وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذه الليالي الأربع ندرس كتاب الله عز وجل، وكلنا رجاء في أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
أعيد إلى أذهان المستمعين والمستمعات تلك القصة العجيبة التي قصها الله تعالى علينا في كتابه القرآن العظيم، تلك القصة التي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ إذ رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب يقص قصصاً عجباً تم في بني إسرائيل مختلف الأحداث متنوعها، ولا يستطيع يهودي ولا مسيحي أن يرد كلمة واحدة أو ينقضها، فكيف لا يكون رسولَ الله يتلقى الوحي والعلم من الله عز وجل؟
والقصة أتلوها: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:243-245].
ثم تبدأ القصة مفصلة؛ إذ قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة:246-252].
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
[ أولاً: الجهاد الشرعي يشترط له الإمام المبايع بيعة شرعية ].
الجهاد الشرعي الذي أذن الله فيه وأمر به وشرعه لعباده المؤمنين يشترط لصحته وجوازه والقيام به الإمام المبايع بيعة شرعية، وقتال بدون بيعة وإمام باطل، وأهله ظالمون، ولن يثمر إلا البلاء والشر والفساد.
من أين أخذنا هذا؟ إذ قال بنو إسرائيل لنبيهم شمويل: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246]، لم ما قاتلوا جماعات وأحزاباً؟ لعلمهم أن الجهاد الذي يثمر العز والكمال والطهر والصفاء يكون مما رضيه الله فأذن به وعلم عباده، فقالوا: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246]، فمأخذها هذه الهداية من قولهم: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا [البقرة:246].
[ ثانياً: يشترط للولاية الكفاءة ]، الذي نوليه ونبايعه لا بد أن تكون فيه كفاية لمهمته، [ وأهم خصائصها العلم، وسلامة العقل والبدن ].
من أين أخذنا هذا؟ ذلك أنهم قالوا: كيف تولي علينا هذا الرجل الفقير؟ فرد الله تعالى فقال لهم: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ [البقرة:247] أولاً، وما دام أنه اصطفاه فلا كلام، وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247] وبهذا يتأهل لقيادة الجيوش وهزيمة العدو.
[ ثالثاً: جواز التبرك بآثار الأنبياء كعمامة النبي صلى الله عليه وسلم أو ثوبه أو نعله ]، بل حتى بصاقه؛ ذلك أنهم قالوا: اجعل لنا آية تدل على أن الله اختار هذا، فقال: الآية موجودة، أن يأتيكم تابوت بني إسرائيل، وفيه آثار موسى وهارون. وبالفعل جاء التابوت وكان بأيدي العمالقة في أرض بابل، فإنهم لما احتلوا ديارهم مزقوهم وشردوهم، وأخذوا هذا التابوت وهو صندوق مطلي بالذهب طوله حوالي ثلاثة أذرع، والعرض كذلك، وفيه آثار أنبياء بني إسرائيل، عصا موسى، وكذلك ثياب ونعال مما كان لموسى وهارون، وهذا بمثابة الراية يقاتلون تحتها، كانوا إذا خرجوا للقتال يحملون هذا التابوت، ويرضون بأن يمزقوا كلهم ولا يسقط هذا.
إذاً: فجاءهم الله بالتابوت من أرض العراق إلى فلسطين، ففيه جواز التبرك بآثار الأنبياء، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم إذا بصق لا يقع بصاقه على الأرض، يتلقفه أصحابه ويتمسحون به، أما بردته فإلى عهد قريب وهي في المتحف في بلاد العثمانيين، البردة لبسها الرسول صلى الله عليه وسلم، وخرج بها فاندهش الناس لجمالها، فجاءه أحدهم فقال: يا رسول الله! أعطني إياها، فعاد إلى حجرته ونزعها وقدمها له، فصاح الأصحاب: كيف تفعل هذا؟ الرسول ما يرد سائلاً لأنه حيي. فقال: أردت أن تمس جلدي كما مست جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتوارثها الأصحاب وأبناؤهم، وبيعت بالآلاف، فآثار الأنبياء لها قيمتها، أما آثار الصعاليك من أمثالنا فخطأ، لا بصاق ولا ثوب ولا نعل. من أين أخذنا هذا؟ من قوله: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ [البقرة:248].
[ رابعاً: جواز اختبار أفراد الجيش لمعرفة مدى استعدادهم للقتال والصبر عليه ]، من أين أخذنا هذا؟ من كونه امتحنهم، قال: اسمعوا: سنصل إلى النهر غداً في الساعة كذا، وممنوع أن تشربوا منه. امتحاناً لهم، ما إن وصلوا إلى النهر وهم عطاش حتى انكبوا عليه يكرعون كالإبل، ما هم بأهل للقتال، فما خلص منهم إلا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، هؤلاء قادهم طالوت وقاتل بهم جالوت وانتصر عليه، وتلك الألوف كلها انهزمت، هذا اختبار أو لا؟ يريد أن يقاتل جيشاً عرمرمياً قوياً وأفراده قليلون، فاختار الصادقين، أما الانهزاميون أو الشهوانيون أصحاب الأطماع فما يصلحون للقتال، يهربون عند أدنى شيء، فمن أين أخذنا هذا؟ من قوله: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي [البقرة:249] لا يمش معنا، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [البقرة:249] اللهم إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249] ليطفئ لهب العطش، فخلص من ثلاثين أو أربعين ألفا ثلاثمائة، وقاتلوا وانتصروا.
[ خامساً: فضيلة الإيمان بلقاء الله، وفضيلة الصبر على طاعة الله خاصة في معارك الجهاد في سبيل الله ].
من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249] الذين لا يتزعزعون أبداً، يعطون صدورهم للعدو ولا يعطونهم أدبارهم.
[ سادساً: بيان الحكمة في مشروعية الجهاد، وهي دفع أهل الكفر والظلم بأهل الإيمان والعدل، لتنتظم الحياة ويعمر الكون ].
من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251].
وختاماً قال تعالى: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ وعزتنا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة:252] فصلى الله عليه وسلم.
فالذي يشك في رسالة محمد أحمق، مجنون، لا قيمة له أبداً، فمن أين يأتي هذا البيان؟ بلغ أربعين سنة وهو ما يعرف الألف ولا الباء، ما جلس بين يدي معلم أو مرب، فهل استطاع اليهود -وهم ثلاث طوائف كما علمتم- بعلمائهم أن يردوا كلمة؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ [البقرة:253] ومن ثم اقتتلوا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:253-254].
قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ [البقرة:253]: تلك الجماعات التي تقدم ذكرها -جماعات الرسل- فضلنا بعضهم على بعض، ومن الذي يفضل؟ الله تعالى.
فقط علمنا الله بهذه الآية أنه فضل بين الرسل وهو كذلك، فمن أفضل الرسل؟ محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو نبي البشرية والجن، وإذا توهم متوهم فقال: فضلتموه على أنبياء بني إسرائيل لأنه نبيكم؛ قلنا: محمد صلى الله عليه وسلم نبي العرب ونبي العجم، ونبي الإنس والجن.
إذاً: فضله الله عز وجل بما آتاه من الكمالات، لو تجتمع البشرية كلها وتصوغ آدابها وأخلاقها في صورة واحد فوالله! ما كانت كأخلاق أو آداب رسول الله.
وفضّله الله تعالى بما يأتي:
أولاً: بكون رسالته عامة للإنس والجن.
ثانياً: بكونه ختم الله برسالته عامة الرسالات، أعلن عن هذا القرآن فقال: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، ومضى ألف وأربعمائة عام، فهل جاء نبي؟ هذه وحدها كافية، وقد كان الأنبياء يتواردون كل عامين، أو ثلاثة، ولكن هذه ألف وأربعمائة سنة، فهل جاء نبي؟ لأن الله قال: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40].
وقد فتح الله علينا وعرفنا السر، حيث علم الله أن الأرض ستكون كأرض واحدة والعالم كمدينة واحدة، أصوات البشر تنتقل من الشرق إلى الغرب، الناس يطيرون في السماء، إذاً: ما هناك حاجة إلى تعدد الأنبياء، فقد كانت البلاد متباعدة، فكانت رحمة الله تقتضي أن كل إقليم فيه نبي، ولكن علم تعالى أن البشرية ستصبح في يوم من الأيام وكأنها أمة واحدة وبلد واحد، فالآن القرآن يقرأ في موسكو والعالم يسمعه في إذاعتها، فهل عرفتم السر أو لا؟ إنه لعلم الله تعالى بما سيوجده في المستقبل من أن العالم سيصبح كمدينة واحدة.
وفضله صلى الله عليه وسلم بأن أمته أفضل الأمم، وفضله بالشفاعة في المقام المحمود؛ حيث يتخلى عنها عامة الرسل ولا يطلبها أحد، وهو يقول: أنا لها، إذ بشره الله بها في سورة بني إسرائيل: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] و(عسى) تفيد التحقيق من الله، وفضّله بأنه أول من يدخل الجنة، وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة.
والشاهد عندنا: في كونه تعالى كلم موسى عدة مرات فوق عرشه وموسى على جبل الطور، كلاماً كفاحاً، هذه أفضلية عظيمة أو لا؟
وهنا لطيفة -لطف الله بنا وبكم- نكررها، نقول: إذا أردت يا صاحب البيت والقرية ويا أمير المدينة، إذا أردت هداية قومك وجماعتك فاجمعهم على قال الله وقال رسوله فقط، ولهذا كم نقول: والله! لن ينجو أهل إقليم ولا قطر ولا دولة ولا مملكة في العالم نجاة حقيقية من الذل والهون والدون، من الشر والفساد والظلم والخبث، من الناس وعذابها؛ إلا إذا عادوا إلى الكتاب والسنة، وكيف يعودون إليهما؟
الطريق: إذا دقت الساعة السادسة مساء أخذ أهل البلاد، أهل القرية، أهل المدينة، أهل الأحياء أخذوا يتطهرون ويلبسون أحسن لباسهم وثيابهم، ويحملون نساءهم وأطفالهم إلى بيت ربهم، وليوسعوه وينظفوه حتى يتسع لهم، ويصلون المغرب كما صلينا، ويجتمعون كاجتماعنا هذا: النساء وراء والفحول أمام والأطفال بينهم، ويجلس لهم عالم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يعلمهم ليلة آية وأخرى حديثاً على مدى السنة، وعلى طول الحياة، فهل يبقى بينهم جاهل أو جاهلة؟ والله! ما يبقى، وإذا انتفى الجهل وحل محله العلم هل سيبقى ظلم، خبث، شر، فساد، فقر؟ والله! ما يبقى.
فإن قلت: دلل يا شيخ وبرهن؟ فأنا أقول: أيما أهل قرية، أهل مدينة، أهل مملكة أعلمهم أتقاهم لله عز وجل، من يرد هذا الكلام؟ أعلمهم بكتاب الله وبسنة رسوله أتقاهم، لا يسرق، لا يزني، لا يفجر، لا يحسد، لا يكذب، لا يخون؛ لعلمه، وأجهلهم أفجرهم، ولا يوثق في الجاهل أن يسند إليه شيء، تعبث به الأهواء والشياطين، فهو أعمى ما له نور، فلم ما نفعل هذا؟
فإن قلنا: ما نستطيع؛ فلم واليهود والنصارى قدوتنا وأسوتنا إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا العمل وهرعوا إلى السينما والملاهي والمقاصف بنسائهم وأطفالهم، ونحن لا نستطيع؛ لأننا نذهب إلى بيوت الله، والشياطين ما ترضى بهذا لنبقى فسقة، فجرة، هابطين، جهالاً بربنا وما عنده فنهلك.
فهذه لم لا تبلغونها؟ لم لا تعملون على إيجادها، إذا كنت إماماً في قرية ففي يوم الجمعة أعلم أهل القرية، قل لهم: من الليلة لا نصلي المغرب إلا مجتمعين، لا يتأخر امرأة ولا رجل إلا مريض، نتعلم الكتاب والحكمة، وهكذا، وما يتوقف عمل، ولا مصنع، ولا تجارة.
أهل الزيغ والهبوط في أمة الإسلام هم مسئولون عن إدارتها في العالم، أكثرهم تعلموا على اليهود والنصارى، فيأتون وقلوبهم خاوية، ففي بلاد إسلامية كهذه يتظاهر بالإسلام، وفي بلاد أخرى يسخر من المسلمين ويستهزئ بهم، فما السبب؟
أما قال تعالى: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا [آل عمران:100] كالأساتذة والمعلمين يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، فيا رب! ما قلته حصل وتم.
ثم قال تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] من أين يأتيكم الكفر وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] هذا هو السر، لو كنا نجتمع كل ليلة في ديارنا في العالم بأسره، حتى اللاجئين والجماعات في أوروبا وغيرها يجتمعون كل مساء يتعلمون الكتاب والحكمة؛ فوالله! ما ضل منا ضال ولا كفر كافر ولا هلك هالك، لوعد الله الصادق: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] وفينا حديثه وسنته وبيانه وعلمه.
وكثيراً ما نقول -وقد أسمعت لو ناديت حياً-: هيا نبعث بعثة من سبعين شاباً يدرسون في ألمانيا أو يوغسلافيا، ونبعث معهم عالماً بالكتاب والسنة، ونطلب إليهم أن يطيعوه كما يطيعون الإمام الحاكم، فيسكنون في عمارة واحدة، ويجتمعون بعد الدراسة في دارهم، ويقيمون الصلاة، ويتلون كتاب الله، ثم هم بلباسهم الإسلامي، لحاهم، عمائمهم، فينظر إليهم الناظر فيقول: من هؤلاء؟ فيقال: مسلمون، ويدرسون سبع سنين أو أربع ويعودون، والله! ما يحصل -إلا نادراً- أن يفسق منهم أحد، أو يتغير في دينه وعقيدته.
ثم نبعث سبعين رءوسهم عارية وببرانيط ولحاهم محلوقة ولباسهم بريطاني أو إيطالي، ونتركهم وحدهم، فوالله! ما يسلم (5%) من الفجور والباطل والشر والفساد، ويأتون كالعميان يضحكون من أمهاتهم وآبائهم.
فهذا حصل، وليس بكلام غريب؛ لأن الله الخالق العليم الحكيم المدبر يقول: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:100-101]، فكيف تجهل الأمة وينتشر فيها الزنا والبغاء والشر والباطل والفساد، وينتهي الأمن وهي تجتمع كل ليلة على الكتاب والسنة؟ مستحيل أن ينتشر فيها الظلم والخبث والشر والفساد.
أما يوجد في العالم الإسلامي خبث وشر وفساد؟ والله! إنهم ليزنون بنساء بعضهم، كيف بمؤمن يحطم كرامة أخيه المؤمن ويزني بامرأته! أيقع هذا؟ لا تسأل، مؤمن يقتل مؤمناً ليأخذ ماله! كيف يتم هذا؟ يستحيل مع الإيمان، لكن ما هو الإيمان؟ كيف ينمو الإيمان ويبقى في النفوس إذا لم نجتمع على نور الله ونغترف منه يومياً لأبصارنا وقلوبنا وأسماعنا؟ ولولا الصلوات الخمس لانتهى وجودنا بالمرة، وما بقي فينا خير.
فاجمع بناتك وأولادك في بيتك، فليلة آية وأخرى حديثاً، وتغنوا بالآية واشرحها، وبين لهم ما فيها، وأوصهم بتطبيقها وانظر إلى بيتك كيف يكون؟ لا تسمع كلمة سوء، ولا بذاء، ولا عنف، ولا سخرية.. كأنهم ملائكة؛ لأنهم عرفوا، أما أن تفتح بيتك للعواهر في التلفاز يرقصن، ويتعلم بناتك هذا، ويشاهد أولادك الذكور فينجذبون إلى الخنا والشر؛ فاعلم أن بيتك قد يخبث وينتهي، والله! إنه لكما تسمعون، فطهروا بيوتكم أيها المسلمون.
فإن قلت: ما نستطيع؛ فما أنت برجل؟ اتفق مع امرأتك على التطهير.
وعيسى أظهر الله على يديه معجزات خارقة للعادة، فميت على النعش جاءت أمه تبكي: يا روح الله! ولدي مات، وهي في كرب وهم، فقال: قفوا. يا فلان ابن فلانة، قال: لبيك يا روح الله. قال: قم. فوضعوا النعش ولف كفنه ومشى مع أمه.
فقال الملاحدة والزائغون والعلمانيون: هذه مؤامرة تمت بينه وبين هذه العجوز، ادعت أن ابنها مات وأنها غسلته وكفنته ونادت الرجال فحملوه، وهو ما مات، وجاءت تقول: يا روح الله! يا روح الله! ولدي، فناداه. وهذا لتعرفوا أن البشرية هي هي إلى الآن وإلى يوم القيامة، والعقل البشري هو هو، والمكر والكيد هو هو، فردوا هذه الآية من آيات الله، والله يقول: يحيي الموتى بإذن الله، أقول هذا حتى لا تثقوا في آراء الناس وما يقولون إذا لاح نور الحق من كتاب الله وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه والأعمى والأبرص بإذن الله.
يا عميان، يا جهال، يا ضلال! إذا كان عيسى ابن الله فكيف يصلب؟ إذاً: الله عاجز. إذا كان عيسى هو الله فكيف يقتل؟ أرأيتم العمى؟!
وتمضي القرون والقرآن يقول: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157] ثم منذ حوالي عشرين سنة أعلن بولس الثامن بأن اليهود برآء من دم السيد المسيح، والقرآن من ألف وأربعمائة سنة يصرح، وأنت الآن تقول هذا؛ لأنهم خدعوك أو غشوك أو ملئوا الجيوب بالمال، فتقول: اليهود برآء من دم السيد المسيح، وما قتلوه؟!
وهذه فضيحة من شر الفضائح، كيف تعيش أمتكم قروناً على هذا المعتقد والآن تنفيه أنت؟ بأية حجة؟ ولكن من هبط هبط، فمن يرفعه؟
وما زالوا يعلقون الصليب ويبيعونه، فنقول: كيف يقتل ابن الله؟ أعوذ بالله! قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، خالق الكون كله، فهل يحتاج إلى ولد؟ أن يذهب بعقول المجانين؟ الذي يقول للشيء: كن فيكون هل يحتاج إلى ولد؟ والولد يحتاج فيه إلى زوجة؟ والجن قالوا: مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [الجن:3].
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ معنى الآية الكريمة:
بعد أن قص الله تبارك وتعالى على رسوله قصة ملأ بني إسرائيل في طلبهم نبيهم شمويل بأن يعين لهم ملكاً يقودهم إلى الجهاد، وكانت القصة تحمل في ثناياها أحداثاً من غير الممكن أن يعلمها أمي مثل محمد صلى الله عليه وسلم بدون ما يتلقاها وحياً يوحيه الله تعالى إليه، وختم القصة بتقرير نبوته ورسالته بقوله: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة:252]؛ أخبر الله تعالى أن أولئك الرسل فضل بعضهم على بعض، منهم من فضله بتكليمه كموسى عليه السلام، ومنهم من فضله بالخلة ] ما الخلة؟ فوق الحب، الحب حين يتخلل القلب يقال فيه: خلة، [ كإبراهيم عليه السلام، ومنهم من رفعه إليه وأدناه وناجاه وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من آتاه الملك والحكمة وعلمه صنعة الدروع كداود عليه السلام، ومنهم من آتاه الملك والحكمة، وسخر له الجن، وعلمه منطق الطير كسليمان عليه السلام ]، سليمان كان إذا تكلم العصفور يعرفه، قال: عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ [النمل:16]، وإن صاح الديك عرف ما أراد، سبحان الله! قد تقول: كيف هذا؟
فقل لي: وكيف تنطق أنت وتتكلم؟ فالله المعلم، وعندنا عبرة: فإنه يؤثر أن الصرد الطائر المعروف الذي يوجد في بعض البلدان ويغيب في بعض الفصول لما صاح قال سليمان: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: يقول: لدوا للموت، وابنوا للخراب. وهذا الكلام -والله- حق وصدق.
يا بني الناس! لدوا للموت، فلو ما ولدنا بنين أو بنات فمن يموت؟ فنحن نلد لأجل الموت، وابنوا للخراب، إذاً: ارتفعوا بمستوياتكم عن هذه المستويات الهابطة، أنتم تلدون فقط للموت وتبنون للخراب، فلا يشغلكم طلب الولد والزوجة عن عبادة الله وحبه ورضاه، لا تلهكم دنياكم عن ذكر الله وعبادة الله، إنكم تبنون للخراب فقط، ما هو للخلود والبقاء.
فسليمان قال تعالى عنه: عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ [النمل:16-17].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر