أما بعد:فقد انتهى بنا الدرس إلى مقطوعة [آخر أحداث هذه السنة: ثلاث سرايا يبعث بها النبي صلى الله عليه وسلم] والمراد من السنة؛ السنة الأولى من الهجرة النبوية.
قال: [إنه بعد أن أصبحت المدينة وكأنها دار إسلام محضة] والمدة هي سنة فأقل، ولكن انتشر فيها الإسلام، فما من دار إلا ودخلها الإسلام [على الرغم ممن فيها من المشركين والمنافقين واليهود] المشركون من العرب موجودون في المدينة، والمنافقون يظهرون الإيمان وفي بطونهم وقلوبهم الكفر والنكران، واليهود أهل كتاب يدافعون عن وجودهم.
[حيث أصبح للمؤمنين فيها] أي: في المدينة [شوكة] والتعبير بـ(الشوكة) كان في الزمان الأول، وهو ما يشاك به العدو، سواء كان مدفعاً أو إبرة، فالشوكة بمعنى: قوة يشاك بها العدو ويتألم لها [وقوة لا يستهان بها] من فكر فيها أو نظر إليها يراها شوكة لا يستهان بها، قادرة على أن تخرق فلول الأعداء، وبعد [أذن الله تعالى للمسلمين بالقتال] قتال المشركين، وقبل أن تكون لهم هذه الشوكة القوية لم يأذن لهم، وحسبك أن تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في مكة ثلاث عشرة سنة -وهو نبي ورسول كثر أتباعه- ومع هذا لم يأذن الله تعالى له بالقتال، فما أذن لأصحابه أن يقتلوا واحداً أبداً.
وجاء صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً وبها أصحابه، فلم يأذن لهم أن يقتلوا أو يغتالوا أحداً؛ انتظاراً لأمر الله عز وجل، فلما رأى الله تعالى أن لعباده المؤمنين شوكة وقوة يقدرون بها أن يقاتلوا أعداءهم؛ أذن لهم وسمح لهم [وذلك في قوله تعالى من سورة الحج] والآية مدنية مكية [ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج:39-40]] هذه أول آية تأذن للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في قتال أعدائهم المشركين الكافرين.
و(أُذِن) بالبناء للمجهول، من الذي يأذن؟ الله! ولم يقل: أذن الله، إذ لا يأذن إلا هو، و(أُذن) أي: أعطوا إذناً بأن يقاتلوا أعداءهم، وذلك لما رأى تعالى أنهم أصبحوا أهلاً لأن يقاتلوا أعداءهم، ووجدت لهم شوكة وقوة لا يستهان بها.
قال: [وعملاً بهذا الإذن الإلهي] الذي تلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه تعالى [أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث بالسرايا] والسرايا جمع سرية: وهي مجموعة الرجال يسرون بالليل، يقال لها: سرية وإن مشت في النهار، لكن الأصل فيها المشي في الليل [لتعقب قوافل المشركين التجارية] للمشركين -وعاصمتهم مكة- قوافل في الشمال من الشام إلى مكة، وفي الجنوب من مكة إلى اليمن، يأتون بالخمر والزبيب والعسل، وهذه القوافل القافلة فيها مائة بعير إلى ألف، تحمل الذخائر والأطعمة [لعله يظفر بأموالهم التي أصبح المسلمون أحق بها وأولى منهم بمثلها] وتفسير هذا: أننا -والله- ما خلقنا إلا لنعبد الله، ومن شك في هذا فهو أحمق! فنحن خلقنا للعبادة، لِم يطعمنا الله ويسقينا؟ لنعبده! حتى تبقى الحياة ونتمكن من عبادة الله.
فالذين لا يعبدون الله لا حق لهم في الطعام والشراب، ولكن كما قال تعالى رداً على الخليل عليه السلام من سورة البقرة: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:126] أراد إبراهيم ألا يأكل ولا يشرب من مكة إلا المؤمنون، فقال: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:126]، فقال تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة:126].
ونقول شيئاً آخر: وهو أننا لا نحرم الكافرين من الطعام والشراب حتى يموتوا؛ لأننا نرجو لهم أن يسلموا غداً ويدخلوا في رحمة الله؛ فكيف نقضي عليهم؟! من يعبد الله إذاً؟! أما الحقيقة: أن الطعام والشراب من أجل أن يعبد الله في الأرض، فالذين لا يعبدون الله لا حق لهم في الحياة، وإنما يبقون أحياء رجاء أن يؤمنوا غداً ويعبدوا الله كما هو واقع البشرية.
فالمسلمون يعبدون الله ويدعون إلى عبادته، ويجاهدون في سبيل ذلك، والمشركون كالبهائم يأكلون ويشربون ويكفرون. من أحق بالمال إذاً؟! الذين يدعون إلى الله ويؤمنون به.
قال: [وعقد له لواء أبيض] يحمله والجيش وراءه، وحامل اللواء هو أمير السرية وقائدها. من علم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا؟ هل قلد المشركين؟! لا. يتلقاه من الملكوت الأعلى [وهو أول لواء أو راية عقدت في الإسلام] سمه لواء أو راية كما شئت؛ لأن الجيش يشاهد بعضه بعضاً بحمل الراية، ولو لم يكن هناك راية يلتبس عليهم ويختلفون، والآن اللواء في الجيش قيادة خاصة، قد يصل عدد أفراده إلى خمسين ألفاً، فلا بد من عدد حتى يصبح لواء.
[وبعث معه ثلاثين رجلاً من المسلمين المهاجرين] ما بعث مدنياً أبداً؛ لأن المهاجرين ضيوف على الأنصار، قاسموهم أموالهم وبيوتهم، فلا يريد أن يكلفهم الجهاد والمهاجرون جاءوا لهذا الغرض ويعدون له، وهذا من النضج السياسي -بلغة الهابطين- هذا من تعاليم الله وهداية الله، وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمهاجرون -أولاً-: متفرغون.
ثانياً: جاءوا لهذه المهمة.
ثالثاً: عرفوا الله وآمنوا به، وهجروا ديارهم وأموالهم لأجله.
إذاً: هم أقدر على القتال من غيرهم، ولو بعث الأنصار لقال المنافقون: انظروا! ترك جماعته وبعثكم أنتم! وفي أربع وعشرين ساعة تشتعل نار الفتنة، وهذا هو الطابور الخامس، وهو موجود إلى اليوم، سيقولون: انظروا كيف يترك أبناء عمه ورجاله، ويبعث بكم أنتم لتموتوا! ولكن أبا القاسم صلى الله عليه وسلم عرف كيف يجتنب هذا الأمر، وبعث برجاله من المهاجرين فقط.
قال: [وبعث معه ثلاثين رجلاً من المهاجرين؛ وذلك ليعترض عير قريش التجارية المارة بسيف البحر] ولا أدري هل يقال: سِيف البحر أم سَيْف البحر؟ وسَيف البحر؛ لأنه كالسيف، فالبحر طرفه أبيض كالسيف، وبالعامية يقال: سِيف البحر، لكن الوقت ضاق؛ لذلك لم نقف عليها. وهذا علم لا ينفع، وجهالة لا تضر، وهو ساحل البحر [التي كان عليها أبو جهل في ثلاثمائة رجل من قريش] بعث الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلاً، وأهل القافلة ثلاثمائة، يعني الواحد بعشرة! وكان على رأس القافلة شيطان المشركين وزعيم الباطل أبو جهل عمرو بن هشام [ولم يقع بينهم قتال] لِم؟ [لحجز مجدي بن عمرو الجهني بينهم، إذ كان مجدي موادعاً للفريقين معاً] أي: بينه مصالحة وبين المشركين وبين المسلمين أيضاً، فوقف وسطاً ومنع الحرب.
[وكان الذي يحمل لواء حمزة أبو مرثد الغنوي] اللواء والراية أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لـحمزة ، وحمزة وكل بها من هو أهل لها، وهو أبو مرثد الغنوي رضي الله عنه [وكانت هذه السرية في شهر رمضان بعد سبعة أشهر من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم]
أولاً: بيان تقيد الرسول صلى الله عليه وسلم بالإذن من ربه فلا يأتي ولا يذر غالباً إلا بإذن من ربه عز وجل] كان ينتظر أمر ربه.
وهنا لطيفة أيضاً: كم أقام النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك؟ عشرون يوماً، وبعض طلبة العلم يقولون: الرسول صلى الله عليه وسلم قضى هذه المدة وهو يقصر الصلاة، وأصحابه يقصرون معه، فمن أين لكم أن تحددوا المدة بأربعة أيام؟ هذا خروج على مالك والشافعي وأحمد ، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يرحل ولا يقيم إلا بالتعاليم الإلهية، فهو ينتظر أمر الله، إن قال له: واصل الزحف وادخل الشام وقاتل الرومان فعل، وإن قال له: ارجع رجع؛ فهو ينتظر! وأيما مسافر يسافر من المدينة إلى أي بلد ينظر في حاله: فإذا كان السفر لمدة يومين أو ثلاثة أو أربعة فإنه يقصر صلاته، لكن إذا عرف أنه سيقيم أكثر من أربعة أيام، خمسة أو سبعة أو شهر وجب عليه أن يتم صلاته ولا يقصر، فإن هو لا يدري ولكن ينتظر برقية تأتي، أو جوازاً يخرج وكل يوم يقول: غداً سأسافر، فهذا يبقى يقصر ولو عامين أو ثلاثة؛ لأن حكمه حكم المسافر، لا يدري متى يرحل.
أما إذا تقرر أن الطائرة لا تقله إلا بعد عشرة أيام فيجب أن يتم صلاته؛ لأنه هدأ وسكن واستقر وما بقيت مخاوف ولا أعمال؛ لأن رخصة القصر هي رحمة بالمؤمنين، وقد كانوا يسافرون على الجمال والبغال والحمير، فمن لطف الله تعالى أن قصر لهم الصلاة تخفيفاً عنهم، فمن كان مسافراً ولا يدري متى يقوم أو يقعد يقصر شهراً أو شهوراً، لكن إذا تعين أنه لا يسافر إلا بعد أسبوع أو بعد خمسة أيام فهنا سكن وهدأ، فليس عنده قلق، وعليه يجب أن يتم.
احتجوا بها على من قالوا: ليس هناك مدة معينة، كيف يقول: مالك وأحمد والشافعي وأبو حنيفة ثم نقول ليس صحيحاً؟! نستحي -والله- من هذا!
إذاً النتيجة الأولى أو العبرة -يا من يعبرون إلى الطريق السوي!- بيان تقيد الرسول صلى الله عليه وسلم بالإذن من ربه، فلا يأتي ولا يذر غالباً إلا بإذن من ربه عز وجل.
والجماعات الذين يقاتلون في البلاد الإسلامية، في الأفغان وفي الجزائر وفي القاهرة وفي غيرها من أذن لهم؟ أنا في حيرة! أجيبوني. وإياكم أن تكذبوا على الله، آلله أذن لهم؟! وما هي الآية التي تحمل هذا العلم؟! الإذن يأتي عندما يبايعون إماماً ربانياً ويمشون وراءه، ويصبح هو الآمر والناهي بإذن الله؛ حينئذ إذا أمرهم بقتال قاتلوا، وإذا قال: اقعدوا قعدوا، ولا يخرجون عن طاعته، أما بدون إمام فهو قتال انتقام؛ هذا ينتقم من هذا لأجل كذا أو لأجل كذا فالدافع إليه فقط هو الانتقام! لا أقل ولا أكثر، أما القتال الرباني فينتظر أمره من الله، كما انتظره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما المانع من أن تبايع الأمة مسلماً ربانياً وتلتف حوله؟ ومن خرج عنه فهو يتولى أمره بالمصالحة والمهادنة، فإن استجابوا فذاك، وإن رفضوا فليقاتلوا حتى يفيئوا إلى أمر الله، قال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9].
[ثانياً: بيان أول سرية في الإسلام، وأنها سرية حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم] حمزة أسد الله في الأرض، لقبه بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد استشهد في أحد بعد أن مُثل به.
[ثالثاً: بيان الكمال المحمدي في إرساله عمه] ليموت، أحب الناس إليه بعد فاطمة [والمهاجرين دون الأنصار لتلقي عير قريش.
رابعاً: بيان أن أول لواء عقد في الإسلام كان لواء سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه].
والآن عند المسلمين آلاف الألوية وما استطاعوا أن يهاجموا اليهود ويطردونهم من فلسطين! لم لا يستطيعون؟ والله لا يستطيعون! سيقول قائل: كيف تحلف يا أحمق؟! فأقول: نعم. لا يستطيعون؛ لأنهم لم يقيموا دين الله بينهم في ديارهم؛ حتى يُجلوا اليهود من تلك الأرض أو يخضعوهم للإسلام، ولو أقاموا الإسلام أربعاً وعشرين ساعة في ديارهم لرحل اليهود بدون قتال! هل تفهمون هذه الأسرار؟
وإذا شككتم فتأملوا: كم مضى على اليهود وهم يتعنترون ويتبجحون ويفعلون العجب والمسلمون ألف مليون مسلم؟ مضت خمسون سنة؛ لِم لم نفعل شيئاً؟ لأن الله ليس معنا. لم يسلطنا على اليهود نشردهم ونقتلهم ونحن مثلهم؟ لا تقام فينا الصلاة، ولا تجبى الزكاة، ولا يؤمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، ولا يدعى إلى الله! أي فرق بيننا وبينهم؟ الطين فقط! والله لا يريد الطين ولا التراب، فكلمة وطن خرافة، فوطننا الأرض كلها، نقوم فيها بدعوة الخلق إلى أن يعبدوا الله، فلا فرق بين اليابان والأمريكان، ستقولون: لا تلمنا يا شيخ! لأننا ما عرفنا، إي والله ما عرفتم! جهال!
قال: [فسار في ستين رجلاً ليس بينهم أنصاري قط] كلهم مهاجرون، ليس فيهم أنصاري؛ حتى لا يقول المنافقون: انظروا كيف يحافظ على رجاله، ويبعث بالأنصار ليموتوا، وتعرفون الإعلام وتسمعونه، فأصابع اليهود هي التي تديره! ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم عرف كيف يتخلص من ذلك، فأخزاهم وأذلهم.
[ساروا طالبين قافلة للمشركين أفرادها مائتا رجل، فالتقوا معهم على ماء يقال له: أحياء] مكان فيه ماء، بئر أو حوض أو نهر [وكان على المشركين عكرمة بن أبي جهل ].
وعكرمة بن أبي جهل يحدث عن نفسه قال: ما كنت أبغض مخلوقاً كبغضي لمحمد صلى الله عليه وسلم.
كان أشدّ من أبيه، ولما أراد الله أن يدخله في رحمته قدر حادثة بسيطة وهي: لما دخلت خيل الله مكة في السنة الثامنة من الهجرة فاتحين، هرب زعماء الباطل وشياطين الشرك، وأكثرهم طأطأ رأسه وانحنى في ساحة البيت العتيق، ودخل أبو القاسم والسيف في يده، ثم نادى: ( يا معشر قريش! ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء )، فعادوا إلى بيوتهم سالمين.
وهذا الكلام رددناه أربعين سنة، وقلنا: عندما ينتصر المجاهدون في أي بلد، ويطردون الاستعمار يأخذون في ذبح إخوانهم، قائلين: كانوا مع المستعمرين، أو كانوا مع كذا .. ولا يشفقون ولا يرحمون واحداً، ولو عرفوا هذا الموقف من رسول الله، لقالوا لإخوانهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، فالآن حكمنا وسدنا، فلا حاجة إلى دمائكم وقطع رقابكم. فهل فعلوا هذا من إندونيسيا أو موريتانيا؟ لا. لِم؟ لأنهم ما عرفوا.
وتذكرون أن علة الفساد والظلم والخبث هي: الجهل بالله، وبمحابه ومكاره، ومن لا يعرف الله لا تعول عليه أبداً؛ لأنه أعمى تقوده الشياطين إلى حيث تشاء، لا نور له ولا بصيرة، فلو كنا عالمين عارفين -والله- ما تخبطنا هذا التخبط ولكنه العمى والمشي في الظلام.
إذاً: نعود إلى حيث هرب عكرمة بعد أن مات والده مات في بدر وأصبح الزعيم الثاني ذهب إلى ساحل البحر، فوجد باخرة تريد أن تقلع -وبواخر ذاك الزمان بالشراع- فلما أصبح في عرض البحر نظر الربان أو الملاح إلى الحمولة فوجدها كثيرة، فنادى: أيها الركاب! ادعوا الله، وسلوا النجاة، فإنكم في خطر ..
فقال: عكرمة ! ماذا؟ ندعو الله! والله لترجعن بي إلى الساحل، ولأذهبن إلى محمد وأقبل رأسه. أي: ما دامت القضية هكذا فالعود أحسن، لأنه هرب من كلمة (الله). واستجاب الملاح ورده إلى الساحل، وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم واحتضنه وبكى، وما استطاع أن يفتح عينيه فيه من الحياء، وكان عكرمة حامل راية الجهاد في فتوحات خاضها في الشام وغيرها؛ والله عز وجل يقول: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65]، فإذا نزلوا وأمنوا، قالوا: يا سيدي عبد القادر ويا مولاي فلان.
وذكر الشيخ رشيد رضا في تفسيره (المنار) هذا التفسير المحروم منه طلبة العلم الصغار، قالوا: هذا فيه وفيه! ذكر أن شيخه محمد عبده ذكر أن باخرة عثمانية -أيام الدولة العثمانية- كانت تحمل الحجاج من قابلة الغرب إلى قابلة الشام في مدينة اللاذقية، والحج كان في ذاك الوقت عسير، فاضطربت السفينة بأمواج وعواصف بحرية، فأخذ الحجاج ينادون: يا رسول الله! يا فاطمة ! يا حسين ! يا بدوي ! يا سيدي محيي الدين ! يا كذا..، ولم يعرفوا الله، قال: فقام أحد المؤمنين -وكان طويل القامة- ورفع يديه وقال: اللهم أغرقهم فإنهم ما عرفوك، فشفا صدره وصدر المؤمنين؛ لأن الغرق! بين أيديهم وهم يا سيدي عبد القادر.. يا فاطمة.. يا فلان.. ولم يعرفوا الله قط!! والمشركون كانوا أذكياء: فإذا كانت الحادثة لا يعرفون إلا الله، لكن إذا نزلوا وأمنوا تغنوا بالآلهة، لكن جماعتنا على حد سواء في الخير والشر لا يعرفون الله، وسبب هذا الجهل.
قال: [أو مكرز بن حفص ولم يقع بينهم قتال، وإنما تراموا بالسهام فأصيب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بسهم، فكان أول سهم رمي به في الإسلام. ثم انصرف القوم عن القوم وفر إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهاراني وعتبة بن غزوان بن جابر المازني وقد كانا مسلمين، وإنما خرجا مع الكفار من أجل أن يهربا إلى المسلمين] وجدا فرصة رضي الله عنهما مع الخروج القافلة، ومن ثم هربا [لمنع المشركين لهما من الهجرة، وحبسهما دونها].
أولاً: من مظاهر الكمال المحمدي أن يرسل عميه حمزة وعبيدة للغزو دون غيرهما من أصحابه الأنصار والمهاجرين، ليضرب المثل في الكمال الخلقي والروحي] بعث عميه وترك الأبطال الآخرين: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
[ثانياً: فضل مسطح بن أثاثة حيث قلد اللواء وهو ابن خال أبي بكر الصديق .
ثالثاً: بيان أن أول سهم رمي به في سبيل الله السهم الذي أصاب سعداً رضي الله عنه].
أولاً: بيان فضل سعد بن أبي وقاص حيث عقد له النبي صلى الله عليه وسلم لواءً وأرسله على سرية يقودها إلى جهاد الكفار.
ثانياً: شرف المقداد بن الأسود حيث حمل راية الجهاد في سبيل الله.
ثالثاً: بيان كمال طاعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الالتزام بما يعهد به إليهم].
تذكرون أننا نردد من سنين: أن الله تعالى فتح لنا العالم بأسره، وأصبحنا ندخل أمريكا واليابان والصين وزادنا الله الآن الروس، وأصبحنا ندخل أي بلد، وندعو فيه إلى ربنا عز وجل، فالإسلام موجود في أمريكا وألمانيا (المخ الصليبي) فيها مساجد ودعوة وعلماء، وبلجيكا أصبحت كبلد إسلامي، فالدين يعلم في مدارسها الابتدائية، وفرنسا فيها ثلاثة آلاف مسجد! من فتح هذا؟ إنه الله!
فقلنا: يا حكام ويا علماء، الفرصة متاحة، لا حاجة إلى أن نغزو ونرسي سفننا الحربية على ساحل بريطانيا أو فرنسا أو إيطاليا، ولم يعد هناك حاجة إلى هذا أبداً، ورسمنا لهم خطة، وكتبناها في عدة رسائل وتكلمنا بها، ومنذ يومين زعيم من زعماء الأقلام كتب كلمات يضحك ويسخر فيها مما كتبناه، فأحببت أن أبينها لعلها تنقل إلى أخينا على وجهها الصواب.
قلت -وما زلت-: لو اجتمع حكام المسلمين وعلماؤهم في القاهرة أو في المدينة أو في أي بلد، وكونوا لجنة عليا للدعوة الإسلامية، فما دام الجهاد أوقفه الله.. والحمد لله! ونحن لا نفرح بالبلاء؟ لا، أبداً، بل نفرح بالعافية، فالحمد لله وقف الجهاد، لِم؟ لأن البلاد مفتوحة، فنحن عندما ندخل الصين أو اليابان لا ندخل للمال والطعام والشراب ولكن ندخل لنعلمهم، فمن رضي منهم بالإسلام دخل، ومن لم يرضَ فهذا شأنه.. ولا نقتل أحداً أبداً، ووالله العظيم ما قتل أحد من أجل الإسلام.
وهذه اللجنة يشارك فيها كل بلد إسلامي بعالم أو عالمين، وبمال سنوي، ضريبة لله، وبذا تتكون لجنة عليا من أربعين أو خمسين أو ستين عالماً، ومالها يكون ميزانية مخفية لا نتبجح بها، يسهم فيها كل مؤمن ومؤمنة، ثم توضع خارطة للعالم، يعرف بها -مثلاً- عدد المسلمين في اليابان وعدد مراكزهم ومساجدهم؟ وكذلك في أمريكا الشمالية وفي كل بلد .. فإذا عرفنا أين يتواجد المسلمون وأعدادهم وما ينبغي لهم، حينئذٍ نتولى بناية المساجد، وإرسال الداعية والإمام، ونأخذ نربي أولئك المؤمنين تربية روحية حقة، فيصبحون يدعون إلى الإسلام بحالهم لا بألسنتهم، وبكمالهم الروحي وبصفاتهم الإيمانية ينجذب الناس وراءهم ويدخلون في رحمة الله.
وذكرت أن من الدعوة الناجحة هناك أن يوحد المذهب؛ حتى نقضي على الفرقة التي مزقتنا، فنحن مهاجرون مرابطون في سبيل الله، فلا نذهب إلى مكان إلا بـ(قال الله وقال رسوله)، لا نقل: حنفي ولا مالكي ولا غير ذلك.. فنحن مسلمون، نجتمع في بيت الله ونقول: قال الله وقال رسوله، ونوحد كلمة المؤمنين وقلوبهم حتى يكون لها نور، وتنتشر دعوة الإسلام؛ لأن الفرقة ممزقة.
ثم قلت -على سبيل المثال-: كتاب منهاج المسلم: وضعناه لهذا لغرض منذ ثلاثين سنة، فلا تقل: حنفي ولا شافعي ولا حنبلي، ولكن قال الله وقال رسوله. فقالوا: هذا الكاتب يدعو لكتبه. وأنا لم أقل: هذه التي تدرس، ولكن قلت: مثل هذه تدرس، فالكتاب الذي يجمع قلوب المؤمنين ولا يفرقهم هو الذي ينبغي أن يكون؛ إذ الفرقة والخلاف داخل بلاد المسلمين مزقت الإسلام وأهله، فكيف ونحن ندعو إلى الله في الخارج؟! والله لا يجوز وحرام.
فقالوا: هذا الكاتب يتنكر لعلماء الإسلام وأئمتهم وشنع تشنيعاً عجباً!! ولا لوم على من قال ذلك ولا عتب فلو عرف كما عرفنا ما قال ذلك.
وخلاصة القول: ما زال الله عز وجل ينظر إلينا، وفتح علينا العالم بأسره، فهيا ندعو إلى الله عز وجل، إن الدعوات الفردية لا تنفع، ودعوات الحكومة السعودية فقط لا تكفي، فلابد من لجنة عليا يشارك فيها كل مؤمن ومؤمنة بربع ريال في العام، حتى يشعر أنه جاهد في سبيل الله، وتوحد تلك الجمعيات عقيدة وسلوكاً وعلماً ومعرفة، فيصبحون وكأنهم جسم واحد، فيظهرون على الكفار والمشركين، ويدخلونهم في دين الله، والملاحظ أنه رغم ضعف المسلمين فإن الكفار يدخلون بالآلاف في دين الله كل سنة، لكن لو كانت تلك الدعوة لكنا أدينا واجب الجهاد -أولاً- وفريضته، وأصبح المسلمون غير آثمين؛ لأن العالم الآن بكامله مفتوح لهم، فلا يفتحون من جديد.
وبهذا: نكون قد أدينا فريضة الجهاد، ونشرنا دعوة الله عز وجل، وأنقذنا الكافرين والمشركين من الخلود في النار، ولو دعا بهذه الدعوة علماء وصاحوا بها كما صحنا لأنتجت، لكن هذا الكلام يموت في المجالس، ولما كتب في الجرائد، ردوا عليه: وقالوا غير صحيح! عفا الله عنا وعنهم ..
وصلى الله على نبينا محمد ..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر