثمانية من طرابلس الغرب إلى طرابلس الشام، ترسو في الموانئ وتحمل حجاج البلاد من طرابلس والإسكندرية ويافا وحيفا واللاذقية، قال: وجاءت عواصف بحرية بأمواج، والسفينة ما هي كما هي الآن بالهيدروجين، إنما كانت بالفحم أو بالشراع، قال: وماجت السفينة واضطربت، فأخذ الحجاج يقولون: يا رسول الله! يا بدوي! يا عبد القادر ! يا مولاي فلان! يا عيدروس ! يا فاطمة ! يا حسين ! وكان يوجد بينهم فحل قوي، فوقف ورفع يديه إلى الله وقال: يا رب! أغرقهم فإنهم ما عرفوك.
ورحم الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، يقول في رسائله: شرك الأولين أخف من شرك الحاضرين، والله! لأخف، وإليكم الصورة: لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة ودخلت جيوشه الاثنا عشر ألفاً، فالطغاة هربوا، ما استطاعوا أن ينتظروا، خافوا، وعلى رأسهم عكرمة بن أبي جهل ، وكان كأبيه أبي جهل ، الابن كالأب في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهرب إلى ساحل البحر فوجد سفينة تريد أن تقلع إلى الحبشة أو إلى الهند، المهم ألا يشاهد محمداً صلى الله عليه وسلم في مكة، فلما انطلقت السفينة ومشت كيلو أو كيلوين اضطربت وجاءت الأمواج، فقال الربان أو الملاح: يا جماعة! يا عباد الله! ادعوا ربكم قبل أن تغرقوا. فأخذوا يقولون: يا ألله! يا ألله! يا رب الكعبة! يا رب إبراهيم! وهم مشركون، ما قالوا: يا لات ولا عزى، فقال عكرمة : هذا الذي هربت منه يلحقني حتى وأنا في السفينة، أنا هارب من هذا التوحيد، والله! لترجعن بي إلى الساحل، ولأقبلن يد محمد صلى الله عليه وسلم، وردّه إلى الساحل، وانطلق رأساً إلى مكة واطّرح بين يدي الرسول يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، واقرءوا لذلك: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، ونحن الآن بالعكس، ما هناك فرق بين البر ولا البحر، عند المصيبة الكل: يا سيدي فلان، والحمد لله أن أنقذنا الله عز وجل بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي كان يتقزز منها الغافلون والغالطون، وانتشر هذا النور وأصبحت ما تسمع بمؤمن يقول: يا سيدي عبد القادر إلا بعض العوام.
وقد خرجنا ذات مرة وكان شخص معنا، وركبنا في السيارة وهو يسوق، فخرجت السيارة عن الطريق فإذا به يقول: يا رسول الله! يا رسول الله! فقلت: وأين الله؟ كيف نسيته؟
والله! ما هناك مشقة ولا كلفة أبداً، لا تحمل قرطاساً ولا قلماً، ولا توقف أبداً مصنعك ولا مزرعتك ولا متجرك، إنما إذا مالت الشمس إلى الغروب يأتي المؤمنون بأبنائهم ونسائهم إلى بيت ربهم، ويوسعونه، ويتلقون الكتاب والحكمة بين المغرب والعشاء كل ليلة.
اليهود والنصارى والمشركون إذا دقت السادسة وقف العمل وذهبوا إلى المقاهي والملاهي والمراقص والمقاصف؛ إذ هذا دينهم وهذا باطلهم، ونحن إلى أين نذهب؟ إلى بيوت الرب عز وجل، نتلقى الكتاب والحكمة ونزكي أنفسنا، ما تمضي سنة واحدة على أهل القرية إلا وكلهم أولياء الله، فلم ما نفعل هذا؟ أهذا ينغص الحياة؟! أهذا يوقف العمل؟! الجواب: لا. بل هذا الذي يوجد الإخاء والمودة والمحبة، لا سيما إذا وجد صندوق حديد في المحراب وقيل: يا معشر المؤمنين والمؤمنات! من أراد أن يتصدق فليضع في هذا الصندوق، يا معشر المؤمنين والمؤمنات! من زاد على قوته ريال فليضعه في هذا الصندوق، حتى يمتلئ وينمو في تجارة أو مصنع أو مزرعة، وإذا به يدر عليهم اللبن والخير، وفقراء القرية لا يبقى لهم وجود، وتنتهي السرقة والتلصص والبكاء والجزع أبداً، كأسرة واحدة، فلم ما نفعل هذا؟ لأننا ما عرفنا، ما أيقنا بهداية الله.
والله تعالى أسأل أن يعود بنا إلى جادة الصواب، وأن ينجينا من محننا؛ إنه رءوف رحيم.
معشر المؤمنين والمؤمنات! أحدهم مريض سألنا أن ندعو الله تعالى له، فاللهم يا ولي المؤمنين ويا متولي الصالحين اشف عبدك شفاءً عاجلاً غير آجل، وبارك في صحته وعمله يا رب العالمين، واشف اللهم مرضانا في بيوتنا وبين أيدينا، اللهم اشفنا ظاهراً وباطنا، اللهم اشفنا ظاهراً وباطنا، اللهم زك نفوسنا أنت وليها وأنت مولاها وأنت خير من زكاها، اللهم ارزقنا البصيرة واليقين واجعلنا من عبادك الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ربنا علمنا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما تعلمنا، واجعلنا من الراشدين، اللهم اجعلنا من الراشدين من أوليائك الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر