أما بعد:
لنقضي ساعة مع حبيبنا صلى الله عليه وسلم، وقد انتهى بنا الدرس إلى [أهم ما وقع من أحداث في السنة الثالثة من هجرة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم] نستعرضها ثم ننتقل إلى أول أحداث السنة الرابعة.
قال: [إن أهم ما وقع في هذه السنة الثالثة من سنوات الهجرة المباركة من أحداث ذات خطر وشأن، يمكن ذكره إزاء النقاط التالية:
أولاً: قتل كعب بن الأشرف اليهودي الذي بسط يده ولسانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يؤذيهم ويكيد لهم ويؤلب المشركين واليهود عليهم، قتله محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه] بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كاد لرسول الله والمؤمنين، ومكر وفعل الأعاجيب، وألب المشركين؛ إذاً: خان معاهدته، واستوجب القتل، فاغتيل عليه لعائن الله!
[ثانياً: وقوع غزوة أحد، واستشهاد قرابة سبعين رجلاً مسلماً فيها ونحو ثلاثين مشركاً، ومن بين الشهداء أربعة مهاجرون، وهم: حمزة بن عبد المطلب ، ومصعب بن عمير ، وعبد الله بن جحش ، وشماس بن عثمان ، ومن بين الأنصار أنس بن النضر ، وسعد بن الربيع ، وعمرو بن الجموح ، وعبد الله بن عمرو بن حرام ، ومن مسلمي اليهود مخيريق رضي الله تعالى عنه] هذا من مسلمي اليهود في المدينة، استشهد يوم أحد.
[ثالثاً: غزوة حمراء الأسد في اليوم الثاني بعد أحد] وهذا كله مضى وعلمناه، وهذه الخلاصة فقط.
[رابعا: غزوة ذي أمر، وهو ماء بنجد لغطفان] وتقدمت أيضاً، وغزوة الفرع من بحران كذلك.
[خامساً: سرية زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم] وسرية محمد بن مسلمة التي قتلت كعب بن الأشرف اليهودي.
[سادساً: ولادة الحسن بن علي رضي الله عنه، وحمل فاطمة بـالحسين بعد خمسين يوماً من ولادتها.
سابعاً] وأخيراً [حمل جميلة بنت عبد الله بن أبي بـعبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، وذلك في شوال ليلة الأحد]. هذه خلاصة أحداث السنة الثالثة.
وساروا حتى إذا بلغوا الرجيع غدر بهم النفر الذين طلبوهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفقهوهم في الدين، حيث استصرخوا عليهم حياً من هذيل يقال لهم: بنو لحيان؛ فجاءوا في مائة رجل] وماذا يصنع الستة أمام مائة؟! [فلجأ المسلمون إلى جبل حولهم حيث لا طاقة لهم بقتال مائة رجل وهم ستة رجال لا غير، فاستنزلوهم بعهد قطعوه لهم بأنهم لا يمسونهم بسوء] طلبوا نزولهم من الجبل على عهد منهم ألا يغدروا بهم وألا يمسوهم بسوء [فقال عاصم ] وهو أحد الرجال الستة [والله لا أنزل على عهد كافر] والكافر غدار، فالذي لا يؤمن بالله ولقائه كل سلوكه هابط لا يُوثق به!
ثم قال: [اللهم خبر نبيك عنا!] أي: بهذا الذي حدث [وقاتلهم هو ومرثد وخالد بن البكير ، ونزل ابن الدثنة وخبيب وعبد الله بن طارق فأوثقوهم] بالحبال [فقال عبد الله : هذا أول الغدر، فقتلوه فألحقوه برفيقيه، وانطلقوا بـابن الدثنة وخبيب فباعوهما بمكة، فاشترى خبيباً بنو الحارث، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر؛ فاشتروه ليقتلوه بـالحارث ، فسجنوه في بيت ماوية مولاة حجير بن أبي إهاب ، فبينما هو عندها وقد استعار منها موسى ليستحد بها] طلب منها أن تعيره سكيناً ليحلق بها عانته؛ لأنه عرف أنه سيقتل، وأراد أن يتطيب وأن يتنظف قبل قتله.
قال: [حتى إذا قتل يكون نظيفاً من شعر عانته؛ إذ جاء صبي يدب إليه] والسكين أو الموسى في يده [فجلس على فخذه، وهو يستحد والموسى في يده، فلما رأته المرأة صاحت، فقال لها: أتخشين أن أقتله؟ إن الغدر ليس من شأننا! فكانت المرأة تقول بعد ذلك: ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب ، لقد رأيته -وما بمكة من ثمرة- وإن في يده لقطفاً من عنب يأكله] أي: عنقوداً من العنب [ما كان إلا رزقاً رزقه الله عز وجل] شأنه في هذا شأن مريم، أيام كانت في محرابها، وزكريا يدخل عليها فيجدها تأكل فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء! فيقول: يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37]، فـخبيب السجين رضي الله عنه كانت الملائكة تضع بين يديه العنب في مكة حيث لا توجد هناك فاكهة.
[ولما خرجوا به من الحرم إلى الحل ليقتلوه] لأنهم يحترمون حرم الله، وقد غرس الله في قلوبهم تعظيمه لحكمة بينها الله في قوله: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة:97] يعني: من أجل أن يعيش سكان الحرم آمنين ألقي في قلوبهم تعظيمه، فيمر الرجل بقاتل أبيه أو أخيه لا يلتفت إليه وهو داخل الحرم، وها هم لما أرادوا أن يقتلوا خبيباً رضي الله عنه ما استطاعوا أن يقتلوه في حرم الله؛ فخرجوا به إلى الحل ليقتلوه هناك.
قال: [قال: ذروني] اتركوني [أصلي ركعتين] لما أرادوا قتله وصفوف رجالهم واقفة ينتظرون قال: ذروني أصلي ركعتين [فتركوه فصلاهما، فكانت سنة القتل؛ إذ علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقره عليها] وقد فعل المسلمون هذا من بعد، فعندما يحكم على المسلم بالقتل أو بأن يقطع رأسه يطلب أن يصلي ركعتين، فكانت سنة سنها خبيب وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهي ماضية إلى يوم الدين [صلاها غير واحد من المؤمنين، ثم قال لهم: لولا أن تقولوا: جزع من الموت لزدت] يعني: لصليت أربع -مثلاً- بدل الركعتين [أو طولتهما] بالركوع والسجود والقراءة، لكن خفت أن تقولوا: خاف من الموت فهو يطيل الصلاة ويكثر من الركعات [ثم أنشأ يقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي حنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
ودعا ربه قائلاً: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً.
ثم صلبوه على الأعواد وقام إليه عتبة بن الحارث ليقتله، وقال له: أترضى] يا خبيب ! [أن يكون محمد مكانك وأُطلقك؟] أي: أترضى يا خبيب ! أن يكون محمد على أعواد المشنقة وأطلقك؟ [فقال: والله لا أرضى أن أطلق ويشاك محمد بشوكة] لا أن يقتل! وإنما أن يشاك بشوكة فقط [وقتله فمات إلى رحمة الله ورضوانه] هذا خبيب رضي الله عنه.
[وأما عاصم فإنهم بعثوا من يأتيهم برأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد ، إذ كانت نذرت] للآلهة [أن تشرب الخمر في رأس عاصم يوم قتل ابنيها في أحد، فجاء النحل فمنع من أرادوا أخذه؛ فتركوه حتى الليل، فجاء سيل فجرفه ولم يُعثر عليه، استجابة الله تعالى لـعاصم ؛ إذ كان قد عاهد الله تعالى ألا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك، فمنعه الله تعالى في مماته كما منعه في حياته] فرضي الله عنه وأرضاه.
[وأما ابن الدثنة فإن صفوان بن أمية بعث به مع غلامه نسطاس ] ونسطاس هذا نصراني [إلى التنعيم ليقتله بأبيه] الذي قتل يوم بدر [إذ كان قتل يوم بدر، وألقي في القليب] من جملة من قتل من المشركين وألقي في القليب [فلما وصل به هناك إلى الحل ساومه قائلاً: أنشدك الله! أتحب أن محمداً الآن مكانك تضرب عنقه وأنك في أهلك؟] كما فعل عتبة [قال: ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي!! فقال أبو سفيان -وكان حضر الإعدام مع رجال من قريش-: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً] صلى الله عليه وسلم [ثم قتله نسطاس فانتقل إلى رحاب رحمات الله تعالى وسوم رضوانه فهنيئاً له].
[ومن كرامات خبيب رضي الله عنه ] وقد عرفنا أول كرامة وهي أنه كان يأتيه العنب وهو سجين في مكة [أن سعيد بن عامر -وكان ممن حضر قتل خبيب -] إذ حضر جمع غفير ليتفرجوا ويشاهدوا [كان كلما ذكر قتل خبيب بقلبه أو لسانة أخذته غشية] أو إغماءة! كلما ذكر خبيباً -وقد شاهد قتله- بقلبه أو لسانه أخذته غشية [وبلغ ذلك عمر رضي الله عنه؛ فسأل سعيداً فقال: نعم. ما ذكرت خبيباً إلا غشي علي؛ فزادته عند عمر خيراً].
معاشر المستمعين والمستمعات! لهذه المقطوعة نتائج وعبر، فهيا نقف عليها.
إذاً: الغدر والخيانة وصف لازم في الغالب. وقد يندر أن يكون كافر أو مشرك لا يغدر، لكن العبرة بالعموم لا بالأقليات، والعلة معروفة، فالذي لا يخاف الله ولا يحبه كيف لا يغدر؟! إنه إذا غلبته شهوته على أي شيء يفعله! لكن الذي يخاف الله ويراقبه هو الذي لا يستطيع أن يغدر أو يخون أو يفجر، بل كل من يرتكب من المسلمين كبائر الذنوب والآثام لا يرتكبها إلا حين نسيانه لله عز وجل وغفلته عنه، فلهذا جاء في كتاب الله آية من القرآن الكريم من أراد أن يأخذ بها فهي سهلة، وهي قوله تعالى من سورة العنكبوت مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم -وأمته تابعة له في كل خير-: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45] فالذين يجلسون يدرسون كتاب الله ويتلونه آناء الليل أو النهار، متدبرين متأملين؛ هذه التلاوة تكون عصمة لهم، تحفظهم من الوقوع في الفواحش والمناكير.
ثم قال عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فالذين يقيمون الصلاة على الوجه المطلوب، ويؤدونها في أوقاتها التي حددها الله، في بيوت ربهم، مع جماعة الإسلام من إخوانهم، ويخشعون فيها، متمين ركوعها وسجودها؛ مطمئنين فيها، هذه الصلاة أودع الله فيها سراً أنها تحجب صاحبها عن الوقوع في الفحشاء والمنكر، وتولد نوراً كافياً لصاحبها يشع عن بصره وقلبه ولسانه؛ فلا يقع في كبائر الذنوب والآثام.
ثم قال تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45] فالذي يذكر الله بقلبه ولسانه يتعذر عليه بل يستحيل أن يعصي الله عز وجل، هل تستطيع أن تذكر الله والوقوف بين يديه ثم تمد يدك لتسيء إلى أحد؟! لا تستطيع. وقد عرفنا كم من مؤمن يكاد يقع على معصية فيذكر الله فيتركها، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45] في الصيانة والمناعة والحفظ من الوقوع في الباطل.
وأخيراً: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، هذه هي مراقبة الله، فالذي لا ينسى الله ويراقبه في كل شئونه، إذا أراد أن يقوم أو يقعد أو يمشي أو ينام أو يأكل أو يشتري أو يعطي أو يأخذ أو يبني، لا يستطيع أن يعصي الله، وكيف يعصيه وهو يذكره؟! كيف يعصيه وهو يعلم أن الله ينظر إليه ويراقبه؟!
إذاً: الغدر والخيانة وصف لازم في الغالب لأهل الكفر والشرك؛ لأنهم لا يؤمنون بالله ولا يذكرون الله ولا يتلون كتابه، ولا يعرفون أنه معهم حيثما كانوا ينظر إليهم ويراقبهم.
وهناك سنة تقريرية: كسنة الصلاة عند القتل، فما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها ولا فعلها، ولكن أقر صاحبه على فعلها، فهي سنة تقريرية.
إذاً: السنة تكون قولية، وهذه لا خلاف فيها، سواء كانت ذكراً أو دعاءً أو صلاة، أو أي عبادة من العبادات فإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم بها أو وأمر فهي سنة قولية.
والسنة الفعلية: هي ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به.
والسنة التقريرية: هي ما لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به، ولكن فعله أحد الأصحاب فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم. فـخبيب ألهمه الله عز وجل فعله، ولم يشاهد أحداً فعل هذا قبله، فقال: دعوني أصلي ركعتين فتركوه، وسمع الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا وسكت، فهي سنة تقريرية.
قال: [وأن خبيباً هو الذي سنها وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها] فكانت سنة، وقد تقدم أن كثيراً من المؤمنين فعلوها.
وشيء آخر: إن الذي لا يحب معلمه ومربيه لا يستطيع أن ينتفع بدراسته أبداً، وكذلك إمام للمسلمين إذا لم يحب فإنه لا يطاع، ويُخرج عنه؛ فلذا حبه واجب، بل إنك إذا لم تحب أباك فإنك لا تطعه، هذا وأنت ابنه! وعلى كل حال حب رسول الله صلى الله عليه وسلم إيمان، وكرهه كفر والعياذ بالله تعالى.
ما هي مظاهر حب الرسول صلى الله عليه وسلم؟
مظاهر حبه أن تحب ما يحبه، وأن تكره ما يكره. فإذا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم اللحية في وجهه أحبها أنت، أو أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترفع يديك سائلاً ضارعاً فافعل، ويدل ذلك على حبك له. المهم طاعة الله ورسوله فيما يحبان ويكرهان تنتج عن حب العبد لله وحب العبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أما ادعاء حبك الله أو الرسول صلى الله عليه وسلم وأنت تجاهر بالمعصية، ولا تريد أن تلتزم بما يأمرك به أو ينهاك فهذا رده أهل البصيرة والنهى. ومن ذلك قولهم:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعتـه إن المحب لمن يحب مطيـع
وهو كذلك.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا الطريق فقال: ( أحبوا الله لما يغدوكم به من النعم )، فعندما تتناول طعامك سل نفسك: من خلق هذا الطعام؟ ومن رزقكه؟ ومن وضعه بين يديك؟ فإذا ذكرت هذا الفضل لله أحببته، بل -فقط- تناول كأس الماء واشرب متذكراً من أوجده لك؟ وأنه لو اجتمع أهل الدنيا كلهم على إيجاده ما أوجدوه لك!
إذاً: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم معلماً مربياً: ( أحبوا الله لما يغدوكم به من النعم، وأحبوني أنا بحب لله تعالى )، أتحب الله ولا تحب رسوله؟! أيعقل هذا؟ كل من أحب الله وجد نفسه ملجأً مضطراً إلى ما يحب الله، والله يحب رسوله؛ فكيف لا تحبه؟!
وخلاصة هذا الموضوع: أنه لا بد من ذكر نعم الله علينا، فلا نعيش كالبهائم نأكل ونشرب ولا ندري ما يجب علينا تجاهها! فإذا تجلت لنا نعمة في حياتنا يجب أن نعرف مصدر هذه النعمة وهو الله! سواء كانت عافية أو أمناً أو رخاءً أو طعام، وأي نعمة من النعم مصدرها وواهبها ومعطيها هو الله عز وجل، ثم لنقل: الحمد لله! فنشكر الله عز وجل؛ وذلك يوجد حباً في قلوبنا لخالقنا، أما أن نأكل ونشرب ونركب كالبهائم ثم لا نسأل فلن نعرف الله ولا حبه، ومن لا يحب الله لا يحب رسوله أبداً، فالأصل هو حب الله عز وجل.
ولا ننسى موضوع نصارى نجران لما جاءوا يجادلون رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى وأمه، وكانوا ستين راكباً ادعوا أنهم ما عبدوا عيسى إلا طلباً لحب الله، فقالوا: هذا عيسى ابن الله وهذه أمه ما عبدناهما إلا من أجل الله عز وجل! وما أحببناهما إلا من أجل أن يحبنا الله عز وجل؛ فنزل في ذلك أكثر من ثلاثين آية فاصلة، ومنها قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31] يعني: يا وفد نجران! ويا نصارى نجران! الطريق إلى أن يحبكم الله هو أن تتبعوني، فإذا اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقائد والعبادات والأحكام والآداب والأخلاق؛ زكت نفوسهم، وطابت أرواحهم، وطهرت، والله -كما علمنا- طيب يحب الطيبين، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] وأفلح من زكى نفسه وطهرها.
فمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم بفعل العبادات وترك المنهيات تزكي النفس، وتحيلها إلى كتلة من نور، وكأنها أنفس الملائكة! والله تعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين.
وهنا لطيفة! يقولون: ليس الشأن أن تحِب، وإنما الشأن أن تُحَب، هناك أناس يحبون الأصنام والأوثان، فهل ذلك الحب ينفعهم؟ لا، لا ينفعهم، وفلان يحب ليلى ويهيم بحبها في الصحارى وليلى لا تحبه فماذا استفاد؟! العناء والتعب والآلام والكروب فقط! فكون المرء يدعي حب الله وهو لا يحبه فأي فائدة جناها من وراء حبه؟! ولو بذل في ذلك الأموال الأرواح والله لا يستفيد شيئاً! فليس الشأن أن تحِب، إنما الشأن أن تُحَب.
فبعض الغافلين في هذه الأمة والجهلة عبدوا الأولياء والقبور بأفظع أنواع العبادات، بل قدموا أولادهم قرابين لها! هل ينفعهم ذلك؟ لا ينفع، إنهم يحبون أولياء الله إلى حد أنهم يستغيثون بهم، ويذبحون لهم، ولكن لا ينفعهم ذلك أبداً، إذ ليس الشأن أن تُحِبوا أنتم، وإنما الشأن أن تُحَبوا.
إذاً: كيف نحصل على حب الله؟ يا معشر المستمعين والمستمعات! هذا السؤال مطروح علينا: كيف نحصل على حب الله، ونصبح محبوبين له عز وجل؟
الخطوة الأولى: أن نطهر قلوبنا ونزكي أرواحنا، فالله طيب لا يقبل إلا طيباً، فعلينا أن نعمل على تزكية أنفسنا وتطهيرها؛ فتصبح أرواحنا كأرواح الملائكة؛ يحبهم الله ويرفعهم إليه ويسكنهم في جواره.
الجواب: أن نفعل ما أمرنا الله ورسوله بفعله من العبادات، من لا إله إلا الله إلى إماطة الأذى عن الطريق إيماناً واحتساباً، هذه العبادات كلها أداة تطهير للنفس وتزكية، -والله العظيم- وإذا زكت النفس وطهرت حذار يا بني! أن تصب عليها أوساخ الذنوب والآثام.
إذاً: تجتنب بكل قواك كل ما من شأنه أن يدسي نفسك ويخبثها، وذلك هو معصية الله ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمن آمن وعمل الصالحات زكت نفسه، فليحذر أن يلوثها ويخبثها بالذنوب والمعاصي، وما هي الذنوب والمعاصي؟ هي الخروج عن طاعة الله، فإذا حرم الخمر لا تشربها، وإذا حرم الله الكذب لا تكذب، وإذا حرم الله عقوق الوالدين فلا تعق، وعليك أن تحرم كل ما حرم الله من قول أو فعل، فلا تفعل ولا تقل ما حرم الله! ومعنى ذلك: تحتفظ بزكاة نفسك وطهارتها.
ومن رحمة الله أنه فتح باب التوبة لنا، فإذا زلت القدم وسقط عبد الله في كبيرة من كبائر الذنوب، أو في معصية من المعاصي؛ على الفور يقوم يبكي ويحثو التراب على رأسه ويستغفر الله؛ فيمحى ذلك الأثر، إن الذي عرف الله وآمن به إذا فعل المعصية لا يشعر بنفسه إلا وهو يصرخ عندما يفيق منها، وقد ثبت في الصحيح أن رجلاً تماراً كان في سوق المدينة كان يبيع التمر، فجاءته امرأة زوجها في غزوة من الغزوات، اضطرت إلى أن تشتري تمراً لها ولأولادها، ووقفت أمام التمار وقالت: أعطني كذا، وأخرجت كفها -فقط- لتناوله النقود! فأعمى الشيطان هذا المؤمن وأكب على كفها يحبه ويقبله، وما إن شعر بعد ذلك بالمعصية حتى قام يصرخ! وكان -والله- يحثو التراب على رأسه وينتف شعر لحيته، ويصيح حتى وصل أحداً! وعاد من أحد إلى الروضة وهو يصرخ ويبكي، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة المغرب سأل هذا الرجل. قال: ( هل شهدت الصلاة معنا؟! قال: نعم. قال: إن الحسنات يذهبن السيئات ).
والشاهد عندنا: أنه ليس أحد معصوم سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن إذا زلت القدم وسقط عبد الله أو أمته في ذنب من الذنوب؛ فعليه أن يمسح ذلك الأثر على الفور، ولا يبيت على معصية، بل يقول: أستغفر الله وأتوب إليه، وتذرف عينه الدمعة، ويرجف قلبه؛ لينمحي ذلك الأثر، لا أن يستمر على ذلك الإثم فتتلطخ نفسه ويذهب ذاك النور نهائياً، والعياذ بالله.
قال: [وذلك واجبهم وواجب كل مؤمن ومؤمنة في الحياة] ولا خلاف بين المسلمين في وجوب حب الله ورسوله، ولكن يبقى: ما كل من ادعى الحب ثبت له! فلا بد من أن نثبت هذا الحب حقيقة، وهو طاعة المحبوب، وحب ما يحب وكره ما يكره.
والله تعالى أسأل أن يرزقنا حبه وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وحب كل ما يحبه الله ورسوله من المؤمنين والمؤمنات ومن الصالحات في هذه الحياة.
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر