إسلام ويب

تفسير سورة البقرة (12)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الملائكة من مخلوقات الله تعالى، خلقهم من نور، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ليسوا على هيئة واحدة، ولا وظائف متحدة، بين القرآن بعضاً منهم، وطرفاً من أعمالهم، فجبريل موكل بالوحي، وإسرافيل بالنفخ في الصور، وملك الموت بقبض الأرواح، وهناك حملة العرش، والكرام الكاتبون، والملائكة الحافظون وغيرهم كثير بحيث لا يحصيهم إلا خالقهم.

    1.   

    تابع تفسير قوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ...) وما بعدها

    الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون .. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها، وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.

    قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم. ‏

    معاشر المستمعين والمستمعات! في الآيات التي قبل هذه قال تعالى وقوله الحق: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [البقرة:28] وقد عرفنا أن هذا الأسلوب وهذا الاستفهام هو في معنى التقريع والتأديب، وهو يحمل معنى التعجب أيضاً، إذ كيف يكفر الإنسان بخالقه! تصوروا، كيف ينكر وجوده؟ يقول: أنا غير موجود .. أنا غير مخلوق، من يصدقه؟ هو لا يصدق نفسه، فكيف إذاً يكفر، ويستر، ويغطي، ويجحد خالقه، فهذا أمر يستدعي الاستغراب والتعجب، وصاحبه يؤدب ويقرع بالمقارع، كيف تكفر بربك؟

    وأنتم تعرفون السياق في الرد على أولئك الكافرين من المنافقين ومن المشركين، إذ كفروا بربهم، وعبدوا غيره، وحاربوا كتابه ورسوله.

    كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28]، حجة بعد حجة بعد حجة، فكيف يستسيغ العاقل أن يجحد ربه وهو قد خلقه بعد أن لم يكن شيئاً.

    ثم أعظم من ذاك أنه يميته، هل هناك من فرض بقاءه على الله، وقال: مثلي لا يموت، أو أنا لن أموت، والبشرية مضت عليها قرون، هل وجد من فرض بقاءه على الله؟! إذاً: كيف يكفر بالله! وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ [البقرة:28].

    يبقى: ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة:28] الذي يتمتع بعقل إنسان آدمي، ما دام قد عرف أنه كان غير مخلوق وخلق، وأنه مات بعد أن كان حياً فبأي ذوق أو منطق أو عقل يدعي أنه لا يحيا مرة ثانية! وهذا الكلام عقلي منطقي، كما نتكلم في دنيانا: هذه الشاة تساوي كذا، هذا البستان لفلان، هذه الدجاجة بيضها كذا.. بالعقول.

    إذاً: كيف يكفر هذا الإنسان بربه حتى يعصيه ويتمرد عليه، ويخرج عن طاعته؟!

    سبب إنكار وجود الله

    سبق أن عرفتم أن إنكار وجود الله كإنكار البعث الآخر، والعلة والسبب في ذلك: هو أن يتمرد الإنسان ويعيش بلا قانون، ولا شرع، ولا نظام، يريد أن يعيش كالبهائم؛ فلهذا كيف يتخلص من الطاعة، والانقياد، والإذعان؟ بالكفر، ولهذا أنكروا وجود الله، وأنكروا لقاء الله.

    وقد عرفنا سبب إنكار وجود الله وإنكار البعث الآخر ولقاء الله في قول الله تعالى: بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ [القيامة:5] في سياق تقرير البعث والجزاء: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ [القيامة:1-5]، الذي يريد أن لا يصلي، ولا يزكي، ولا يذكر الله، ولا يغتسل من جنابة، ولا يعطي حقاً من الحقوق، ماذا يصنع؟ يكفر. هذه الحقيقة، كالذي لا يريد أن يذعن لقانون الدولة ينكره، ولا يؤمن به، ولا يعترف بهذا الحاكم، ولا هذا الحكم، حتى ما يتقيد أبداً بقيد، ولا يلتزم بمبدأ، هذه حقيقة.

    ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28]، لو كان رجوعنا بعد الموت إلى غير الله لهان الأمر، لكن رجوعنا إليه، وقد تمردوا عليه، وفسقوا عن أمره، وخرجوا عن طاعته، وحاربوه، وحاربوا رسله، كيف يكون هذا الرجوع؟! ماذا يلقون من جزاء؟! ماذا يتحملون من ألوان الشقاء والعذاب؟! ولكن لا يعزينا ولا يسلينا إلا قولنا: قضاء الله وقدره، حكم الله عليهم بالشقاء.

    كل ما في الأرض خلق من أجل الإنسان

    قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، هذه نعمه، وهذه آثار حلمه وعلمه وقدرته ورحمته، خلق لكم خاصة، لا لغيركم، ولا لسواكم، مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا كل ما في الأرض من حيوان . من أنواع الفواكه .. أنواع الخضر .. اللحوم، كل ما فيه حتى المعادن خلقها لكم، ولا تقولون: الحمد لله، ولا تقولون: المنة لله، ولا تقولون: مرنا يا ربنا نطعك، واطلب منا نعطك؛ لأن إنعامك سابغ، وإفضالك عظيم، ونحن عبيدك وأولياؤك، قالوا: لا، يأكلون، ويشربون، ويركبون، ويسكنون، وينكحون، ولا يذكرون الله.

    هذه هي آثار الكفر والعياذ بالله تعالى، إذ الكفر في الحقيقة موت، وما زلنا نقرر هذه الحقيقة أن الكافر ميت، فلا يسمع، ولا يبصر، ولا يعقل، ولا يأخذ، ولا يعطي. هذا شأنه، فإن حيي بالإيمان، وتفتحت حواسه؛ سمعه وبصره، أصبح قادراً على أن يعي ويفهم ويفقه، وإن أمر أطاع، وإن نهي استجاب. الموت في الكفر، والعياذ بالله.

    خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا هذه مظاهر نعم الله، إن الذي يقدم لك رغيفاً من الخبز فقط تحمده وتثني عليه، وتشكره، والذي يضع لك حصيراً تجلس عليها تحمده، وتثني عليه، فكيف بالذي أعطاك سمعك وبصرك ومنطقك، وأعطاك قواك تذهب وتجيء، وتقوم وتقعد؟! وخلق لك ما في الأرض من مخلوقات لك ومن أجلك، تأكل وتشرب، ومع هذا لا تقول: رب لك الحمد! عجب حال الكافر!

    خلق الله للسماوات والأرض

    قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة:29] هنا السؤال: أيهما خلق قبل الآخر: الأرض أو السماوات؟

    هذا الموضوع فيه كلام طويل، ونحن لا نعيي ولا نتعب أفهامنا وعقولنا فيما لا طائل تحته، فنقول: خلق الله عز وجل الأرض، ولم يخلق فيها ما فيها من أنواع هذه النعم بعد، ثم خلق السماوات، ولنستمع إلى آية في هذا الشأن من سورة فصلت: حم [فصلت:1]، قال تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [فصلت:9-12]، فهذه الآية نص في أنه خلق الأرض أولاً في يومين، وخلق الأقوات والأرزاق في يومين، لكن ليس شرطاً بالتتابع، فخلق الأرض في يومين، وخلق السماوات في يومين، وخلق بعد ذلك ما تتطلب حياة الناس على الأرض من وجود هذه النعم.

    وقوله تعالى من سورة: وَالنَّازِعَاتِ [النازعات:1]، أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ [النازعات:27].

    يا من ينكرون البعث، والآخرة، والحياة الثانية! أخبرونا: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [النازعات:27-33]، فهل فهمتم عني هذا؟

    أقول: خلق الله الأرض وخلق بعد ذلك السماوات، وعاد إلى الأرض فدحاها: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ، ولماذا قلت لكم: ما هناك حاجة إلى أن نجزم بهذا أو ذاك، إذ الذي نجزم به أن الله على كل شيء قدير، وأن نعم الله لا تعد ولا تحصى، وأن المطلوب منا بعد الإيمان أن نشكر الرحمن بطاعته؛ لأن السياق: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:9]؟ أين يذهب بعقولكم؟! أتجحدون الرب العظيم الذي خلق؟ الأرض في يومين؟ الذين أنكروا البعث، والجزاء، والحياة الثانية قال الله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ، من يقول: نحن أشد خلقاً؟ ما نحن بالنسبة إلى السماء؟ ماذا نحن؟ بعوض، السماء بناها: رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا [النازعات:28-29]، ونحن نقول: ما يستطيع أن يعيدنا من جديد، أن يعيد خلقنا ليحاسبنا على أعمالنا، ويجزينا بها؟

    وقد عرفنا؛ العلة أنهم يريدون أن يواصلوا الفجور، لا استقامة، ولا طاعة، ولا أدب، ولا خلق، ولا حياء، ولكن حيوانات وبهائم.

    حادثة المعراج إلى السموات السبع وما فوقها

    إذاً: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة:29]، السماء الأولى، والثانية، والثالثة، والرابعة عشناها ليلة الحديث في صحيح البخاري ، إذ عرج بنبينا صلى الله عليه وسلم بعد أن أسري به من مكة إلى بيت المقدس، ثم عرج به من بيت المقدس (المسجد الأقصى) إلى الملكوت الأعلى، فاخترق السماوات السبع، وأعلمنا -لنتأكد- أنه وجد في السماء الأولى آدم أبا البشر، وأهل ورحب وسهل به، وقال: من ابن ونبي. وعرج به إلى السماء الثانية، وهو يستفتح له جبريل، ويقال له: من معك؟ فلان، أذن له ودعي أو لا؟ يقول: نعم، فوجد في السماء الثانية ابني الخالة: عيسى ويحيى عليهما السلام، ووجد في السماء الثالثة يوسف الصديق ابن الصديق ابن الصديق عليه السلام، ووجد في الرابعة إدريس عليه السلام، ووجد في الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم، وهو يرى رؤيا العين، ثم ارتفع وتجاوز السماوات السبع حتى انتهى إلى جنة عدن؛ إلى دار السلام، وثَمَّ شاهد سدرة المنتهى، وارتفع أيضاً، وبقي جبريل دونه حتى انتهى إلى مقام سمع فيه صرير الأقلام، وصوت أقلام القضاء والقدر، وناجاه ربه وناداه، وكلمه كفاحاً؛ بلا واسطة، وقد كلم من قبل موسى في جبل الطور، وناداه وقال: يا رب! أكلامك أسمع أم كلام رسولك؟ قال: بل كلامي يا موسى. حتى تاقت نفس موسى واشتاقت روحه أن ينظر إلى وجه الله الكريم، ولكنه عاجز ما يقدر؛ لأن هاتين المقلتين قوتهما بحسب حياتنا في هذه الدار، وليس عندها طاقة كبيرة ترى أنوار الله عز وجل، وقد سئل نبينا صلى الله عليه وسلم: ( هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه )، فلينظر أحدكم إلى الشمس هل يستطيع أن يرى شيئاً؟ ( حجابه النور، لو أزال تعالى حجابه لاحترق ما انتهى إليه بصره )، قولوا: آمنا بالله، آمنا بالله.

    مظاهر العلم والقدرة والحكمة: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ، وما قال: إلى السماوات، أي: جنس السماء، فلهذا قال: سواهن، بجمع المؤنث، فهن سبع سماوات، سماء بعد سماء بعد سماء، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سمك السماء وغلظها مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء والسماء مسيرة خمسمائة عام، ومع هذا اخترقها صلى الله عليه وسلم في دقائق معلومة، ثم أتم هذا كله وعاد، تقول أم هانئ : وفراشه دافئ ما برد بعد. فلا يسعك يا ابن آدم إلا أن تقول: آمنت بالله! آمنت بالله.

    وكلمة استوى نبهنا أنه ليس معناها: علا، وإنما أراد وقصد -ولم يقصد إلى شيء آخر- إلى السماء حتى سواهن سبع سماوات، أو علا علو قهر وغلبة، فغلب هذا الملكوت وخلق السبع السماوات.

    وهو مع هذا بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أسألكم بالله: أهذا يكفر، أهذا يجحد، كيف تستطيع أن تجحده؟ أنت لا تستطيع أن تجحد -والله- ولو كأس حليب على طاولة، تقول: لا مستحيل أن يكون هذا قد وضعه إنسان، ممكن؟ تستطيع أن تجحد وجود عربة أو دراجة عند باب المسجد تقول: هذه ما أوجدها أحد، هذه وجدت هكذا، ممكن؟ كيف -إذاً- ينكر هذا المخلوق خالق كل شيء، ورب كل شيء، ومالك كل شيء، ومن بيده كل شيء؟

    عجب كفر الكافرين كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:28-29].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ...)

    قال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [البقرة:30]، أي: اذكر يا رسولنا، اذكر أيها السامع، اذكر أيها المؤمن للملاحدة والمشركين والكافرين والهابطين، اذكر لهم ما تم في الملكوت الأعلى؛ لترتفع هممهم، وتعلو علومهم ومعارفهم، إنهم جهلة عميان؛ لا يبصرون، ولا يعلمون، فاذكر لهم مظاهر العلم والقدرة والحكمة الإلهية.

    وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ الملائكة -معشر المستمعين والمستمعات- واحدهم ملك. وهل هو مأخوذ من ألك يألكه، والألوكة هي الرسالة؟ ليس هناك حاجة إلى أن نشقى في هذا الباب، فهو علم لا ينفع، وجهالة لا تضر. وقد أخبرنا الله عن أسمائهم، وحدث بذلك رسوله، فالواحد ملك، والجمع ملائكة.

    عدد الملائكة

    الملائكة خلق عظيم.

    وعددهم لا يحصيه إلا خالقهم، فلو تضرب الآلات الحاسبة ألف سنة لا تستطيع معرفة عددهم، يدلنا على هذا العدد العظيم ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في قوله، وقد حدث أصحابه وهو جالس بينهم فقال: ( أطت السماء وحق لها أن تئط )، أي: تأرجحت بالثقل فوقها، ثم بين ذلك لهم فقال: ( ما من موضع قدم أو شبر إلا وعليه ملك راكع أو ساجد )، من يعد .. من يحصي إذاً؟ فهذه السماوات السبع، ما هي سماء واحدة: ( أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وعليه ملك راكع أو ساجد ).

    ذكر أسماء بعض الملائكة وأعمالهم

    هؤلاء الملائكة ذكر الله تعالى صفاتهم، وذكر أسماءهم في كتابه القرآن الكريم، فذكر من الأسماء: جبريل وميكائيل وإسرافيل.

    وذكر لنا من أعمالهم: أن جبريل موكل بالرسالة؛ بالوحي بين الله ورسله، وأن ميكائيل موكل بالأرزاق والخيرات والأمطار، وأن إسرافيل موكل بمهمة واحدة، وهي أن ينفخ في الصور أو في الناقور فيتم الفناء، وينفخ نفخة أخرى فيبعث الخلق، وينفخ نفخة ثالثة فيصعق من في المحشر كله، وينفخ رابعة فإذا هم قيام ينظرون.

    واقرءوا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67]، أي: الذين عبدوا غيره، الذين ألهَّوا سواه، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا [الزمر:67] بكل أجزائها، ومحيطاتها، وصحاراها، وجبالها قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67] كحبة خردلة في يده، وَالسَّموَاتُ [الزمر:67] السبع مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]، ومن يجرؤ على أن يقول هذا القول أو يدعي هذه الدعوى سوى الله رب العالمين!

    وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ [الزمر:68]، من في السماوات؟ الملائكة، إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى [الزمر:68] نفخة أخرى: فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر:68-69]، جاء الله .. امتلأ الأرض بالنور: وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر:69-70].

    أين نحصل على هذه المعارف، هل تقوى عقول البشر على أن تأتي بمثلها، أو يخطر ببالها مثلها؟ هذا هو القرآن العظيم.

    ملك الموت وعمله

    بعد ما عرفنا مهمة جبريل وميكائيل وإسرافيل نعرف مهمة عزرائيل، ومن عزرائيل؟

    بعض أهل العلم يقولون: ما ورد اسمه في القرآن ولا في السنة، ونحن نقول: عرفت البشرية -أخذاً من الكتب السابقة- أن اسمه عزرائيل، فما المانع؟! وعزرائيل كجبريل وميكائيل بمعنى عبد الله أو عبد الرحمن؛ لأن إيل هو اسم الله.

    وملك الموت له أعوان، وقد قال تعالى فيه: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة:11]، وقال: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:61-62].

    وعندنا عن ملك الموت قصة لطيفة ظريفة ذكرها ابن كثير في تفسيره، وهي:

    كان نبي الله سليمان عليه السلام على سرير ملكه يحكم بين الناس وهو جالس، فجاءه ملك الموت أيضاً وجلس، وسليمان أعطاه الله قدرة على أن يرى الجان، ويستخدمهم في مهام الأعمال، فهو يرى الملائكة، إلا أن ملك الموت جاء في صورة إنسان كما كان جبريل عليه السلام يأتي في صورة رجل كريم جميل، ويجلس إلى رسول الله والصحابة مئات يشاهدون، إذ من خصائص الملائكة أنهم يتشكلون بما شاء الله أن يتشكلوا، وقد نزلوا في وقعة بدر وعليهم عمائم، وخاضوا المعركة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مسومين.

    فكان أن دخل شاب من شبيبة بلاد سليمان يقول: يا نبي الله! لي حاجة؛ نريد أن نمشي في الرحلة الأولى، ولا نستطيع أن ننتظر إلى غد، أرجو أن تجعلني ممن يرحلون في الرحلة الأولى، إذ كان له ما يسمى ببساط، وهو سفينة هوائية وهبها الله لسليمان، وأنتم تعرفون السفن التي تمشي في البحر، أما سفينة سليمان فهي هوائية، برية بحرية، برمائية، سفينة صنعها ليركب هو وجيوشه وأمتعته وسلاحه، وتأتي الريح فتحركها، ثم ترتفع وتمشي الريح معها، وتقودها حيث شاء سليمان، غُدُوُّهَا شَهْرٌ [سبأ:12] مسافة شهر تمشيها في الصباح، ومسافة شهر تمشيها في المساء، في رواحها: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ:12] والله العظيم، هذا كلام الله.

    فهذا الشاب كان مستعجلاً، فابتسم ملك الموت أمام سليمان فسأله سليمان قال: هذا الشاب الذي يرتعد أنا مأمور بأن أقبض روحه في الإقليم الفلاني، وانظروا كيف هو يستعجل موته، يتلطف ويسأل من فضل الله أن يرحل في أول رحلة!

    وهذا ذكره ابن كثير عند قول الله تعالى من سورة لقمان: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]، فانظروا كيف جاء مستعجلاً يلح بالطلب: لا تحرمني من الرحلة الأولى يا نبي الله، لأكون أول من يركب، فلي مهمة في الإقليم الفلاني، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34].

    إذاً: جبريل، ميكائيل، إسرافيل، ملك الموت عرفنا مهماتهم.

    حملة العرش وعملهم

    عندنا حملة العرش، وفيهم قال تعالى وقوله الحق: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، فالعرش سرير الملك، ويحمله ثمانية من الملائكة، أما اليوم فيحمله أربعة فقط، والله العظيم حاملوه أربعة ملائكة.

    ولهذا كثيراً ما نقول: اللهم لك الحمد أن سمحت لنا أن نذكر اسمك. فمن نحن حتى نذكر اسم الله، فكيف بالذين يهزءون ويسخرون ويكفرون؟

    والرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من نومه قال: ( الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي في ذكره )، أي: سمح لي أن أذكره، فهذا العرش الذي تحمله اليوم أربعة ملائكة اقرءوا قول الله تعالى من سورة البقرة؛ آية الكرسي: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، لو أخذنا السماوات السبع رقعة رقعة، وألصقنا واحدة بالثانية، وجعلنا الأرضين السبع رقعة واحدة، فألزقنا كل أرض بالأخرى، ووضعنا عرش الرحمن لكان عرش الرحمن أوسع، لا، بل الكرسي فقط وهو موضع القدمين أوسع من السماوات والأرضين! وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ولا نلتفت إلى المبطلين والضالين الذين يؤولون؛ ليبعدوا خشية الله وحب الله من قلوب المؤمنين؛ يؤولون الكرسي بالعلم، عجز الله أن يقول: وأحاط بكل شيء علماً حتى يعبر بالكرسي عن العلم؟ كل هذا من أجل أن يفقدوا المؤمنين حب الله، والرغبة والرهبة والخوف منه، فيحرفون كلام الله: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ .

    ويقول الحبر ابن عباس رضي الله عنهما: (نسبة الكرسي إلى العرش)، وهذا فيما إذا أردنا أن ننسب بالتقدير نسبة الكرسي إلى العرش كيف هي، قال: (كحلقة ملقاة في صحراء)، تعرفون الحلقة -والجمع حلق- في عنق الإنسان أو في أصبعه أو في يده، حلقة ألقيناها في صحراء، وما نسبة الأرض إلى تلك الحلقة، أو الحلقة إلى تلك الأرض؟ لا شيء.

    كما ذكر لنا صلى الله عليه وسلم أن نسبة العالم الدنيوي أو الحياة الأولى إلى الآخرة كما يغمس أحدنا أصبعه في البحر، ثم يخرج أصبعه ويمسح البلل ويقومه بربع مليمتر مثلاً، ما هي النسبة هذه؟ البلل الذي يعلق بأصبعك إذا نسبته إلى البحر كيف تنسبه؟ يقف العقل، كذلك نسبة الحياة الأولى إلى الحياة الآخرة، قولوا: آمنا بالله.

    فهذا العرش نسبة الكرسي إليه كما سمعتم، ومع هذا يحمله الآن أربعة ملائكة فقط، ويوم القيامة يضاعف الله العدد؛ لأنه يوم الهول، والموقف الصعب، فيجعلهم ثمانية كما في سورة الحاقة: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ [الحاقة:17-18] على الله: لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:18-24]، أية أيام خلت؟ هذه! سوف تخلو وتنتهي. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:25-27].

    كفى بك داءًَ أن ترى الموت شافياً وحسب المنايا أن يكن أمانيا

    يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:25-32]، من فمه وتخرج من دبره، سلسلة طولها سبعون ذراعاً، بأذرعتنا هذه، ونحن البعوض؟ ما قيمة أذرعتنا؟ لم هذا المخلوق؟ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ [الحاقة:33] ملحد؛ كافر، هذا جزاؤه: وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة:34].

    هذه تعاليم الله التي أحيت البشرية بعد موتها، وكونت أمة لم تكتحل عين الوجود بمثلها في قرونها الذهبية الثلاثة عدلاً ورحمة، وصدقاً وصفاء وطهراً، وكمالاً وعزاً، فما عرفت الدنيا أمة أطهر ولا أكمل من تلك الأمة.

    ما سبب طهرها وصفائها وعزها وكمالها؟ هي هذه الدراسة، قال الله وقال رسوله.

    وعرف العدو هذا، وأبعد المسلمين عن الكتاب والسنة، فماتوا، ففعل بهم ما شاء، وما زلنا مبعدين عن نور الله وحكمة كتابه، ومازال الجهل ينخر في عظامنا ويمزقنا إلى الآن.

    خلقة الملائكة

    إذاً: عرفتم حملة العرش، كيف تتصورون الملائكة الأربعة الذين يحملون عرشاً هو أعظم من السماوات والأرضين.

    سدوم وعمورة مدن في البحر الميت كانت تسكنها أمة جبارة من قوم لوط، رفعها جبريل عليه السلام من أسفل الأرض إلى السماء وقلبها، عرفتم قوة جبريل؟ لما تجلى وظهر في السماء لرسولنا في مكة، في جياد بالضبط سد الأفق كله، إذ له ستمائة جناح، واقرءوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ [فاطر:1] وخماس.. إلى كم؟ اكتفى؟ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1] جبريل له ستمائة جناح.

    الملائكة الأطهار الأصفياء، مادة خلقهم ما هي؟ النور، مخلوقون من النور، يوجد النور أو لا؟ وتوجد النار أو لا؟ العوالم الثلاثة: بنو آدم من مادة الطين والتراب، والشياطين والجان من مادة النار .. من شواظ من نار، والملائكة من نور. فهم أعلانا، وأصفانا، وأطهرنا، وأزكانا. قطعاً ما في ذلك شك، وهذا العالم علمنا ربنا عنهم أنهم لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20] .. هكذا خلقهم، لا أكل، ولا شرب، ولا نوم.

    ولهم أعمال، عرفنا فيما سبق عمل جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وحملة العرش.

    الكرام الكاتبون، والملائكة الحافظون

    ما هو عمل الكرام الكاتبين؟ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا [الانفطار:10-11]، الحمد لله ما هم (لئاماً)، يا ويلك لو كان مسجل أعمالك وحركاتك لئيماً! كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار:11]، ما من أحد منا إلا وله أربعة ملائكة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار )، ما معنى التعاقب؟ يطلع اثنان ويهبط اثنان ( يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيجتمعان في صلاة العصر وصلاة الصبح )، فلهذا الشقي المحروم التعس من لم يشهد صلاة الصبح وصلاة العصر في بيت الرب مع عباده المؤمنين!! لم؟ لأن الملائكة التي تقوم بعمل الإحصاء والكتابة في النهار ينزلون في صلاة الصبح، فيجدون المؤمنين يصلون، فيعرج ملائكة الليل ويبقى ملائكة النهار إلى صلاة العصر، فإذا أذن المؤذن وحضر الناس في بيت الرب، ينزل ملائكة الليل ويعرج ملائكة النهار، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتكم عبادي؟ اسمع هذه الشهادة من كريم، يقول: وجدناهم في الصلاة، وتركناهم في الصلاة، لا حصاد، ولا زرع، ولا عمل، ولا أكل، ولا شرب، ولا.. وجدناهم في الصلاة، والله كذلك، وتركناهم في الصلاة، بكم تشتري هذه الشهادة؟ ما تُقَدر أبداً بمقدار، شهادة من؟ ملائكة كذبوا هم؟ لا، والله لقد صدقوا، ما وجدونا في صلاة الصبح؟ ما وجدونا في صلاة العصر؟ وجدناهم في الصلاة، وتركناهم في الصلاة.

    فلهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من فاتته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله )، كأنما أخذ منه أهله وأخذ منه ماله، وبقي بلا أهل ولا مال، ( من فاتته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله ) عرفتم السر أو لا؟

    ولهذا الصلاة الوسطى هي صلاة الصبح وصلاة العصر، إذ ما منهما إلا وسطى، فالصبح قبلها المغرب والعشاء، وبعدها الظهر والعصر، والعصر قبلها الظهر والصبح، وبعدها المغرب والعشاء، فكلاهما وسطى، ولهذا إذا قال المالكي: نحن نعتقد أن الوسطى هي الصبح، فهو على حق، وإذا قال الحنبلي: الصلاة الوسطى هي العصر، كان على حق، وما اختلفنا.

    إذاً: هؤلاء الكرام الكاتبين، كم عدد البشرية؟ اضربهم في أربعة، أليس كل واحد موكل به أربعة؟

    وهناك أيضاً مهمة أخرى لملائكة من نوع آخر كلفهم الله بحمايتنا، هذا الحرس الجمهوري أو الملكي، ومع هذا تسب الله يا أحمق وتنكره وتكفر به، وأنت محفوظ بحماية، والله لولا تلك الحماية لتمزقت، ومزقتك الشياطين والجان، واقرءوا من سورة الرعد: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]، وإذا جاء أمر الله وقفت الملائكة لينفذ حكم الله فيك يا عبد الله، لكن لا تقل: إذاً ما الفائدة؟ ما الفائدة! أريك الفائدة إن كنت تعقل: الملك عنده حرس أو لا؟ وكذلك السلطان .. الرئيس، قد تقول: ما هذا الحرس ولم، والقضاء نافذ؟ أنت بهلول تقول هذا الكلام، أتدري لم؟ لأنه ليس معنى هذا أن الملك أو السلطان أو الرئيس ما يموت، إذا جاء القضاء والقدر وقف كل شيء، ولكن وجود حرس يطمئنه، يسكن نفسه، يهدئ خاطره، يجعله يقضي أموره وقضاءه وهو مطمئن، بخلاف لو لم يوجد حرس، يلتفت كل دقيقة أو لا؟

    معقبات من بين أيدينا ومن خلفنا يحفظوننا أليس كذلك، لا تقل: ها نحن نموت، إذا جاء القضاء وقفوا، ينفذ أمر الله عز وجل، لكن فائدة ذلك أنك تعيش مطمئن النفس وهادئ البال؛ غير خائف، ولا تلتفت: الآن الشياطين أو الجان يأخذونني، فمعك حماية معك، وضربت لكم مثلاً شارحاً مبيناً بالحرس بالعظماء من أهل الدنيا الذين يوجد لهم حرس، فالمحروس تطمئن نفسه، ويهدأ باله وخاطره، وينسى الخوف والالتفاتة من أن يقتله فلان وفلان، وهذه فائدة عظيمة، وأما قضاء الله فهو نافذ، وإذا جاء الأجل وقف كل شيء.

    إذاً الملائكة الكرام الكاتبون يكتبون ويدونون أعمالنا، ولا ينقصوننا حسنة واحدة، فاطمئن.

    ومع هذا ورد أن كاتب السيئات يمهلك ساعة، ما هي بالدقيقة هذه، فإن استغفرت وأنبت ورجعت لم يكتب، فهو يمهلك بعد معصيتك ساعة من الزمن قبل أن يكتب، لعلك ترجع .. لعلك تتوب، فإن أنت عرفت الذنب وقلت: أستغفر الله، وأتوب إلى الله، وغفرانك ربي، لا يكتب.

    أما صاحب الحسنات فعلى الفور يكتبها، كرام أو لئام؟ من وصفهم بالكرم؟ الله: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، ما في جهالة عندهم.

    للحديث صلة لنعيش مع الملائكة يوماً آخر أو يومين إن شاء الله، ونحن مع الملائكة في كل ساعة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765793498