أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم. آمين.
سبق أن درسنا أمس النداء الواحد والستين، وها أنتم به على علم، وهذا النداء أيها الأذكياء النبلاء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا [الأحزاب:41-44]. وما دمنا بهذا الجفاء وعدم ذكر الماضي فنشير إلى هذا النداء؛ لما فيه من الفوائد العظمى، فقد ناداكم الله بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأحزاب:41]! أي: يا من آمنتم بالله رباً، وبالإسلام ديناً وشرعاً، وبمحمد نبياً ورسولاً، ويا أيها الأحياء! إذ أنتم الأحياء وغيركم ميت، وقد علمنا أن المؤمن حي والكافر ميت.
وقد ناداكم ليأمركم بذكره فقد قال: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]. وذلك لأن الذكر يزيد في طاقة إيمانكم، ولأن الذكر يكون عصمة لكم وحفظاً من أن تتلوثوا وتتلطخوا بأوزار الذنوب والآثام. وقد علمنا أن الذي يذكر الله بقلبه ولسانه معاً هو في عصمة إلهية، فهو لا يستطيع أن يخرج عن طاعة الله، ولا أن بترك واجباً، ولا بفعل حراماً ما دام مع الله؛ لأن الذاكر بقلبه ولسانه مع الله، والذي هو مع الله لا يجرؤ على أن يعصيه، وقد قال تعالى: ( أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه ). فمن أراد ألا يفجر وألا يسرق ألا يكذب وألا يغش وألا يخدع فعليه بذكر الله بقلبه ولسانه.
وقد قلت لكم مئات المرات: نتحدى من يقول: إني أذكر الله بقلبي ولساني ثم في تلك الحال أعصيه، حتى ولو بنظرة متعمدة إلى محرم من محارم الناس، فضلاً أن يمد يده ليقتل أو يضرب، أو يسرق وينهب. فالحصن الحصين هو ذكر الله، ولما غفلنا عن ذكر الله هبطنا، واستولت علينا الأهواء والدنيا والشياطين، وأصبحنا كما يعلم ربنا بحالنا.
اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]. وأقل ما تقولونه في هذا العدد: إنه ثلاثمائة مرة، فأقل الكثرة ثلاثمائة، والحقيقة كما علمتم أن نذكر الله الليل والنهار، إلا إذا دخلنا الحش والمراحيض فإننا نمتنع من ذكر الله؛ لأنه ممنوع أو يمنع في تلك الحال. وقبل أن ننام نذكر الله وبعد أن نستيقظ على الفور نذكر، ثم لا نزال في ذكر الله حتى نعود إلى فرشنا، كالملائكة، فالملائكة يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20].
ولا تنظر إلى أهل الغفلة الذين يجلسون المجالس ولا يذكرون فيها الله، فهي ترة عليهم وحسرة إلى يوم القيامة، بل جالس الصالحين واذكر الله، ولا تنسى الله عز وجل، فـ ( خيركم من إذا رئي ذكر الله ). فخيرنا عبد لا نراه حتى نذكر الله عز وجل.
وهذا عيسى ابن مريم ابن البتول صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم يقول للحواريين: اذكروا الله، ولا تتركوا ذكر الله فتقسو قلوبكم، وإن أبعد الناس عن الله ذو قساوة القلب.
ثم قال تعالى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:42]. وقد عرفتم أننا نسبح الله في الصباح والمساء بوردين هما أحلى من العسل، وأعذب من ماء الفرات، الورد الأول: سبحان الله وبحمده مائة مرة، والورد الثاني: سبحان الله وبحمده. وهما أحلى من الحلوى والعسل في الصباح والمساء.
وقوله: وَسَبِّحُوهُ [الأحزاب:42] أي: قدسوه ونزهوه بكلمة سبحان الله بكرة وأصيلاً. والبكرة تبتدئ من طلوع الفجر، وتنتهي إلى الضحى، والأصيل: من زوال الشمس إلى غروب الشمس.
وقد ورد الورد العظيم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير مائة مرة، والجزاء على هذا كأنما عتقت عشر رقاب، فلك عدل عشر رقاب، والرقبة قد تكون بمئة ألف ريال اليوم.
وليس هذا فقط، بل ويرفع لك مائة درجة، ويحط عنك مائة خطيئة، وتظل طول يومك في حرز من الشيطان، فلا يقوى على أن يذلك، أو يثقلك بالذنوب والآثام، ولا يأتي أحد بمثل ما تأتي به من الأجر إلا من قال مثلك وزاد. فلا تترك هذا الورد، وقد قلنا لكم: على سائق السيارة أن يقوله، وعلى صاحب المسحاة في البستان وهو يضرب أن يقوله، ولا يتركه أحد إلا من استولى الشيطان على قلبه.
وهناك جوائز أخرى عظيمة، وهي صلاة الله تعالى علينا وملائكته، أي: رب العالمين ورب السماوات والأرضين ورب كل شيء ومليكه هو الذي يصلي عليك أنت يا عبد الله! وأنت لو يموت أخوك لا تصلي عليه! والله يصلي علينا، وتصلي علينا ملائكته أيضاً. وكل هذا الشأن والقيمة لأننا آمنا به تعالى رباً وإلهاً، وأخلصنا له القلوب والوجوه، وأننا عرفناه ولم نعرف سواه، فأكرمنا بهذه الكرامة، وهي أنه يصلي علينا، وملائكته يصلون علينا.
والله لا يصلي علينا بصلاة فيها ركوع وسجود، وإنما يثني علينا بخير في الملكوت الأعلى، ويرحمنا. وها نحن الآن نذكر في الملكوت الأعلى، والحمد لله! فقد قال أبو القاسم فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ) كحالنا ( إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة ) المقربين ( وذكرهم الله فيمن عنده ). والحمد لله!
والمسلمون لم يعرفوا هذا، ولذلك فهم لا يجتمعون في بيوت ربهم يتلون كتاب مولاهم، ويتدارسونه بينهم؛ ليكملوا ويسعدوا، وليسموا ويرتفعوا، وإنما يجتمعون في المقاهي والملاهي، ومجالس الباطل على الطابع العام في عالمنا الإسلامي. والذي طردنا من بيوت الله وحرمنا منها هو العدو إبليس.
وإذا أردتم كلمة صدق - وهي مكررة-: لن نعود إلى ما كان عليه أهل القرون الذهبية الثلاثة إلا إذا عدنا إلى بيوت الرب بنسائنا وأطفالنا، فنتلقى من صلاة المغرب إلى العشاء الكتاب والحكمة ونزكي أنفسنا، ولا يكلفنا هذا ديناراً ولا درهماً. واليهود والنصارى والمجوس والمشركون إذ غابت الشمس ودقت الساعة الثالثة أوقفوا دولاب العمل، وأوقفوا المصانع والمتاجر، وأوقفوا كل شيء، وذهبوا إلى الشيطان، وإلى دور الغناء والمقاهي والفجور والمراقص، ونحن ضائعون، لا نعرف إلى أين نذهب، فيجب أن نذهب إلى بيوت ربنا، وليس في هذا عيب ولا انتقاص، فاذهب يا عبد الله! إلى بيت ربك، ومعك زوجتك وأولادك، تستمطر رحماته، وتطلب ألطافه وإحسانه في بيته، ولن يقول أحد: هذا باطل ومنكر، ثم نتعلم الكتاب والحكمة، ولا نلبث إلا قليلاً حتى نكون علماء ربانيين، لو رفعنا أيدينا إلى الله ما ردها أبداً صفراً وخائبة، ولكن:
واحر قلباه من قلبه شبم
وهكذا ضعنا من حيث لا ندري.
وصلاة الملائكة علينا: أنهم يستغفرون لنا. وهذه صلاة الملائكة علينا.
خلاصة هذا النداء وقد انتهينا إليها:
[ أولاً: وجوب ذكر الله تعالى بالقلب واللسان ليلاً ونهاراً وفي كل الأوقات، إلا في حال دخول المرحاض لقضاء الحاجة ] وأنا لا أوجب عليكم ما لم يوجبه الله، وإنما قلت بوجوب هذا لأن الله قال في ندائه من سورة الأحزاب المدنية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأحزاب:41]. فلنقل: لبيك اللهم لبيك! مر تُطَع، وانه ننته، ومر نفعل، اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41-42]. فهذا أمر، فهو واجب.
واسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر كمثل الحي والميت ). والله العظيم. والميت لا يذكر، وإنما الحي هو الذي يذكر.
ولا ننسى الحديث الذي درسناه في هذا النداء، وهو: ( هل أدلكم على أفضل أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من أن تنفقوا الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: دلنا يا رسول الله! قال: ذكر الله ). والرسول حكيم، فهو يحول طاقاتنا كلها إلى ذكر الله، ووالله لو ذكرنا الله لما عصيناه، ولما بقي واجب متروكاً، ولا محرم مغشياً ولا مرتكباً، ولا ستقامت بالحياة بكاملها.
[ ثانياً: بيان فضل المؤمنين المتقين ] أهل الإيمان والتقوى؛ وذلك [ إذ الرحمن ] جل جلاله [ يصلي عليهم وملائكته كذلك ] يصلون عليهم.
[ ثالثاً: التذكير بالبعث الآخر، وهو معتقد أهل الإيمان؛ إذ قال تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب:44] ] وقد عرفنا أن ملك الموت - وعما قريب سنشاهد ذلك- إذا دخل علينا ونحن على سرير الموت يبدؤنا بقوله: السلام عليكم، والله العظيم، ثم لما يأخذ الروح يسلم عليها، ثم يعرج بها، ثم تنتهي إلى العرش، وتحيي ربها بتلك التحية التي نحيي بها ولا نفهم معناها، وعندما نسلم من الصلاة نقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، مع أننا لم نكن في معصية حتى نستغفر الله، بل كنا في عبادة، ولكننا لم نحسن الوقوف بين يدي الله، ولم نتأدب مع الله، فقد كان من حقنا أن ترتعد فرائصنا، وأن تسيل دموعنا، وأن ننسى كل شيء ونحن بين يدي ذي الجلال والإكرام. وليتخيل أحدنا وقفته لو وقف بين يدي بوليس، فهو لا يقف هكذا بين يدي رب العالمين، بل يتركه ينظر إليه ويذهب إلى القدر ينظر ماذا طبخوا به، وينظر إلى أبطل الأشياء، وهذا الحال لا يليق بنا. ولهذا بمجرد أن تسلم تقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله. فتبينوا هذا. وقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم إذا انفصل من صلاته قال: السلام عليكم، ثم أول ما يقول: (أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله )؛ لأنه يخشى أن لا يكون تأدب مع الله، و( الله عز وجل ينصب وجهه لعبده في الصلاة).
ثم نقول بعد الاستغفار: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام!).
وهذه التحية -أي: السلام عليكم- نحيي بها ربنا عندما تعرج روحنا إلى الملكوت الأعلى، وقد قصصت عليكم القصة هذه: ذكر شيخ الإسلام ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى عن شيخه ابن تيمية رحمة الله عليه، يقول: كانت لي خالة -أخت أم- ومرضت فذهبت لأزورها، فسلمت عليها ودعوت الله لها، وهممت أن أقوم، فقالت لي: يا شيخ! أنا مقبلة على ربي، فإذا وقفت بين يديه فماذا أقول؟ قال: فارتج علي، ولم أعرف ما أقول، قال: ثم ألهمني ربي، فقلت لها: إذا وقفت بين يديه فقولي: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام! قال: وخرجت وبلغني أنها توفيت، وماتت رحمة الله عليها، ورأيتها في المنام فقالت لي: يا شيخ! جزاك الله عني خيراً، لقد وقفت بين يدي ربي وارتج علي ولم أعرف ما أقول، فذكرت ما قلت لي، فقلت: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام!
قال: [ ولقاء الله يكون يوم القيامة لقاء كاملاً تاماً ].
ولنذكر قوله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]. وهذا حتى لا يبقى شك لأن تقول: السلام بمعنى: الأمان، أو بمعنى: الإنعام والرحمة، بل هو قولاً، فيزيل الحجاب عن وجهه، ويريهم وجهه الكريم، ويسلم عليهم. وهذه اشترها بجسمك وروحك وكل ما تملك، ولو فتح الله باب الجهاد، وقام إمام المسلمين يدعو فليتمنى أحدنا أن يموت كل يوم ويعود، وليس هناك أفضل من هذا، فالرحمن جل جلاله يزيل الحجاب عن وجهه، وينظر إليهم فتغمرهم غمرة من الفرح لم يعرفوا طعماً ألذ منها ولا أطيب، ويسلم عليهم: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58].
[ رابعاً: بشرى المؤمنين المتقين بالجنة؛ إذ قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] ] عند الاحتضار عند الموت، قائلين لهم: [ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] ] والحمد لله [ اللهم اجعلنا من أهل الإيمان والتقوى والبشرى في الدنيا والآخرة. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].
وهذا النداء مضمونه هو [ في سقوط العدة على المطلقة قبل المسيس، ووجوب ] منح [ المتعة لها إن لم يسم لها مهراً ].
وهذه النداءات جاءت في العقيدة وفي الآداب، وفي الأخلاق وفي الحلال وفي الحرام، وفي السياسة وفي الحرب وفي السلم، وفي كل شيء في الحياة، ولا إله إلا الله! فهي لم يخرج منها شيء نفتقر إليه في حياتنا لنكمل ونسعد إلا احتوت عليه نداءات الرحمن.
والذين ناداهم (99%) منهم لم يريدوا أن يسمعوا نداءه، ولا أصغوا بآذانهم، ولا قالوا: لقد نادنا فلنستمع إليه أبداً! وما زلت أقول: المفروض أن توضع هذه النداءات على تحت أو جنب كل سرير في الفنادق. وأما المسئولون والعلماء والفقهاء والبصراء فينبغي أن يكون كل واحد منهم هذا النداء إلى جنبه، ولا ينام حتى يسمع نداء ربه.
وهيا نتغنى بهذا النداء أولاً.
[ الآية (49) من سورة الأحزاب
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:49] ] والذين لم يحفظوا هذا النداء ولم يفهموا معناه لا يستطيعون أن يفعلوا هذه التعاليم؛ لأنهم ما عرفوها حتى يفعلونها.
[ الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم! ] وهذا القارئ الكريم هو المؤمن بالله وبلقائه، وبمحمد ونبوته، والآخرة وما فيها، وهو الذي يقبل على نداءات ربه ويقرؤها أو تقرأ عليه، وإذا كان لا يحسن القراءة يقول لأخيه المؤمن: من فضلك أسمعني نداء من نداءات ربي ومولاي؛ من أجل أن أعرفه وأقوم بعبادته وطاعته؛ ليعزني ويكرمني.
فعلى هذا القارئ الكريم أن يعلم [ أن هذا النداء الإلهي وُجِّه للمؤمنين لإيمانهم بالله تعالى رباً وإلهاً ] أي: معبوداً [ وبالإسلام ديناً، لا يقبل الله ديناً غيره، ديناً ذا شرائع وأحكام رحيمة عادلة، وبمحمد نبياً لا نبي بعده، ورسولاً إلى الناس كافة، هؤلاء المؤمنون الذين ناداهم الله تبارك وتعالى ] ناداهم [ ليعلمهم حكماً من أحكام شرعه ] والليلة نتعلم حكماً من أحكام الشرع الإلهي؛ إذ لله شريعة وشرائع، وهي: مجموعة من الأحكام. والليلة نتعلم حكماً من شرائعه. فقد نادانا ربنا ليعلمنا حكماً من أحكام شرعه، وأحكامه عادلة رحيمة، لا ظلم فيها ولا جور، ولا عذاب ولا تعذيب.
وأما المطلقة قبل المسيس فلا حق لزوجها الذي طلقها أن تعتد منه، بل إذا طلقها اليوم فلها أن تتزوج غداً، ولا حرج [ لأن علة العدة الواجبة ] وحكمتها [ هي الحمل، أي: كي تعرف المطلقة هل هي حامل ] وحبلى [ أم لا؟ ] لأنها قد تتزوج وتذهب بهذا المولود إلى فحل آخر، وتختلط الأنساب، وهذا لا يكون إلا مع الجماع والغشيان [ أما التي لم يمسها زوجها فإنها قطعاً لا حمل لها أبداً ] أي: فإذا لم يغشها فإنها لا تحمل. فلهذا إذا طلق الفحل امرأته قبل الجماع وقبل الدخول فلا عدة عليها، والذي قال هذا سيدها ومولاها [ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:49] ] ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49]. وهو لا يعني: مسها بيده، بل هذه عبارة سامية راقية، فهذا كتاب الآداب والأخلاق، وهذا نور الله ورحمته، وذلك حتى تستطيع البكر في خدرها أن تقرأ القرآن أمام أمها ولا تخجل ولا تستحي؛ إذ ليس فيه عبارات تثير هذا أبداً. فقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49] ليس المقصود باليد، وإنما المعنى: من قبل أن تجامعوهن، وعبر بالمس من باب أن الفتاة الحيية تقرأ القرآن أمام أبيها ولا تستحي.
قال: [ ويعني بنكحتم: عقدتم؛ إذ يطلق لفظ النكاح على العقد وعلى الوطء، وغالباً يطلق في القرآن على الوطء والعقد، إلا في هذه الآية فإنه أطلق على العقد فقط ] فقوله: إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:49] معناه والله: إذا عقدتم، ولا يحتمل إلا العقد هنا [ لقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49] ] أي: تجامعوهن أو تخلون بهن.
فمرة نقول: الخلوة، ومرة نقول: الجماع؛ لأن الجماع أمر مفروغ منه، فإذا وطئها انتهى الأمر، والخلوة إذا خلا بها في غرفة أو في بيت أو في غير ذلك وأسدلت الستائر وأغلق الباب فهنا يقال: عليها العدة، فيجب أن تعتد، وهنا تلزم كل التكاليف، وتأخذ المهر بكامله؛ لأنه خلا بها وإن لم يجامعها؛ لأننا لا ندري. بل ما دام قد خلا بها في مكان لا تراه فيه عين فهذا كالنكاح وكالجماع، وإذا قال: والله ما مسستها، أو قالت هي: والله ما قرب مني فإننا لا نقبل هذا القول، وتجري الأحكام عليهما، وكأنه جامعها.
والمحنة الآن أنه يعقد عليها ويمشي يتجول معها، ويسمون هذا شهر العسل، وهو شهر القطران، فإذا عقد عليها وقبل أن يبني بها يمشي معها إلى أوروبا، ويتجول معها شهراً وبعد أحيان يمكر بها ويطلقها، ويلطمها على وجهها أيضاً؛ لأنه ملها، وهذا لا يليق بأهل الإيمان، ولا بالأحياء، وإنما هذا يليق بالأموات.
قال: [ وهذا يقال له: طلاق الكناية فيحتاج إلى النية ] فكلمة الحقي بأهلك لا بد له من نية [ أما الأول وهو الصريح: أنت طالق وطلقتك لا يحتاج إلى نية ] أبداً [ إذ لو قال: أنت طالق وهو لا يريد الطلاق ] ولا ناوياً الطلاق لم يقبل منه، بل إنها قد [ طلقت، حتى لو قال: أنا هازل طلقت ] وكذلك لو قال: لقد طلقتك وهو يضحك [ لحديث: ( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق والعتاق والرجعة ) ] ( والنكاح ) أيضاً، فلو قال لعبده: أنت حر، ثم قال: لا تصدق أنا أضحك الناس فقط وأمزح، أو لو قال لزوجته: لقد راجعتك، فارجعي إلى البيت، ثم قال: أنا أضحك معها فقط لم يقبل منه، بل يعتق العبد، وترجع المرأة، وكذلك لو قال: أنت طالق، أو لو قال: لقد قبلت نكاحها، ثم قال: كنت ألعب فقط، وأنا لا أريدها، فهي امرأته.
قال: [ وهذه المتعة واجبة ] وحتمية [ لمن لم يُسَمّ لها مهر ] ولم يذكر المهر عند العقد، فلو قال: أنكحني ابنتك أو أختك يا فلان! فقال: لقد أنكحتك، فقال: قبلت ورضيت، ولم يسموا المهر ثم طلقها قبل الدخول، فليس لها مهر، وليس من حقها المطالبة به، بل يمتعها ويعطيها جارية، أو يعطيها فرساً، أو يعطيها منزلاً تسكنه بحسب حاله، وأما التي سمى لها المهر، وقال مثلاً: أنكحتك إياها على عشرة آلاف فلها النصف، خمسة آلاف فقط. والعشرة الآلاف كثير، وأخشى أن الناس يأخذون الآن هذا الكلام، وخمسة آلاف فقط كافية، وهم الآن يتزوجون بخمسين ألف، وبثمانين ألف، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبعضهم بمائة ألف، وسوف يذوقون مرارة هذا النكاح. وبشروهم بهذا.
قال:[ إذ لو سُمِي لها مهر لكان لها؛ لقول الله تعالى في سورة البقرة: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ [البقرة:237]، أي: يتنازلن عما وجب لهن، وهو نصف المهر. [ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237]. فيترك لها المهر كاملاً، فله ذلك ] فإذا سمى لها مهراً فلها نصف المهر، والمتعة حينئذ مستحبة كسائر المطلقات. فأيما مؤمن يطلق امرأة إلا ويسن في حقه أن يمتعها، فيعطيها لباساً، أو يعطيها خاتماً، أو يعطيها غير ذلك؛ تفرح به؛ لأنها تطلقت، وهي حزينة، فلا يكربها ويحزنها ولا يعطيها شيئاً.
وأما التي طلقها قبل المسيس ولم يسم لها مهراً فيجب أن يمتعها، والدليل على أنه يجب نداؤنا الليلة، وهو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ [الأحزاب:49]. وهذا أمر.
أولاً: مشروعية الطلاق قبل البناء وجوازه بلا حرج.
ثانياً: ليس على المطلقة قبل البناء عدة أبداً؛ إذ لها أن تتزوج يوم طلاقها ولاحرج.
ثالثاً: المطلقة قبل البناء وإن سُمِي لها صداق فلها نصفه، وإن لم يُسًمَ فلها المتعة واجبة بحسب حال المطلق يساراً وإعساراً، وإن تشاحنا فالقاضي يقدرها.
رابعاً: حرمة أذية المطلقة بأي أذى، ووجوب تخلية سبيلها تذهب حيث شاءت.
خامساً: مشروعية المتعة لكل مطلقة، إلا أنها تجب للتي لم يُسَم لها صداق
سادساً: العدة للتي تحيض ثلاثة قروء، أي: حيض أو أطهار، ولا يشرع الطلاق إلا في طهر قبل أن يجامعها فيه، والتي لا تحيض لكبر سنها أو صغره عدتها ثلاثة أشهر لا غير، والحامل عدتها ولادتها، فمتى ولدت انتهت عدتها، والمتوفي عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، وإن كانت حبلى فتعتد بأطول الأجلين الحمل أو الأشهر؛ إذ هذا خير لها ولأهل زوجها الميت، والإحسان محمود منا أيها المؤمنون! والله يحب المحسنين.
وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر