أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة، ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، وها نحن اليوم مع هذه الآيات من سورة الرعد:
وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ * وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد:25-29].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات: سبق لنا أن تدارسنا في الدرس السابق الآيات التي نزلت في حمزة بن عبد المطلب عم الحبيب صلى الله عليه وسلم، وفي عدو الله ورسوله أبي جهل ، فذكر تعالى لـحمزة ومن سار على منواله ثمان صفات، وعرفناها صفة بعد أخرى، والآن مع أبي جهل فيما وصفه الله به، والعبرة ليست بخصوص السبب وإنما هي بعموم اللفظ، فكل من اتصف بتلك الصفات فهو من أهل الجنة ورضوان الله تعالى، وكل من اتصف بهذه الصفات الخاسرة فهو من أهل النار والخسران والعياذ بالله.
وقبل أن نبدأ في ذكر صفات أبي جهل لا بأس أن أسمعكم الصفات الثمانية التي وصف الله بها حمزة وهي صفات لكل مؤمن ومؤمنة، قال تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وهذا هو حمزة كَمَنْ هُوَ أَعْمَى هذا أبو جهل إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الرعد:19] وإن شاء الله كلكم منهم الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:20-22] ما عقبى الدار؟
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24] حمزة رضي الله عنه ومن سار على منواله.
والآن مع صفات أبي جهل والعياذ بالله منه ومن يسلك مسلكه، قال تعالى: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ فكل كافر مشرك قد نقض عهد الله وميثاقه؛ لأن الله عز وجل خلق الأرواح قبل أن يخلق الأبدان، واستنطقها فنطقت، واستشهدها فشهدت أن لا إله إلا الله، وأخذ عليها العهد والميثاق ألا تخلفه، فكل كافر قد نقض العهد وأخلفه، قال تعالى من سورة الأعراف: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] هذا الميثاق العام، والمواثيق الخاصة بينك وبين إخوانك، بينك وبين أهلك، بينك وبين أي إنسان، إذا عاهدته لا تنقض عهدك ولا تنكثه، فنقض العهد وخلف الوعد -والعياذ بالله- من كبائر الذنوب، بل من آيات المنافقين.
وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ أي وتوكيده، وهذه الصفة الأولى.
قال: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ الصفة الثانية، فكل من آمن برسول وكذب بآخر ما وصل الإيمان بل قطعه، فالذين يؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون بالبعض كاليهود والنصارى -على سبيل المثال- آمنوا بأنبياء وكفروا بآخرين، كفروا برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، والإيمان مأمور به أن يوصل ولا ينقطع، فارتدوا وقطعوا، فهم -والعياذ بالله- في أسوأ حال.
قال تعالى إذاً: أُوْلَئِكَ البعداء لَهُمُ اللَّعْنَةُ وهي: البعد من رحمة الله أبداً وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد:25] سوء الدار هو جهنم، أهناك دار أسوأ من جهنم؟ لا دار أسوأ منها والعياذ بالله.
أعيد هذه الصفات الثلاث:
وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ، وقد قلت لكم: كل من ارتد بعد إيمانه أو عرض عليه الإسلام فرفضه، فقد نقض العهد الذي بينه وبين الله، كل من كفر بعد إسلامه مرتداً، أو كفر بدون أن يؤمن ويسلم، عرض عليه الإسلام فرفض فهو ناقض لعهد الله من بعد ميثاقه.
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ، هذه الصفة الثانية، أي: كل من يقطع ما أمر الله به أن يوصل ولا ينقطع، ومن ذلك الإسلام، الإيمان، الإحسان.. الإيمان بالرسل عامة، فمن لم يؤمن ببعضهم قطع ما وصله الله، وما وصل ما أمر الله بوصله.
وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ هذه الصفة الثالثة، والفساد في الأرض بم يكون؟ هل يكون بهدم المباني؟ بهدم الجسور؟ الفساد في الأرض -يا أبناء الإسلام- يكون بغشيان الذنوب، وارتكاب المعاصي، فكل من عصى الله تعالى فترك واجباً أمره الله أن يفعله، وكل من ارتكب محرماً حرمه الله فهو مفسد في الأرض، ولا تفسد الأرض إلا بهذه الذنوب والمعاصي.
إذاً: من هم المفسدون في الأرض؟ الذين يعملون بالذنوب والآثام والمعاصي من السرقة إلى ترك الصلاة إلى عقوق الوالدين، إلى ما شئت من الذنوب والآثام، فهم يفسدون الأرض بما يعملونه من معصية الله ورسوله.
وسر ذلك أو بيان حقيقته: أن سر الشريعة التي شرعها الله للبشرية هو إسعاد البشر وإكمالهم.
إذاً: فالعمل بنقضها معناه إشقاء وإهلاك للبشرية.
هذه قوانين سماوية ربانية إلهية أنزلها الله تعالى، تناولت كل شيء حتى النظرة، والله ما تركت شيئاً في الحياة إلا وقد اشتملت عليه. هذه القوانين الخروج عنها فساد بالأرض، والواقع شاهد، والدنيا كلها تعرف هذا.
إذاً: من ترك ما أوجب الله وفعل ما حرم الله، فهو مفسد في الأرض فاسد.
قوله: أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد:25] اللعنة هي لعنة الله، وهي: البعد من رحمته، فمن لعنه الله فقد طرده وأبعده من رحمته، كما لعن إبليس، والكافرين، والكاذبين.
قوله: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ خبر إلهي، الله جل جلاله يبسط الرزق أي: يوسعه لمن يشاء من عباده رجالاً ونساءً، في الأولين والآخرين يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ أي: يضيق على من يشاء.
لماذا هذا؟ لحكمته؛ لأنه يبتلي بالفقر كما يبتلي بالغنى، يبتلي بالسعة كما يبتلي بالضيق، فينظر هل الفقير صبر ولم يجزع، أو لما افتقر كفر وسخط؟ وهل من وسع عليه رزقه أنفق وأعطى في سبيل الله أو شح وبخل وفسق وفجر؟ ومن ثم يكون الجزاء بحسب حال العبد، فإن كان قد حمد الله وشكره على نعمته التي أنعم بها عليه، وأنفقها في سبيله فاز في الدنيا والآخرة، وإن هو انتكس، وارتكب الإثم، وانغمس في الذنوب والمعاصي، وما بالى بنعمة الله فعقوبته تنزل به في الدنيا والآخرة.
والشاهد من هذا: شاهد البشر كلهم في قريتك أو منطقتك: هذا غني وهذا فقير، من فعل هذا؟ والله ما فعله إلا الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ لحكمة وهي: أن ينظر من يشكر ومن يكفر، من يصبر ومن يجزع، فالفقير إذا صبر ولم يجزع وعبد الله وحمده وشكره على ما والاه وأعطاه فهو من الفائزين، وإن هو انتكس بفقره، وأصبح يسرق ويطفف، ويكذب، ويخون، ويفجر والعياذ بالله، ويسخط، فتلك نقمة الله تنزل به.
هذا تدبير الله؛ لأن المشركين في مكة يتبجحون بالغنى، ويعيبون على الفقراء بينهم، وهذه حال أهل الظلم والشر إلى اليوم، الفقراء في مكة كـبلال وصهيب وفلان وفلان.. يسخرون منهم، ويستهزئون بهم، ويقولون: لو كانوا مؤمنين لماذا يفقرهم الله؟ لو كانوا، لو كانوا.. كذا يرددون، وها نحن أغنياء وأرباب مال وسلطان؟!
فأبطل الله نظريتهم من أساسها، وقال عز وجل: اللَّهُ جل جلاله، وعظم سلطانه وحده يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ أي: على من يشاء، ليس غير الله؛ إذ هو خالق كل شيء، خالق النمل، والنحل، وخالق السماء والأرض، فالرزق واسع وضيق، والله لا يوسعه إلا الله، ولا يضيقه إلا هو، فالعارفون العالمون إذا وسع رزقهم حمدوا، وشكروا وأنفقوا.. وهم شاكرون حامدون، وإذا ضيق عليهم وابتلاهم بالفقر صبروا، ولم يجزعوا، ولم يسخطوا، ولم يذكروا الله إلا بحسن الذكر والعبادة والطاعة.
ثم قال تعالى: وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا أي: هؤلاء الكفرة الأغنياء الذين يتبجحون، ويعتبون على المؤمنين الفقراء وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا بالمال فيها، والسلطان، والدولة، والعز و..، كما هم عليه في مكة وفي كل بلاد العالم وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ [الرعد:26] ضاعت الآخرة كلها منهم، والله ما نالوا منها شيئاً، وحياتهم هذه التي اعتزوا بها ونالوها ما نسبتها إلى الآخرة إلا كمتاع مسافر يأخذ في كيسه كذا من الخبز أو من التمر.
مثل الحياة الدنيا بكل ما فيها من ترف، وغنى، ومال ونسبتها إلى الآخرة كمتاع مسافر يأخذ خبزة أو رغيفاً في كيسه، ليس فيه أكبر من هذا، ولكنهم وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ [الرعد:26] والمتاع يتمتع به ويفنى ويزول، وأما الآخرة فهي دار الخلد والبقاء الأبدي.
إذاً: خسر الذين فرحوا بالحياة الدنيا، ولم يقبلوا على الله ويعبدوه، ليكملوا ويسعدوا في الدار الآخرة.
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا يخبر تعالى عنهم أيضاً وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وعلى رأسهم هذا عبد الله بن أبي أمية هذا من الرؤساء المتبجحين في مكة والمشركين، قالوا: لولا أنزل على محمد آية كعصا موسى أو كإحياء الموتى أو كذا.. كما بلغهم عن الأنبياء، وقالوا: لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وفي السيرة شاهدنا ركانة وهو يصارع النبي صلى الله عليه وسلم والنبي يصرعه ثلاث مرات، ويقول للشجرة: تعالي فتأتي، ويقول لها: عودي فتعود إلى مكانها، ومع هذا ماذا قال له ركانة ؟ قال: سحر عظيم، وما آمن.
ومن ثم عرفنا أن الآيات والمعجزات لا تستلزم الإيمان أبداً، فكم وكم من يرى الآية ولا يؤمن، فهم هنا يقولون: لماذا؟ لولا أنزل عليه آية من ربه؟ فقال الله تعالى لرسوله: قل لهم: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ [الرعد:27] الله يضل من يشاء إضلاله، ويهدي من أناب إليه ورجع إليه، فإن أنبتم إلى الله وشهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والتففتم حول رسولنا، فهذه هي الإنابة، ولكم ما لكم من الأجر العظيم والجنة دار النعيم، ومن أبى وتكبر، وطالب بالآيات فهذا ما أراد الله هدايته، فالهداية مطلوبة من الله.
فيا أبناء الإسلام! الهداية لا يهبها أحد، ولا يعطيها أحد إلا الله، فمن أراد الهداية فليقرع باب الله عز وجل، وليطرح بين يديه، ويبكي ويسأله الهداية، فإن الله يهديه.
حاشا لله أن تقرع بابه ويطردك، أو تطلب الهداية ويضلك، ولكن الله يضل من طلب الضلال وأراده، وعمل له، وسعى في طلبه.. هذا لا يهديه الله عز وجل، بل يهدي إليه من أناب، فارجع إلى الله وتب إليه، واقرع بابه، واسأله الهداية، والله لا يحرمك أبداً منها، بل يهديك قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ [الرعد:27] من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ [الرعد:28].
إذا ذكر الله بين أيديهم سكنت نفوسهم!
إذا ذكروا الله بألسنتهم سكنت نفوسهم!
إذا ذكروا الله في قلوبهم اطمأنت نفوسهم!
إذا قرءوا كتابه ودخلوا في عبادته تطمئن نفوسهم وتسكن!
وأهل الشرك والكفر والمعاصي -والعياذ بالله- لا تطمئن نفوسهم إلا على اللهو والأغاني والأباطيل والكذب، وما إلى ذلك كما هو مشاهد، فما من مجلس يذكر فيه الله عز وجل إلا وتجد نفوس المؤمنين تسكن، وتطمئن، وتسر وتفرح، وأما المجلس الذي يذكر فيه الباطل والخيانة والتلصص والإجرام فنفس من تطمئن؟ نفس اللاهين واللاعبين والمجرمين.
قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ، ثم قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] وهنا امتحن نفسك يا عبد الله، إذا ذُكر الله بين يديك، أو سمعت ذكره، أو كنت تذكره.. هل نفسك مطمئنة، راضية، طيبة، أو قلقة، حرجة، غير مرتاحة؟ لأن الله أخبر بهذا الخبر مؤكداً ذلك بـ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] أي: قلوب المؤمنين والمؤمنات، الصادقين والصادقات، أهل الإيمان والتقوى من أولياء الله وصالحي عباده.
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ما لهم؟ ما شأنهم؟ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد:29] فالكلام السابق كله يعود إلى هذه الآية الأخيرة، الذين آمنوا ضد الذين كفروا، والذين عملوا الصالحات ضد الذين عملوا بالمعاصي والذنوب.
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ما لهم؟ قال: طُوبَى لَهُمْ الحال الطيبة الحسنة في الدنيا والآخرة، وجنة فيها نعيم مقيم، وفيها شجرة يقال لها: طوبى، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الراكب يسير في ظلها مائة سنة لا يقطع هذه الشجرة.
يا معشر المستمعين! أولاً: هم الذين آمنوا الإيمان بأركانه الستة، الإيمان الذي لا يخالطه شك ولا ريب، بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن البعث الآخر حق، الإيمان بكل ما أمر الله أن نؤمن به ونصدقه من شأن الغيب والشهادة في عالم السماء وعالم الأرض.
هذا الإيمان كررنا القول بأنه بمنزلة الروح، وهل الجسد يحيا بدون روح؟
الجواب: لا والله، الأجساد تحيا بالأرواح، فالإيمان الصحيح الموافق لما في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لبمثابة الروح، فصاحبه حي، إذا ناديته سمع وأجاب، وإذا أمرته فعل وأطاع، وإذا نهيته انتهى واجتنب؛ وذلك لأنه حي، وفاقد هذا الإيمان ميت.
هل إذا سمع اليهودي أو النصراني أو الكافر أو البوذي أو المشرك: (حي على الصلاة) يقبل على المسجد ويصلي؟ لا. لا يجيب.
إذا أعلن عن هلال رمضان وقالوا: غداً الصيام، فهل الذميون معنا في القرية والمدينة يصومون أو يصبحون صائمين؟ الجواب: لا.
ما سر ذلك؟ لأنهم أموات، والميت لا يسمع النداء، الميت إذا ناديته لا يجيب، الميت إذا قلت له: افعل أو لا تفعل لا يمتثل؛ لأنه ميت.
هذا الإيمان يجب أن نحافظ عليه، وأن نقويه، فهو يضعف وينقص، فنقويه ونزيد فيه، وكل عمل صالح تفعله يزيد في إيمانك؛ تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فيرتفع منسوب إيمانك، فالإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
وقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة:124]، هذا الإيمان الذي هو تصديق؛ تصديق الله تعالى ورسوله في كل ما أخبر به، سواء مما نعقل أو لا نعقل، أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن جبريل ظهر في مكة في أجياد في صورته التي خلقه الله عليها، فسد الأفق كله؛ إذ له ستمائة جناح، فقلنا: آمنا بالله، فلا يحتاج إلى أن نقول: كيف وجبريل يدخل على رسول الله والمؤمنين، ويجلس بينهم ويخرج، ويقول: ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم )، المؤمن صادق الإيمان ما أخبر الله بشيء أو رسوله إلا قال: آمنت به.
على سبيل المثال: ( في مجلس جلسه صلى الله عليه وسلم لأصحابه يحدثهم ) يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم؛ أوحي إليه أنه في الزمان الماضي على عهد بني إسرائيل ( كان رجل يركب بقرة )، والبقرة للسقي، والسني، وللحرث، وليست للركوب كالبعير أو كالحمار والفرس ( فلما ركبها رفعت رأسها هكذا وقالت: ما لهذا خلقت )، فالرسول ألقي إليه هذا الخبر فقال: ( آمنت به آمنت به وأخذ بلحيته: آمنت به، وآمن به
الإيمان: هو الذي يخلو من الريب والشك والتردد، فهو الجزم الصادق بكل ما أخبر الله تعالى به، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا إيمان يأتي من غير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثق واطمئن واجزم واحلف أن الله ما أخبر بشيء إلا كان كما أخبر، وأن الرسول ما أخبر بشيء إلا كان كما أخبر، ومن كذب ارتد وكفر.
إذاً: العمل الصالح آية الإيمان وعلامته.
وما هو العمل الصالح؟
هو العمل الذي يزكي النفس، ويطيب الروح، ذاك هو صالح العمل، الذي يطهر النفس البشرية، ويزكي الروح، فتصبح طيبة طاهرة كأرواح الملائكة، ذاك هو العمل الصالح.
والعمل الفاسد ضده، الذي يخبث النفس ويلوثها ويدرِّنُها، ذلكم -والله- العمل الفاسد.
إذاً: العمل الصالح -عباد الله- هو الذي أمر الله باعتقاده أو قوله أو عمله. هذا أول شرط، فلا يكون العمل صالحاً إلا إذا كان أمر الله به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أمر به الناس أن يقولوه إن كان قولاً، أو يعملوه إن كان عملاً، أو يعتقدوه إن كان اعتقاداً؛ لأن الاعتقاد من عمل القلوب، فالعمل الصالح: ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. هذا أولاً.
ثانياً: أن يؤدى وأن يُفعل كما بين رسول الله فعله، فعلى سبيل المثال: الوضوء عمل صالح، شرعه الله في كتابه، وبينه رسوله، فلو قلت: أنا لا أتوضأ كما تتوضئون، وغسلت رجليك أولاً، ثم تمضمضت، ثم قدمت أو أخرت، فوضوءك فاسد، لا يزكي النفس، ولا ينتج المطلوب منه؛ لأنه عمل باطل، ما أصبح عملاً صالحاً.
أيضاً: الصيام: لو تقول: أنا أصوم أربعاً وعشرين ساعة بلا انقطاع. فقد خالفت هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبطل صيامك، ولا تؤجر عليه، ولا يزكي نفسك، ولا يطهرها.
وهكذا سائر العمل الصالح هو الذي شرعه الله تعالى في القرآن أو على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم نؤديه ونفعله كما أداه رسول الله وفعله، لا نزيد ولا ننقص.
ها أنتم تصلون -رحمكم الله- العشاء، ولو قال الإمام: نزيد الليلة ركعة، وصلى خمساً وصلينا معه، فهل صلاتكم صحيحة أو باطلة؟
الجواب: باطلة. ما معنى باطلة؟ أي: لا تزكي النفس، ما أصبحت عملاً صالحاً، والله ما تزكي النفس.
أو أنه قال: الليلة نحن متعبون ومطر، نصلي العشاء ثلاث ركعات فقط؟ هل تصح الصلاة؟
الجواب: لا تصح، ومعنى ذلك: أنها لا تنتج الزكاة للنفس، ولا تطيب الروح، أي: ما ولدت الحسنات التي تشرق لها النفس وتزكو بها، فلابد من معرفة العمل الصالح، وهو ثمرة الإيمان، فغير المؤمن -والله- ما يعمل صالحاً، ولا يقدر عليه أبداً، فلابد من الإيمان، والعمل الصالح لابد وأن يكون مما شرع الله، فلا تقبل بدعة، ولا خرافة، ولا فهم مخالف ولا ولا، وإنما قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، والحديث الصحيح يقول: ( كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد )، كل عمل ما أمرنا به، ما شرعناه، ما وصينا به، ما أقررناه فهو رد، أي: مردود على صاحبه.
ما معنى مردود؟
الجواب: لا ينتج تزكية النفس وتطهيرها، فالعامل بالبدعة والخرافة لا تزكو نفسه، ولا تطيب أبداً، فركعتان صحيحتان سليمتان أفضل من مليون بدعة.
إذاً: يقول تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد:28-29].
المآب: المرجع، آب يئوب إذا رجع، وَحُسْنُ مَآبٍ أي: حسن المرجع إلى الدار الآخرة.
أو فيكم من يقول: أنا لن أرجع؟ هل بقي أحد من القرون الماضية؟ لابد من الموت، والموت انتقال فقط، فما هي إلا أن تدفن هذه الجثة حتى تصير الروح إما في عليين وإما في سجين إلى أن تنتهي هذه الدورة نهائياً، وتعود الأرواح إلى الأجسام كما كانت وخيراً مما كانت، فطوبى لمن عملوا صالحاً ما وعدهم ربهم به من عقبى الدار الآخرة وهي الجنة؛ دار الأبرار، اللهم اجعلنا من أهلها، واحشرنا في زمرتهم يا رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر