أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم. آمين.
هذا هو [ النداء الواحد والستون ] وهو من سورة الأحزاب المدنية، ومضمون هذا النداء وما يحمله من هدى هو [ في الأمر بذكر الله وتسبيحه عز وجل بكرة وعشياً، وبيان ثواب ذلك من الله عز وجل
الآيات (41 - 44) من سورة الأحزاب ] فآيات هذا النداء هي الآية الواحدة والأربعون، والثانية والأربعون، والثالثة والأربعون، والرابعة والأربعون من سورة الأحزاب.
وليس من اللائق ولا من الأدب ولا من المروءة ولا من الإيمان أن ينادينا سيدنا ومولانا وربنا ولا نصغي ونسمع ما ينادينا من أجله. ولا يعقل أن يناديك مولاك وسيدك ومالك أمرك من أجل إسعادك وإكمالك وتطهيرك ورقيك ولا تصغي ولا تسمع، أو يناديك فيأمرك فلا تفعل، وينهاك فلا تترك، ويبشرك فلا تفرح، وينذرك فلا تخف.
ونحن قد أصبحنا أمواتاً غير أحياء ولا نشعر بذلك، فهم لم يعلمونا فيما مضى أن هناك نداءات لله يوجهها طول الحياة إلى عباده المؤمنين والمؤمنات. والآن يسر الله لنا جمعها في كتاب، وأصبح في إمكان كل مؤمن أن يضع هذا الكتاب عند وسادته، وقبل أن ينام يسمع نداء من نداءات الرحمن، ثم يعزم على أن يطيع مولاه فيما أمر به، أو فيما نهاه عنه. وهكذا، ولن يمضي زمن على المؤمنين والمؤمنات إلا وقد علموا وعرفوا، واستقاموا وكملوا، وأصبحوا أولياء لله، وتكون نتائج ذلك ألا يبق بين المؤمنين والمؤمنات ما يسوءهم أو يضرهم، أو يؤلمهم أو يقلقهم، بل ينتهي كل باطل، وينتهي كل شر، ويختفي كل فساد، فلا يبق نميمة ولا غيبة، ولا ظلم ولا شر، ولا اعتداء ولا غير ذلك؛ إذ لا سبيل إلى تطهير البشر إلا أن يمتثلوا أمر الله، ويسلكوا مسلك المؤمنين؛ فيكملوا ويسعدوا. فلنقبل على الله.
وها نحن مع هذا النداء، فهيا نتغنى به ساعة، ثم نستمع لنفهم مراد الله منه، والذي من أجله نادانا بعنوان الإيمان، فهيا نتغنى، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ).
الشرح ] والآن معاشر المؤمنين والمؤمنات! مع شرح هذه النداء الكريم؛ لنزداد علماً ومعرفة؛ ولنهيأ للعمل بما نادانا الله من أجله [ اعلم أيها القارئ! ] أي: لهذا النداء [ أن هذا النداء الكريم من رب رحيم ] والله [ يوجه إلى المؤمنين الصادقين ] وليس إلى المؤمنين الكاذبين، وهم المنافقون، الذين يقول أحدهم: هو مسلم مؤمن، وهو لا يؤمن ولا يسلم لله قلباً ولا وجهاً، وقد كان هذا في أيام النزول لهذا القرآن، فقد كان يوجد منافقون، وهذا النداء خاص بالمؤمنين الصادقين في إيمانهم [ وجهه إليهم ربهم ] وخالقهم ورازقهم وسيدهم ومالك أمرهم ومعبودهم الحق [ ليعلمهم ما يزيد به إيمانهم ونورهم، ويحفظون به من عدوهم وعدو أبيهم إبليس عليه لعائن الله. ألا إنه ذكر الله تعالى ] فالذي يزيد في إيماننا وفي نورنا، والذي يحفظنا هو ذكر الله، إذ قال لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41] أي: لا حد له ولا حصر ] وقد سبق أن علمتم أن أهل العلم يقولون: أقل الكثرة ثلاثمائة فما فوق، ودون الثلاثمائة ليس كثرة، وأما الكثرة فلا يعلمها إلا الله، ولو ذكرته الليل والنهار لما أديت الذكر الكامل المطلوب، ولو علم الله أن للذكر حداً لقال مثلاً: اذكروا الله سبعمائة، ولكنه قال: ذكرا كثيراً [ إذ هو الطاقة التي تساعد على الحياة الروحية ] فذكر الله كالطاقة التي تدفع العربات وتطير الطائرات، فطاقة الإيمان عندنا تزيد فيها ذكر الله عز وجل، وذكر الله طاقة، صاحبه لا يفسد، ولا يخيب ولا يفتر.
[ وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنواع التسبيح ] فالرسول صلى الله عليه وسلم مسئول عن البيان، فقد قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]. وقال هنا: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:42]. وكيفية التسبيح وعدده بينه لنا رسولنا، وبين كميته.
قال: [ منها ] أي: من أنواع التسبيح [ سبحان الله وبحمده مائة مرة ] وسبحان الله العظيم، وقد قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ). وهذا أغلى ورد، وصاحبه لا يظمأ، ومن أعرض عنه وغفل، أو لم يبلغه ولم يرده فهو ظمآن وعطشان وحيران، وهذا الورد أحسن ما يكون بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الصبح أو بعدها. وإن زدت معه أستغفر الله كان الأجر مضاعفاً، فقل: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، أستغفر الله. وهذا الورد ذكر أهل العلم أن صاحبه لا يمسه فقر، فيفتقر الناس ولا يفتقر هو. والحمد لله فقد عرفناه في الصبا، ولازمناه حتى الشيخوخة كل يوم مدى العمر. فيا من تخافون من الفقر والاحتياج خذوا هذا الورد: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، أستغفر الله.
وسبحان الله وبحمده أيضاً علمناه رسولنا صلى الله عليه وسلم [ وأن من سبح هذا التسبيح ] سبحان الله وبحمده [ بهذا العدد ] مائة مرة بعد طلوع الفجر أو غروب الشمس [ غفر له ما تقدم من ذنبه ] بل حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر، ومن قال مائة مرة: سبحان الله وبحمده في الصباح أو في المساء حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر في الكثرة، وهذا فقط إذا كان مؤمناً صادق الإيمان، وقلبه لا يلتفت إلا إلى الرحمن [ إن قالها بعد الصبح أو بعد العصر فاز بهذا الأجر، وهو مغفرة ذنوبه، وأعظم به من أجر.
ومنها ] أي: من الأذكار والتسابيح: [ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير مائة مرة ] وهذا من الأوراد، وبينكم من لم يبلغه هذا، وهذا الورد لا يتهاون ولا يتركه إلا محروم. وهذا الورد هو أن تقول حينما تصبح أو تمسي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، هو على كل شيء قدير مائة مرة، فعدها عداً بأصابعك أو بالنوى أو بالمسبحة أو بالآلة [ وذكر صلى الله عليه وسلم أن من أتى بهذا الذكر ( كان كمن أعتق عشر رقاب ) ] أي: كأنه أعتق عشر رقاب [ ( وكتبت له مائة حسنة، وحطت عنه مائة خطيئة، وظل يومه ذلك كله في حرز من الشيطان ) ] أي: في مناعة كاملة وضمانة، كأن إلى جنبك حرس، فلا يستطيع الشيطان أن يغويك حتى تفجر أو تكفر، أو تقول السوء والباطل. والذين يتخبطون أمامكم في الذنوب والمعاصي يتخبطون لأنهم لا مناعة لهم، ولا حرس معهم، وليس عندهم مناعة ولا حصانة، فلا تعجب إذن من ارتكابهم الذنوب، وغشيانهم المعاصي.
قال: [ ( ولم يأت أحد بمثل ما أتى به من الأجر إلا من قال مثله وزاد ) ] أي: لا يأتي أحد في ذلك اليوم بمثل ما تأتي أنت به من الأجر إذا قلت هذا الذكر إلا من قال مثلك وزاد، أي: بدل من أن يسبح مائة يسبح مائتين، أو مائة وخمسين، أو مائة وثلاثين. فلا نترك هذا ونحن قادرون على أن ننطق، وردده وأنت تسوق السيارة والطيارة، وأنت تَسْبَح، أو والمسحاة في يدك تضرب الأرض يا فلاح! فقل: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
قال: [ ومنها: التسبيح دبر الصلوات الخمس، نحو: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكير ثلاثاً وثلاثين، فهذه تسع وتسعون تسبيحة، وختام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ] فلا نترك هذا التسبيح، فنجلس خمس دقائق فقط بعد الفريضة ونأتي به وبغيره أيضاً، وكذلك تسبحه وأنت تمشي وإذا كنت مشغولاً في مهماتك، ولكن لا بد من العدل، فتقول ثلاثاً وثلاثين: سبحان الله، وثلاثاً وثلاثين الحمد لله، وثلاثاً وثلاثين الله أكبر، فيكون المجموع تسعة وتسعين تسبيحة، ثم اختم المائة بـ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
وسبب هذا التشريع: أن وفداً من المهاجرين جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ( يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور ). والدثور: جمع دثرة، أي: المال ولو كان شعيراً أو تمراً أو دنانير ودراهم. ( يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويجاهدون كما نجاهد، ويتصدقون بفضول أموالهم ولا نتصدق )، أي: فكيف نصنع؟ وهؤلاء الرجل منهم يعدل من على الأرض من إخواننا اليوم، فهم من المبشرين بالجنة، ويهتمون هذا الاهتمام، ويكربون هذا الكرب، ويرفعون شكواهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول لهم: ( هل أدلكم على شيء؟ تسبحون الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتحمدون ثلاثاً وثلاثين، وتكبرون ثلاثاً وثلاثين، وتختمون المائة بـ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فلم يأت أحد بمثل ما تأتون به ). وسمع بهم إخوانهم الأنصار، ففعلوا كما فعلوا، فقالوا: ( يا رسول الله! سمعوا ما أعطيتنا ففعلوا. قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ). ولا أملك لكم سوى هذا.
وأنا أعجب من هذا، فهذه الأوراد المحمدية النورانية يخفونها عنا، ويجحدونها ويغطونها، ويعطوننا أوراداً لا تنفعنا شيئاً. ولو يبقى الواحد طول الليل إلى الفجر يردد: هو هو هو هو لم تزكو نفسه، ولا تطهر ولا تطيب. ولما تقول: الله! الله! الله! الله! فأنت تناديه، فاسأله، فإذا قلت: الله! فإن الله يقول: اسأل يا عبدي! وأنت لا تسأل، بل تواصل قولك: الله! وهذا تحدٍ لله. وأنت يا إسماعيل ! لو قلت لك: إسماعيل ! إسماعيل ! إسماعيل ! إسماعيل ! إسماعيل ! فإنك لا تسكت، بل تقول: اسأل، فإذا واصلت: إسماعيل ! إسماعيل ! ولم أطلب شيئاً لقلت: إنني استهزئ بك. ولا إله إلا الله! فاعرفوا ماذا فعل عدوكم بكم.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35]. وقد حجب العدو المسلمين عن الوسيلة الحقة التي تثمر عند الله، وتقضى بها الحاجات، وأعطوهم وسيلة واحدة، وهي أسألك بحق فلان، أو بجاه فلان. وأما وسيلة الصيام والرباط والجهاد والصدقات وذكر الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والعكوف في بيوت الله فهذه الوسائل كلها لا نسمع بها، وإنما نسمع فقط بأعطني بحق فلان، وهذا كأنه يهدد ربي.
ولا يجوز أن تقول: أعطني بحق فلان؛ لأن معنى هذا بالعامية: إن لم تعطني من فضلك فأعطني بحق فلان عليك. والعياذ بالله. وهذا كفر، فافهموا هذا، وهو أن: أسألك بحق فلان أي: أطلبك بحق فلان معناه: إن لم تعطني أنت من فضلك وإحسانك وجودك وكرمك فأعطني بحق فلان عليك. وهذا لا يقوله مؤمن لله، ولو أن شخصاً غنياً تريد منه مالاً وقلت له: اسمع! أعطني بحق فلان ولا تعطيني من فضلك أنت لم يرضه هذا الكلام، ولا يفرح به، بل يركلك برجليه على هذا الكلام، ولقال لك: ليس لأحد حق علي. فافهموا هذا.
وهذه الأذكار الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم محجوبة مغطاة ومستورة، ولم يعطونا منها إلا: هو هو هو هو، والله! الله! الله! الله! الله!
وقولك: الله! الله! الله! ثلاث مرات لا بأس به، لا أن تقول: الله! الله! الله! الله! طوال الليل وبالمئات وتسمي هذا ذكراً، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم المؤمنين الذكر، ولم يعلمهم هذا. ولكنهم حرمونا، وفعلوا بنا العجائب، فقد مزقونا وجهلونا، وفعلوا بنا ما فعلوا، وإلى الآن ما أفقنا. فالمؤمنون لم يستفيقوا.
وقد انتشر الوعي بوسائط شاءها الله، منها: المذياع والصحيفة والمواصلات، وأصبح العالم كله بلداً واحداً، وأما بالجد وبالصدق وبالإقبال على الله فلم يحصل هذا، ولا توجد لهذا مظاهر، فليس هناك مظاهر للجد والصدق. وقد بكينا وصرخنا.
الحل للخروج مما أصابنا هو: أن يصدر أمر من وزير الداخلية: إذا مالت الشمس إلى الغروب لا يبق أحد في الشارع ولا في مقهى ولا في دكان، بل الكل في بيوت الرب، النساء والرجال والأطفال، فيتلقون ويتعلمون الكتاب والحكمة، وخلال سنة واحدة لا يبقى جاهل ولا جاهلة، وتختفي مظاهر الزنا والفجور والباطل والسحر والكذب والخداع وما إلى ذلك.
وإذا لم يسلك المسلمون هذا المسلك فلن يفقهوا دين الله، ولن يعرفوا الله، ولن يستقيموا، ولن يكملوا، ولن تنتهي فتنهم ومحنهم حتى النهاية. ولست واهماً في هذا، فافتح عينيك على العالم الإسلامي وانظر، فإذا غربلتهم وصفيتهم لم تجد ولا (1%) عالماً عارفاً بالله، أو مؤمناً مستقيماً على منهج الله، بل قد غطاهم الجهل وعمهم وغشاهم، ولم يعرفوا الطريق إلى الله، فهم يتخبطون، فتجد الواحد يقول: إنه مسلم، ولكنه لا يعرف معنى الإسلام، وهو لم يسلم لله شيئاً، فهو يكذب عندما يقول: إنه مسلم. ومعنى أسلم يسلم إسلاماً: إذا أعطى الشيء وقدمه، فأسلم قلبك لله، بحيث لا يكون يتقلب هذا القلب إلا في طلب رضا الله.
الوسيلة عند المسلمين اليوم هي أن تقول: بحق سيدي فلان، أو بجاه سيدي فلان، وأما بصلاة آخر الليل، أو بالعكوف في بيوت الرب، أو بالصيام والصلاة، أو بالصدقات، أو بذكر الله فإنهم لا يعرفون هذه الوسيلة. وإذا قلت: إن الوسيلة بجاه أو بحق فلان باطلة لا تنفع قالوا: هذا وهابي، يكره الأولياء. وسبحان الله! والآن انتهت واختفت هذه الفتنة، وخفت بعض الشيء.
وإذا لم تكن الأمة هابطة وجاهلة فلن يقال هذا الكلام، ولما قالوا: حرم الذبح للأولياء، ولا أنني أقول: أذبح أنا وزوجتي للملك فهد ، ويرددون هذا الكلام. وقد كنا ظننا أننا ارتفعنا بعض الشيء، ولكننا ما زلنا هابطين. وأترككم لله.
والقضية ليست قضية كلام، وإنما نحن نبكي على هبوطنا، ونحن لا يؤلمنا أن يقولوا ما شاءوا، بل يؤلمنا أن يضربوا بالحديد والنار. فلنفهم ولنع، ولنرتفع في مستوياتنا وفي عقولنا وفي فهومنا، ولنسأل أهل العلم حتى نخرج من شدة الجهل وظلمته، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
ولا تأسفوا، وقد كانوا يتحدوننا، ويمرون بالحلقة ويقولون: يا هو! يا هو! يا هو! وهذا الشيخ يقول: يا هو! ليس اسماً من أسماء الله، مع أن الله ليس اسمه هو، حتى تذكره: هو هو هو، ولم يقل أحد: إن الله اسمه هو، وهذا كتاب الله، وهذه سنة رسول الله، فلا تقل: يا هو! وإذا قلت: هذا باطل ومنكر غضبوا واشتكوا.
وهيا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبين لنا الذكر والمطلوب منا، فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41-42].
وإذا أردت أن تعرف ما بيناه فأتحدى الإنس والجن أن يأتوني بمؤمن أو مؤمنة يذكر الله بقلبه ولسانه ويرتكب معصية، وأتحدى الجن والإنس أن يعطوني مؤمناً أو يدلوني عليه يذكر الله: سبحان الله! لا إله إلا الله! بقلبه ولسانه وهو مع الله ويمد يده ليسرق الناس، أو يفتح عينيه لينظر بهما إلى ما حرم عليه وهو يذكر الله، فهذا لا يوجد، على شرط: أن يكون ذاكراً لله بقلبه ولسانه، وهو مع الله، ففي هذه الحال لا يمكن أن يعصي الله. ولو أقبل أهل القرية كلهم على ذكر الله، وأصبحوا يذكرون الله لانتهت المعاصي، واختفى وجودها، ولن يعصي الله أحد وهو يذكره، والرسول لم يكن بهلولاً من بهاليل الناس عندما أعلنها في صراحة: ( ألا أنبئكم بأفضل أعمالكم، وأرفعها ) ... كما سمعتم، ثم يقول: (ذكر الله). فافهموا هذا. وأنت لا تستطيع أن تسب أو تشتم مؤمناً وأنت تذكر الله بقلبك ولسانك، وجرب هذا، فإنك لا تستطيع، وإنما يقوى على أن يفسق ويفجر من نسي الله، ففي الحالة التي لا يكون فيها مع الله يفجر ويقول الباطل، والدليل عندنا: أن اثنين تخاصما وتضاربا والرسول يسمع، فغضب أحدهما أشد الغضب، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم -ولم يوجه الكلام إليه، بل من آدابه صلى الله عليه وسلم الرفيعة أن قال لبعض أصحابه-: ( لو يقول كلمة لذهب غضبه، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب غضبه ). فلو ذكر الله لذهب غضبه. فإذا غضبت أو احمرت عيناك فقل: أستغفر الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. واليوم بمجرد ما يغضب أحدنا يقول: بالحرام، أو أنت طالق، ولا إله إلا الله! وهذا لأننا ما جلسنا في حجور الصالحين، فهم والله ما تربوا في حجور الصالحين، فلنتربى في حجور الصالحين، فقد سمعنا الله يقول: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]. والذي لا يجد من يعلمه الكتاب والحكمة ويزكي نفسه ويطهرها لا يستطيع أن يعيش على الآداب والكمالات، بل كل يوم يحلف بالحرام والطلاق، والنساء يشتكين. ولا إله إلا الله!
وأعيد هذا الخبر النبوي الشريف، قال صلى الله عليه وسلم: ( ألا أنبئكم بأفضل أعمالكم، وأزكاها عند مليككم ). ومليكنا هو الله، وأزكاها أي: أكثرها وأطهرها. ( وأرفعها في درجاتكم، وخير من إعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ ) فهناك ما هو أفضل من الجهاد ( قالوا: وما هو يا رسول الله؟! قال: ذكر الله عز وجل ). فالذكر أفضل من الجهاد. والرسول حكيم. فعلم أهل قرية أن يذكروا الله طول النهار، وأن يذكروه دائماً، ثم انظر إليهم، فلن تجد بينهم فجوراً ولا زناً، ولا سرقة ولا كذباً، ولا خداعاً ولا نفاقاً، ولا غير ذلك، فقد شغلوا، ولكن إذا لم يكونوا يذكرون الله وإنما يذكرون الشيطان والدنيا والشهوات المال، ويأكل بعضهم بعضاً فلا ينفع لا بوليس ولا غير ذلك. فالرسول حكيم.
والبلد الذي أهله يذكرون الله ذكراً حقيقياً مع عين البصيرة ممكن أن تمضي كذا سنة ولا تحدث فيه سرقة، ومع هذا الناس لا يريدون هذا؛ لأنه ذكر الله.
[ وقوله: وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب:43] أي: وملائكته تعالى تصلي عليكم أيضاً، وصلاة الملائكة هي الدعاء لكم بخير، والاستغفار لكم ] فصلاة الملائكة علينا: الدعاء؛ لأن معنى الصلاة: الدعاء، والاستغفار لنا، فهي تصلي أي: تدعو لنا بخير، وتستغفر لنا [ كما قال تعالى في حملة العرش: أنهم يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا، الآية من سورة المؤمن (غافر) ] فقد جاء في القرآن أن الملائكة: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7]. فسورة المؤمن لها اسمان: غافر والمؤمن.
قال: [ وقوله تعالى: لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43]، أي: ليخرجكم سبحانه وتعالى من ظلمات الكفر والذنوب والمعاصي إلى نور الإيمان والطاعات، فصلاته تعالى وصلاة ملائكته هي عامل الإخراج من الظلمات المهلكة إلى النور الهادي إلى النجاة من مهالك الحياة.
وقوله تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43] هذا إنعام آخر، وفضل زائد على ما تقدم من صلاته تعالى وصلاة ملائكته عليهم، وهو أنه بالمؤمنين رحيم، أي: لا يعذبهم ولا يشقيهم، ولا يذلهم في الدنيا ولا يخزيهم ].
وقوله تعالى في ختام هذا النداء: وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا [الأحزاب:44] أي: هيأ لهم وأحضر أجراً كريماً، وهو الجنة دار السلام. وسبحان الله ما أكرمه! وسبحان الله ما أسعد المؤمنين! فبفضيلة الإيمان وطاعة الرحمن طلب منهم عز وجل أن يذكروه كثيراً، وأن يسبحوه بكرة وأصيلاً، فأعطاهم ما لا يقادر قدره، فسبحانه من إله كريم ورب رحيم ].
أولا: وجوب ذكر الله تعالى بالقلب واللسان ليلاً ونهاراً وفي كل الأوقات، إلا في حال دخول المرحاض لقضاء الحاجة ] فذكر الله يكون طول النهار إلا إذا نمت في الليل، أو دخلت المرحاض، فلا تنسى الله أبداً، وإن لم تذكره بلسانك فليكن قلبك معه، ومن هنا تحصل لك المناعة، فلن تستطيع والله أن تعصي الله أو تخرج عن طاعته، بمعنى: أننا نأمن من شرك، ومن أن تغتابنا أو تسبنا، أو تعتدي على نسائنا أو تأكل أموالنا، فنأمنك من كل ذلك.
[ ثانياً: بيان فضل المؤمنين المتقين؛ إذ الرحمن يصلي عليهم وملائكته كذلك ].
والآن أذن المؤذن، وكما علمتم نقول كما يقول المؤذن، فهذا أفضل لنا، ولا نقوم بسرعة وتفوتنا تلك الجائزة العظيمة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر