إسلام ويب

تفسير سورة البقرة (104)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان من عادة اليهود وبعض المشركين في الجاهلية أنهم إذا حاضت فيهم المرأة هجروها بالكلية، وكان بعض المشركين يطئون المرأة حتى في حيضتها، فجاء الإسلام مبيناً كيفية معاملة الحائض، وهو أن يمتنع الرجل عن وطء المرأة في حيضتها، ويستمتع بها فيما دون ذلك، ويؤاكلها ويشاربها وتقوم على خدمته، ثم إذا انقضت حيضتها وطهرت فله أن يأتيها كيف شاء في موضع الحرث الذي شرعه الله عز وجل له.

    1.   

    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الموعود يا رب العالمين.

    ها نحن مع هاتين الآيتين الكريمتين من سورة البقرة، من سورة الأحكام الإلهية.

    وقد كنا مع الآية التي درسناها وعرفنا فيها حرمة نكاح المشركات، لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتزوج مشركة بالإجماع؛ لقوله عز وجل: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221].

    ثانياً: حرمة إنكاح المشركين، لا نزوج مشركاً بمؤمنة أبداً، ولو علمنا أن مؤمنة تزوجها مشرك لغزونا تلك الديار وخلصنا تلك المؤمنة؛ لأن الزوج الكافر له حق -كالمؤمن- على الزوجة، فيتعارض حق الله الذي من أجله خلقت المرأة وحق الزوج، فلذا لا يحل السكوت أبداً عن مؤمنة يتزوجها مشرك كافر، وسواء كان كتابياً أو مشركاً.

    وعرفنا شرط الولاية في النكاح؛ لأن قوله تعالى: وَلا تُنكِحُوا [البقرة:221] أي: لا تزوجوا، هذا مسند إلى الولي، وفي الحديث: ( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل )، و( أيما امرأة نكحت بدون إذن وليها فنكاحها باطل.. باطل.. باطل ).

    وفي الآية من هدايتها: التنفير من مخالطة المشركين، من استطاع ألا يخالط مشركاً فليفعل، البعد أنجح، البعد أسلم؛ إذ قال تعالى: أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]. هذه أنوار الآية السابقة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن المحيض قل هو أذىً ...)

    والآن مع الآيتين الآتيتين، وإليكم تلاوتهما:

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:222-223] اللهم اجعلنا منهم حتى يبشرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    هل هذا القرآن يقرأ على الموتى ليتعلموا الأحكام الإلهية؟ كيف يقرءونه على الموتى؟ وما زالوا إلى الآن يحفظون القرآن من ألفه إلى يائه من أجل أن يقرءوه على الموتى، أماتنا الثالوث أماتهم الله، سلبونا روحنا وأبعدونا عنها فمتنا، فسادونا وساسونا وتحكموا فينا.

    عرفوا أن حياة هذه الأمة متوقفة على هذا القرآن العظيم حفظاً وتعبداً، واستخراجاً للأحكام والشرائع، وعملاً وتطبيقاً، القرآن روح ولا حياة لفرد أو جماعة أو أمة بدون روح، فهذه الأحكام كيف نُسمعها الميت؟

    المراد بالسؤال عن المحيض وسببه

    قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة:222] ما المراد من المحيض؟ الحيض، أو زمن الحيض.

    هل يصح للفحل المؤمن أن يجامع امرأته وهي حائض؟ الجواب: لا، فلفظ المحيض يطلق على زمن الحيض ومكان الحيض، الفرج مكان الحيض، ويطلق على الحيض نفسه؛ فهو مصدر، حاضت تحيض حيضاً.

    أي: هل يجوز للرجل أن يطأ امرأته أو جاريته وهي حائض؟ سأل المؤمنون طلاب العلم والهداية، والرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى المعارف من الله، لما سألوه أجابهم الله فعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فالأسئلة الشرعية ممدوحة محمودة، لكن لا أسئلة التنطع والإحراج، من أراد أن يعبد الله فليسأل كيف يعبده وبم يعبده، وإذا ارتبك في شيء هل هو حلال أو حرام فليوقف عمله حتى يسأل ويعلم.

    وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة:222] لأن الأسئلة تقدمت: يسألونك عن القتال، يسألونك عن الإنفاق، يسألونك عن اليتامى، إذاً: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ [البقرة:222] يا رسولنا والمبلغ عنا صلى الله عليك وسلم، قُلْ هُوَ أَذًى [البقرة:222] و(أذى) نكرة، والأذى ما يؤذي الإنسان في بدنه، في عرضه، في ماله، إذاً: فنكاح المرأة وهي حائض فيه أذى يؤذي الفحل بالمرض.

    إذاً: فبناء على هذا فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222] اعتزلوا النساء، ابتعدوا عنهن في حال الحيض.

    والسبب في السؤال: أن اليهود -عليهم لعائن الله- جيران الأنصار والمهاجرين عندهم في بدعتهم التي يسمونها ديناً، وأي دين لهم؟ فقد مسخوه، عندهم أن المرأة إذا حاضت لا ينام الزوج في فراشها، يطردها كالكلبة، لا تقرب منه ولا يقرب منها، فلما جاء التشريع بدأت طلائع الإيمان والإسلام، سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم: اليهود شأنهم كذا، ونحن هل نعتزل النساء كما اعتزل اليهود نساءهم أم لا؟ كان هذا سبب السؤال.

    معنى قوله تعالى: (فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن)

    فقال تعالى: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222] أي: بانقطاع حيضهن، اعتزلوا النساء، ليس الاعتزال بأن يربطها في غرفة ويغلق عليها، أو يقول: ما دمت في حيض فلا تأتي إلى جنبي ولا أراكِ، بل يعتزلها بألا يطأها فقط، وينام إلى جنبها وتنام إلى جنبه، ويؤاكلها ويشاربها وتؤاكله، لا يطأها، وإن احتاج إليها فقد أذن له أن يقول لها: استذفري أو شدي بشيء على فرجك ويتلذذ بكافة جسمها ولا حرج.

    قال: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ [البقرة:222] أي: بالجماع إلى غاية ماذا؟ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]، كيف يطهرن؟

    أولاً: بانقطاع دم الحيض، ودم الحيض هو الدم الأسود الغليظ المتخثر، هذا الدم سنة الله عز وجل في خلقه أن الأنثى من المؤمنات تحيض إذا كانت غير حبلى، فإن حملت فالدم الزائد هو غذاء الجنين، فإذا ما كان ببطنها حمل ففي كل شهر تفرز هذا الدم الذي يتجمع بحكمة الله وإرادته في خلقه حتى تحمل، إذا حملت انقطع الدم، ونادراً ما يخرج دم وليس بحيض.

    والمدة أقلها يوم وليلة، وأكثرها خمسة عشر يوماً، أقل الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوماً، ما دام مستمراً فلا صلاة ولا صيام ولا وطء حتى ينقطع فتغتسل، فإذا بلغت خمسة عشر يوماً وما انقطع فإنها تغتسل وتصوم وتصلي وتوطأ إن شاء بعلها؛ لأن الحيض انتهى وجاء داء ومرض يسمى الاستحاضة، وقد ينقطع الحيض في اليومين، في الثلاثة، وأغلبه سبعة أيام وستة عند النساء.

    معنى قوله تعالى: (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله)

    إذاً: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222] أي: ينقطع دم الحيض منهن، فَإِذَا تَطَهَّرْنَ [البقرة:222] أي: اغتسلن، فالدم مانع من الجماع، وإذا انقطع يبقى المنع كذلك حتى تغتسل كغسل الجنابة، وإذا لم تجد ماء تتيمم وتصلي.

    قال: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ [البقرة:222] أي: اغتسلن فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222] ائتها يا بعلها يا فحلها من حيث أذن الله لك، وهو من فرجها، لا من دبرها؛ إذ هذا الفرج -كما سيأتي- عبارة عن أرض للحراثة والزراعة للإنبات.

    سبحان الله! نحرث الأرض، نبذر فيها الحب، نستره بالتراب، نسقيه بالماء وإذا بالزروع يكون، كذلك البشر كيف ينبتون؟ هل في الأرض؟ لا، الطريق الوحيد الذي لا نظير له هو أن يأتي الرجل امرأته ويبذر ماءه بويضاته حيواناته في تلك الأرض وإذا بها متى شاء الله تتفاعل ويخرج الولد.

    فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]، ومن هنا لنعلم أن نكاح المرأة من دبرها هو اللواط، وقد جاء التعبير عنه باللوطية، وهو محرم بالإجماع، الذي يطأ امرأته في دبرها كالذي يطأ الفحل في دبره والعياذ بالله، نبرأ إلى الله ونعوذ به من هذه الحالة.

    ولذا قال تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222] إذاً: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222] وهو إتيانهن من قبلهن لا من دبرهن.

    حكم من أتى زوجته في دبرها

    وهذه القضايا ترفع إلينا، أهلها يستفتون: هل تحرم عليه المرأة وتبين بينونة كاملة أو لا تحرم؟

    الجواب: لا تحرم، ولكنه ارتكب إثماً عظيماً كالقتل تقريباً، وإن حصل هذا فعلى الفاعل أن يتوب، هذه التوبة أولاً: يواصل البكاء والندم والاستغفار والصدقات حتى تمضي فترة ويشعر بطهارة روحه؛ لأنه يلوث الروح ويلطخها، لا تزول تلك التلوثات وذلك العفن إلا بالتوبة النصوح، البكاء بالدموع، الاستغفار، الندم، الصدقات حتى تمضي فترة فيشعر بأنه طاب وطهر، والصدقة على الأقل نصف دينار، وهي إن وافقت وكانت راضية فهي مثله في البكاء والصراخ والندم والتوبة والصدقة، وإن كان أكرهها فلا شيء عليها والإثم عليه، وإن أراد أن يعاودها فلتطالب بالطلاق وتشنع وتخرج، ولا ترض بهذا المنكر.

    معنى قوله تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)

    إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] اللهم اجعلنا منهم، يجب أولاً أن نتوب إلى الله وأن نتطهر من أدراننا، من أوساخنا، من ذنوبنا، من سيئاتنا، فالله طيب لا يحب إلا طيباً، من أراد أن يحبه الله فليكن من التوابين، فإن وقعت منه نظرة فقط قال: أستغفر الله وأتوب إليه، أو كلمة فقط قال: أستغفر الله وأتوب إليه، أو تأخير الصلاة عن وقتها أو عن الجماعة فقط قال: أستغفر الله وأتوب إليه. هذا التواب كثير الرجعة إلى الله، كلما زلت القدم عاد إلى الله، وهذا يحتفظ بطهارة روحه، ما يسمح للنفس أن تخبث أبداً، دائماً الماء والصابون في يديه.

    وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] الذين يتكلفون الطهارة، يطلبونها ويعملون على تحقيقها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ...)

    وقوله تعالى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة:223] النساء: جمع لا مفرد له، واحد النساء امرأة، بعضهم يقولون: إنسانة، ولكن النساء لا مفرد له.

    نِسَاؤُكُمْ [البقرة:223] أي: زوجاتكم حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة:223] هل تعرفون الحرث؟ قطعة أرض تبذر فيها البذر وتسقيها فتنبت لك بإذن الله البر والشعير والذرة، وما إلى ذلك، فنساؤنا جعلهن الله للرجال حرثاً، أرض حراثة، ولكن لا تنبت البر والبصل والثوم، تنبت الرجال والنساء!

    لو كان عندك أرض تحرث فيها فتنبت لك الأولاد من بنين أو بنات فهذه الأرض ما تباع أبداً ولا تساوم بقيمة، فالحمد لله! هذا كلام الله: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة:223] إذاً: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] في أي وقت، وكيف شئتم.

    حكم إتيان المرأة من دبرها في الفرج وحال الحيض والنفاس

    وهنا مسألة أخرى أيضاً: بعض الرجال يأتي امرأته من ورائها، لكن لا يولج إحليله -ذكره- في دبرها، يطؤها في فرجها حيث الحرث، ولكن يطؤها وهي مدبرة، وهذا كان يفعله بعض المؤمنين، فكره بعضهم هذا النوع، تحدث بعض النساء، بمعنى أنه يأتيها من ورائها ولا يطؤها في دبرها، لكن يطؤها في فرجها الذي هو طريق الحراثة والزرع، فلما تململ بعض الناس من سماع هذا أفتاهم الله عز وجل: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] وهي قائمة، وهي قاعدة، مقبلة، مدبرة، شأنك يا عبد الله، لا إله إلا الله! فأتوا حرثكم كيف شئتم.

    وهل يأتي الحرث وهي حائض؟ لا، وهي نفساء؟ لا. فقوله: أنَّى بمعنى: كيف، لا بمعنى: أي وقت، نعم في أي وقت أيضاً على شرط أن تكون طاهراً ليست بحائض ولا نفساء.

    معنى قوله تعالى: (وقدموا لأنفسكم)

    نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [البقرة:223] لا إله إلا الله! قدموا للدار الآخرة، هذه أيام معدودة ومحدودة وأنتم ماشون، والله! لراحلون، قدموا للدار التي تنزلون بها شيكات، احجزوا في فنادق السماء قبل ضياع الوقت.

    ويدخل في هذا اللفظ: وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [البقرة:223] أن تنوي ببعالك ونكاحك وإتيانك زوجك أن تنجب أولاداً وبنين يعبدون الله عز وجل.

    هل يستطيع إنسان أو العالم بأسره أن يوجد لنا رجلاً أو امرأة؟ مستحيل! روسيا جمعت أطباءها وصناعها وعلماء الذرة، وقالوا: لتعملوا على إنتاج الإنسان، حتى إذا استطعنا أن نوجد جيوشاً آلية فسنضع أرجلنا على العالم بأسره، ولا يأسف أحد ولا يحزن، اصنعوا من البلاستيك رجالاً وانفخوا فيهم الروح ليصبحوا كالبشر ونوجههم لفتح العالم، قالت الأخبار الصحيحة: عملوا ثمانية عشر عاماً، وهم يعملون الليل والنهار على إيجاد جيش من الآلات، بمعنى أن هناك ناساً يضعونهم في الطرقات الآن في أوروبا، إنسان واقف بهيكل كامل، فقط تنفخ فيه الروح، عملوا ثمانية عشر عاماً، ثم أعلنوا عن فشلهم، وقالوا بعد البحث المتواصل في الكون: الروح من عالم أعلى لا توجد في العالم الأسفل، قلنا: عجائزنا في القرية تخبر بهذا، ما يحتاج إلى ثمانية عشر عاماً، والله! أيما عجوز مسلمة تقول: الروح تأتي من الله، من السماء، الملك ينفخها، وهم في ثماني عشرة سنة يعملون، والرواتب ضخمة، يريدون أن يوجدوا جيشاً غير بشري يحكمون به العالم.

    إذاً: فيا فحل! انو بوطئك وجماعك إنتاج إنسان يذكر الله ويشكره، قدم لنفسك، ولهذا على الرجل إذا كان يملك النفقة والسكن أن يتزوج، ما يضيع الوقت، من أجل ماذا؟ من أجل أن ينتج بنين وبنات يعبدون الله عز وجل بالذكر والشكر، ماذا يكلفك؟ إنها أربعة آلاف ريال: ألفان مهر وألفان لتدبير شأنك، وسيضحك مني القوم؛ لأنهم يسمعون المهر خمسين ألفاً، ستين ألفاً، فاللهم إن هذا منكر، لم هذا؟ أبيع هذا وشراء؟

    المهم أنه ما دمت قادراً على أن تنتج رجلاً وامرأة فأي فرح أعظم من هذا الفرح، لا صناعة ولا كلفة، فتح الله لك الباب، علمك، وضع بين يديك الحرث فاحرث وأنتج يا عبد الله، قدم لنفسك: وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [البقرة:223] تشمل إنجاب البنين والبنات، وتشمل كل عمل صالح قدم، مساعدتك على الزواج -والله- تقديم، مؤمن يريد أن يتزوج فساعدته بمائة ريال أو ألف فأنت شريك في هذا الأجر، لك أجر.

    فقوله جل وعز: (قدموا) شامل لهذا ولكل عمل صالح تقدمه إلى الآخرة لتظفر به وتفوز، هذه وصية الله: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة:223] من أعطانا هذا؟ الله هو الذي أذن.

    ذكر بعض الأحاديث الواردة في حرمة إتيان المرأة في دبرها

    إذاً: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] كيف شئتم: من قيام، من قعود، عن اليمين، عن الشمال، من وراء، من أمام، مع الاحتراز الكامل من أن يطأ في دبرها، هذا هو الموت والدمار.

    أسمعكم الأحاديث الواردة في هذا الباب:

    قال المؤلف غفر الله له ولكم في الحاشية: [ وذلك لتحريم وطء المرأة في دبرها للآية الكريمة وللأحاديث الصحاح وما أكثرها، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ( يا أيها الناس! إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أعجازهن ) أي: أدبارهن، وقوله: ( من أتى امرأة في دبرها لم ينظر الله إليه يوم القيامة ) ]، ووردت أحاديث كثيرة، لكن هذا يكفي، فهذه خطبة خطبها الرسول صلى الله عليه وسلم: ( يا أيها الناس! إن الله لا يستحي من الحق ) لذا أقول لكم هذا، ( فلا تأتوا النساء في أعجازهن )، ( من أتى امرأة في دبرها لم ينظر الله إليه يوم القيامة )، ومن غضب الله عليه ولم ينظر إليه هل يدخل الجنة؟

    معنى قوله تعالى: (واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين)

    قال تعالى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:223] من إتمام الوصية قال: اتقوا الله، لا تخرجوا عن طاعته فتأتوا النساء في حيضهن قبل الطهر، أو بعد الطهر وقبل الاغتسال، أو تأتوهن في أدبارهن، كل هذا داخل في قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [البقرة:223] اتقوا الله، ولو كان لا يأتي يوم تقف بين يديه فاضحك، قل: أمرنا بأن نتقيه فلن نتقيه، لكن اعلم أنك ستقف بين يديه، إذا حدثتك نفسك أو سولت لك باستمرارك على المعصية فاعلم أنك لست طليقاً حيث شئت، سيأتي يوم تقف بين يدي الله، تلاقيه وجهاً لوجه، ماذا تقول؟ أعوذ بالله! لو قال الله له: فعلت كذا في امرأتك فسيذوب ويتحطم.

    وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223] وأخيراً يا رسولنا بشر المؤمنين، أصحاب هذه العقائد والآداب والأخلاق والعبادات والمعاملات، لم قال: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223]؟ لأنه -والله- لا يمتثل هذه الأوامر إلا مؤمن، لا يتقيد بهذه القيود ولا يتأدب بهذه الآداب إلا مؤمن، أما الكافر فلا، فلهذا ختم بهذا: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223]، هم الذين يمتثلون أمر الله ويجتنبون نهيه، والذي تراه بين الناس من عدم الطاعة والله! لنتيجة عدم الإيمان أو ضعفه، أما أهل الإيمان اليقيني الكامل فهيهات هيهات أن يتلوثوا بهذه الأوساخ والقاذورات!

    الإعجاز القرآني في انتظام الأحكام المضمنة في الآية الكريمة

    والآن نسمعكم الآيتين وتفكروا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:222-223]، والله! لو تكتب صحيفة بعشرين صفحة ما تأتي بهذا الكمال في هذه الآية، لا إله إلا الله!ّ لو تملأ عشرين صفحة ما يمكن أن تتسع لهذه، عجب هذا القرآن أو لا؟ إخواننا من الجن عرفوا هذا ونطقوا به، وصاحوا: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1] والمؤمنون (95%) منهم ما يفهمون أنه عجب، ما تذوقوه، ما جلسوا عليه، ما فهموه، كيف يعرفون أنه عجب؟ الجن ما إن سمعوا الرسول يقرأ في صلاة الصبح حتى التفوا حوله وكادوا يكونون عليه لبداً، وقالوا: أنصتوا.. أنصتوا، ما إن سمعوه حتى قالوا: إنا سمعنا قرآناً عجباً، وعادوا إلى ديارهم يبلغون دعوة الله.

    فالمفروض أن المستمعين يبلغون هذه الآية، يحدثون بها الليلة جلساءهم حتى تستقر في نفوسهم، بلغ ولو آية، ويوم يفتح الله وننطلق فسيحدث هذا، ولكن إلى الآن مازلنا خاملين.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

    [ معنى الآيتين:

    يخبر تعالى رسوله بأن بعض المؤمنين سألوا عن المحيض: هل تساكن المرأة معه وتؤاكل وتشارب أو تهجر بالكلية حتى تطهر؟ إذ كان هذا من عادة أهل الجاهلية ]، وحتى اليهود أيضاً، بل اليهود هم الذين كانوا يعتزلون المرأة نهائياً.

    قال: [ وأمره أن يقول لهم: الحيض أذى يضر بالرجل المواقع فيه، وعليه فليعتزلوا النساء الحُيَّض في الجماع فقط لا في المعاشرة والمؤاكلة والمشاربة ] والمبيت، لا، [ وإنما في الجماع فقط أيام سيلان الدم، بل لا بأس بمباشرة الحائض في غير ما بين السرة والركبة، للحديث الصحيح بذلك في هذا، كما أكد هذا المنع بقوله تعالى لهم: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ [البقرة:222] أي: لا تجامعوهن حتى يطهرن بانقطاع دمهن والاغتسال بعده لقوله: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ [البقرة:222] أي: اغتسلن فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222] بإتيانهن، وهو القبل لا الدبر ]، القبل: الأمام، والدبر: الوراء، [ فإنه محرم، وأعلمهم تعالى أنه يحب التوابين من الذنوب المتطهرين من النجاسات والأقذار، فليتوبوا وليتطهروا ليفوزوا بحب مولاهم عز وجل. هذا معنى الآية الأولى ]، هل هناك أغلى من حب الله؟

    لو يأتيني هاتف يهتف على شرط أن يكون ملكاً، يقول: اعلم أن الله يحبك واخرج من بيتك ومالك؛ فوالله لفرحت وخرجت، وإن قالوا: الشيخ جن، لكن نتوسل ونعمل، وكلنا رجاء أن يحبنا، من أحبه الله فلينم، من أحبه الله لا يذله، لا يخزيه، لا يهينه، لا يكله إلى غيره.

    والخطوة الأولى: أحبه أنت، أما أنك غير مستعد لحبه وتطلب منه أن يحبك فهذا خطأ فاحش، ويقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم، وأحبوني بحبه )، هذه إذا ذكرتها وكنت في خلوة وذكرت ثيابك النظيفة أو طعامك بين يديك، أو إنقاذك يوم كذا في حادثة كذا، فعلى الفور ترتعد فرائصك وتبكي وتحب الله أكثر من حبك لنفسك، والذي ما يذكر هذا لا يحب الله، أمر مفروغ منه، ( أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم ) اذكر نعمه تحبه، اذكر إحسانه إليك تحبه.

    أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان.

    والذي يأكل ويشرب كالحمار ولا يفكر ولا يذكر الله كيف يحب الله؟

    قال: [ أما الآية الثانية وهي قوله تعالى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة:223] فهي تضمنت جواب سؤال وهو: هل يجوز جماع المرأة مدبرة بأن يأتيها الرجل من ورائها؟ إذ حصل هذا السؤال من بعضهم فعلاً، فأخبر تعالى أنه لا مانع من ذلك إذا كان في القبل لا في الدبر، وكانت المرأة أيضاً طاهرة من دمي الحيض والنفاس، وسمى المرأة حرثاً لأن رحمها ينبت فيه الولد كما ينبت الزرع في الأرض الطيبة، وما دام الأمر كذلك فيأت الرجل امرأته كما شاء مقبلة أو مدبرة؛ إذ المقصود حاصل وهو الإحصان وطلب الولد ]، ما معنى الإحصان؟

    الحفظ من الوقوع في الزنا، الإحصان حاصل بهذا الوطء سواء من أمام أو من وراء، والولد كذلك ينبت بإذن الله.

    [ فقوله تعالى: أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] يريد: على أي حال من إقبال أو إدبار شئتم شرط أن يكون ذلك في القبل لا في الدبر، ثم وعظ تعالى عباده المؤمنين بقوله: وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [البقرة:223] من الخير ما ينفعكم في آخرتكم، واعلموا أنكم ملاقوا الله تعالى فلا تغفلوا عن ذكره وطاعته؛ إذ هذا هو الزاد الذي ينفعكم يوم تقفون بين يدي ربكم ] ويسائلك: هل فعلت؟ هل فعلت؟

    [ وأخيراً أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبشر المؤمنين بخير الدنيا والآخرة وسعادتهما من كان إيمانه صحيحاً مثمراً التقوى مولداً العمل الصالح ].

    هداية الآيات

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

    [ هداية الآيتين:

    من هداية الآيتين:

    أولاً: حرمة الجماع أثناء الحيض والنفاس؛ لما فيه من الضرر، ولقوله تعالى: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222].

    ثانياً: حرمة وطء المرأة إذا انقطع دم حيضها أو نفاسها ولم تغتسل بعد، لقوله تعالى: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222] .

    ثالثاً: حرمة نكاح المرأة في دبرها؛ لقوله تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222] ] أي: أذن لكم، [ وهو القبل.

    رابعاً: وجوب التطهير من الذنوب بالتوبة، والتطهير من الأقذار والنجاسات بالماء ]، تطهير النفس بالتوبة والاستغفار، وتطهير البدن بالماء العذب الصافي الطهور، فالماء الطاهر تشربه، تغسل به إناء، أما الطهور فهو الذي ترفع به الأحداث، هو الذي يتم به الغسل والوضوء.

    [ خامساً: وجوب تقديم ما أمكن من العمل الصالح ليكون زاد المسلم إلى الدار الآخرة؛ لقوله تعالى: وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [البقرة:223].

    سادساً: وجوب تقوى الله تعالى بفعل ما أمر وترك ما نهى عنه وزجر ]، أما قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:223] هذا أمر أو لا؟ أيعصى الله إذا قال: افعل أو لا تفعل؟

    [ سابعاً: بشرى الله تعالى على لسان رسوله لكل مؤمن ومؤمنة ]، وبشر يا رسولنا المؤمنين والمؤمنات.

    فالحمد لله.. الحمد لله، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، يا ولي المؤمنين ويا رب العالمين.

    رب إن بيننا من يشكو آلاماً وأمراضاً في بيته، في مستشفاه، اللهم اشف أولئك المرضى من المؤمنين والمؤمنات، اللهم شفاءك العاجل يا رب العالمين.

    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765794438