أما بعد: فقد انتهى بنا الدرس إلى [لطائف أمور قبل هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم] فهيا بنا نقضي هذه الساعة مع رسولنا صلى الله عليه وسلم.
قال: [وألا ننازع الأمر أهله] أي: لا نطالب بالحكم أبداً والولاية من أُسند إليه الأمر [وأن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم] هذه بنود اتفاقية البيعة، وقد تمت قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بأيام.
قال: [فالأصحاب كلهم إما مهاجر أو أنصاري إلا العباس بن عبادة العوفي ، فإنه خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وأقام بها، فكان يقال له: مهاجر أنصاري، استشهد بأحد رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مأواه.
قال: [وحديث هجرة أبي سلمة اللطيف الشريف كان كالتالي، فلنستمع إليه: لما عاد أبو سلمة من الحبشة] مع زوجته؛ لأنهما كانا مهاجرين إلى هناك، وكانت أول هجرة قبل اتفاقية المدينة [إذ هاجر إليها أولاً، ولما وصل مكة آذته قريش] لأنه رجل وعمود في تلك البلاد، فآلمهم إسلامه وهجرانه لهم فآذوه [وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار] علم أن هناك فئة من الأنصار أسلمت فقرر الهجرة إلى المدينة؛ لأنه لم يطق البقاء في مكة لِما يصب عليه من ألوان العذاب والإهانة والاضطهاد [فقرر الهجرة إلى المدينة، فحمل زوجته أم سلمة وطفله وقاد بهما راحلته] وأم سلمة أمنا جميعاً [وخرج] أي: من مكة [فلحقه رجال من بني مخزوم، فقالوا له: هذه نفسك قد غلبتنا عليها، أرأيتك صاحبتك هذه، علام نتركك تسير بها في البلاد؟] قالوا له: أما نفسك فقد غلبتنا عليها، يعني هذا شأنك، ولكن وهذه المرأة وهذا الطفل لم تخرج بهم؟! ولم يسمحوا له بأخذهما.
قال: [ونزعوا خطام البعير من يده] كان يقود البعير فأخذوا خطامه من يده [وأخذوا الراحلة وعليها امرأته] أم سلمة [وولده] سلمة [وغضب عند ذلك رجال من رهط أبي سلمة ] أساء إليهم هذا الموقف [فقالوا: والله لا نترك ولدنا عندها] حملتهم الغيرة فقالوا: خذوا أنتم امرأتكم أما ولدنا فلا تأخذونه [إذ نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا الطفل حتى خلعت يده] هذا يجذب وهذا يجذب والولد يصرخ فانخلعت يده [وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبس بنو المغيرة أم سلمة عندهم] لأنها تابعة لهم. ولنستمع إليها وهي تحدث عن قصة هجرتها] أم سلمة -أمكم أيها المؤمنون- تحدث عن قصة هجرتها بعدما انتهت وسهلت لها [قالت رضي الله عنها: فرقوا بين وبين زوجي -إذ واصل هو سيره إلى المدينة- وبيني وبين ولدي إذ أخذه رهط زوجي، فكنت أخرج كل غداة إلى الأبطح] وهو موجود في مكة في طريق منى [فأجلس أبكي؛ فلا أزال أبكي حتى أمسي، وذلك سنة أو قريباً منها] لأنها فارقت زوجها وولدها، وحيل بينها وبين هجرتها، فكانت تخرج من الصباح للأبطح تبكي إلى المساء ثم تعود إلى بيتها، وظلت على هذه الحال قريباً من السنة[حتى مر بي رجل من بني عمي أحد بني المغيرة، فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها، وبينها وبين ولدها، قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت، قالت: وردّ بنو عبد الأسد إليَّ عند ذلك ابني] سلمة [فارتحلت بعيري] أي: ركبت عليه [ثم أخذت ابني فوضعته في حجري] ووضعت الولد في حجرها [ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله، فقلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أُقدم على زوجي] وتبلغ: استعان، أي: تجعل بلغتها من لقيت في الطريق حتى تصل إلى زوجها [حتى إذا كنت بالتنعيم] والتنعيم ملتصق بمكة الآن أو في وسطها، وهو حدود الحرم [ لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار، فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قلت: أريد زوجي بالمدينة، قال: أوما معك أحد؟ قلت: لا والله إلا الله وبنيَّ هذا] الطفل الصغير [قال: والله ما لك من مترك] أي: لا نتركك [فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه] من هذا الرجل [كان إذا بلغ المنزل أناخ بي] تعني البعير [ثم استأخر عني] وابتعد [حتى إذا نزلت] من على البعير [استأخر ببعيري فحط] عني [ثم قيده في الشجرة ثم تنحى عني إلى شجرة أخرى فاضطجع تحتها] حتى لا يقربها ولا ينظر إلى وجهها، وهو ما زال كافراً، فرحم الله من قال: إن كفار العرب يعتبرون أشراف الكفار. رجل يقودها مسافة عشرة أيام مجاناً وهو كافر. إنه الكرم والعاطفة والمروءة تقودهم! [فإذا دنا الرواح] وأردنا أن نواصل السفر [قام إلى بعيري فقدمه فرحله] وضع عليه الرحل [ثم استأخر عني وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى وأخذ بخطامه، فقاده حتى ينزل بي] ما هذا الكمال؟! ولهذا اختارهم الله فبعث فيهم خاتم أنبيائه وإمام رسله؛ لعلمه عز وجل بأنهم سيحملون هذه الأمانة، وقد حملوها [فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة] بعد عشرة أيام [فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية] انزلي [-وكان أبو سلمة نازلاً بها- فادخليها على بركة الله] مشرك يقول: ادخلي على بركة الله! والمؤمنون اليوم لا يقولونها! لانقطاعهم عن الملكوت الأعلى، وبعدهم عنه البعد الكبير [ثم انصرف راجعاً إلى مكة وهو يومئذ على الشرك] ليس على التوحيد [وما أسلم إلا في هدنة الحديبية] في السنة السادسة.
وقالت رضي الله عنها: [والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحباً قط أكرم من عثمان بن طلحة ] ختمت قصتها بهذا القول: (والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة)؛ لأنها كانت طوال سنة تبكي، وزوجها في المدينة، وطفلها في أيد الآخرين، (وما رأيت صاحباً قط أكرم من عثمان بن طلحة ) رضي الله عنه وأرضاه.
قال المؤلف: [مراجعة] للفائدة علنا نكتشف شيئاً [هيا بنا يا إخوة الإسلام نراجع قصة أم سلمة هذه لعلنا نبكي فنمسح بدموعنا بعض آثامنا، ونُذهب بها بعض قساوة قلوبنا. هذه أم سلمة وذاك زوجها -قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم- أبو سلمة ذو الهجرتين] كان زوجها قبل أن يتزوج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر إلى الحبشة -الهجرة الأولى- ثم إلى المدينة [يخرج بها من مكة مهاجراً بها إلى دار الهجرة، فتفتك منه زوجته وولده، ويفتك الولد من أمه، ويترك أبو سلمة زوجته وولده ويهاجر إلى ربه تاركاً نصفه وراءه، وتنظر أم سلمة فلم تجد مواسياً] يواسيها [ولا مؤانساً] يؤانسها [فتخرج كل يوم إلى الأبطح تبكي طول يومها، وتعود إلى كسر بيتها إلى انسلاخ سنة بأشهرها الإثني عشر، ثم يؤذن لها بالهجرة فتهاجر وحدها على بعير وما معها سوى طفلها، تسافر مسافة عشرة أيام.
حقاً ما قالته: ما أعلم أهل بيت أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وأخرى في كمال عثمان بن طلحة الذي يضرب الرقم القياسي في الكرم النفسي: إنه يجد امرأة على بعيرها تريد السفر مسافة عشرة أيام في صحراء، لا خضراء بها ولا ماء، فيقول -وقد سألها عن حالها-: والله مالك من مترك، ويقود بعيرها ويحسن إليها في ركوبها ونزولها، ويريها من العفة والكرم ما لم تره امرأة مثلها قط.
آه أين هؤلاء الرجال الأعفاء الكرماء ذوو النجدة؟! لقد أقفرت منهم الحياة، وأجدبت منهم ساحة الوجود] إي والله [ولا خير في دنيا يُفقد فيها أمثال هؤلاء].
[وأي إخاء أصدق من هذا الإخاء؟ وأي إسلام أحسن من هذا؟ وأي صبر أقوى من هذا؟ وأي إيمان أثمر من هذا؟ وأين نحن اليوم من ذا وذاك يا عباد الله؟]
قال: [إنه حين أراد الهجرة إلى المدينة قال] له [كفار قريش: أتيتنا صعلوكاً فكثر مالك عندنا] وصعلوكاً أي: فقيراً [وبلغت الذي بلغت ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك! والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب : أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني جعلت لكم مالي، ودلهم على مكانه وهاجر] لأن الأموال كانت تدفن أو توضع في أماكن خفية [فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بادره قائلاً: ( ربح البيع
قال: [فكان أول من لقب بالمقرئ] وهو أول من لقب في العالم الإسلامي بهذا اللقب [واستشهد بأحد، فهو ضجيع سيد الشهداء حمزة في ساحة أُحد، يزاران مع بعضهما بعضاً، فرضي الله عنهما وأرضاهما وجعل الجنة مأواهما].
قال: [ولما أكثروا به ذلك] تعددت المرات وهو يتألم ويتحرق [جاء به يوماً فغسله وطهره وطيبه، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه] علق السيف بهذا الصنم المعبود [ثم قال: إني والله لا أعلم من يصنع بك ما ترى] بمعنى: لو كنت أعلم ما أتركك تهان هذه الإهانة، لكن والله لا أعلم من يصنع بك هذا [فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك] أي: إن كان فيك خير فامتنع عن كل من جاء يريد أن يلقي بك والسيف عندك [فلما أمسى عمرو جاء الفتيان فعدوا عليه، وأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلباً ميتاً فقرنوه به في حبل] ربطوه مع كلب ميت [ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس، ثم غدا عمرو يطلبه فلم يجده في مكانه الذي تركه فيه، فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكساً مقروناً بكلب ميت، فلما رآه وأبصر شأنه تبين له عدم صلاحيته للألوهية] ليس أهلاً لهذا [وكلمه بعض رجال قومه في الإسلام فأسلم، وقال في صنمه شعراً هذا نصه:
والله لو كنت إلهاً لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن
إلى أن قال:
الحمد لله العلي ذي المنن الواهب الرزاق ديان الدِّيَن
هو الذي أنقذني مـن قبل أن أكون في ظلمة قبر مرتهن].
فرضي الله تعالى عنه وأرضاه.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام! يا ذا الجلال والإكرام! يا ذا الجلال والإكرام! اشف عبدك أبا يوسف من مرضه، ورد إليه صحته وعافيته، واشف كل مريض عندنا وبيننا ومعنا أو أوصانا أن ندعوك يا ربنا لشفائه، اللهم اشف كل مريض منا وفينا، وأعظم أجر من مرض منا وشفيته يا رب العالمين! هذه أكف الضراعة قد رفعناها إليك وأنت القائل: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] فقد دعوناك ربنا فاستجب لنا، فاشف هذا المريض ومن معه، واشف كل مريض، واشفنا من مرض قلوبنا القاسية الجدبة يا رب العالمين!
اللهم زك نفوسنا، وطهر قلوبنا، واجمعنا دائماً على رضاك يا ولي المؤمنين! ويا متولِّ الصالحين!
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر