أما بعد:
فقد انتهى بنا الدرس إلى هذه النتائج والعبر لغزوة بدر الكبرى، فقد عايشنا تلك الغزوة عدة أيام، وها نحن اليوم مع عبرها ونتائجها، إن كنا أهلاً لأن نستفيد من العبر، فنعبر بها إلى شاطئ السلامة، وأهلاً للنتائج؛ ننتفع بها كما ننتفع بمادياتنا من مال وغيره. اللهم اجعلنا ممن ينتفع بنتائج العلم وعبره!
قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [نتائج وعبر: إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نجملها في الآتي: ]
إذاً: علم الرسول من طريق الوحي أن عير قريش وعلى رأسها القائد أبو سفيان رضي الله عنه -إذ أسلم ومات على الإسلام- آتية من الشام فانتدب رجاله على سبيل الاستحباب فقط، وما ألزم أحداً بالخروج ولا أوجب عليه أن يخرج، فخروجه لاعتراض عير قريش وأخذ أموالها من باب وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40].
وقول الله عز وجل: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39] كان أول آية نزلت بالإذن للمؤمنين في القتال، وإلا كان المؤمنون يتعرضون لأذى المشركين ولم يؤذن لهم في قتالهم، واستمر ذلك مدة ثلاث عشرة سنة، كان المشركون يضربون المؤمنين ويعذبونهم ويطردونهم، ولم يأذن الله ولا رسوله لمؤمن أن يغتال كافراً أو يقتله أو حتى يبارزه ويقاتله، ثم لما وجدت النواة الأولى للدولة الإسلامية بالمدينة، ووجد رجال أقوياء يحملون السلاح ويقاتلون رفع الحضر وجاء النص الكريم: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج:39-40]، فكانت أول آية في الإذن بالقتال للمسلمين.
ومن هنا: يجب على المؤمنين والمؤمنات أن يعرفوا أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، ما هو الذي للوجوب، وما هو الذي للندب والاستحباب، وكذلك النهي، نهي الله ونهي رسوله، أيكون للتحريم أو يكون للكراهة والتنزيه، ووالله! إننا لمفتقرون إلى العلم، ولن نكمل ونسعد إلا إذا علمنا فعملنا وفق ما طلب منا وفرض علينا.
قال: [إذ لم يعتب الرسول على الذين لم يخرجوا إلى غزوة بدر؛ لكون الطلب كان ندباً لا وجوباً] خرج من المدينة ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً وبها آلاف؛ لأنه ما أمرهم صلى الله عليه وسلم، وإنما قال: أرى أنني أخرج لاعتراض عير قريش فمن أراد أن يخرج معنا فبسم الله، ولو أمر وقال: عليكم بالخروج وانفروا لوجبت، ومن هنا ما عاتب الله الذين تخلفوا ولا الرسول عتب عليهم، فدل على أن الأمر كان للندب والاستحباب، فلا حرج على تاركه والمتخلي عنه. وهذه قاعدة عامة.
والشورى موجودة حتى عند اليهود، وهي نظام عالمي الآن، ولا أظن أن هناك من لا يستشير أحداً، فمجالس الشورى موجودة في الدول كلها، وكذلك البرلمانات، وقد أخذوا هذا من الإسلام، دين الرحمان لهداية البشرية وإكمالها وإسعادها.
ونحن مأمورون بالشورى حتى في بيوتنا، استشر أولادك وامرأتك، استشر إخوانك، استشر من تعمل معهم ففي الشورى خير؛ لأنك قاصر عاجز، وقد يوجد عند أخيك من العلم ما لا يوجد عندك، وقد يوجد عنده من البصيرة ما لا يوجد عندك، فخذ برأي إخوانك خير لك، ولهذا يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد )، هذه الكلمات الثلاثة من وحي الله، ومن أين لآدمي أن يعرف هذا، لولا وحي الرحمن؟!
ومعنى: ( ما خاب من استخار )، أي: من التبس عليه أمر ولم يدر أيفعله أو يتركه؟ أفي فعله خير أم في تركه خير فليستخر الله، مثلاً: أراد أن يتزوج فلانة وما عرف هل تصلح أم لا تصلح، تليق أم لا تليق، أو أراد أن يفتح متجراً واضطربت نفسه هل الوقت ملائم أم لا، أو أراد أن يسافر إلى كذا؛ فيطلب من الله أن يختار له، سبحان الله! وأين الله حتى نطلب منه الخيار؟ هو معنا يسمعنا ويرانا ويقدر على إعطائنا ومنعنا، ما لك يا عبد الله لا تستخيره والكون كله في قبضته! اطلب منه أن يختار لك، والذي تميل إليه بعد ذلك وتفعله والله لهو الذي اختاره الله لك، ووالله إنه لخير لك، إن الباب عندنا ولكنا أغلقناه فلا نلتفت إليه، ثم نستشير بعد ذلك الحشاشين والصعاليك والذين لا نور لهم ولا هداية.
فإذا كنت تريد أن تقدم على أمر لا تدري العاقبة فيه ما هي، فأنت عبد الله، قل فقط: أي رب إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم وسم أمرك .. ثم امش والذي تفعله يكون هو الذي اختاره الله لك، وهو خير لك، وما تركت فهو الشر ..!
قال: ( ولا ندم من استشار )، فالذي يستشير في مهام الأمور لا يندم، ولا يقع في الورطة التي يندم عليها، بل على الأقل يبرئ ذمته أنه استشار، فلا ندم أبداً إن شاءا لله.
قال: ( ولا عال من اقتصد ) أي: ما افتقر إلى الناس ولا مد يده إليهم يسأل من اقتصد في معيشته، أما الذي يتخبط ولا يعرف وزناً ولا عدلاً ويأكل كما تأكل البهائم، ويلبس كما يشتهي، فلا بد من يوم يفتقر فيه.
من يرد على رسول الله ذلك؟ والله لا يستطيع ابن آدم أن يرد على هذا.
إذاً: لم يا رسول الله لا تعمل أمتك بهذا؟ لأنهم أبعدوها عن ساحتك، فليس عندها من الرسول إلا الموالد فقط؛ لتأكل الكسكس والرز وترقص، أما أن تمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووراءه وتلتمس خطاه وتقول ما يقول وتفعل ما يفعل فهذا منعوه عنا من سبعة أو ثمانية قرون.
إذاً: الذي يقتصد فلا يسرف في أكله وشربه وتصرفاته وبنائه ومركبه لا يحتاج إلى غيره، والذي يتخبط لا بد أن يقع.
إذاً: أصبحنا حربيين، ولو سلكنا مسلك رسول الله لتفوقنا على العالم.
لما أخذ علي ومن معه ذاك الراعي وضرباه قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إن صدقكم ضربتموه، وإن كذبكم تركتموه)، وما رضي لهم أيضاً، مع أن الضرب ضرب غير مبرح، كضرب الأستاذ للتلميذ، أو الرجل لولده؛ حتى يعترف.
إذاً: يشرع الضرب الخفيف الذي لا يكسر عضواً من أعضاء الإنسان ولا يشين الجارحة أو يقبحها فتصبح شينة، من أجل استنطاق أفراد العدو؛ وللحاجة إلى ذلك؛ ليدلنا أين وصل العدو، أو أين هو مختبئ، لأن هذا المضروب، قد لا يتحمل هذا الضرب ويخبر بالواقع، ويحرم التنكيل وشدة التعذيب، حتى لليهود والنصارى والمشركين، وليس خاصاً بالمؤمنين فقط، ولا نقول: هذا يهودي فنقلع عينيه أو ننزع سنه! والله لا يجوز، هل عرف المسلمون هذا؟ لا، لا يعرفون، هل هم درسوا وقرءوا؟ قرءوا دليل الخيرات، ويقرءون القرآن على الموتى أكثر من ثمانية قرون، فكيف يتعلمون؟!
قال: [إذ قاتل الرجل ولده وقاتل أباه وقاتل ابن عمه في معركة بدر] لما التقى الجيشان بارز الابن أباه وقتله، وبارز الأب ولده وقتله، وبارز الأخ أخاه وقتله.
وعندنا لطيفة: ما معنى الموالاة؟ وهو معنى دقيق جهله كثير من الناس وتخبطوا فيه!
هل معناه ألا نشتري سيارات من أمريكا؟ أو لا نشتري الأدوية من سويسرا؟ نريد أن نفهم معنى الموالاة بين المؤمنين والكافرين.
يقول الله عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، ما هذه الموالاة؟
الموالاة تدور على شيئين: على الحب والنصرة، ولا تتجاوز هذين المبدأين، فلا يحل لمؤمن أن يحب كافراً -والله- ولو كان ابنه الأكبر، ولا يحل لمؤمن أن يحب كافراً ولو كان أباه، بل لا بد من كرهه.
والنصرة: لا يحل لمؤمن أن ينصر كافراً على مؤمن أبداً، ولا يحل للمؤمنين أن يحبوا الكافرين بقلوبهم ويعطونهم عواطفهم ونفوسهم، ولا أن ينصروهم على المؤمنين، أما أن ننصرهم على أعدائهم إذا كان بيننا وبينهم اتفاقية أو معاهدة فنعم. أما أننا ننصرهم على المؤمنين فالجواب: لا، نعم بيننا وبينهم ميثاق ولكن إذا كان من يقاتلونه من المؤمنين فلا نفي لهم بهذا الوعد؛ لأنه محرم علينا أن نقاتل معهم إخواننا.
هل عرف المستمعون الموالاة في الإسلام ما هي؟ وعلى ماذا تدور؟ على شيئين: الحب والنصرة.
فلا يحل لمؤمن أن يحب يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً ولا صابئة .. ولو كان من أقرب أقربائه، ولا أن يعطيه سويداء قلبه وهي مملوءة بحب الله فيحب من يكرهه الله. أيكرهه الله وتحبه أنت؟ أتتناقض مع سيدك؟
إذا كان لك أخ كافر وأراد أن يضرب مؤمناً فلا تساعده أنت، ولا تنصر الكافر على المؤمن، أما إذا أراد أن يضرب كافراً آخر فلا بأس، إذا كان بينك وبينه عهد أن تنصره وينصرك. وهذه ثمرة أو نتيجة نأخذها من غزوة بدر حيث جاء المشركون وتواجهوا مع آبائهم وأبنائهم.
إذاً: كون الملائكة تنزل من السماء بإذن الله وتقاتل مع رسول الله لينتصر آية عظيمة تدل على أن محمداً رسول الله؟ واقرءوا لذلك قوله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:9-10] ولو قاتل المسلمون الصادقون الآن الكافرين لما تخلى الله عنهم، ووالله لينصرنهم بالملائكة، وقد شوهد هذا بين قتال الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر