أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. جعلنا الله منهم، وحشرنا في زمرتهم، ورضي عنا كما رضي عنهم. اللهم آمين.
نذكر بالنداء السابق، وهو النداء السابع والأربعون، وقد عرفتم أنه في حرمة الخيانة، فلا نخون الله ولا الرسول ولا المؤمنين، فالمؤمنون أهل الإيمان والتقوى يتنزهون عن الخيانة، فلا يخونن أحد ربه بأن يظهر طاعته ويخفي معصيته، ولا يخون رسوله صلى الله عليه وسلم، فيظهر سنته، ويخفي الخروج عنها.
ولا نخون أماناتنا الخاصة ولا العامة، والأمانة الخاصة هي: أن يضع مؤمن تحت يدك أمانة، فلا تخنه فيها، بل احفظها وحافظ عليها، حتى تردها إليه وافية غير منقوصة.
والأمانة العامة: وهي هذه الشريعة بكاملها من الاعتقاد والقول والعمل. فكل هذا تركه الله تعالى أمانة عندنا، واذكروا قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72].
وكل هذه العبادات هي أمانة في أعناقنا، فلا نخونها بالتقصير ولا بالإهمال، ولا بالإضاعة والتضييع، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الغسل من الجنابة من الأمانة ). إذ لولا إيمان أحدنا وتقواه لله لما اغتسل؛ لأن الاغتسال يتم بعيداً عن أعين الناس ومعرفتهم، فلا يغتسل من الجنابة إلا مؤمن. والله المسئول أن يعيننا، وأن يسدد خطانا، وأن يوفقنا دائماً وأبداً لما فيه حبه ورضاه.
وهذا النداء هو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:27-28]. فقوله: واعلموا أنما أموالكم وأولادكم [الأنفال:28] إشارة إلى أن الخائن في الغالب يحمله على الخيانة حبه لماله وولده، فيعصي الله ورسوله من أجل الحفاظ على المال والولد، والله عز وجل عنده ما هو خير من المال والولد، فعنده أجر عظيم في الدنيا والآخرة.
واذكروا أنه ما من مؤمن يترك شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه، فلنحذر فتنة المال والولد، فلا نخرج عن طاعة الله وطاعة رسوله من أجل الحفاظ على أموالنا أو أولادنا، فالله قبل المال والولد، والذي وهبك المال والولد قادر على أن يهبك ما هو خير منهما، ألا وهو رضاه والجنة دار السلام.
هذا النداء الذي درسناه بالأمس، وفتح الله علينا وحفظنا وعلمناه.
[ الآية (29) من سورة الأنفال
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29] ].
وفي السجدة للتلاوة يكبر للهوي وللرفع، ولا تسليم.
والشاهد عندنا: هو قول أهل العلم: أن الذي يسجد مع القارئ هو المستمع، وليس السامع، فإذا كنت تستمع فلا تتردد، وأما إذا كنت ماشياً والقارئ يقرأ فلا تسجد، وكذلك إذا كنت جالساً تتكلم أو تقرأ في كتاب أو مشغولاً ولا تستمع، فلو سجد القارئ في هذه الحالة فلست ملزماً بالسجود، ولا مطالباً به، وإنما المطالب به هو المستمع، أي: الذي أعد نفسه وهيأها لاستماع كلام الله. وكذلك هنا لم نقل: القارئ والسامع؛ لأن المخاطب هنا المستمع الذي لا يحسن القراءة إذا قال لمؤمن: اقرأ علي كتاب الله، أو اقرأ علي شيئاً من كلام الله، أو اقرأ علي هذا النداء؛ لأستمع إليه وأفهم وأعمل. فافهموا السر في كلمة المستمع. وقد قلنا: على المؤمن والمؤمنة إذا لم يحسنا القراءة أن يقولا لمن يحسنها: اقرأ علي شيئاً من نداءات الرحمن، وأسمعني شيئاً من نداءات ربي؛ فإني عبده وقد ناداني، وأنا لا أحسن القراءة، فمن فضلك يا بني! أو يا أخي! أو يا أبت! أن تسمعني هذا النداء. هذا هو المستمع.
[ أولاً ] أول ثمرة تجنيها أيها المتقي! الصادق في تقواك هي: [ الحصول على الفرقان ] فقد قال: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]. وهذا الفرقان شيء يفرق بين الحق والباطل، ويفرق بين الصالح والفاسد، وبين الطيب والخبيث، وبين السعيد والشقي، وبين الضار والنافع. هذا هو الفرقان الذي يجعله الله [ والفرقان هو نور يملأ قلبه، أثمرته له ] وانتجته له [ تقواه لله ] فهو نور ولدته لهذا العبد تقوى الله عز وجل، فالتقوى تولد نوراً كالمكينة المولدة للكهرباء، وكما توجد مكائن لتوليد الطاقة الكهربائية فكذلك التقوى الحقيقية تولد نوراً. فعجباً للمؤمن [ فصاحب هذا النور ينجو إذا هلك الناس، وينتصر إذا انهزم الناس، ويميز بين الحق والباطل، و] بين [ المعروف والمنكر، والخير والشر، والنافع والضار، والصالح والفاسد، إذا التبس هذا على غيره من فاقدي نور الفرقان، الذي أثمرته تقوى الله عز وجل ] فيحصل على هذه النتائج الطيبة. وهذه ليست بربرية، وإنما عربية فصيحة، ولكن فقط انتبه، ولا تذهب بقلبك بعيداً، بل اجمع قواك العقلية، وسوف يفتح الله لك وتفهم.
وتقوى الله عز وجل تكون بامتثال أوامره وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، واجتناب نواهيهما معاً؛ لأن الأوامر تزكي، والمنهيات تخبث، فهو يزكي نفسه، ولا يرتكب أبداً محرماً مكروهاً؛ حتى يبقى الصفاء ويبقى الطهر للنفس البشرية، ولا تتلوث، فلا يزال تصفو روحه وتزكو نفسه حتى يغمرها نور العبادة والطاعة، فتصبح ذات نور، وهذا النور يخرج على البصر، ويأتي من طريق السمع، ويأتي من طريق اللسان أيضاً، فيصبح هذا المؤمن صاحب هذا الفرقان لا يلتبس عليه الحق من الباطل، ولا الخير من الشر، ولا الضار من النافع، ولا الصالح من الفاسد، بل ما إن ينظر إلى الشيء حتى يتجلى له حقيقته. والحمد لله أن منَّ الله بهذه المنة على أوليائه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ [الأنفال:29] حق التقوى يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]. فهو الذي يجعله، وهو الذي يخلقه، وهو الذي يلقيه في النفس، وهو الذي يصنعه [ فهذا النور يحصل لصاحبه قوة الفرقان التي يميز بها بين الملتبسات والمشتبهات، حتى يصبح قلما يخطئ في نظرية يراها أو يقولها ] ودعوني أتبجح لأني ميت، والله ما رأيت ولا نظرت نظرية سياسية منذ بلوغي إلى اليوم إلا وقلما تخطئ، وأقسم بالله، ولعل هذا من هذا النور ومن هذا الفرقان، والحمد لله، فنحن ما غشينا كبائر الذنوب ولا ارتكبناها، ولا آذينا مؤمناً ولا مؤمنة بأي أذى. ولا عجب أن يكون لعبد الله نور أثمرته تقواه لله عز وجل، فإذا نظر في القضية وحقق النظر وتأمل وقال كذا فقلما يخطئ، وليس هذا فقط، فسوف تسمعون عن ذلكم السلف الصالح.
و عمر لم يكن عنده شهادة دكتوارة ولا فلسفة ولا علم سياسة ولا منطق ولا غير ذلك، بل أظنه كان لا يحسن القراءة ولا الكتابة، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو كان في أمتي محدثون )، أي: من تحدثهم الملائكة لصفاء أرواحهم ( لكان منهم
واليوم رجال السياسة في العالم الإسلامي لا يتخرجون من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يتخرجون من كليات السياسة، ولا كمال ولا جمال ولا حسن ولا اعتزاز في العالم الإسلامي، بل كل عام يتأخرون إلى الوراء. ولا تظنوا أني واهم في هذا، فهذه الفتن والاضطرابات والقلاقل والبكاء وغير ذلك نتيجة الخروج عن الصراط المستقيم. وقد وضع الله صراطاً مستقيماً، فمن سلكه وسار فيه كمل وعز وساد، وانتهى إلى كماله، ومن انحرف وخرج يتقلب حتى يتحطم.
وأريد من هذا: أن يرجع المسلمون إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتلقون المعارف والهدى في بيوت الرب، فتجتمع كلمتهم ويجتمع منهجهم، فلا فرقة ولا خلاف ولا صراع، ولا دنيا ولا أهواء ولا شهوات، ولكن وحدة كاملة في السير إلى الله عز وجل، وحينئذ يصبحون كلهم نوراً. فليفهم المستمعون هذا. واقرءوا دائماً: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]. وقد استجاب الله، وبعث رسوله في أولاد إسماعيل، فجمعهم في هذا المسجد يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فتخرج من حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بين يديه علماء ساسة ربانيين، لم تحلم الدنيا بمثلهم أبداً. فالطعام يشبع، والشراب يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، فسنة الله لا تتبدل ولا تتخلف، فإذا أقبل عباد الله على كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم في صدق لم يلبثوا أن يصبحوا سادة الدنيا وأئمة العالم، وقد حصل هذا في خمسة وعشرين سنة فقط، فقد انتشر فيها ظل الهداية الإلهية من وراء الصين إلى الأندلس في خمسة وعشرين سنة، وفي هذا الظرف خمسة وعشرين سنة لا يكمل فيها مصنع فقط، فلو أردنا مصنعاً حقيقياً ينتج لما كمل في خمسة وعشرين عاماً، ولكن هذا تم لأنهم عرفوا، وعبدوا الله واستقاموا على منهجه، فسودهم وكملهم وأعزهم، ونفع الحياة الدنيا بهم.
وأزيدكم بياناً ولا تغضبوا: ليس في العالم الإسلامي بلد مستقر طاهر إلا هذا البلد، والسبب فقط هو: تحكيم الكتاب والسنة، وقال الله وقال رسوله؛ لأن هذه الدولة أقامها عبد العزيز على دعائم الدولة الإسلامية، التي قال الله فيها: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41] إجبارياً، فالمدني كالعسكري، والغريب كالقريب والبعيد، فالكل يجب أن يشهدوا الصلاة. وَآتَوُا الزَّكَاةَ [الحج:41]. فجباية الزكاة إلزامية، حتى في رأس العنز وصاع الشعير؛ طاعة لله عز وجل. وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]. وإن شاهدنا ضعفاً وخللاً فيه فإن أعداء الإسلام يعملون ليل نهار، ووالله لقد عملوا جهدهم، ووضعوا من الترتيبات ما يترك به شأن الصلاة، ومن شاء يصلي ومن شاء يغني، إلا أن الله عز وجل - لتقوم الحجة على البشرية- حفظ هذه البقية لتبقى آية من آيات الله. ولا أحد يرد علي في هذا، فقد استقل لنا نيف وأربعون إقليماً من إندونيسيا إلى موريتانيا، ولم يستطع إقليم يوم استقلاله أن يجبر المواطنين على إقامة الصلاة أبداً، ولا أن يأخذ منهم الزكاة بدل الضرائب، ولا أن يوجد هيئات خاصة للأمر بالمعروف في القرى والمدن والنهي عن المنكر، فهذا لم يحصل، ولن تسعد تلك الدول، ولن تصفو وتطيب وتكمل وتستغني وهي لم تقم على دعائم الكمال.
ونقول هذا للمواطنين السعوديين حتى يعضوا بالنواجذ على هذه البقية الصالحة، وذلك باستقامتهم على منهج الله، وترك الخنا والفساد والشر، والتكالب على الدنيا، والمحافظة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وهذه أمانة في أعناق العلماء يجب أن يؤدوها. وسنن الله لا تتخلف من أجل فلان وفلان.
والعجب أن اليهود عرفوا هذا، فصرفوا المسلمين عن الصلاة والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشغلوهم بالأغاني والمزامير والكذب والخداع، وهناك علماء في العالم الإسلامي ما عرفوا ولا فهموا، واليهود عرفوا، فهم الذين ينشرون الخنا والدعارة والفساد من أجل إحباط هذه الأمة وإبطالها. ونحن نبكي من هذا.
قال: [ وسر ذلك تقوى عمر رضي الله عنه وشدتها حتى استحالت روحه إلى طاقة من نور، يشهد لهذا ويقرره قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه ] أي: في عمر [ ( ما سلك
ولعل السر في عدم ذكر الجنة الاكتفاء بذكر الأجر العظيم ] فقط [ لأن الله تعالى لا يعطي العاملين أجراً يوم القيامة غير الجنة ورضاه؛ إذ لا مال يومئذ، ولا دينار ولا درهم ] فلا يوجد دنانير ولا دراهم، ولا يعطيهم قطع أرض وقصور، وإنما الجنة، ولهذا ما قال: ولهم، وإنما قال: وعنده أجر عظيم. وهذا الأجر الذي عند الله أن يرضى عن العبد ويدخله دار السلام.
قال: [ وأخيراً أيها القارئ! والمستمع! لا يفوتكما ولا إياي هذه الصفقة التجارية العظيمة التي ربحها الفرقان العظيم، وتكفير السيئات، ومغفرة الذنوب، والجنة والرضوان في دار السلام.
ألا فلنتق الله عز وجل، ولنثبت على ذلك حتى نلقى الله تعالى.
وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ] وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر